رواية شظايا قلوب محترقة الفصل الثالث والثلاثون 33 بقلم سيلا وليد

رواية شظايا قلوب محترقة الفصل الثالث والثلاثون 33 بقلم سيلا وليد

رواية شظايا قلوب محترقة الفصل الثالث والثلاثون 33 هى رواية من كتابة سيلا وليد رواية شظايا قلوب محترقة الفصل الثالث والثلاثون 33 صدر لاول مرة على موقع التواصل الاجتماعى فيسبوك رواية شظايا قلوب محترقة الفصل الثالث والثلاثون 33 حقق تفاعل كبير على الفيسبوك لذلك سنعرض لكم رواية شظايا قلوب محترقة الفصل الثالث والثلاثون 33

رواية شظايا قلوب محترقة بقلم سيلا وليد

رواية شظايا قلوب محترقة الفصل الثالث والثلاثون 33

"اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك "
حين يغيب صوتك، يصمت العالم من حولي، وتصبح اللحظات باهتة بلا لون، بلا طعم، بلا حياة. أشتاق إليك بكل ما فيّ، أشتاق لدفء حديثك، لنبرة صوتك التي تروي عطشي للحب، لنظراتك التي كانت تغمرني بالأمان.
#ميرال_السيوفي
العشق ليس مجرد شعور، بل هو نداء القلب حين يفتقد نبضه الآخر، هو لهفة العين لرؤية من تحب، هو ذلك الحنين الذي يسكن الروح ويجعل من الأيام دونك مجرد عبور بلا معنى. فكل لحظة تمر دونك، يزداد شوقي، ويتعاظم حنيني، وكأن المسافة بيننا تزيد من احتراقي وتوقي إليك.
يا من ملكت قلبي، أحتاجك كما تحتاج الأرض للمطر، وكما تحتاج الوردة للندى، فعد سريعًا، قبل أن يأخذني الاشتياق إلى عالم لا أجد فيه سوى ظلك وهمسك في أحلامي.
#إلياس_السيوفي
بعد دفعه لإسلام، اتجه إلى سيارته وظلَّ يدور في شوارعِ القاهرة كالتائهِ في غياهبِ الجبِّ، توقَّف أمام النيل يحدِّقُ في مياههِ الصامتةِ التي تعكسُ هدوءًا لا يملكه؛ تراجع بجسدهِ متردِّدًا وهو يستعرضُ شريطَ حياتهِ منذ أن كان طفلًا وحتى هذا اليوم..مرَّت الذكريات أمام عينيه بسرعةٍ مربكة، يحاولُ أن يحافظ على توازنهِ الداخلي كي لا يُظهرَ صراعهِ الخفي..مع من انهزم القلبَ أمامها..
توقَّفَ عند ذكرى مع متيِّمةِ قلبه، تلك الذكرى التي لم يجنِ منها سوى ألمٍ متراكم، كالنَّارِ التي تأبى أن تخمد..فمنذ أن دقَّ قلبه، وعشقهِ مليئًا بالألم، عشقًا يشبهُ الغرقَ في بحرٍ بلا شاطئ.
رنَّ هاتفه، نظر إلى شاشته فرأى اسمَ صديقهِ شريف، رفع الهاتفَ مجيبًا:
إلياس، كتب كتابي بكرة بعد صلاة التراويح متنساش، وياريت تيجي ومعاك أستاذة ميرال.
آسف يا شريف نسيت، رمضان وأوَّل يوم، دماغي مفصولة.
ولا يهمَّك يا حبيبي، المهم متنساش.
"حاضر..."
أغلقَ الهاتف، وعيناه لا تزال معلَّقةً على مياهِ النيلِ التي تعكسُ سكونًا غريبًا، يناقضُ العاصفة داخله..بقي لدقائق صامتًا، إلى أن رفع هاتفه مجدَّدًا واتَّصل.
بفيلا السيوفي، كانت ميرال تجثو بجانب إسلام، الذي كان يحتضنُ ذراعه بألمٍ ظاهر..رفع عينيهِ إليها وهدرَ غاضبًا:
-عايزة إيه أكتر من كده؟! الحمدُلله إنُّه مخرجشِ سلاحه وضربني.
ربتت ميرال على كتفهِ بحنان، محاولةً تهدئتهِ وساعدتهُ على النهوض:
أنا معرفش بتتكلِّم عن إيه..اتفاجأت زيك..طالعها بنظراتٍ مبهمةٍ ثمَّ أردف بخفوت:
-عملت كدا قولت يمكن لمَّا يغير ياخدك في حضنه، أخدني أنا في حضنه بس حضنِ المخبرين، أنا كان مالي إن شاءالله تولعو..
ضيَّقت عينيها بجهلِ كلماته، وتساءلت:
-إنتَ سخن؟..أنا مش فاهمة حاجة.. 
رمقها ساخرًا ليقول: 
-أومال كنت بهمس لك على غادة ليه، علشان تضحكي وهوَّ يضايق لمَّا يشوفك في حضني.
-حضنك!!..حضن إيه يا مجنون؟!.  
تراجع بعيدًا يطالعها متهكِّمًا..
دقائق ووصلَ مصطفى على صوتِ صراخِ إسلام:
-إيه اللي حصل؟!
تحرَّك إسلام متجاهلًا مصطفى، ينادي على غادة بصوتٍ مختنق:
تعالي سوقي العربية، شكل إيدي اتكسرت بجد.
أوقفه مصطفى متسائلًا بقلق:
- مش سامعني؟ إيه اللي حصل؟
ردَّ إسلام بتوتر وهو يحاولُ التظاهرَ بالهدوء:
- مفيش يا بابا، حادثة بسيطة... وقعت على الأرض.
في تلك اللحظة، وصلت فريدة تنظرُ مندهشةً بين ميرال وغادة، وسألت بحدَّة:
- إيه اللي حصل؟
لم تجب ميرال، بل حملت طفلها من المربيةِ بعد أن ارتفعَ صوتهِ بالبكاء. قالت بهدوءٍ وهي تحاول تهدئةَ الصغير:
- سيبيه، أنا هسكِّته.
أما غادة، فقالت بصوتٍ خافت:
معرفش، إلياس اتخانق معاه، بس ليه؟ اللهُ أعلم..
توسَّعت عينا فريدة بدهشة، تنظرُ إلى غادة غير مصدِّقة:
إلياس؟ اتخانق مع إسلام؟! ليه؟!
ليه؟!..تساءلت بها فريدة. 
هزَّت كتفها بجهلٍ وعيناها على ميرال التي ارتجفت شفتيها مبتعدةً عن تجمُّعهم، بعد حديث إسلام الذي صفعها بقوة.
استمعت إلى رنينِ هاتفها، أخرجته ببطء، تنظر إلى الشاشةِ لوهلة، وكأنَّها تحاولُ أن تستجمعَ نفسها قبل أن تضغطَ على زرِّ الرد..جاءَ صوتها خافتًا ومثقلًا بالتردُّد:
-أيوة؟
لم يتأخَّر ردُّه، جاء كعادتهِ حازمًا وقاطعًا:
- متمشيش، قدَّامي ساعة وهاجي أوصَّلك.
أطلقت تنهيدةً طويلة، وكأنَّها تحملُ كلَّ ما عجزت عن قوله:
- مفيش داعي يا إلياس...زي ما جيت، هرجع.
لكنَّهُ أجابها صارمًا، لا يحتملُ اعتراضًا:
-مش باخد رأيك...قالها وأغلقَ الهاتف، تاركًا بها صمتًا ثقيلًا يحيطُ بقلبها المثقل بالألم.
تحرَّكت ببطءٍ إلى الداخل، تسحبُ قدميها بثقلِ أفكارها، صعدت إلى غرفتهِ وهي تحملُ طفلها بحذر، وكأنَّها تلجُ إلى مكانٍ مقدَّسٍ مليءٍ بالذكريات..ماإن فتحت الباب حتى استقبلتها رائحتهِ التي اخترقت صدرها بلا استئذان، فأثارت مشاعرها كأمواجٍ عاتيةٍ تغمرُ قلبها.
وقفت للحظةٍ لدى الباب تنظرُ إلى السرير، حيث ما زالت آثار نومهِ تعبثُ بالأغطية، شعرت وكأنَّ كلَّ شيءٍ هنا يصرخُ بوجوده، حتى في غيابه..اقتربت بخطواتٍ بطيئة، تخشى أن توقظَ الأشباح التي يغمرها المكان برائحته.
وضعت طفلها برفقٍ على السرير؛ ثمَّ جلست بجانبهِ تتلَّمسُ الأغطيةَ بأطرافِ أصابعها وكأنَّها تتلَّمسُ ملامحهِ الغائبة بالمكان الحاضرة بقلبها... شعرت بحرارةِ دموعها تتكوَّمُ في عينيها، لكنَّها قاومتها..ومدَّت يدها بخفَّةٍ فوق الوسادةِ تتحسَّسُ أثره.
انحنت ببطء، ودفنت وجهها في الوسادة، تسحبُ منها أنفاسهِ التي تركها ..أغمضت عينيها، وارتجفت شفتيها وهي تبتسمُ ابتسامةً شاحبة، حملت مزيجًا من اشتياقها
تمدَّدت على السرير، واحتضنت الوسادةَ كأنَّها تحتضن أثاره بين يديها..رفعت عينيها نحو طفلها الذي غفا بهدوءٍ بجانبها، لتطمئنهُ رائحةَ حضنِ والده..
مدَّت يدها تلامسُ ملامحهِ الصغيرةِ بحنانِ أمٍّ مزَّقها شوقها لأبيه..أغلقت عينيها أخيرًا، مستسلمةً لنومٍ متقطِّع، بين أحلامٍ تحاولُ أن تكتمل، وأوجاعٍ تنغِّصها.
لكن هذا السلام المؤقت لم يدم..بعد ساعةٍ أفزعها رنينَ الهاتفِ مرَّةً أخرى. فتحت عينيها بارتباك، مدَّت يدها إلى الهاتف، لتجيبَ بصوتٍ متردِّد:
-أيوة..أجابها على الطرفِ الآخر: 
أنا تحت، انزلي.
ردَّت سريعًا وهي تحاولُ أن تستعيدَ توازنها:
"حاضر.."
نهضت بخطواتٍ متسارعة، ترتِّبُ ملابسها بعجلة، وتحاولُ تهدئةَ طفلها الذي استيقظَ على صوتها..حملتهُ واتَّجهت للخارج، لكن خطاها توقَّفت عند صوتِ والدتها فريدة، وهي تخرجُ بابتسامةٍ متردِّدة:
- دخلت لقيتك نايمة، مردتش أصحِّيك..إيه رأيك نشرب قهوة قبلِ ما تمشي؟
ابتسمت ميرال بخفة، محاولةً كبح شعورٍ بالذنبِ يتسلَّلُ إليها:
آسفة يا ماما، لازم أرجع علشان ألحق أرتاح شوية قبل السحور..عندي شغل بكرة.
