رواية شظايا قلوب محترقة الفصل الثالث والاربعون 43 بقلم سيلا وليد
رواية شظايا قلوب محترقة الفصل الثالث والاربعون 43 هى رواية من كتابة سيلا وليد رواية شظايا قلوب محترقة الفصل الثالث والاربعون 43 صدر لاول مرة على موقع التواصل الاجتماعى فيسبوك رواية شظايا قلوب محترقة الفصل الثالث والاربعون 43 حقق تفاعل كبير على الفيسبوك لذلك سنعرض لكم رواية شظايا قلوب محترقة الفصل الثالث والاربعون 43
رواية شظايا قلوب محترقة الفصل الثالث والاربعون 43
"اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك "
رؤية الأم لابنها معلقًا بين الحياة والموت، أشبه بأن تُسحب أنفاسها دون أن تموت، وألا تذوق طعم الحياة ولا تُدرك طعم الموت.
فكيف لأم أن ترى اثنين من أولادها بين الحياة والموت
عن بطلة شظايا قلوب محترقة اتحدث
💔💔💔
يا وجعي... أراكما تتألمان أمامي، ولا أملك سوى أن أضمّ الدعاء إلى صدري، وأخبئ انهياري عن عينيكما
كل الأجهزة التي تُبقيكما هنا... لا تشبه حضنكما، لا تشبه صوتكما، لا تشبه الحياة التي كنتَا تملؤها ضوءًا.
أمّكما يا صغيراي، باتت نصفها معكما في سريركما الأبيض، ونصفها الآخر يحاول أن يقف على حافة الانهيار دون أن يسقط.
بين كل نبضة وآخرى، أراقبكما... أُحصي أنفاسكما كأنها أنفاسي، وأعيش الموت ألف مرة وأنا أراكما لا تردا
يا الله... إن كان لي عمرٌ باقٍ، فامنحه لهما، ولا تتركني أعيشه فقدانهما
#فريدة_السيوفي
بغرفة إلياس، قبل العملية بعدة ساعات بعدما استمع الى حديث الطبيب بأن المتبرع ميرال، وإصراره بالرفض...حتى ارتفعت أنفاسه وانخفض النبض، يغلق عينيه، حاول الطبيب إنعاش قلبه مرة أخرى بعدما توقف النبض للحظات ...هدأ الطبيب بعدما نجح في إعادة النبض مرة أخرى
بعد فترة
رفرفَ أهدابهِ ببطء، محاولًا العودةَ للحياةِ مرَّةً أخرى، ظلت تدعو ربها بأن يعود للحياةً مرَّةً أخرى، ولكن؟!كيف؟..و جسدهِ ساكن، وروحهِ تتأرجحُ بين الحياةِ والموت، انحنت تطبعُ قبلةً على جبينه، قبلةً مرتعشةً تحملُ فيها وجعها، عمرها، دعواتها، وكلَّ ماتبقَّى لها من أمل، شهقةٌ انفجرت من صدرها كأنَّها خرجت من هوَّةٍ سحيقةٍ من الألم، شهقةٌ ليست كأيِّ شهقة، بل نزيفًا من جوفها، كسكينٍ صدئة تنخرُ في العظام وتدوي في كلِّ ذرةٍ من جسدها.
"إلياس...حبيبي عامل إيه؟!"
نطقتها بصوتٍ منكسر، وحروفٍ مرتجفة..بعدما فتح عينيه
اقتربت ميرال منه، تركعُ أمامهِ كمن يركعُ للرحمة، واحتضنت كفِّه بين راحتيها، تتطلَّعُ إليه بعينينِ تمتلئُ بالخوف..واحتضنت كفيه تتسائل بدمع عينيها:
-حبيبي حاسس بإيه، اجبلك الدكتور؟..
فتح عينيه، ولكن عينيهِ لم تكن نفس العيون، لم يكن هو...كان ظلًّا، طيفًا باهتًا من ماضيه..همس بصوتٍ خافت، متعب:
"الحمدُ لله..."، أنا كويس..مسَّدت فريدة على رأسه:
-دايمًا كويس حبيبي وحسَّك في الدنيا..
تعلَّقت عيناهُ بعينيها التي رآها كأنها خلت من الحياة، شقَّ شفتيهِ الجافتينِ هامسًا:
-أنا آسف..متزعليش منِّي..نطقها بأنفاسٍ مرتفعة، كالذي يصعدُ أعلى قمَّةٍ جبليةٍ في وقتٍ قياسي..
تقطَّعت أنفاسها، وتمزَّق قلبها، فهل هذا صوتُ ابنها؟! أين ضحكتهِ التي كانت تشقُّ السماء؟! أين ملامحهِ التي كانت تفيضُ حياة؟!
لقد شقَّ قلبها صوتُ ضعفه، شعرت وكأنَّ سكينًا تُغرسُ في كلِّ شريانٍ من شرايينها. نظرت إليه، كأنَّها ترى احتضارهِ بأعينها ولا تملكُ أن تصرخ..
"هل هذا فلذةُ كبدي؟!
أين الشباب؟ أين الحيوية؟ أين روحكَ الغائبة؟!
يا حبَّةَ القلبِ والعين، قلبي يصرخُ بالألم، ينزف، يناديك، ولا يسمعُ سوى صدى وجعي!"
رفعت عينيها للسماء، مبتعدةً عن احتضانهِ لعينيها، عندما شعرت بأنَّه يودِّعها، هنا لم تتمالك دعاءها ولا دموعها:
"رحماك ربِّي بقلبِ أمٍّ مكلومةٍ على فلذةِ كبدها...رحماك ربي بعبدكَ المستجير، لا طاقةَ لي بهذا الابتلاء..."
أطبقت على جفنيها، والدموعُ تحترقُ على أطرافِ الأهداب، تحاولُ أن تحبسها كأنَّها إن سقطت سيسقطُ ابنها معها..
"ماما..."
كلمة خرجت من بين شفتيهِ وكأنها خرجت من قاعِ الألم، أشعرتها برجاءٍ من طفلٍ يطلبُ صدرَ أمِّه لينجو.
انحنت على جبينه، ويداها ترتجفان، تملِّسُ على وجنتيهِ كأنَّها تحاولُ أن تمحو الألمَ بلمستها، أن تعيدهُ طفلها من جديد..
"قلب أمَّك...يا نور عيني، يا ضيِّ عمري..."
ابتسم، رغم أنفاسهِ التي تعلو وتنهار، رغم الألم الذي ينهشُ جسده..همس بصعوبة، وكأنَّ الحياةَ كلَّها تلخَّصت في هذه الكلمة:
"أنا بحبِّك..."