لكن فريدة لم تخفِ ضيقها، تمتمت بنبرةٍ متذمِّرة:
مش اتفقنا إنِّ رمضان كلُّه نقضِّيه مع بعض؟
اقتربت ميرال منها، وقبَّلت يدها بحنانٍ ثم قالت بابتسامةٍ مائلة:
بكرة معزومة عند يزن، وبعده عند أرسلان، يا ستِّ ماما..شكلك نسيتي، يلا باي، إلياس مستنينا تحت.
لكن فريدة أمسكت بذراعها فجأة، ورمقتها بنظرات تحملُ مزيجًا من الحنانِ والعتاب:
- هو اللي هيوصَّلك؟
أومأت ميرال بالإيجاب دون أن تنبس بكلمة..ثمَّ نادت على المربية:
- انزلي بيه تحت للباشا.
نفَّذت المربية أمرها بطاعة، فيما استدارت ميرال إلى والدتها، التي بدت منزعجة من حياتهما..اقتربت منهابخطواتٍ ثابتة؛ وأمسكت وجه ابنتها بين يديها..وتمتمت:
ميرال، ليه مصرَّة تضيَّعي جوزك وحياتك؟ إنتي عايزة توصلي لإيه؟
صمتت ميرال، وبدت تحاولُ أن تخفي وجعًا يفضحهُ صمتها، ولكن أكملت فريدة بصوتٍ مليءٍ بالرجاء:
- حبيبتي، الحبِّ مش كفاية لوحده، لازم تصبري وتضحِّي، لمَّا إلياس يغير عليكي للدرجة دي، ويبقى مستعدِّ يعمل أي حاجة علشانك، إزاي مش شايفة ده؟ فكَّري كويس، مش عايزاكي  تخسريه علشان موقف، الحياة بين الراجل والستِّ عمرها ما بتبقى كاملة، لكن إحنا بنحاول نبنيها على قدِّ ما نقدر.
شعرت ميرال وكأنَّ كلماتِ والدتها ضربت وترًا حسَّاسًا بداخلها..نظرت إليها بصمتٍ وكأنَّها تحاولُ أن تستوعب كلَّ كلمة..كانت كلماتها كمرآةٍ تعكسُ كلَّ ما تحاولُ أن تتجاهله، ولكن كيف تخبرها برفضِ إلياس ومسامحته اليها، صمتت للحظات...ثمَّ أردفت بخفوت:
-إن شاء الله حبيبتي.. قالتها وهبطت إليه 
بعد قليل، كانت تجلسُ بجوارهِ في السيارة، تحاولُ أن تبدو ثابتةً لكنَّ ملامحَ وجهها تفضحُ حزنها منه، تطلَّعت عبر المرآةِ الأماميةِ للمربيةِ التي كانت تحتضنُ الطفلَ برفق، ثمَّ قالت بصوتٍ حاولت أن تخفي فيه ارتجافًا:
- لو نام، غطِّيه علشان مايبردش.
ردَّت المربية بنبرةٍ طبيعية:
- حاضر، بس الجوِّ حر يا مدام.
استدارت بجسدها للخلف فجأة، وعيناها تتفحصانِ الطفل الذي بدا هادئًا، وأشارت إلى ملابسهِ الخفيفةِ والمكيِّف، قائلة بنبرةٍ حازمةٍ تخفي خلفها قلقًا أموميًا:
-لا، هوَّ لسه صغير، والمكيف شغال..لمَّا ننزل هياخد برد، المفروض تبقي عارفة الحاجات دي كويس.
ارتبكت المربية قليلًا، وتعلَّقت عيناها بإلياس المستمعَ بصمت، فأومأت برأسها بخضوع:
"حاضر يا مدام."
التفتت لتعودَ لوضعها الطبيعي في المقعد، لكنَّ حركتها السريعةِ جعلت كتفها يلامسُ كتفه..ورغم أنَّهُ تلامسًا بسيطًا لكن جعل قلبها ينبضُ بقوَّة، بينما شعرَ هو برعشةٍ خفيَّةٍ تجتاحهُ للحظة، التفتَ سريعًا ناحيةَ النافذة، يهربُ من نظراتها التي تضعفه، بينما هي ألقت نظرةً عابرةً بصمت.
ظلَّ ينظرُ عبر النافذة، مراقبًا الطريقَ  بصمتٍ ثقيل، لم يتفوَّه ببنتِ شفة،  وصلوا إلى المنزل بعد دقائقَ تشعر بأنها بدت طويلة..نزلت المربية بسرعة، تحملُ الطفلَ بين ذراعيها بحرص، واتَّجهت نحو الباب..أمَّا هي، فبقيت جالسة، تراقبها إلى أن ابتعدت فاستدارت نحوهِ ببطء.
نظرت إليه لبعضِ اللحظات، ترسمُ ملامحهِ الحجريةِ الصامتة، ثمَّ نطقت بصوتٍ مبحوحٍ يفيض بشحناتٍ دفينةٍ من الألم:
-.أنا لمَّا طلبت من بابا أرجع الشغل، كنت مضطرَّة أعمل كده لأنَّك كنت رافض ترد على مكالماتي..حتى لمَّا بطَّلت تزورنا وبقيت تبعت حدِّ ياخد يوسف، مكنش عندي حل غير كده.
أخذت نفسًا عميقًا، لكن ارتجف صوتها قليلًا مستطردة:
-أنا مش متعودة أقعد كده، وإنتَ عارف ده كويس. 
كانت تنتظرُ أي ردِّ فعلٍ منه، لكنَّهُ ظلَّ صامتًا كأنَّه لم يسمع، ممَّا دفعها لإكمالِ الحديث، رغم الدموعِ التي بدأت تلمعُ في عينيها:
- تعرف أنا ندمت على جوازنا ...هنا التفتَ إليها سريعًا يحدجها بنظراتٍ مميتة، هزَّت رأسها وهربت من نظراتهِ تنظرُ للخارجِ مستأنفةً حديثها:
-الأوَّل كنت بعرف أوقف قدَّامك، وأقول رأيي براحتي، كنت بستمدِّ قوِّتي من شخصيتي، بس دلوقتي بخاف، بخاف من ردِّة فعلك، حتى على أقلِّ حاجة، إنتَ زعلان علشان لجأت لغيرك، مفكرتش إنَّك اللي وصَّلتني للمرحلة دي، حاولت تسحب منِّي شخصية ميرال، ليه معرفش.. مش ذنبي إنِّي طلعت بنتِ عدوِّكم، رفعت عينيها التي تلألأت بنجومها مردفة: 
-طبعًا أخباري عندك وعارف إنِّي تابعت مع دكتور، أنا من فترة تعبانة كنت مفكَّرة من الحمل، بس مبقتش قادرة أضغط على نفسي أكتر من كدا، شهر كامل وإنتَ مقاطعني، لحدِّ ما دخلت في اكتئاب، مش عيب فيك أبدًا، العيب في ضعفي واستسلامي..
سكتت للحظة، ثمَّ أضافت بصوتٍ أعمق، مشحونًا بالغصَّة:
يزن هوَّ اللي أقنعني أروح لدكتور..اتكلِّمت مع أرسلان، مع ماما فريدة، كلُّهم شافوا إنِّي محتاجة ده، بس إنتَ فين من دا..بتحافظ على كرامتك.. 
ارتفعت أنفاسها، ودموعها لم تعد تحتمل، لكنَّها مسحتها بسرعةٍ وكأنَّها ترفضُ أن يراها منهارة:
- عمري ما خرَّجتك من حياتي ياإلياس، لكنَّك بتجبرني كلِّ مرَّة ألجأ لغيرك. 
كان  يحدِّقُ بها بصمت، وكأنَّ الكلمات التي لفظتها تكسَّرت داخله كقطعِ زجاجٍ تنغرسُ في قلبه..لم يستطع الرد، أو ربما لم يكن يعرف ماذا يقول..
أدار رأسهِ نحو النافذة، محاولًا الهروب من ثقلِ الحقيقةِ التي ألقتها عليه..داخلهِ كان يتصارعُ بين كبريائهِ وندمٍ بدأ يتسلَّلُ إليه.
-آسفة لو كنت ضايقتك
بدا وكأنَّهُ لم يكن يتوقَّع هذه الجملة..رفع عينيهِ نحوها أخيرًا، لكنَّ نظراته كانت باردة، جامدة، ممَّا جعلها تضيف:
-يبقى ابعت خد يوسف زيِّ كلِّ مرَّة، من غير ماترجعلي، وكأن مش من حقِّي أعرف ابني رايح فين، المربية والأمن بقوا عارفين أكتر منِّي، فتحت الباب ونزلت بساقيها المرتعشة:
-ابنك وحقَّك في أيِّ وقت، مش هلومك، بس عايزة أوضح لك حاجة رغم عارفة إنَّك مش هتصدَّقها، بس من حقِّي عليك أبرَّأ نفسي، أنا ماليش إيد باللي حصل من إسلام، هوَّ كان بيقولِّي هيعمل في غادة مقلب وبيحكيلي، وبصفته أنُّه أخويا الصغير ضحكت على اللي هيعمله، مش علشان أخلِّيك تغير، لأنِّي لغيت حياتي معاك من وقت مادوَّرت على كرامتك ودوست على قلبي وحوَّلتني لمسخ.. 
أتمنى لك ليلة سعيدة ياحضرة الظابط،  قالتها وتحرَّكت تخطو بسيقانٍ مرتعشةٍ ودموعٍ تفرشُ طريقها حتى اختفت الرؤية بوضوحٍ أمامها وكادت أن تسقط. 
ظلَّت نظراتهِ تراقبها إلى أن اختفت خلف بابِ المنزل، شعرَ بشيءٍ ينكسرُ داخله..بل شعورًا ثقيلًا بالخسارة...كيف يقوَ على خسارتها وهي التي تعتبرُ ملاذهِ في الحياة...دقائقَ لم يشعر بها وعيناهُ على غرفتها التي أُنيرت..
أغلقَ عينيهِ وشعرَ بثقلِ تنفُّسهِ وهو يتساءل: 
كيف وصلَ الأمر بينهما إلى هذا الحد؟
هل حقًا السبب فيما توصلت إليه..صراع عنيف بين قلبه وعقله، ليصفع العقل القلب كعادته واتجه مغادرا المكان 
...
بفيلا العمري:
قبلَ ساعات..
جلست بجوارِ والدتها ورانيا لتناولِ إفطارهم..طالعتها رانيا متسائلة:
-راحيل إمتى هتعملي اجتماع الإدارة؟..وأه عايزة منِّك بكرة تنزلي تنقلي أملاك راجح اللي كتبها لك باسمي، بما أنُّه خرج من السجن والحمدُلله القضية طلعت هبلة فخلاص بقى انقليهم باسمي..هنا شعرت بقبضةٍ قويةٍ تعتصرُ فؤادها، وضعت كفَّيها على صدرها حينما شعرت بثقلِ تنفُّسها؛ وهي تتذكَّرُ أنَّها تنازلت عن كلِّ شيئٍ ليزن بعد الوثوقِ به..قاطع شرودها صوت رانيا: 
-أنا هرجع فيلِّتي، راجح راجع بكرة.. 
رفعت راحيل نظراتها متسائلة:
-هوَّ عمُّو راجح كان مسافر فين؟..من يوم القضية ماشفتوش.
رمقتها رانيا بنظراتٍ جاهلةٍ ثمَّ أردفت:
-معرفش والله يارحيل، حتى المحامي مابلَّغنيش بخروجه، المهم أنُّهم عرفوا أنُّه بريئ وقرايبه دول عايزين ينتقمو منُّه.
قطبت جبينها وتصنَّعت عدم المعرفة:
-مش فاهمة ياخالتو، مين قرايبه عمرك ماكلِّمتينا عنهم؟.  
جذبت رانيا إحدى الحلوياتِ وحاولت إلهاءها بالحديثِ قائلة:
-أنا فاكرة بقى معرفهمش، المهم أنا هرجع الليلة، وشكرًا إنِّك وافقتي أقعد معاكو الفترة دي.
هزَّت رأسها دون حديث، بينما أعينِ والدةِ رحيل على رانيا، نهضت رحيل من مكانها بعدما استمعت إلى رنينِ هاتفها، بينما تساءلت رباب والدة رحيل:
-مين قريب راجح يارانيا؟..إحنا عارفين راجح مكنش له غير جمال الله يرحمه، حتى ولاده منعرفش عنهم حاجة...ممكن تقوليلي مين قرايبه؟..
نهضت رانيا من مكانها وابتعدت عنها وتصنَّعت الجهلَ قائلة: 
-معرفش يارباب، كلِّ اللي أعرفه قرايبه، هروح أجهَّز نفسي علشان أوصل قبل وصول راجح..
دقائقَ واستمعوا إلى صوتِ ضجَّةٍ بالخارج، خرجت رانيا لتجدَ يزن يقفُ أمام رحيل ويزأرُ كالأسدِ الهائج: 
-إنتِ إزاي تكسري كلامي وتنزلي الشغل؟..
-وإنتَ مالك ومالي إن شاءالله، ليك عين تيجي توقف وتتبجَّح قدَّامي؟!.. 
جزَّ على أسنانهِ واقتربَ منها يضغطُ على ذراعيها:
-راحيل متخلنيش أفقد أعصابي، وأورِّيكي اللي عمرك ماشفتهوش..
طعنتها كلماتهِ بخنجر، لتشيرَ إليه بعينانِ تشتعلانِ بنيرانِ الغضب مايكفي لحرقِ مدينة، ثمَّ هدرت بحدَّةٍ بالغة:
-اسمعني يااسمك إيه، إنتَ مالكش حكم عليَّا، ومتفكرش علشان سرقتني هطاطي لأشكالك ياحرامي. 
تحوَّل غضبهِ إلى شيطانٍ مارد، وتناسى كلَّ شيئٍ سوى إهانتها لشخصه، ليدفعها بقوَّةٍ سقطت من خلالها على المقعد، وأحاطها بين ذراعيهِ يهتفُ من بين أسنانه:
-أنا حرامي يارحيل؟.. 
-وأكبر حرامي، إنتَ ياريتك حرامي بس إنتَ شيطان، ربِّنا ينتقم منَّك يايزن، واحد حقير انتهازي. 
ارتجفَ جسدهِ لتفلتَ شهقةً رغمًا عنه من بين شفتيه، حينما فقدَ الإحساس ليشعرَ بما طعنته، اعتدلَ بقلبٍ مقبوض، وغمغمَ مزمجرًا بخفوت: 
-تمام إنتي اللي جبتيه لنفسك..قاطعهم وصول أحد الحرسِ الخاصِّ بها:
-راحيل هانم حضرتك محتاجة حاجة؟.. 
توقَّفت تحدجُ يزن بنظراتٍ مشمئزِّة، وأشارت عليه:
-خدوا الأستاذ دا ارموه برَّة وممنوع يدخل بيتي تاني.
اقتربَ منه الرجلَ يقبضُ على كتفهِ بقوَّة، وهدرَ به:
-ياله برَّة يالا، مسمعتش الهانم قالت إيه؟.. 
لكمَ الرجلَ بقوَّةٍ حتى سقط ثمَّ بسطَ كفَّيهِ يجذبها من خصلاتها بقوَّةٍ حتى أصبحت بأحضانه:
-بصِّي يابت، مش يزن السوهاجي اللي بنت تقلِّ منُّه، ودلوقتي هعرَّفك إزاي تخلِّي رجالة تطرد جوزك.. 
دلفت رانيا تصرخُ بوجهه:
-الواد دا إيه اللي دخَّله هنا؟.. 
دفعَ راحيل بعيدًا عنهُ ثمَّ وصلَ إليها بخطوةٍ ليطبقَ على عنقها قائلًا بهسيس:
-الواد دا سيدك، وهيرميكي في الشارع دلوقتي..قالها ثمَّ دفعها بقوَّةٍ حتى سقطت على الأرضيةِ تطالعهُ بخوف، ليصرخَ بأحدِ الرجال:
-ارمو الستِّ دي برَّة، والكلبِ جوزها لو حاول يدخل البيت اكسرو رجله.
ثمَّ اقتربَ من رحيل التي تنظرُ إليه بذهول: 
-جهِّزي نفسك لجوزك ياآنسة راجع لك بعد ساعتين...قالها وهو ينظرُ للرجلِ الذي يسحبُ رانيا وهي تصرخُ باسمِ راحيل.. 
استدارَ على صوتِ راحيل المتقطِّع:
-إنتَ مستحيل تكون جوزي، وأنا رفعت قضية طلاق عليك يالص ياحرامي.. 
رفعَ كفِّهِ ليلطمها على وجهها، بعدما فقدَ اتزانهِ وشعورهِ بالقهرِ من حديثها الذي طعنَ كرامته، ولكنَّهُ كوَّرَ قبضتهِ بالهواء، وتراجعَ خطوة، ثم انحنى ينظرُ إلى عينايها المتحجِّرة بالدموع:
-رغم إنِّي قولت لك هرجع لك كلِّ حاجة، بس لازم آخد حقِّي من راجح ، وعرَّفتك أسراري، لكن إنتي خذلتيني..بس معلش ملحوقة..قالها واستدارَ يشيرُ إلى الحراسة: 
-المدام حبس اجباري داخل الفيلا، إياك تخرج..قالها وتحرَّك..بينما راحيل التي ظلَّت كالجسدِ الذي خرجت روحه. 
عند أرسلان بفيلا الجارحي قبيلَ ساعات..انتهى الجميع من وجبة إفطارهم التي تناولوها في جوٍّ من المحبَّةِ والألفة، ثمَّ انتقلوا إلى مكانهم المعتاد لتناولِ مشروبهم المفضَّل..توقَّفت ملك وتساءلت: 
-أرسو هنروح السنة دي الحسين زي السنة اللي فاتت؟،،
حاوطَ أكتافِ غرام يطالعها قائلًا:
-إحنا كلِّ سنة بنروح الحسين يوم 15 رمضان بناخد سحورنا هناك وبنلفِّ شوية، إيه رأيك تروحي معانا؟.. 
ابتسمت قائلة:
-أكيد..نهضت ملك واتَّجهت تجلسُ جوارها: 
-أحلى غرام دي ولّا إيه، صدَّقيني هتكون خروجة تحفة..
أومأت لها قائلة:
-أكيد حبيبتي بدل هتكوني معانا، رفعت نظرها إلى أرسلان: 
-إيه رأيك تكلِّم إلياس ونتقابل كلِّنا هناك؟...صفَّقت ملك كالأطفال وأردفت بسعادة:
-لا، كدا خلوها إفطار وسحور، واللهِ اليوم هيكون جنان.. 
تهكم ارسلان يطالعها 
-روحي يابتِّ العبي بعيد..قال إفطار وسحور..توقَّف أرسلان على رنينِ هاتفه: 
-أيوة ياالياس..قالها وابتعدَ عن الجمع.. 
توقَّف إلياس بالسيارةِ متسائلًا:
-كلِّ سنة وإنتَ طيب ياحضرةِ الظابط. 
-وإنتَ طيب ياحبيبي، عامل إيه؟..
-كويس..قالها ثمَّ تنهَّدَ وتساءل: 
-فيه أخبار عن راجح معرفتش مكانه؟..ذهبَ بصرهِ لإسحاق الجالسِ بالحديقة ينفثُ تبغهِ وينظر للامامِ بشرودٍ، ثمَّ أجابه: 
-بدوَّر والله ياإلياس، أنا عملت زي ماقولت لي، يوميها اتَّصلت وقولت له اللي طلبته، إنِّ العربية فيها قنبلة علشان يدخل فيلته من غير العربية بس معرفش، رجع بالعربية ومن وقتها اختفى. 
-تمام هيظهر هيروح فين، المهم أنا طلبت من شريف ياخد باله من ميرال من غير الحراسة، وإنتَ كمان خلِّي بالك من نفسك معرفش بيخطَّط لإيه، أكيد هيتجنِّن بعد مايعرف اللي يزن عمله...قاطعهُ متسائلًا:
-طيب يزن هيقولُّه إمتى أنُّه ابنه؟..
أخرجَ زفرةً حارًّةً ممزوجةً بتبغه، وأردف: 
-لسة شوية، لمَّا نرجَّع حقِّنا، حق والدتك وكرامتها في البلد، لازم ينزل البلد الحيوان دا، ويقول الِّلي عمله فيها هوَّ ورانيا الزفت دي..الفيديو بتاع رانيا حافظ عليه علشان يخرج وقت اللزوم، علشان يعرف مين اللي بيخونه.. 
قهقهَ أرسلان قائلًا:
-أنا اتصدمت لمَّا عرفت البوص يكون دا ..شردَ إلياس قائلًا:
-متتهونش فيه، لازم نجيب قراره..قاطعهُ أرسلان:
-بدوَّر وراه، بس السؤال المهم..راجح عارف إنِّ الراجل دا هوَّ اللي بيحرَّكهم ولَّا لأ..
-بعد العيد هننزل السويس ونشوف الإجابة على علاماتِ الاستفهام. 
بمنزلِ آدم انتهى من ارتداءِ ملابسه، ثمَّ جمعَ أشيائهِ الخاصةِ وتحرَّك للخارج، قابلتهُ وهي تحملُ كوبًا من العصيرِ وقطعٍ من بعض الحلويات، توقَّف يتطلَّعُ إلى مابيدها:
-حبيبتي رايحة فين؟..نظرت حولها لتضعَ ماتحمله، ثمَّ اتَّجهت إليه: 
-إنتَ خارج ولَّا إيه؟..أومأ لها قائلًا:
-رايح مع بابا لطنط فريدة، وأحمد كمان جاي، لازم نتعرَّف عليها..
رفعت أناملها تتلاعبُ بزرِّ ملابسهِ وأردفت بنبرةِ حنونة:
-دومي عايزة آجي معاكم، إيه رأيك؟.. 