- آااااه...
خرجت من قلبها لا من فمها، صرخة تشبهُ ميلادًا جديدًا، يختلطُ فيه الوجع بالفرحة، الألمُ بالحب، والدمعةُ بالبسمة.
-لمس كفَّها بكفِّه المغروسِ بالأبر:
-مش عايز غير حضنك..
شهقت، وهي تشعرُ وكأنَّ الروح انتفضت فيها، واحتوتهُ بين ذراعيها بحنانٍ يفيضُ عن العالم.
-سامحيني ياماما، مفيش أغلى منِّك..
دفنت وجهها بصدره، وصرخةٌ مزَّقت صدرها، شعر بأنها ليست مجرَّدُ صرخة بل زلزلةُ شعور، صدى وجعٍ صدحَ في أركان الغرفة...احتوتهُ بذراعيها كأنَّها تريد أن تُلصقَ روحهِ بروحها، أن تتقاسمَ الحياةَ بينهما.. ورغم تراقصِ قلبها بسعادةٍ حين نطقَ كلماته، ولكنَّه انتفض يرتجفُ تحت ثقلِ الخوف، أحاسيس متضاربة، رغم مرارةِ اللحظة، كانت كلمتهُ نسمةً رطبة، بردًا وسلامًا على قلبها وسطَ نيرانٍ كادت تهشِّمها...
بينما ميرال التي تراجعت مبتعدةً بذعرٍ من حديثه، هل هذا وداع، لما يقول هذه الكلمات، انسابت دموعها بكثرة ولم تقوَ على منعها، نهضت بهدوءٍ حتى لم يشعر بها، وانتفض جسدها بالكامل، وهي ترى زوجها وكأنه يحتضر، ياالله ماله من شعور قاسٍ، ابتعدت تريد أن تخرج صرخاتها، تريد أن يقف من أعلى قمة جبلية ليتهشم جسدها ولا تشعر بكم هذا الألم..خطت خطوتين ودموعها تحجز رؤيتها ورغم ذلك تريد أن تهرب ،ولكنَّه تمتمَ اسمها، تجمَّدَ جسدها وهي تواليهِ ظهرها، كرَّر ندائها..
فاستدارت إليهِ بوجهٍ اختفى خلف دموعها، شعرت فريدة بما تشعرُ به، فوقفت وتحرَّكت إلى مكانِ وقوفها:
-حبيبتي، جوزك كويس، سمعتي قالِّي إيه..سحبت نفسًا تضغط على شفتيها حتى تمنع دموعها التي لم تتوقف، ابتسم يمد يده إليها، بينما اردفت فريدة
-سمعتي ياميرال إلياس بيحبني اكتر منك...أومأت بإبتسامة مختلطة بدموعها وتعلَّقت بعينيهِ قائلة:
-أه..سمعت ياماما وغيرانة، ازدادت آلامه، فأطبقَ على جفنيهِ حتى لا تشعرانِ به..بينما مسحت فريدة دموعَ ميرال وضمَّتها لأحضانها:
-اجمدي حبيبتي، أنا محتاجاكي، لازم نقوِّي بعض...قالتها فريدة بهمسٍ خافت حتى لا يصلَ إليه..ثمَّ ربتت على كتفها قائلة:
-أنا تعبت هروح أرتاح وإنتي كمان ارتاحي، وخلِّي إسلام جنبه، كفاية عليكي كدا..
أزالت دموعها مقتربةً من فراشه قائلة:
-تعبي بعيد عنُّه ياماما، هنا راحتي..ابتسمت فريدة بحنانٍ أمومي ثمَّ خرجت..
اقتربت من فراشهِ بخطواتٍ ترتجفُ كثقلِ نبض قلبها، كان مغمضَ العينين، وهدوءهِ يرعبها...ظنَّت أنَّه عاد إلى غيبوبتهِ من جديد، جلست بجوارهِ بصمتٍ يقطرُ وجعًا، ترسمُ ملامحهِ بدموعها وكأنَّها تحفرُ صورتهِ في قلبها قبل ذاكرتها، تخشى أن تُسرقَ منها في أيِّ لحظة، وضعت رأسها بجوارِ رأسه، تهمسُ بأضعف ما تبقَّى فيها:
– يارب…ماتحرمنيش منه، خد عمري كلُّه، بس ما تخلينيش أعيش لحظة فراقه، ما توجعنيش فيه، يارب..
صوتها المرتعش، المضمَّخ بالدمع، وصل إليه كأنَّ قلبهِ استشعر انكسارها..فتح عينيهِ بصعوبة، ودار برأسهِ نحوها..كانت قريبة، أقربُ من أيِّ وجعٍ يشعرُ به، امتزجت أنفاسها بأنفاسهِ يريدُ أن يسحبها لأحضانه، رفع كفَّيه المرتجفين، وأزال دموعها بأطرافِ أصابعهِ الهشة، وهمس بصوتهِ المتهالك من الألم:
- بعد الشر عليكي…ليه بتقولي كده يا ميرال؟ نسيتي يوسف؟ اسمعيني، أنا مستحيل أوافق تعملي العملية…حتى لو هموت..
هنا تهاوت، وتفجَّرت شهقاتها بقوَّة، بعدما حاولت دفنها داخلها ليحترقَ كلَّ مابها، فانهارت فجأةً بعد عجزها أمامه، تبكي كما لم تبكِ من قبل، بكاءُ امرأةٍ خافت أن تفقدَ قلبها:
– أنا من غيرك ميِّتة، يا إلياس…بعيش وقلبي بينزف، بتمنَّى أكون مكانك، بس ماشوفكش بتتوجع كده.
رفعت كفَّيهِ تقبلهما بانهيار:
-بلاش تموِّتني كدا..
أشار بعينيهِ المرتعشتينِ أن تقترب، اقتربت منه أكثر، ثم انحنت عليه، فرفعَ ذراعيهِ بصعوبة يجاهدُ الألم، واحتضنَ رأسها إلى صدره:
– بلاش إنتي..أنا خايف عليكي، لو بتحبِّيني بجد…ما تعمليش العملية.. أوعديني…لو بتحبِّيني، ما تكمِّليش فيها.
رفعت رأسها لتقابلَ عيناهُ القريبة، تهمسُ بصوتٍ مخنوق، صوتًا يحفرُ في قلبه:
- مش قادرة أشوفك بتتوجع…لو تعرف أنا بحبَّك قدِّ إيه، كنت فهمت أنا مستعدة أقدِّم عمري كلُّه علشانك.
– اشش…اسكتي، وبطَّلي كلامك الأهبل.
– حبي ليك هبل؟!
نظرَ لها نظرةً طويلة، عميقة، كأنَّ فيها كلَّ التعبِ والحنينِ والخوف، لمسَ وجهها بأناملَ ضعيفة، وأزالَ عبراتها كمن يطبطبُ على قلبه:
– بتحبِّيني..بجد؟
هزَّت رأسها بنعم، ودموعها لا تتوقَّف، كأنَّها تعترفُ بكلِّ حبِّها دون حاجةٍ للكلام.
– يبقى ما تعمليش العملية…لو بتحبِّي إلياس، حافظي عليه بيكي…ما تخليش قلبي خايف عليكي، مش هتحمِّل وجعك حبيبة قلبي..
انهارت أكثر، ودفنت وجهها في عنقهِ تستمدُّ الأمانَ في صدره الضعيف، تبكي وتهمسُ بكلِّ مافيها:
– أنا بعشقك، وبموت فيك، مش بس بحبَّك…إنتَ روحي، قول لقلبك ميرال بتموت من غيرك.
ضمَّّها بقوَّةٍ تفوقُ ألمه، وهمسَ كأنَّ نفسهِ الأخيرِ مرهونًا بحضنها:
– وأنا…أنا هموت لو حصلك حاجة.
رفعت وجهها، بدموعها ولهفتها، ثم طبعت قبلةً على شفتيه، قبلةً تفيضُ بكلِّ ما عجزت الكلماتُ عن قوله، قبلةً فيها انهيارها، وانكسارها، واشتياقها، ثمَّ ابتعدت قليلًا، وضعت رأسها بجانبِ رأسه، تحاوطُ جسدهِ بذراعيها، تمنت أن ذراعيها تخلقُ له درعًا من قلبها:
– أدفع عمري…وأنام في حضنك تاني...صدَّقني حبيبي، مستعدة أضحِّي بحياتي
-مش هتعمليها ياميرال، وزي ماإنتي خايفة عليَّا أنا هموت عليكي..
-اوعديني، لو بتحبيني..قالها وهو يزيل عبراتها بحنو ..ظلت متعلقة بعينيه ثم اومأت تطبق على جفنيها
-حاضر ياالياس
-حاضر ايه ..صمتت ومازالت متعلقة بعينيه لتردف:
-مش هعمل العملية ...
هز رأسه بالنفي قائلًا:
-لا مش كدا، اسمها بحبك وخايفة على زعلك علشان كدا مش هتعمليها، مش انت خايفة على زعلي
هزت راسها دون النطق بحرف ..
قاطعهم دخولُ راكان، ملقيًا التحيَّة..
نهضت ميرال من مقعدها بسرعةٍ ما إن رأت راكان يدخلُ الغرفة، ورسمت على وجهها ابتسامةً خفيفة..
– أهلاً بحضرتك...
أومأ لها دون أن ينبسَّ ببنتِ شفة، توجَّه بعينيهِ نحو إلياس..ثم تقدَّم نحوهِ بخطواتٍ بطيئة، فيها تروٍّ، ثمَّ حيَّاهُ قائلا:
- حمدَ الله على السلامة، عامل إيه؟
ردَّ إلياس بصوتٍ متهدِّجٍ وهو يضغطُ على ألمهِ كي لايظهره:
- الحمدُ لله...
التفتَ إلى المقعدِ الذي يجاورُ فراشه، ثمَّ جلس عليه، طافت عيناهُ تراقبانِ ملامحَ إلياس المتعبة، ثمَّ نظر إلى ميرال وقالَ بهدوء:
- ممكن تسبينا شوية؟
تطلَّعت ميرال إلى إلياس الذي أومأ بعينيه؟ بصمت، سحبت خطواتها وخرجت ببطءٍ تشعرُ بانتزاعِ قلبها، حينما تركتهُ وحيدًا..
سادَ الصمتُ للحظاتٍ ليحمحمَ راكان قائلاً:
- عارف إنَّك تعبان، ومش جاي كمحقِّق..ممكن نمشِّيها صداقة، رغم إنَّك صغير عليَّا..
تحرَّكت شفتا إلياس بصعوبة، وتسلَّلت ابتسامةٌ باهتةٌ إلى وجههِ وهو يتمتم: – ليَّا الشرف طبعًا.
ابتسم راكان بمحبَّةٍ خافتةٍ وأردفَ بنبرةٍ هادئة:
- والله جيت أطمِّن عليك، مش علشان الشغل...
توقَّفَ لحظة، يراقبُ ردَّةِ فعلِ إلياس، ثمَّ أكمل:
– عايزك تجاوبني كصديق زي ماقولت من شوية، وتأكَّد دا مالوش علاقة بالشغل، مش إنتَ اللي كنت المقصود، صح؟ أخوك كان الهدف.
أغمضَ إلياس عينيه، وكأنَّ الكلماتَ أثقلت على صدره، حينما تذكَّر أرسلان ثمَّ قال بصوتٍ خافت:
- هتفرق مع حضرتك؟
مال راكان بجسدهِ للأمام، وأردفَ بنبرةٍ حادَّة:
- طبعًا، لو إنتَ المقصود، يبقى في احتمال شغلك، أمَّا لو أخوك، فاحنا بنتعامل مع حد بيحاول يخلص منكم بذكاء...
صمت لثوانٍ ثمَّ أضاف:
– يعني لو قولنا أرسلان صاحب جيم... ليه حد يحاول يقتله؟
رفع إلياس نظرهِ إليه، وعلم بلعبتهِ فقال:
- عايز توصل لإيه يا سيادةِ المستشار؟
– مين اللي كان عايز يقتل أرسلان يا إلياس؟ ومتحاولش تخون ذكائي، أنا متأكِّد إنَّك مش المقصود.
نظر إليه إلياس نظرةً طويلة، ثمَّ قال ببرود:
لمَّا حضرتك متأكِّد...بتسألني ليه؟
– زيادة تأكيد...مش أكتر..
لمعت ابتسامةً خفيفةً على وجهِ إلياس، ثمَّ قال بهدوء:
– لو حصلِّي حاجة، عايز حقِّ أخويا وأبويا، يا سيادةِ المستشار. هسألك يوم مانتقابل..حقِّ أبويا وأخويا فين؟
تراجعَ راكان في جلستهِ قليلًا،
وارتسمت ابتسامةُ انتصارٍ صغيرةٍ على وجهه، ثمَّ نظرَ إلى إلياس بتمعُّن:
– أفهم من كده إنَّك هتقولِّي اللي حصل؟
– اللي حصل...إنِّ عمِّي عايز يخلص منِّنا..شغله في كفَّة، وحياتنا في كفَّة تانية..هدِّدوه، قالوله حياتنا مقابل حياته.