أمسكَ كفَّها وقبَّلها، ثمَّ قرَّبها يضمُّها لأحضانه:
-حبيبتي مينفعش، دا لسة تعارف وبعدين لمَّا ناخد على بعض أكيد زياراتنا هتكتر، وكمان مش عايزين نحرجها قدَّام جوزها، وبابا لسة العلاقة بينه وبينها مش القوية، فاهمة؟.، 
أومأت له ثمَّ أشارت إلى كوبِ العصير:
-طيب اشرب العصير، وكنت جايبة لك البسبوسة اللي بتحبَّها.. 
انحنى يطبعُ قبلةً بجوار شفتيها ثمَّ همسَ بجوارِ أذنها:
-أنا بسبوستي هاكلها كلَّها لمَّا أرجع تمام..قالها وهو يغمزُ لها ثمَّ تحرَّك بعض الخطواتِ ولكنَّه توقَّفَ مستديرًا:
-هنعدِّي على الفندق علشان نقابل الشهاوي وبنته..
خطت مقتربةً منه بعيونٍ متسائلة:
-إيه اللي حصل لدا كلُّه؟..
حاوطَ أكتافها وانحنى قليلًا لمستوى وقوفها:
-لازم نخلص من الموضوع دا، أنا مش هفضل في المحاكم، للأسف لعبتها صح والشهود في صالحها، هنشوف آخرة الموضوع إيه، وإن شاءالله بابا يلاقي حل مع باباها.. 
ضيَّقت عيناها وتساءلت:
-هوَّ باباها لسة هنا؟ مش الراجل دا مغربي؟..
هزَّ رأسهِ بالنفي وردَّدَ قائلًا:
-لا، حبيبتي هوَّ أصله مصري بس متجوِّز مغربية..بس مش مستقر لا في المغرب ولا مصر، في الولايات المتحدة، راجل واصل بمعنى أصح وتقيل، يعني لمَّا كانت بتهدِّدني كانت واثقة إنِّي هوافق على شروطها، علشان عارفة بمساندة أبوها هتعمل كلِّ حاجة. 
-أومال ليه قولت إنَّها مغربية ياآدم؟.. 
-علشان هيَّ مغربية فعلًا، باباها معاه الجنسية المغربية ومعظم حياته بين المغرب وأمريكا، قليل لمَّا يتكلِّم عن مصر. 
جاهدت في إخفاءِ الحزنِ وألمِ الماضي، هزَّت رأسها مبتعدةً بنظرها عنه:
-خلاص حاول متتأخرش..
طبعَ قبلةً حنونةً على جبهتها وغادرَ المكان..ظلَّت متوقِّفةً مكانها تراقبُ تحرُّكهِ إلى أن اختفى عن نظرها، هوت على المقعدِ وخطٍّ من الدموعِ تسلَّلَ عبر وجنتيها، تهمسُ لنفسها: 
-يارب ماتخلنيش أندم ياآدم على إنِّي سامحتك وأدتلك فرصة تانية.. 
قالتها وهي مطبقةٌ على جفنيها ونيرانُ الغيرةِ والألمِ تحرقُ أحشاءها، تنهيداتٌ ثقيلةٌ حتى شعرت بتقطع تنفُّسها، استمعت إلى رنينِ هاتفها، توقَّفت تجذبه، ثمَّ تحرَّكت إلى الشرفة، جذبت المقعدَ وهي تستمعُ إلى المتَّصل:
-أيوة حبيبتي...أنا كويسة. 
على الجانبِ الآخرِ تحدَّثت رؤى:
-إيلين عايزة أتكلِّم معاكي لو فاضية؟..
مسحت على جبينها ثمَّ زفرت بهدوء،  تحاولُ ألا تغضبها قائلة:
-سمعاكي يارؤى..
-مال صوتك؟..وبعدين دكتور آدم مش موجود؟..أوعي تقولي إنِّك اتخانقتوا تاني..
أجابتها بنبرةٍ مغموسةٍ بالألم: 
-لأ، هنتخانق ليه، هو بس عنده شوية شغل، المهم عايزة إيه؟..سمعاكي.
-عايزة أقولِّك على حاجة مهمة بقالي فترة عايزة أتكلِّم معاكي ومتردِّدة، بس كنت بحاول أتقبَّل الفكرة.
-قولي عايزة إيه يارؤى؟..عندي مذاكرة كتيير..
-مش أنا وميرال طلعنا أخوات، وإلياس ابنِ عمِّنا.
-ميرال مين؟..نطقت بها إيلين بتيه..
أفلتت رؤى ضحكةً صاخبةً وهي تتحرَّكُ بغرفتها ثمَّ أجابتها:
-ميرال مرات إلياس، طلعت أختي، ومش بس كدا أنا طلعت بنتِ جوز خالتك، يعني إحنا قرايب.
صدمةٌ عنيفةٌ أصابت عقلها حتى هربت الحروفُ من مخارجها ولم تقدر على التفوُّه، لحظات، ربما دقائق وهي لم تستطع الحركة وكأنَّ حديثَ رؤى صاعقةً أصابت جسدها كاملًا..سحبت نفسًا بهدوءٍ وحاولت النطق:
-يعني إنتي بنت عمُّو راجح؟!!إزاي ومين قالِّك الهبل دا؟..
قصَّت لها رؤى كلَّ ما حدثَ بتلك الفترة، كانت تستمعُ إلى حديثها بذهول، ممَّا جعلَ جسدها ينتفض، وكأنَّ مااستمعت إليه صوتٍ لعويلٍ أصابها بالصمم.. 
بفيلا السيوفي؛ 
وصلَ زين بصحبةِ أبنائهِ إلى الفيلا، كان مصطفى وفريدة باستقبالهِ بناءً على مطالبةِ زين بالمقابلة، جلسَ الجميع بغرفةِ المعيشة، بوصولِ إلياس بعد معرفتهِ بصلةِ القرابة..توقَّفَ آدم حينما لمحَ دخوله، يردِّدُ الاسمَ بينه وبين نفسه: 
-إلياس السيوفي!.،..استدارت فريدة إلى إلياس الذي دلفَ من البابِ ملقيًا التحية..ابتسمت إليه بحنانٍ أمومي، وتوقَّفت تنظرُ إليه وإلى زين قائلة:
-دا إلياس الكبير..نهضَ زين يدقِّقُ بملامحِ وجهه، ثمَّ ابتسمَ إليه، يشيرُ على نفسه:
-مش هتسلِّم على خالك؟..قالها بعدما توقَّفَ ينظرُ إليهم بجهل..اقتربت فريدة تربتُ على كتفه:
-حبيبي، دا خالو زين يُعتبر في مقام أخويا، هوَّ بيكون ابنِ عمي اللي حكت لك عنُّه. 
ذهبَ ببصرهِ إلى مصطفى كي يشرحَ له مايصير، حمحمَ مصطفى بعدما وجدَ تجمُّدَ إلياس، يهمسُ لنفسه بالخطأ، فكان عليه إخبارهِ قبل وجودهم: 
-زين الرفاعي بيكون ابنِ عمِّ مامتك حبيبي، دا اللي سافر بعد جوازها من والدك الله يرحمه، كنية ماما اللي غيَّرتها فريدة محمود الرفاعي.. 
التفتَ إلى والدتهِ سريعًا، لتهربَ بنظرها تنظرُ إلى زين متمتمة:
-إلياس مكنشِ يعرف زي ماقولت لك، لسة عارف من فترة بسيطة، حتى مايعرفشِ كنيتي الحقيقية..قاطعها بعدما استدارَ بكاملِ جسده إليها: 
-مين قال كدا؟..أنا عارف كلِّ حاجة، وكمان عرفت بموضوع ابنِ عمِّ حضرتك، ولمَّا سألت عنُّه، عرفت أنُّه رجع مصر من خماستشر سنة، حتى عرفت مكانه، وعرفت الدكتور بيكون ابنه، بس مكنشِ فيه وقت إنِّنا نتقابل أو مكنش الوقت سامح بسببِ الظروف.. 
اتَّجهَ بنظرهِِ إلى زين ورسمَ ابتسامةً يبسطُ كفِّه:
-أهلًا بحضرتك يازين باشا، نوَّرت فيلا السيوفي، ثمَّ ألقى نظرةً سريعةً على آدم:
-الدنيا صغيرة يادكتور، نوَّرتنا. 
ابتسمَ آدم قائلًا:
-آسف بس دا شغلي..أشارَ إليهم بالجلوس، واتَّجهَ يجلسُ بجوارِ مصطفى وهو يجيبه:
-لا بالعكس يادكتور، كبرت في نظري، أنا مكنتش عايزه، كنت عايز أتأكِّد إن التحليل الصح هيوصل زي ماهوَّ ولَّا..
-يعني كنت بتختبرني؟.. 
أومأ برأسهِ قائلًا:
-بالظبط كدا، أتمنى متزعلش منِّي، دا شغلي..تطلَّعت فريدة إليهِ تحاولُ أن تفهمَ مايقوله، ثمَّ تساءلت:
-أنتوا تعرفوا بعض؟..دلفت الخادمة إليهم بمشروباتهم، صمتَ إلياس إلى أن خرجت ثمَّ استأنفَ حديثه:
-قضية يامدام فريدة، اتقابلنا فيها، شغل يعني...
قطبَ زين جبينهِ متسائلًا: 
-مش قولتي إن إلياس ابنك؟..ليه بيقولِّك مدام فريدة؟.. 
حمحمَ إلياس ورسمَ ابتسامةً ينظرُ إلى فريدة:
_ بدلَّع عليها يازين باشا، مش كدا ياماما؟..قالها بمغزى..ابتسمت تهزُّ رأسها تتطلَّعُ بعيونٍ سعيدةٍ إليه: 
_ إلياس متقلِّب يازين، معلش شغله مسيطر عليه..بعد فترةٍ من التعارف، بدأت الأحاديثُ الخاصَّة بما حدث لفريدة إلى أن توقَّفَ إلياس بالسؤال:
- وحضرتك إزاي تصدَّقه كدا؟!..يعني ماما متربية مع حضرتك، تصدَّق كلام زي دا!!
أومأ زين برأسهِ وأجابَ بعد تنهيدة:
-أنا مصدَّقتش الكلام، قولت أكيد اتجوِّزت، بس معنديش معلومات، ودوَّرت في كلِّ السجلات سواء وفيات أو سجون، متزعليش منِّي يافريدة، مكنشِ عندي أمل تكوني متجوِّزة واحد زي مصطفى باشا ومغيَّرة اسمك كمان.. 
طأطأت رأسها بأسى، حينما تذكَّرت الماضي وبقاياه التي زادت من أنينِ روحها..