قطب راكان جبينهِ واقتربَ أكثر: طب ليه بدأوا بأرسلان؟
– معرفش...
تنهَّد راكان، وضرب كفًّا بكفٍّ بتأفُّف:
ما كنَّا ماشين حلو، رجعنا نلبَّخ ليه؟
رمقهُ إلياس بنظرةٍ مرهقة وقال بسخريةٍ مريرة:
– نلبّخ؟! حضرتك شايف دا شكل واحد عنده طاقة يلبَّخ؟
– إلياس..
قالها راكان بحدَّة دون قصد، ثمَّ استغفرَ بصوتٍ مسموعٍ وهو يهدِّئُ نبرته:
-آسف...بس فيه حاجة ناقصة..أولاً، إزاي عرفوا إنُّكم إخوات؟راجح مستحيل يقول، لأن زي ماقولت هوَّ المعرَّض للخطر..
وثانيًا، ليه عايزين يخلصوا من أرسلان بالتحديد؟
نظر إليه إلياس بثبات وقال:
-وليه حضرتك ماتقولش...إنُّهم كانوا عايزين يموُّتوني أنا؟
توقَّف راكان لثوانٍ، يطالعُ ملامحه المتعبة، ثمَّ هزَّ رأسهِ نافيًا:
- كنت متأكد إنَّك مش هتفيدني.
تأوَّه إلياس قليلًا، وملامحهِ تتلوَّى من الألم، فأردفَ راكان:
– كده بتضيَّع الحق اللي بتسألني عليه...
– أنا تعبان...ومش قادر أتكلم.
ساد الصمتُ من جديد، لكن حديث العيونِ يخفي الكثير...حتى توقَّف راكان معتذرًا:
-ألف سلامة عليك، همشي..وأعدِّي عليك في وقتِ تاني..
بعد دقائق، دلفَ يزن إلى الغرفةِ بخطا حذرة..
لم يكن بحاجةٍ إلى كلمات، نظراتُ إلياس وحدها كانت كافيةً لتدعوهُ للجلوس..
جلس يزن قريبًا منه، يترقَّبُ حديثهِ بصمت..
رفع إلياس عينيهِ نحو ميرال، وأردفَ بصوتٍ خافت:
- ارجعي على البيت...وهاتيلي يوسف، عايز أشوفه.
نظرت إليه بقلقٍ شديد، وارتبكت ملامحها:
– البيت دلوقتي ياإلياس؟ الساعة عشرة!..
هزَّ رأسهِ بإصرار، رغم الإرهاقِ الذي بدا واضحًا في ملامحه:
– أيوه هاتيه، خدي إسلام معاكي... عايز أشوف يوسف.
تردَّدت، ثمَّ اقتربت منه بخطواتٍ بطيئة، وامتلأت عيناها بدموعٍ متحجِّرة:
– بس مينفعش، حبيبي...
أغمضَ عينيهِ قليلًا، حينما شعر بالألمِ ينهشُ أنفاسهِ فالتفتَ يزن نحوها، واقترب منها أكثر، وقال بصوتٍ يحملُ مزيجًا من الحنان :
– هاتيه يا ميرو، وأنا هبقى معاه..أنا عارف إنِّك قلقانة وخايفة، بس أنا هنا، مش هسيبه.
دمعت عيناها بقوَّة، بعدما فشلت دموعها بالاختباء ونظرت إليه كأنَّها تراهُ للمرَّةِ الأخيرة، ثمَّ اقتربت منه، وانحنت لتطوِّقَ جسدهِ بذراعيها:
– حاضر...هجبلك يوسف، سحبت نفسًا وعيناها تحتضنُ عيناهُ قائلة:
– عارفة إنَّك عايزني أمشي، بس خليك متأكد إنَّك كده بتكسر قلبي.
أمسك يديها، وقرَّبهما من فمهِ وقبَّلهما برقةٍ مرتعشة، ثمَّ تمتم:
– وإنتي تأكَّدي إنِّي بعشقك.
انسابت دموعها على وجهه، لم تعد تملك أيِّ مقاومة، لتدفن رأسها في عنقه، تجمع رائحتهِ برئتيها، ثم همست بتقطُّع باكٍ:
– مش عايزة أسيبك ياإلياس...خلِّيني جنبك، وهخلِّي إسلام يروح ليوسف.
رفعَ كفَّيه يحاوطُ عنقها، يريد أن يضمَّها لصدره، ولكنَّه عاجزًا عن فعل ذلك، همسَ بخفوتٍ عاشق:
– مينفعشِ حبيبتي...روحي، بيتنا مش وحشك؟
أجابته بصوتٍ منكسر:
– ويوحشني ليه؟ وإنتَ مش فيه يا إلياس...أنا مش عايزة حاجة إنتَ مش فيها..
– ميرال..لو سمحتي!!
قالها بصوتٍ مجهد، يشعر بإنسحابُ الهواء كما ينسحبُ الضوءُ من النهار، رفعت عينيها وتعلَّقت بعينيهِ القريبة.. للحظات تمرِّرُ أناملها على وجهه ممَّا جعلهُ يغلقُ عينيه من لمستها الدافئة، أومأت برأسها، ثمَّ همست وهي تستدير:
– حاضر..همشي.
غادرت، وهو يتابعها بعينيهِ وكأنَّ خطواتها تشبهُ خطواتِ وداع..أغلقت البابَ خلفها ليغمضَ عيناه..
اقترب يزن من السرير، وهو مغمضُ العينين، يحاولُ السيطرةَ على أنفاسهِ المتسارعة، انحنى يسأله:
– أنادي الدكتور؟..
هزَّ رأسهِ بالنفي، ثمَّ فتحَ عينيهِ بصعوبة، وقال بصوتٍ خافتٍ مرهق:
– يزن..اسمعني كويس...يمكن ما نتقابلشِ تاني.
– أنا مش عايز ميرال تعمل العملية..هيَّ قالت مش هتعملها...أنا مش مصدَّقها...أنا عارفها..
أخذ نفسًا عميقًا، لكنَّه كان مثقلاً بالوجع، ثمَّ قال:
– أنا من أوَّل مرَّة شفتك، حتى قبل ما أعرف إنِّنا قرايب، شوفت فيك الرجولة، حاول تقنع ميرال...مينفعش إحنا الاتنين علشان يوسف..طالعهُ بعينيهِ وكأنَّه يترجَّاه:
-العمليات دي نسبة نجاحها قليلة ومش أحسن حاجة، مش عايز ابني يتيتم، أم وأب، فاهمني؟
علشان كدا، أنا واثق فيك، وهتحافظ عليهم..مراتي وابني...وصيتك.
سقطت كلماتهِ على قلبِ يزن كأنَّها حجارةٌ باردة، حتى انتفضَ جسدهِ من وقعها، لكنَّه تماسَك، وضعَ يدهِ على صدرِ إلياس وهمس:
- إلياس، إنتَ هتقوم بالسلامة..إنتَ ومراتك، ومحدش هيربِّي ابنك غيرك، صدَّقني.
لكنَّه أغلقَ عينيهِ للحظة، قبل أن يفتحها مجدَّدًا ويهمسَ بتعبٍ أكبر:
– يزن، اسمعني...ميرال لأ…مستحيل أسمح لها تضحِّي بنفسها، هيَّ جسمها ما يستحملش، ضغطها دايمًا مش مظبوط، والدكتور قال في متبرِّع تاني... بلاش ميرال، أرجوك..
قالها بأنفاسٍ متسارعة، حتى شعر بإنهاكِ صدره من الألم، ناهيكَ عن آلام جسدهِ الأخرى..
أومأ يزن سريعًا، محاولًا تهدئته:
– تمام...اهدى بس، علشان متتعبش.
أغمضَ إلياس عينيهِ بهدوء، وكأنَّ الصمتَ صار ملاذهِ الأخير، ثمَّ ابتلعَ ريقهِ يبسطُ كفَّيه:
-أوعدني الأوَّل، أوعدني تحافظ على مراتي وابني، إسلام لسة صغير، ولو طلبت منُّه كدا هينهار، مفيش قدَّامي غيرك..
ربتَ على كفَّيهِ محاولًا تهدئته:
-من غير ماتطلب منِّي كدا، أوعدك أحافظ عليهم بروحي..أغمضَ عينيه أخيرًا بارتياح، مع دخولِ غادة بجوارِ رؤى..
انحنت على ركبتيها بعد خروج يزن، وضعت رأسها بأحضانه تبكي بصمت
-وحشتني، وحشتني أوي..رفع يده يمسدها على رأسها
-انت كمان وحشتيني، رفع رأسها وأزال عبراتها، قائلًا بابتسامة خافتة
-بتعيطي ليه، هو أنا مُت..شهقت بصوت مرتفع تهز رأسها وارتفع صوتها الباكي
-بعد الشر عليك ياحبيبي، يارب أنا وأنت لا
-اشش، مسمعش صوتك، كبرتي يابت وبتدعي على نفسك
-إلياس أنا خايفة، خايفة عليك اوي
-ليه ياغادة، هي أول مرة، اخوكي بسبع ارواح متخافيش، وبعدين مش هموت غير لما اجوزك واطلع عين الحيلة إن شاءالله
ابتسمت من بين دموعها تهز رأسها
-إن شاءالله ياحبيبي..رفع عيناه الى رؤى التي تستمع إليهم بصمت ثم أشار إليها بالقرب، اقتربت بهدوء وعينين مترقرقتين
-عاملة ايه...تسائل بها وعيناه تتفحص ملامحها
-مش كويسة من غيرك ..
ابتسم واجابها
-اكيد، انت مش شايفة غادة اهي زيك، مش انت مش كويسة من غيري ياغادة
دفنت رأسها بحضنه بقوة مما اغمض عينيه محاولا تحمل جسدها عليه، رفع كفيه وحاوط كتفها
-احنا قولنا ايه، ليه بتحسسيني اني هموت خلاص وجاين تودعوني
-بس بقى ياالياس..قالتها غادة بحزن تدفعه عيناها من نظرات إليه ..جلست رؤى بجوارها ونظرت إليه
-انت كويس
-الحمد لله كويس اوي، يعني لما يبقى عندي أختين حلوين ومش مبطلين عياط، عمالين يفولوا على اخوهم هكون ازاي يعني
-إلياس بطل هزار ..جاي تهزر في الظروف دي ..قالتها رؤى بعدما سحبت كفيه تحتضنه ، تعمق بالنظر إليها ثم قال
-رؤى خلي بالك من مراتي، اياكي تزعليها..
-وأنا هزعلها ليه ياالياس، بالعكس أنا زعلانة علشانها..رفع كفيه إليها
-كفاية مش قادر، قالها واغمض عيناه
بمنزلِ زين..
كانت تعملُ على جهازها المحمول، دلف آدم ملقيًا السلام، ثمَّ هوى بجسدهِ جوارها قائلًا:
-النهاردة اليوم كان مرهق أوي..التفتت إليه تطالعهُ بتفحُّص:
-مالك حبيبي فيه حاجة حصلت؟..
أغمض عينيهِ ثمَّ سحب نفسًا طويلًا يزفرهُ على مهل:
-كان عندي شغل كتير برَّة الجامعة، وكمان عدِّيت على طنط فريدة..أغلقت جهازها واستدارت تجلسُ بجوارهِ تشيرُ إلى ساقيها:
-نام أعمل لك مساج، هترتاح شوية، وشَّك مُجهد أوي..تمدَّد يحتضنُ ساقيه، خلَّلت أناملها الناعمة بشعرهِ الغزير، وبدأت تحرِّكها بهدوء، ثمَّ تساءلت:
-آدم..فاكر عمُّو جمال جوز طنط فريدة؟..
اعتدلَ على ظهرهِ ينظرُ إليها:
-إيه اللي فكَّرك بيه حبيبتي، وبعدين دا ميِّت قبل ماتولد، سمعت عنُّه..
-معرفشِ بس لمَّا شوفت إلياس وأرسلان، كنت عايزة أعرف عنُّه أيِّ حاجة، أكيد كان جدع أوي، بيقولوا الابن بيكون أفعال أبوه..
أغمضَ عينيهِ ثمَّ وضع أناملهِ فوق جبينهِ ومازال متمدِّدًا على ظهره، وساقيها وسادته..
- مش شرط، بس أنا سمعت عنُّه أنُّه كان راجل أوي وكويس..
-يعني غير عمُّو راجح؟..فرك جبينهِ يهزُّ أكتافهِ بجهل:
-معرفش ياإيلين، كلِّ اللي أعرفه أنُّه كان كويس..اعتدل متكئًا على مرفقيهِ يتعمَّقُ بعينيها:
-مش هتقوليلي بتسألي ليه؟...