ماما..تمتمَ بها إلياس بقوة، وهو يشيرُ بعينيهِ ألَّا تنحني برأسها، رفعت عينيها التي تموَّجت بالألمِ والحزنِ قائلة:
-نصيبي الحلو يازين، رضا ربِّنا عليَّا، أو يمكن نهاية الصبر والوجع من بعدِ موت جمال..تعلَّقت عيناها بأعينِ مصطفى:
-أحلى حاجة ربِّنا كرمني بيها بعد مرار راجح ورانيا، رانيا اللي تحوِّلت لشيطان، والسبب معرفوش، وراجح اللي رسم دور الرجولة قدَّام جمال، لحدِّ ماتنازل عن حقُّه في ملكِ والده، علشان يرضي رانيا، وكان يقولِّي، متزعليش هوَّ برضو موظف ومرتَّبه مش بكفِّيه، وأنا مش محتاجه، ربِّنا كرمني الحمدُلله، كلِّ حاجة جمال اتنازل عنها علشان بس ميحسِّسوش أنُّه قليل، وشوف في الآخر عمل إيه، بدأت تقصُّ له كلَّ ما مرَّ بها منذ ولادتها لأرسلان إلى زواجِ مصطفى بها..
نهضَ إلياس من مكانهِ واتَّجهَ يجلسُ بجوارها، ولأوَّلِ مرَّةٍ يتنازلُ عن غروره، ويسحبها لأحضانهِ بعدما نزفت دموعها التي أحرقت صدرهِ قبل وجنتيها: 
-وحياة كلِّ دمعة نزلت من عيونك، ماهرحمه..هزَّت رأسها تحتضنُ وجههِ مردِّدة:
-حبيبي مش عايزة حاجة كفاية وجودكم معايا إنتَ وأخوك، ربِّنا عوَّضني بيكوا، وكمان ميرال، أه منكرشِ إنَّها هوِّنت عليَّا، بس حرقت قلبهم عليها.. 
-ليه رانيا تعمل كدا يافريدة؟..هتجنِّن، إزاي تكون بالقسوة والجبروت دا؟!..
-السؤال دا تسأله لها، مش لماما..قالها إلياس بعصبية، وتحوَّل لوحشٍ كاسر، يهتفُ بهسيسٍ متناسيًا وجودِ والده: 
-الستِّ الواطية دي هخلِّيها عريانة قدام نفسها، صدَّقني لولا ميرال كنت خلِّتها فرجة للي يسوى ومايساوش، دي مريضة حقد وغيرة، هطلَّعه على جتِّتها، الحاجة الوحيدة اللي تشفعلها عندي إنَّها أمِّ مراتي، بس برضو دا مش هيسكِّتني عن عقابها اللي تستاهله...
-إلياس..هتفَ بها مصطفى، ثمَّ أشارَ بعينيهِ أن يهدأ..نهضَ من مكانهِ معتذرًا، وأردف:
-آسف، نوَّرتوا عندي شوية شغل..التفتَ إلى والدته: 
-ممكن نتسحر كلِّنا مع بعض على فكرة.،
شكرهُ زين عندما توقَّفَ وتمتم:
-لا ياحبيبي عندنا مشوار مهم، صمتَ للحظاتٍ ثمَّ تساءل:
-طيب فين مراتك نتعرَّف عليها، على الأقلّ أعرف شبه مين رانيا ولَّا راجح..
قاطعهُ سريعًا وكأنَّهُ ألقى عليهِ تعويذةً سحريةً مشمئزَّة: 
-لا دا ولا دا، ولا تقرب لحدِّ فيهم، هيَّ مش موجودة دلوقتي..قالها وغادرَ المكانَ سريعًا دون حديثٍ آخر.. 
مرَّت الأيامُ سريعًا إلى أن انتصف شهرُ رمضان، حاولت فيه أن تخرجَ من حزنها بانشغالها بعملها الذي كرَّست حياتها لهُ ولابنها، بعدما تعوَّدت على غيابه، ولم تعلم عنهُ شيئًا، حتى امتنعَ عن رؤيةِ طفلهما..
على الرغمِ من ثباتها وصلابتها أمام الجميع ولكنَّها كانت تخفي في داخلها انهيارًا،  وخاصةً بعد انقطاعهِ الكاملِ عن كلِّ مايربطهما ببعضهما، حتى إفطارهما عند والدته..لتفعل مثله، بعد شعورها من عدم مواجهتها
ذات يوم، قام يزن بمهاتفتها.
- حبيبتي، منتظرك على الفطور النهاردة، ومش هقبل أيِّ أعذار، كلِّمت رؤى كمان لازم نتجمَّع مع بعض ياميرال، مش هنفضل كدا. 
قالها بنبرةٍ دافئة، لكنَّها لم تشعر بها سوى أنَّها قيدًا من السلاسلِ الثقيلة، لأنَّها لاتريدُ أحدًا يرى ضعفها وانكسارها.. حاولت الرفض، لكن قاطعها بإصرارٍ لم يترك لها مهربًا منه، أغلقت عينيها للحظة، متمنيَّةً لو تستطيعَ الهروبَ من كلِّ تلك المشاعرِ التي تنهشها بلا رحمة...فهمست له بالموافقة..
قبل موعدِ الإفطار بساعة، انتهت من تجهيزِ نفسها، لكن قلبها ظلَّ في فوضاهِ المعتادة، هل تخبره، أم تفعل مثلما يفعلُ بها...أمسكت الهاتفَ لتخبره، ولكنَّها تراجعت، رمقت الشاشةَ بنظرةٍ مثقلة، قبل أن تلقي الهاتفَ على الطاولةِ وكأنَّها تُلقي عبئًا أثقل من قدرتها على الاحتمال.
تنهَّدت بحزن، ثمَّ التفتت إلى صغيرها، الذي بدأ في البكاءِ وكأنَّهُ يشعرُ بضعفها. كم كرهت ضعفها هذا..فقد كانت صلبة، قوية، لكن ما يعيشهُ قلبها الآن لم يكن سوى أنَّها فوق رمالٍ واهية.
صاحت على المربيةِ بصوتٍ خرجَ واهنًا رغم محاولتها اصطناعهِ ثابتًا:
- خُدي يوسف وانزلي، خلِّي الحرس يجهزوا، هنخرج ليزن.
أومأت المربية، ثمَّ حملت الطفل وغادرت..وقفت في مكانها للحظات، تنظرُ إلى البابِ المغلقِ بشرود، تشعرُ بالأنينِ الذي يحاصرها من كلِّ جهة...من جهةِ والديها، ومن الجهةِ الأخرى زوجها، ومعشوقها.
كيف لامرأة أن تُقسمَ إلى نصفينِ ولا تموت؟ كيف لقلبها أن ينبضَ بهذا الكمِّ من التناقض؟
انتشلها من اضطرابِ مشاعرها المنهكةِ  رنينِ هاتفها، الذي قطعَ شرودها العميق، امتدَّت يدها إليه ببطء، كأنَّها تخشى أن يجرحها حتى قبل أن تلمسه، من ثقلِ ماتشعرُ به، نظرت لشاشتهِ التي أُنيرت باسمهِ لتنسابَ دموعها بصمت، تهمسُ اسمه بخفوتٍ وكأنَّهُ أخراج حروفُ اسمهِ شوكًا يجرحَ جوفها 
"إلياس..."
أخذت نفسًا عميقًا، تحاول أن تسرقَ بعض القوةِ قبل أن تجيبه.
-أيوة...
صمتهِ في البداية ..أشعرَه بوجعها، كما لو أنَّهُ كان هناك معها، يراها، يلمسها..كيف لمجرَّدِ نبرةِ صوتها أن تجعلهُ يشعرُ وكأنَّها تتوسَّلهُ دون أن تنطق؟
- جاي لك في الطريق، جهِّزي نفسك، هنفطر عند يزن.
سمعت صوتَ رؤى بجانبه، تقولُ بحدَّةٍ لم تستطع إخفاءها:
- لسه هنعدِّي عليها؟ المدفع خلاص!..
رمقها إلياس بنظرةٍ أخرستها، ثمَّ عادَ صوتهِ إليها:
- قدَّامي خمس دقايق وأوصلِّك.
أغمضت عينيها، محاولةً أن تكتمً رجفةَ صوتها، لكنَّها لم تنجح..
-توصلِّي؟ ما أظنش، يا حضرةِ الظابط، إنَّك لسه هتوصلِّي..أنا نازلة، متتعبشِ نفسك، نتقابل هناك.
أنهت المكالمة بسرعة، وكأنَّها تخشى أن يفضحَ صوتها انهيارها..انهارت بشهقاتها حتى سقطَ الهاتفَ من يدها، وارتفعت يدها الأخرى إلى صدرها، كأنَّها تحاولُ أن تُسكِتَ قلبها الذي كان يصرخُ باسمه، وكأنَّها تستعطفُ قلبها..
ليتكَ كنتَ قاسيًا عليه...ليتكَ تكرههُ كما يحاولُ أن يكرهني...ليتكَ وليتكَ ياقلبي المتألِّم..
ولكن كيف لها أن تكرهَ من ينبضُ القلبَ باسمهِ فقط..شعرت بدوران الأرض بها وغمامةسوداء احاطتها لتهوى ساقطة 
في سيارةِ إلياس...
قادَ السيارةَ بجنون، ليصلَ إليها قبل خروجها، لم يرَ ولم يسمع سوى تلك الشهقةِ المكتومةِ التي سمعها قبل أن تغلقَ الهاتف، كانت كافيةً لهدمِ كلِّ حصونه..زفرَت رؤى بضيق:
- إلياس، هدِّي السرعة هنموت كدا..
لم يلتفت إليها، ضغطَ على دوَّاسةِ الوقودِ أكثر، وعيناهُ على الطريقِ كأنَّهُ يحسبُ الخطواتِ للوصولِ اليها، دقائقَ معدودةً حتى اقتحمَ بوابةَ المنزل، ليتفاجأ الجميعُ بدخولهِ بتلك الطريقة.. 
ترجَّلَ من السيارةِ سريعًا، يشيرُ إلى السائق: 
-وصَّل أستاذة رؤى منزل يزن السوهاجي، قالها وصعدَ سريعًا إلى غرفتها بعدما وجدَ المربية تقفُ بطفله، لم يلتفت، إليها في بداية الأمر، ولكنها اوقفته قائلة:
-المدام بقالها فترة طويلة فوق، رغم أنها كانت جاهزة، دقائقَ ربما لحظات ودفعَ البابَ بقوَّة، ليجدها ملقاةً على الأرضية كالخرقةِ البالية، تجمَّدَ جسدهِ ليصل إليها بخطوةٍ واحدةٍ منتفضَ الجسد.
-ميرال..رفعَ رأسها من فوقِ الأرضية، يحملها بخوفٍ وكأنَّها شئٌ قابلٌ للكسر، وضعها بهدوءٍ على الفراش، وقامَ بفكِّ حجابها محاولًا إفاقتها: 
-ميرو افتحي عيونك..قالها وهو يقرِّبُ عطرها من أنفها، رفرفت أهدابها تهمسُ اسمهِ بخفوتٍ وكأنَّها تحلمُ به، ربتَ على وجنتيها مرَّةً يمرِّرُ إبهامه حتى تفيقَ بالكامل..فتحت عينيها بوهن، تشعرُ بألمٍ يضربُ رأسها وجسدها بالكامل لتشعرَ وكأنَّ جسدها مقيَّد الحركة..