-طيب تعرف بابا وماما اتجوِّزوا إزاي، كان حب؟..
اعتدلَ جالسًا، ومازالت نظراتهِ المستفهمة ترسمها:
-حبيبتي مالك فيه حاجة ليه بتسألي؟!
نهضت من مكانها بعدما لملمت شتاتَ عقلها وأجابته:
-بفكَّر بس ياآدم، إيه اللي يخلِّي بابا يرمينا بالطريقة دي، ويروح يتجوِّز واحدة زيِّ سهام دي، عايزة أعرف بس.
قطبَ جبينهِ ممتعضًا، وتحدَّث بنبرةٍ ممزوجةٍ بعدمِ الاقتناع:
-بعد السنين دي كلَّها ياإيلين، جاية تسألي عن باباكي؟!..دا متجوِّز وإنتي عندك عشر سنين، يعني بعد اتناشر سنة جاية بتسألي ليه باباكي اتجوِّز على مامتك؟!..
انسحبت بهدوءٍ بعدما فشلت في معرفةِ الوصولِ لشيء..تحرَّك خلفها، حاوطَ جسدها قبل دخولها المطبخ:
-حبيبتي إنتي زعلتي، أنا بس مستغرب حبيبتي..
استدارت إليه ورسمت ابتسامةً تهزُّ رأسها:
-خلاص انسى، غيَّر هدومك لما أجهَّز السفرة، أنا جعانة أوي، ماأكلتش طول اليوم..
بعد فترةٍ نزلت إلى منزلِ خالها، قابلتها مريم أختها:
-إيلين إنتي لسة صاحية، تعبانة ولَّا إيه؟..
هزَّت رأسها وتلفَّتت تبحثُ عن زين فتساءلت:
-فين خالو نام؟!
-لا خالو مش هنا، في المستشفى عندك خالتو فريدة..استدارت قائلة:
-كنت محتاجاه في حاجة، لمَّا يرجع بالسلامة
بالمشفى:
خرج إسحاق من غرفة أرسلان وهو يتنهّد بارتياح، وكأن ثقلاً جاثمًا قد انزاح عن صدره. لم يكد يخطو خطوتين حتى وقعت عيناه على فاروق، الواقف بالقرب من الطبيب، ما إن رآه حتى اندفع نحوه بلهفة:
– أرسلان فاق... صح؟!
أومأ إسحاق برأسه وابتسامة خفيفة ترتسم على وجهه المتعب، ثم قال بصوتٍ هادئ لكنه يحمل في نبرته شيئًا من الحذر:
– إهدى، لسه تحت تأثير المخدر... ومتنساش، بقاله أكتر من تلات شهور في غيبوبة...المهم، سأل على إلياس... أنا قولتله إنه بخير، بس تعبان شوية. هو شافهم وهما بيضربوه، وماعندوش فكرة خالص عن موضوع الكلية ده...
اقترب منه أكثر، وأردف بنبرة ممزوجة بشيئًا من الجدية:
– خليك جنبه... ممنوع أي مخلوق يدخل عليه، غير دكتورته، والممرضة اللي من المستشفى العسكري. فاهم؟ ممنوع يا فاروق تسيبه، لحد ما أرجع.
وقبل أن يدير له ظهره، شدّ فاروق على ذراعه بقلق، وسأله بعينين يتراقص فيهما الخوف:
– رايح فين؟!
تنهد إسحاق، وخرج صوته خافت وكأنه يهمس لنفسه :
- شغل يا فاروق...
- إنت مجنون! لسه خارج من تعب وموت ، متفكرش إنك أقوى من أرسلان!
ربّت على كتفه في صمت، وابتسم له ابتسامة ثقة ثم همس:
- متخافش... مشوار وراجع.
بعد قليل، دلف إلى مقر جهاز المخابرات بخطى ثابتة، ورغم الإرهاق البادي على ملامحه، كانت عيناه يقظتين كأنهما ترصدان الخطر من بعيد. وجد بعض القادة في انتظاره، فألقى التحية العسكرية، ثم جلس معهم... ظلوا يتناقشون في ما علمه من أرسلان، حتى قاطعه أحدهم بنبرة متسائلة، تحمل توترًا:
– الجيش... كتيبة في الجيش؟ طيب، وصلوا للمعلومات إزاي؟
نقر قائدًا اخر بقلمه على الطاولة بإيقاع سريع، ثم قال:
– أنا تواصلت مع أحد القادة، في ظابط على كفاءة عالية وثقة، هيتولى المهمة... لازم نوصل لباقي المعلومات ونعرف مين دول، و ناويين على إيه... قوات الجيش مسيطرة هناك، واللي يخلي الظابط ده يسيطر على مكان محاصر بالإرهابيين بالشكل ده، أكيد يقدر يعمل المطلوب.
بينما تسود لحظة من الصمت المتوتر، دلف أحدهم إلى القاعة، وألقى التحية بصوت قوي.
أشار إليه أحد القادة:
– تعالَ، ياسين... عرّف عن نفسك.
مرّ بعينيه على الموجودين، وكأنه يزنهم بنظرة عسكرية مدروسة، ثم قال بثبات:
- المقدم ياسين جواد الألفي، قائد كتيبة ". ." في (....)
أشار إليه إسحاق بالجلوس، وتبادلوا النظرات، ثم انطلقت من جديد نقاشاتهم، تدور حول ما يُراد فعله... وكانت الخطورة تتسلل من بين كلماتهم، كأنهم يمسكون بجمرٍ لا مجال لتركه.
خرج ياسين بعد فترة ليست بالقليلة، رفع هاتفه وهاتف والده
-سيادة اللوا، عامل ايه حضرتك..أجابه على الجانب الآخر جواد
-أنا كويس حبيبي، انت هترجع امتى؟!
حك مؤخرة رأسه ينظر لحركة السيارات السريعة وتحرك وهو يتحدث
-اسف يابابا، مش هينفع انزل عندي شغل مهم
-في آمان الله ياحبيبي، خد بالك من نفسك ...قاطعه خروج اسحاق متجها إلى سيارته، اقترب منه وعيناه تتفحصه بدقة، توقف ومازالت عيناه تخترقه:
-انت ابن اللوا جواد الألفي
-اومأ قائلًا:
-أيوة يافندم ...ابتسامة اطمئنان شفت ثغر اسحاق، فاقترب يربت على كتفه:
-مايعملش كدا غير صقر فعلًا، ربنا معاك
ابتسم ياسين وتحدث بنبرة ممتنة
-شكرًا لحضرتك ..ارتدى اسحاق نظارته ولوح بيده قائلاً:
-شكلنا هنتقابل كتير ياحضرة المقدم ..
بالمنزلِ الذي تُحتجز به رانيا...وضع الرجلُ الطعامَ أمامها:
-كلي ومش عايز دوشة، معنديش أوامر بحاجة غير إنِّك تاكلي وبس.
نهضت محاولةً الهروب، ولكنَّه دفعها بقوَّةٍ حتى سقطت على الأرض وأشار إليها مردفًا بحدَّة:
-أنا بحاول أتعامل معاكي كبني آدمة، بلاش تخلِّيني أفقد أعصابي، اللي واقف قدَّامك كان شغَّال في عمليات خاصة، ياريت تستوعبي الكلمة، أنا خلقي ضيَّق..قالها الرجلُ بعدما رمقها باشمئزازٍ وخرج يغلقُ البابَ خلفه، ظلَّت تضربُ رأسها بالجدار:
-واللهِ لأندمكم كلُّكم، ماشي اصبروا عليَّا ياكلاب، نهضت تدورُ حول نفسها بغضب:
-بعد دا كلُّه وفريدة تنتصر عليَّا، لا مستحيل، أنا معملتش دا كلُّه علشان هي تتهنَّى بحياتها، لازم أفكَّر في حل، فيه اتنين لازم أوصلهم همَّا اللي هيخلَّصوني من هنا، بس إزاي أوصل لعطوة، وميرال..إزاي..آاااه صرخت بها تحطِّمُ كلَّ ما يقابلها..
بمنزلِ راجح.،
كان يتابع الأحداثَ عن طريقِ ممرضةٍ قام برشيها بكثيرٍ من الأموال...تذكَّر ماحدث منذ يومين.. (قبل يومين)
رفع هاتفهِ وتساءلَ بلهفةٍ أخفاها:
-أخبار إلياس السيوفي إيه؟..
أجابتهُ على الطرفِ الآخر وهي تتلفَّتُ حولها:
-هيعمل عملية نقل كلى، مصطفى السيوفي هيجيب له دكتور مشهور أوي من برَّة، وعرفت كمان مراته هي اللي هتتبرَّع له.
ارتفعت أنفاسهِ كالمتصارع، ثمَّ سألها:
-العملية خطيرة، يعني ممكن يموت؟..
أجابتهُ بتمهُّل وحذر:
-جدًّا، وممكن يموت فيها، وكمان عرفت مراته عندها مشكلة، بس هيَّ أصرَّت وطلبت من الدكتور مايعرَّفشِ حدِّ خالص؛ وأه كمان جوزها ميعرفشِ إنَّها هيَّ اللي هتتبرَّع له، أوَّل ماعرف رفض يعمل العملية، بس بعدها هيَّ اتفقت مع الدكتور يقول له فيه متبرع..
نظر بشرودٍ ثمَّ أردف:
-تمام اقفلي وأيِّ جديد عرَّفيني..
ظلَّ لفترةٍ جالسًا بمكانه، ثمَّ أخذَ هاتفهِ وقام واتَّجهَ إلى المشفى، دلف بعدما أعلمَ الاستقبال عن هويته:
- انا متبرِّع، رفعت السماعة وهاتفت المسؤولين ثمَّ أشارت إليه:
-هتطلع من هنا، ممنوع الدخول من الباب الرئيسي، أومأ وتحرَّك صاعدًا للأعلى..
هبَّت ميرال من مكانها فجأة، وعيناها تقدحانِ شررًا، وكأنَّها رأت شبحًا من ماضٍ أسود..اقتربت من راجح بخطًا سريعة، وصوتها يكاد يخنقُ تنفُّسها:
– إنت بتعمل إيه هنا؟! إزاي سمحوا لك تدخل؟!
أدار وجههِ إليها بنظرةٍ باردة، وكأنَّ وجودها لايعني له شيئًا وأردفَ بنبرةٍ باردة:
- اسكتي يابت، مش عايز أسمع نفسك، نسيتي إنِّي أبوكي..
خرج مصطفى من غرفةِ فريدة على صوتِ الشجار، وعيناهُ تحوَّلت لجمرٍ مشتعل، توقَّف للحظة، وكأنَّه لايصدِّقُ ما يرى، ثمَّ زأر بغضبٍ كأسدٍ جريح:
– مين سمحلك تيجي هنا يامجرم؟!
اقترب منه، وكاد ينقضُّ عليه، لكن تدخلَ يزن وتوقَّف أمامهِ بخطوةٍ وابتسامةٍ لاذعةٍ على وجهه:
– أهلًا راجح باشا...كنت قلتلنا إنَّك جاي، كنا رشِّينا فينيك وخلِّينا البوابين يعلَّقوا فص ثوم..
راحت عينا راجح تدورُ في وجوههم، حتى استقرَّت على يزن، وأشار له بتحذير:
– ابعد عنِّي ياله، إنتَ مالك؟ لتكون محامي العيلة الجديد؟!
اقترب منه يزن ورمقهُ بنظرةٍ قاتلة:
- اللي جوَّه ده ابنِ أخويا، وأنا أكتر واحد ليه الحق فيه...
قهقه يزن يصفِّقُ بيديه، حتى أوقفهُ مصطفى مقتربًا من راجح:
-إنتَ إزاي تتجرَّأ وتيجي هنا، ابنِ مين ياأبو ابن، مابلاش تلعب معايا ياراجح..
-أنا عايز أتبرَّع لإلياس، شوفت الإعلان، متنساش إنِّي عمُّه.
ارتفعت ضحكاتهِ أكثر، ثمَّ اقترب يمسكهُ من تلابيبهِ يتصنَّعُ اعتدالها:
-عارف لو مش قدَّامنا غيرك، وهوَّ هيموت، أنا هاخده كدا أدفنه وهوَّ حي، ولا إنِّي ألوِّثه بدمَّك القذر، عارف دمَّك القذر، كفاية الدم اللي حمَّلته لناس كلِّ ذنبهم أنُّهم ولادك..دم نجس فاسد..
برقت عيناهُ يودُّ لو يطبقُ على عنقه حتى يلفظَ أنفاسه:
-جريء يامشحم، الصبر حلو..
فُتح باب غرفةِ فريدة فجأة، وخرجت بمساعدةِ رؤى وغادة..ورغم شحوبِ وجهها، إلا أنَّ عينيها تشتعلان..تقدَّمت حتى وقفت أمام راجح، و نظراتها تخترقهُ كالسكاكين..
– أقسم بالله يا راجح، لو ليك يد في اللي حصل لأولادي، لأفتح بطنك وأطعم مصارينك للكلاب الجربانة..