-ميرال..ردَّدها مرَّةً أخرى، رفعت عينيها لتقابلَ عينيهِ القلقة، ثمَّ حاولت النهوض، تبعدُ كفَّيها من احتضانِ كفَّيهِ تهمسُ بخفوت:
-أنا كويسة، دوخت وأنا بلبس الشوز ومحستشِ بنفسي، استمعَ إلى مدفعِ الإفطار، فاتَّجهَ إلى الأسفلِ دون حديث.. 
بينما هي حاولت الاعتدال رغم ضعفها البائنِ عليها، توقَّفت بصعوبة، تنظرُ إلى نفسها بالمرآة، استمعت إلى آذانِ المغرب، مازالت نظراتها على نفسها لتدعي ربَّها بخفوتٍ وهي تضعُ كفَّيها على صدرها: 
"يارب أنا عارفة عملت غلط كتير، بس إنتَ الرحيم بعبدك الضعيف، أنا تعبت من الحياة دي، صعبان عليَّا ابني أوي، بس مش قادرة أتحمِّل العذاب والوجع اللي في قلبي حاولت أقوى بس أنا ضعيفة؛ عارفة حكمتك يارب بس مش طالبة غير إنَّك تاخدني عندك من الدنيا دي، يارب خدني وريَّح قلبي من العذاب دا، انسابت دموعها وارتفعَ بكاؤها ومازالت تدعو ربَّها، ياتنزع حبُّه من قلبي ياتاخدني يارب.. 
سقطَ الكوبُ من يديهِ وهو متوقِّفًا على بابِ الغرفةِ..يطالعها بنظرةٍ لم تستطع الوصولَ لما يعنيه، ولكنَّها اتَّجهت إلى هاتفها مع ارتفاعِ رنينهِ بعدما أزالت دموعها: 
-أيوة يايزن، معلش اتأخَّرت غصبِ عنِّي، لو عايز تفطر ونأجِّلها يوم تاني معنديش مشكلة لسة قدامي وقت.
قاطعها يزن ينظرُ بساعةِ يده:
-هنستناكي حبيبتي ياله، عرفت إلياس هيجيبك، التفتت بنظرها إليه مازال بمكانهِ وعينيهِ عليها ثمَّ أجابت أخيها:
-عادي معايا السواق لو حضرة الظابط مشغول، أصله دايمًا مشغول، مش عايزة أحمِّله فوق طاقته، وصلَ إليها ونزعَ الهاتفَ منها قائلًا:
-بكرة هنيجي نفطر معاك، أجِّلها لبكرة، أختك تعبانة...قالها وأغلقَ الهاتف، ملتفتًا إليها، ثمَّ أشارَ على ملابسها: 
-غيَّري هدومك، هطلب أكل..قالها واستدارَ ولكنَّها أوقفته:
-مفيش داعي، عندي أكل من أسبوع في التلاجة، كلِّ يوم بسخِّنه، اقتربت منهُ وعينيها ترسلُ إليه الكثير من النظراتِ الموجعة، وشفتيها ترتعشُ بضعفٍ لما تشعرُ به، تحاولُ ابعادَ دموعها التي أصبحت كالأشواكِ توخزُ جفنيها قائلة:
-معرفشِ حسيت باليُتم قبلِ كدا ولَّا لأ، بس أنا حسِّيته اليومين اللي فاتوا وعذرت فيهم رؤى أوي، عندها حق، ماهو أنا معشتش اللي هيَّ عاشيته، ياريت يبقى تقولَّها ميرال في أسبوعين عاشت سنين عمرك كلَّها، قالتها وتوجَّهت للأسفل وهي تتمتم:
-الحق فطارك ياحضرة الظابط، أنا متعوِّدة على الأكلِ البايت، ودا مضر على معدتك. 
رجفةٌ قويةٌ أصابت جسده، وهو يشعرُ بالخدرِ من صفعها بكلماتها، توقَّفَ عاجزًا لا يشعرُ سوى بالضعفِ من ترميمِ روحها، كان يظنُّ أنَّها هي التي ترفضُ الذهابَ الى فريدة، ولكن يبدو أنَّهُ أزهقَ حياتها دون أن يدري، سحبَ ساقيهِ يجرُّها بصعوبةٍ إلى أن وصلَ إلى غرفةِ الطعام بعدما استمعَ إلى حديثها:
-مكنشِ له لزوم تقومي من على أكلك، أنا هجهِّز السفرة زي كلِّ يوم، روحي افطري.. 
-مينفعشِ يامدام، أنا عاملة حسابي دقايق والفطار يكون جاهز، اشربي عصيرك، والباشا كمان ودقايق بس واعذريني فكَّرتك هتنزلي..وصلت المربية تنتقلُ بنظرها إليهِ قائلة:
-المدام قالت هنخرج، واتأخَّرت قلقت عليها، بسطَ ذراعيهِ يجذبُ طفلهِ ثمَّ أشارَ إليها على الداخل:
-روحي افطري..قالها وهو يتحرَّكُ بطفله إلى وقوفها في نافذةِ الغرفة، تجرَّأ بخطواتهِ إلى أن توقَّفَ خلفها، ثمَّ حاوطَ أكتافها يجذبها تحتَ حنانِ ذراعيه ونطقَ بنبرةٍ تحملُ من الألمِ مايشعرُ به:
-بتدعي عليَّا في وقتِ المغرب، دي دعوة في الأيام دي؟!..
أغمضت عينيها ولم تقوَ على التفوُّه، فيكفي ماتشعرُ به، جفَّت دموعها ولم يتبقَ سوى نزيفِ روحها...رفع ذقنها بعدما وجدَ صمتها، ثمَّ مرَّر أناملهِ على وجنتيها: 
-مابترديش ليه؟؟..فيه حد يدعي على حبيبه كدا؟.. 
ارتعشت من تأثيرِ قربهِ المهلك، وكلمته التي ارتجف القلب عليها، لتتراجعَ للخلفِ مبتعدةً عنه:
-انا مادعتش عليك أنا دعيت على نفسي، ليه أقعد في الدنيا دي، لو على ابني ربِّنا هيتولَّاه، بس حقيقي حياتي مبقتشِ تهمِّني. 
-اشش..قالها وهو يضعُ إبهامهِ على ثغرها، ثمَّ انحنى يهمسُ لها: 
-كلِّ حرف قولتيه ووجع قلبي 
هردُّو هولك..
-والله، غلطان ياحضرةِ الظابط، أنا مبقاش فيَّا حتة سليمة علشان تردِّ عليَّا  وتزيد الألم، حضرتك قايم بالواجب وزيادة.. 
قاطعتهم الخادمة: 
-السفرة جهزت يامدام..ثمَّ نظرت إلى أكوابِ العصير:
-حضرتِك مشربتيش العصير، طيب ليه؟..مش كفاية تعبك إمبارح، أنا آسفة ياباشا، المدام مهملة في أكلها وشربها، قاطعتها تشيرُ إليها بالخروج: 
-بلاش تتعبي الباشا بكلام مالوش لازمة، روحي افطري..
اقتربَ منها ثمَّ بسطَ كفَّيهِ إليها: 
-تعالي أنا جعان وعايز أفطر معاكي بجد، وقبل ماتعترضي وتحطِّي أوهام الفترة اللي فاتت مكنتش في القاهرة، ولسة راجع النهاردة وعرفت من ماما إنِّك رفضتي تروحي تفطري عندها.. 
تنهَّدت ثمَّ جذبت المقعد وجلست دون حديث، اتَّجهَ وجلسَ بجوارها ومازال يحملُ ابنه، نظر إليها ثمَّ نظرَ إلى الطعام:
-اممم، طيب ماالأكلِ حلو أهو ليه مش عاجبك؟..
التفتت إليه وتمتمت: 
-الاستراحة بتعتك لازم تكون جاهزة ياإلياس باشا، مينفعشِ أسيب حاجة للظروف، الباشا لازم يكون على مايرام مش دا كلامك للخدَّامة؟..
-مقصدتش اللي فهمتيه..
تناولت الشوكة وجذبت صحنها أمامها قائلة:
-ولا تقصد مبقتش تفرق صدَّقني، أنا عايشة لابني وخلاص لحدِّ ماربنا يريَّحني منَّك ومن الحياة اللي انجبرت بيها.
دنا بجسده، يحدِّقُ فيها بعينينِ تحترقان بصراعاتٍ لا تنتهي، كأنَّ قربهِ منها معركةً يخوضها ضدَ نفسهِ قبل أن يخوضها معها...طالعها بأنفاسٍ متقطِّعة، صدرهِ يضيقُ ليشعرَ بسحبِ أنفاسه...وهمسَ بصوتٍ مبحوح، كأنَّهُ اعترافٌ موجع:
"مكنتش عايز أقرَّب منِّك وأنا لسه شايل، يا ميرال...عايز أرجعلك وأنا صفحة بيضا."
ارتسمت على شفتيها ابتسامةٍ ساخرة، لكنَّها لم تصل إلى عينيها، و أمالت رأسها قليلًا، تحدِّقُ فيه كأنَّها تراهُ للمرَّةِ الأولى، تزنُ كلماته بميزانِ الألم لا المنطق، قبل أن تهزَّ رأسها ببطء:
"أيوة، فعلًا...اه صفحة بيضة، وأنا كمان مش عايزة القرب ده، ابنك عندك، اعمل اللي يريَّحك..أمَّا أنا، كفاية عليَّا استنى انتهاء الباشا من عقابه..ولسه زي ما أنا، يعني طلاقي من جوازي مش فارق...في كلتا الحالتين، أنا ميرال بنتِ راجح الشافعي، اللي هوَّ عدوَّك."
قالتها بصوتٍ ثابت، لكن كلَّ حرف تنطقه كان يحطِّمُ داخلها، رفعت يدها ببطء، تشيرُ إلى الطعام ببرودٍ زائف:
"افطر... لو لسه عايز تفطر معايا."
لكن لم تكمل حديثها حينما استمعت إلى صوته الذي دوى في المكانِ كالعاصفة، حادًا، غاضبًا، موجوعًا بطريقةٍ لم تراها من قبل..ينادي على المربية، ممَّا جعلها  تشهقُ بفزعٍ من هيئته، وفزع الطفل، هرولت المربية تحملُ الطفل، بعدما أشار إليها،تحرَّكُت به  للخارج ..نهضت من مكانها لتهربَ من عاصفتهِ الهوجاء ولكن جذبها بقوة، حتى سقطت جالسةً على قدميه، أسيرةً لذراعيهِ اللتين حاصرتها بكلِّ قوَّةٍ كحصارِ السجانِ للمتَّهم، حاولت التملُّص، وأن تبعده، أو تحافظَ على المسافةِ بينهما، لكنَّهُ كان أقوى... 
"أكِّليني يا مدام، بدل الحنية مش نافعة معاكي..."
قالها بصوتٍ أجش، متحشرج، وكأنَّهُ يتوسلُ لها بطريقةٍ غاضبة، بعدما فقد التحكُّمَ في السيطرةِ عليها، نعم لقد أضعفته، وهو لم يبخل عليها بالضعف، سيظلُّ خلفها حتى النهاية إلى أن تنهار مثله، أمال برأسه:
-معاكي للأخر ...