صرخت ميرال فجأة، كأنَّ شيطانًا تلبَّسها..اقتربت منه بجسدها، وقبضت على قميصهِ تنظرُ إليه بحقدٍ دفين:
– أنا اللي هشرب من دمَّك، سمعتني؟ هشرب من دمَّك الزفر يا راجح...
يا قاتل القتلة..
-بتقولي لأبوكي كدا..
-اخرررررس..قالتها وهي تهزُّ رأسها كالمجنونة، تدفعهُ بقوةٍ تصرخُ مرَّة، وتضربهُ مرَّة..
-أنا بكرهك، بكرهك، إنتَ مستحيل تكون أب، ربِّنا ياخدك، ربِّنا ياخدك ياأقذر أب أنجبته البشرية..
أطبقَ على ذراعيها بقوَّة:
-اسمعيني يابت، متفكريش هسكت على قلِّة أدبك دي، لااا فوقي يابنتِ راجح..دفعةٌ قويةٌ من يزن حتى تراجعَ جسدهِ وكاد أن يسقطَ على ظهره..
-اتجنِّنت علشان تمسكها بالطريقة دي وإحنا واقفين..
جحظت عيناهُ يتطلَّع إليه بريبةٍ من أمره، أزاحَ يزن ميرال بعيدًا عنه وهمسَ بهسيسٍ مرعب:
-إيدك تتمدِّ عليها تاني هكسرهالك، وديني أكسَّرلك عضمك كلُّه، ويالَّه امشي من هنا، قطعت الهوا وفيه عيانين مش عايزينهم يموتوا..
-إنتَ مين ياله، رفع عينيهِ إلى مصطفى وأردفَ بنبرةٍ خبيثة:
-جايبه بودي جارد يحميك منِّي، طيب اسمعوني كلُّكم، أنا مستعد أطلع من هنا وأفضحكم كلُّكم، وأقول للناس كلَّها، أنُّكم أكبر مزوِّرين..
-آاااه..قالها يزن وهو يرفعُ المقعدَ المعدني واقتربَ يودُّ أن يحطِّمَ به جسده...أوقفهُ مصطفى يجذبهُ من ذراعه:
-مش دا اللي تضيَّع نفسك عليه يابني، سيبه لنفسه ربِّنا يتولاه..بصقت فريدة بوجهه..
توقَّف راجح، يتلقَّى لعناتهم كأنَّها مطرُ شتاء...
– فريدة، ده أقلِّ من إنِّك تكلِّميه، ماينفعشِ تنزلي لمستوى متدني..
لكن راجح، رغم الإهانة أردف:
– أنا عايز أشوف ابنِ جمال...
قبل أن يكمل، ظهر إسحاق كالعاصفة، يشيرُ للأمن:
– ارموه برة...ولو رجع هنا تاني، موِّتوه من غير ما ترجعولي.
اقترب أحدُ الحرَّاس، لكن راجح رفع يده، محاولًا أن يحافظَ على كرامةٍ مهشَّمة:
– إنت عارف بتقول إيه؟!
لكن إسحاق قاطعهُ واقترب، ونطق بنبرةٍ تقطرُ تهديدًا:
– لمَّا تتكلِّم مع إسحاق الجارحي، تتكلِّم وراسك في الأرض، أنا هسيبك تمشي دلوقتي زي الكلب..
امشي دلوقتي ياراجح، وادعي ربَّك تموت قبل ماأشوفك تاني.
رغم رعشةٍ في أطرافه، رسمَ الجمود وأردف:
– على مهلك يا إسحاق باشا...أنا راجح الشافعي، وإنتَ عارف أنا أقدر أعمل إيه.
اقتربَ إسحاق وربتَ على كتفهِ بقوَّةٍ مؤلمةٍ تهزُّ الجبال:
– وأنا عارفك أكتر من نفسك ياراجح... لكن محبتش ألعب معك، خلِّي بالك من نفسك، لحدِّ ماأطمِّن على ابني، وقتها اللعب هيكون على المكشوف..
انسحبَ راجح بخطواتٍ ثقيلة، وهو بيلمِّ جاكيته، عيناهُ تبحثُ عن أيِّ تعاطف...لكن النظرات إليهِ كعدو، كدمار..توقَّف بلحظةٍ عفوية، ونظرهِ سكنَ على فريدة في أحضانِ مصطفى...تقابلت الأعين للحظات.. أعين تريدُ تدميره، أمَّا عيناه أرادت الصفحَ والعفو، فأردف:
-أنا جيت أشوف يوسف يافريدة، مكنتش جاي قاصد شر..
-دا بيقول شر..حد يمشِّي الراجل دا بدل ماأموِّته..هكذا قالها يزن وهو يشيرُ إليه..اقتربت ميرال منه تتعمَّقُ بالنظرِ إليه:
-إنتَ اللي عملت في إلياس كدا، إنتَ ياراجح؟!..
رمقها بنظرةٍ صامتة، ثمَّ رفع عينيهِ إلى فريدة..هزَّت رأسها بعنفٍ بعدما تأكَّدت من فعلته، ارتجفَ جسدها وانسابت دموعها بغزارة، حتى استدار وانسحبَ من المكانِ بالكامل، هنا هوت على الأرضية تبكي بصرخاتٍ مرتفعة، وتحوَّلت إلى حالةٍ من الجنون..هبط يزن بجوارها يضمُّها بحنان:
-معلش حبيبتي حظِّنا كدا..دفنت رأسها بصدرِ أخيها تهتفُ ببكاء:
-آاااه..ذنبي إيه يكون ليَّا أب كدا، أبويا هوَّ اللي حاول يقتل جوزي يايزن، أبوك هوَّ اللي حاول يقتله..
-اخرسي..هتفَ بها مصطفى وانحنى يرفعها من فوق الأرضِ يمسحُ دموعها بحنانٍ رغم نبرتهِ الحادَّة:
-إياكي أسمعك تقولي على الراجل دا أبوكي..أنا اللي ربِّيتك، أنا بس اللي ليَّا الحق تقولي له بابا، والستِّ دي أمِّك، أومال جوزك عمل دا كلُّه ليه، علشان واحد كلب زي دا ميقدرشِ يفتح بوقه..
هربَ سريعًا بعدما استمعَ إلى كلماتِ مصطفى التي أشعرتهُ بأنَّه لا يريدُ سوى الموت..
خرجَ من شرودهِ بعدما دلفت الخادمة إليه:
-فيه ظابط برة عايزك
-ظابط !!