تجمَّدت بين يديه، ورغم ذلك خانها قلبها، لينبضَ بجنون، مما جعلَ جسدها يرتعشُ رغمًا عنها..أغمضت عينيها بقوة، تلعنُ ضعفها، تلعنُ هذا الشعور الذي يقتلها ولا يموت...لم يرحم ضعفها ، ليرفعَ أناملهِ على عنقها مرورًا بوجنتيها، إلى أن رفعَ خصلاتِ شعرها، يزيحها عن رقبتها بلمسةٍ بطيئةٍ لعنقها المرمري، لترتفعَ حرارةَ أنفاسهِ مقتربًا منهُ يداعبهُ مرَّةً بأناملهِ ومرَّةً بأنفه، ممَّا جعلها تلهثُ بصوتٍ بالكادِ استطاعت كتمانه..لم يكتفِ بذلك بل رفعَ عينيهِ ليحتضنَ عينيها التي لوَّحت بعشقه، وهمسَ بخفوت، لكن صوتهِ كان يضجُّ بالألم، بالهزيمة، بالشوقِ القاتل:
"قلبي لتاني مرَّة يكسرني يا ميرال..لتاني مرَّة تهزميني...ومقدرشِ أبعد أكتر من كده..كلِّ ماأحاول أبعد، أحبِّك أكتر وأكتر...مش عارف إيه اللي بيحصل، بس اللي متأكِّد منُّه إنِّك وجعاني أوي، يا ميرا."
رفعَ كفَّيها، وضعهما على موضعِ نبضه، كأنَّهُ يريدها أن تشعرَ به، أن تحسَّ كيف يخفقُ باسمها، كيف يخذلهُ في كلِّ مرَّةٍ يحاولُ أن يقاومها..عيناها تبرقُ بالدموع، تمتلئُ بالسخط، بالحيرة، همست بصوتٍ مرتعش، صوتٍ حملَ داخلهِ وجعًا أعمقُ مما يستطيعُ احتماله:
"أنا اللي بوجع دايمًا، ياإلياس...وإنت؟"
لم يجب...بل دفنَ وجههِ في عنقها، يلتهمهُ بشفتيهِ وكأنَّها نجاتهِ الأخيرة، وكأنَّهُ يحاولُ أن يدفنَ كلَّ الألم، كلَّ الحروب التي تصارعه، بل كلَّ ما يؤذيه..شدَّها إليه أكثر، يريدُ أن يصبحَ جزءًا منها، أن يذوبَ في هذا العناقِ الذي ينهكهما لكنَّهُ يبقيهما أحياء.
أمَّا هي، فبقيت هناك، مسجونةً بين ذراعيه، بين بُعدها وإجبارها بالبعدِ عنهُ وحبَّها الذي يذبحها، بين قلبها الذي يصرخُ به، وعقلها الذي يلعنه، وبين واقعٍ لا يسمح لهما سوى بمزيدٍ من الجحيم...
تأرجحت عيناهُ بالأسف، ليهمسَ بصوتٍ مبحوح، كأنَّه اعترافٌ مُتعثِّرٌ على شفتيه، ورجاءً يرسلهُ قلبهِ المنهك إليها لأول مرة:
– أنا آسف...
قالها بلسانٍ ثقيل، وصدرٍ منشقٍّ كلَّما تذكَّرَ دعاءها، نظرَ إليها بنظراتٍ معاتبة، ولأوَّلِ مرَّةٍ يراها بنظرةِ رجلٍ خائف، بل عاشق مرتجف، يشعر وكأنَّها قد تختفي من بين يديهِ في أيِّ لحظة..التقت نظراتهما، تحدقهُ بنظراتٍ توحي بألفِ معنى، فشعرَ بطعنةٍ صامتةٍ في صدره، بعدما أحسَّ بأنَّها تُحمِّلهُ ثِقلَ الألمِ الذي تشعرُ به..لم يحتمل صمتها القاتل لروحه، فخرجَ صوتهِ مجدَّدًا، متهدِّجًا بالشوق:
– وحشتيني...
ليتهُ لم ينطق بها، سابقًا كانت تشعرها بأنَّها ملكتهِ المتوَّجة، أمَّا الآن لم تشعر بحروفها..رمقتهُ بنظراتٍ مبلَّلةٍ بالخذلان،  تبحثُ عن نفسها التي أضاعها بين كلماته، تبحثُ عن شيءٍ يثبتُ أنَّهُ لا يزال لها وحدها..بعد ثوانٍ من الصمتِ الذي خنقهُ جاءَ صوتها، خافتًا، لكنَّهُ انغرسَ في صدرهِ كخنجرٍ لا يرحم:
- أه وحشتك، صح، أفهم من كلامك إن مدِّة عقابي خلصت يا إلياس؟ وقت ما تحبِّ تعاقبني تبعد عنِّي، ووقتِ ما ترضى عنِّي ترجع لي؟ أنا كده ماليش قيمة خالص، صح؟
هنا أحسَّ أنَّ الأرضَ تزلزلت تحت قدميه، وأنَّ روحهِ تهربُ منه، فلم يمهلها ثانيةً أخرى لنطقِ باقي كلماتها المؤذية، اندفعَ إليها بجنون، يختطفُ أنفاسها بقبلةٍ حملت كلَّ جنونه، كلَّ اشتياقه، كلَّ ندمهِ الذي ينهشُ روحهِ منذ ابتعادَه عنها.
كانت قبلةً مختلفة، قبلةً مرتعشةً كقلبه، غارقةً بالألم، ملطَّخةً بالندم...كأنَّها صرخةُ حبٍّ أخيرة، كأنَّها محاولتهِ الأخيرةِ للتمسكِ بها قبلَ أن تضيعَ منهُ إلى الأبد.
أحاطها بذراعيه، يريدُ أن يذيبها بداخله، يريدُ أن يلغي المسافاتِ بينهما، يريدُ أن يجعلها جزءًا منه، جزءًا لا يُمكن اقتلاعهِ أبدًا...
لحظاتٍ بل دقائق ولم يشعر سوى أنَّهُ بجنَّةٍ بين ثغرها، الذي يعتبرهُ ملاذهِ الأخير، بعد غرقهِ بنارِ بُعدها، وبين عشقه الذي صارعه لشهور كنيران محبذة، تركها أخيرًا، رغمًا عنه، لم يستطع الابتعاد، لم يحتمل فكرة أن تعودَ المسافاتِ لتفصلَ بينهما،  أسندَ جبينهِ على جبينها، يتنفَّسُ أنفاسها، يتشبثُ بقربها، وهمسَ بصوتٍ مُنطفئ، مرتعش:
– غلبتيني، يا بنتِ قلبي...جت لك راكع ومسلِّم على آخري، بقولِّك مش قادر أعيش في جنِّة بعدك، وعايز أعيش في نار قربك...مستعد أهدم جبال علشان تسامحيني.
ارتجفَ قلبها، ليرتعشَ بين ضلوعها كما لو أنَّهُ يستمعُ لتلك الكلماتِ للمرَّةِ الأولى..كان صوتهِ صادقًا حدَّ الوجع، نادمًا حدَّ الانهيار، مُتشبثًا بها حدَّ الجنون.
لكنَّها لم تعد تثق به، لم تعد قادرةً على نسيانِ ما سبَّبه لها من ألم، نظرت إليه بعينينِ ذابلتين، ممتلئتينِ بالدموعِ التي تحاولُ أن تقاومَ السقوط، ثمَّ همست بصوتٍ متقطِّع:
– أنا تعبت يا إلياس...موتِّني مرَّة واحدة، مش كلِّ مرَّة تموتي في حتَّة وتمشي.
تجمَّدَ مكانه، كأنَّ كلماتها ضربتهُ في مقتل..هل كان بهذهِ القسوة؟ هل تركها تموتُ ألفَ مرَّةٍ دون أن يدرك؟ شعرَ بأنَّ قلبهِ يتمزَّق، بأنَّ روحهِ تتهاوى أمامها، فلم يجد سوى احتضانها مجدَّدًا، بقوةٍ تكفي لإعادةِ نبضها، كأنَّهُ يريدُ أن يثبتَ لها أنَّهُ يريدُ الموتَ ببعدها، هامسًا بصوتٍ ثقيلٍ كأنَّ لسانهِ ملتفًّا بأشواكٍ جارحة:
– بعد الشرِّ عليكي...
دفنت رأسها في عنقه، استنشقت رائحتهِ بجنون، وكأنَّها تريدُ أن تملأَ رئتيها من رائحتهِ التي حُرمت منها، ثمَّ همست بصوتٍ نازفٍ، متعب:
– بحبَّك أوي..ونفسي أكرهك علشان الوجع اللي سبته جوَّايا، بس مش قادرة.
أغمضَ عينيهِ للحظة، وشعرَ بضعفهِ أمامها، أبعدها قليلًا، أمسكَ وجهها بين يديه، ينظرُ إلى عينيها طويلًا كأنَّهُ يُعيدُ اكتشافها من جديد، ثمَّ همسَ بحروفٍ حملت كلَّ عشقه:
– مش هتقدري تكرهيني، لأنِّك مخلوقة من ضلعي، يا بنتِ قلبي...
لم يتحدَّث أكثر، لم يكن هناك حاجةً للكلمات، فكلِّ شيءٍ كان يُقال بصمتهما، بنظراتهما، بارتجافِ أنفاسهما.
صمتًا قاتلًا لبعضِ لحظات، ثمَّ ارتسمت على شفتيهِ ابتسامةٍ شاحبة، لكنَّها تحملُ حبًّا يعجزُ الكونُ عن استيعابه، قبلَ أن يهمسَ بنبرةٍ آمرة، لكنَّها غارقةٌ في العشق:
– مطلوب منِّك تحبِّيني وبس، عيونك دي متشوفش غير راجل واحد...
رفعت حاجبها بتحدٍّ، رغم الرعشةِ التي اجتاحت قلبها:
– على أساس كنت شايفة غير الراجل ده؟
ضحكَ بخفوت، لكنَّهُ لم يكن ضحكًا عاديًا، بل كان تنفُّسًا بعد غرقٍ طويل... كان كمن عادَ للحياةِ من جديد..
وفجأةً، انحنى وحملها بين ذراعيهِ وسط شهقةٍ صغيرةٍ أفلتت من شفتيها، قبلَ أن يهمسَ بمكر:
– غيَّرت رأيي...وعايز أفطر على حاجة تانية.
دفنت وجهها في صدره، تعرفُ جيدًا مغزى كلماته، لكنَّها لم تعترض، فقط سمحت لقلبها أن ينساقَ خلفه، للمرَّةِ الألف...
وبعدَ وقتٍ لم يُحسب، وهو غارقًا بعشقها، يكتبُ ملحمتهِ بطريقته، بعد جفاءٍ لشهور، نعم شهورٍ ونيرانٍ بالسوطِ تلتهمُ كلَّ داخله، ولكن غرورهِ ورجولتهِ جعلتهُ يتحمَّلها، إلى أن انفجرَ كالبركانِ ولم يعد يطيقُ احتمالَ كلمةِ البعد، لقد محاها كليَّةً من قاموسه، وودَّ لو يمحيها من جميعِ المعاجم، آااه محمَّلةً بكمِّ الاشتياقِ الذي صهرهُ بداخلِ أحضانها، ظلَّ يسبحُ بعينيهِ فوق ملامحها التي يرسمها بقلبه قبل عيناه، وهي تستكينُ في أحضانه، وكأنَّها لم تنم منذ عمرٍ بأكمله...
مرَّرَ أناملهِ بين خصلاتها، يتأملُ وجهها الذي شعرَ بانطفائهِ رغم كلِّ ما حدث، ثمَّ انتفضَ على وقعِ رنينِ هاتفه...
– إلياس، راجح ظهر، ورانيا راحت لعنده، وأنا براقبها...
اعتدلَ في جلسته، وعيناهُ تحاصرها بولهٍ، وكأنَّهُ يخشى أن تضيعَ منهُ في غيابه..أمسكَ بيدها، وأعدلَ نومها بعناية،  كالكنزِ يخشى عليه من الضياع، ثمَّ أجابَ بحزم:
– نصِّ ساعة وهكون عندك، خلِّيك وراها.
– تمام...
نهض َمن مكانهِ واتَّجهَ إلى الحمَّامِ لدقائقَ معدودة، وحين خرج، لم يستطع منعَ نفسهِ من الاقترابِ منها مجدَّدًا، طبعَ قبلةً طويلةً فوق جبينها، استنشقَ أنفاسها مرَّةً أخيرة، كأنَّهُ يختزنها بداخلهِ قبلَ أن يغادر.
جمعَ أشيائه، ثمَّ غادرَ المكان، متَّجهًا إلى سيارته، ليُفاجأ بالخادمةِ تقتربُ منه قائلة:
– نعم يا باشا؟
لكنَّهُ لم يجب...فقط رفعَ رأسه نحو غرفتها، وكأنَّما يخوضُ معركةً جديدة، لا يعلم إن كان سينجو منها هذه المرَّة أم لا...كل ما يشعر به أنها جنة ونار، نزل بنظره إلى الخادمة قائلًا:
-المدام نايمة، مش عايز حدِّ يقلقها، وخلي بالكو من يوسف، واطلعي نزِّلي الأكل اللي فوق بهدوء..
-حاضر ياباشا..قالتها وتحرَّكت للداخل، بينما هو ظل واقفًا ينظر إلى نافذة الغرفة التي شهدت منذ قليل ملحمة دموية من العشق القاتل، ولكن بمفهوم قاموسه فقط، لا احد يستطع أن يترجمها سوى نبضهما عندما يتلاحمان، ابتسامة تجلت بعيناه كلما تذكر ماصار ثم استقل سيارته وقادَها متَّجهًا إلى وجهته.
بمنزل راجح 
ظل يثور بالمكان كالثور الهائج:
-دا اموتها ازاي تعمل كدا، كل املاكي، الحيوانة هموتها ازاي تثق في الحلوف 
-مش عارفة ياراجح هتجنن بجد 
اومأ هو ينفث سيجاره
-يعني الشغل اللي جبته، ضيعت فرحته بنت العامري..قاطعته قائلة
-زين كلمني كذا مرة، وعزمنا على الفطار عنده بكرة 
لوح بيده معترضًا:
-انا مش فاضي لهبله دا، فطار ايه وزفت ايه، انا اتفقت مع قناص محترف علشان يخلصنا من ابن فريدة، وكمان فيه واحد ورا الواد التاني..توقف للحظة متسائلًا:
-الواد دا محدش يعرف أنه مخابراتي، شكل فريدة لعبت بيا، لانه مش مخابراتي ابدا، دا فاتح نادي رياضي، وكمان بيدير شركات الجارحي 
-معقولة ياراجح، شركات الجارحي كلها تكون تحت ايد الواد دا، دا ملهمش غيره وبنت 
حك ذقنه يهز رأسه بتفكير، ثم أردف
- تخيلي يعني الواد دا مليلدار، 
-فريدة، فريدة، دايما هي اللي ماسكة كل حاجة ..استدار يرمها بسخرية:
-طول عمرك دماغك سم يارانيا، مش قادرة تفكري في حاجة نوصلها، تعرفي وقتها هكون ايه، البوص بتاع الشرق الأوسط 
زفرت جالسة ونظرت إليه بتهكم:
-يعني عايز تفهمني اللي تاعبك الفلوس والمركز، ولا فريدة نفسها 
-الاتتين يارانيا، اولا لازم احافظ على مكانتي، الناس دي لو شمت خبر بوجود ولاد جمال هيفطروا بيا قبل مايفكروا في الغدا ...علشان كدا لازم اخلص منهم، والأهم إلياس علشان خطر على شغلهم، بيجهزوا لعملية كبيرة اوي هينفذوها قريب، خايف إلياس دا يعرف ووقتها الدنيا تتهد فوق دماغي 
-علشان كدا عايز تخلص منه ..
-بكرة خبر موته لازم يغرق الجرايد، لأنهم امروني بتصفيته، تعرفي الحيوان كان فين من اسبوع، كان على الحدود بيصفي ناس تبعنا، ودا بيكون تبع العمليات التقيلة الخاصة، ونفذها وخلص على عدد كبير من الجماعة اياها، وهو مختفي بزي عرباوي، وهو واحدة من العمليات الخاصة ..هتجنن يارانيا ازاي عرفوا المعلومات دي، دا احنا محدش يعرفها 
-طيب والعمل، من جهة إلياس ومن جهة يزن اللي كوش على كل حاجة 
شرد للحظات ثم رفع هاتفه قائلًا:
-هبعتلك العنوان عايز خبر موته، الصورة عندك..قالها واغلق يرسل العنوان ..لتجحظ أعين رانيا
-دا بيت ميرال، انت اتجننت ..حدجها بنظرة مميتة
-دي هتكون طعم له، المكان الوحيد اللي نقدر نصطاده هناك ..اقتربت منه تهز رأسها بالرفض
-ابعد عن البنت ياراجح، مبقاش عندنا غيرها، كفاية طارق اللي اتحكم عليه حكم عسكري، والتاني مات، انت ازاي تكون كدا، قلبك حجر 
جذبها من خصلاتها وهدر بهسيس مرعب
-اسمع صوتك هقطع لسانك، انا لازم اكون حاجة، مش هفضل انفذ أوامر وبس، تعرفي لو نجحت في العملية دي هكون ايه...قالها ثم دفعها بقوة لتسقط على الأرضية يشير إليها بسبباته
-فوقي يارانيا احنا من زمان دفنا قلوبنا، من يوم ماخطفتي ولاد اخويا، ومن يوم ماعرفت مين قتل جمال وسكت عليه، ومن يوم ماذليت مرات اخويا وعبيت في شرفها، اهدي وقولي هديت، علشان مش اخليكي تحصلي الكل 
قاطعهم دلوف الخادمة قائلة:
-فيه بنت برة اسمها رؤى عايزة تقابل حضرتك ياراجح باشا
استدار إليها متسائلًا:
-مين دي، عايزة ايه 
هزت راسها بجهل وأجابته:
-مقالتش بس مصرة أنها تكلمك 
أشار إليها قائلاً:
-دخليها مااشوف مين دي كمان 
قبل قليل بالقرب من فيلا راجح 
توقفت سيارة ارسلان ينتظر إلياس، لمح دخول سيارة أجرة ويبدو بها سيدة، لم يسعفه الوقت لرؤيتها، استمع الى هاتفه 
-عمو فيه حاجة..قاطعه اسحاق 
-انت فين عندنا شغل مهم 
حمحم معتذرًا، ثم أردف:
-آسف ياعمو، بس بنت عمي عندها جلسة عند الطبيب النفسي، وحالتها صعبة، مش هينفع اسيبها قبل ساعتين، ياريت تحاول تأجل ..في تلك الأثناء وصلت سيارة إلياس فتحدث سريعا
-مضطر اقفل دلوقتي علشان داخلين للدكتور..قالها واغلق سريعًا 
مط اسحاق شفتيه ينظر بشاشة هاتفه
-طيب ياارسلان، بتكذب على عمك، طيب عايز تلعب معايا، نلعب يابن فاروق، وحشني اللعب اوي ...رفع هاتفه واردف 
-عايز اتنين ينفعوا لهجوم كتيبة، يروحوا العنوان دا ..نظر إلى عنوان ميرال مبتسمًا 
-مش بنت عمك تعبانة، لازم نهاديها علشان تلعب مع عمك حلو ..قالها وهو يتمتم قائلًا:
-غبي نسيت انك مدرب تحت ايدي يامتخلف ..دلف رجله الاول 
-اسحاق باشا، ارسلان باشا عند فيلا راجح، وفيه قناص خرج من بيته من ساعتين بعربية تاكسي، اشترى بيت في حي الياسمين 
هب فزعًا من مكانه 
-تقصد ايه، مش دا حي بيت مرات الظابط ...اومأ له بالايجاب 
نظر بساعة يديه ثم اتجه سريعا إلى سيارته يتحدث إلى حارسه:
-كلم رجالك يحاوط البيت مش عايز دبانة تدخل هموتكوا، ثم رفع هاتفه إلى أحد القادة
-شكلهم كشفو ابننا ياباشا، وباعتين حد يصفوه..
اجابه على الطرف الآخر:
-اتصرف يااسحاق...استقل سيارته وتحرك سريعًا متجهًا إلى منزل ميرال 
وهو يحاول أن يهاتف ارسلان أو إلياس ولكن هاتفهما مغلق 
عند ميرال 
استيقظت من نومها بتملل وابتسامة عاشقة على وجهها بعدما تذكرت ما حدث منذ ساعات، نظرت بساعتها تضع كفيها على فمها بشهقة
-تلات ساعات ..ياه اول مرة انام كدا..
ضيقت عيناها تبحث عنه في الغرفة بعد. ما تذكرت ماقاله وما عايشها إياه
لأول مرة تشعر بأحاسيس رائعة وهي بأحضانه بتلك الطريقة، احاسيس ذكرتها بأسبوع زواجهما، أغمضت عيناها مبتسمة تضع أنامله على شفتيها، نهضت تجذب روبها واتجهت إلى الحمام تبحث عنه، ولكن لم يكن موجودا بالمكان، اخذت حمامًا تظن أنه بالاسفل بمكتبه، انتهت من حمامها، وتوقفت أمام المرآة تجفف خصلاتها، نظرت إلى اثاره التي مازالت تظهر بوضوح على عنقها وشفتيها، قاطع شرودها طرقات على باب الغرفة
-ادخل..دلفت المربية تحمل يوسف 
-يوسف مش عايز يسكت، حاولت معاه بس معرفش ماله 
-وديه لباباه، وانا هخلص وانزل 
-بس باباه مش هنا، الباشا مشي من ساعتين تقريبا
هنا شعرت وكأن الأرض تزلزت تحت قدميها لتهمس بتقطع:
-مشي، يعني ايه ..شعرت المربية بتسرعها فحاولت تصحيح خطأها 
-ممكن يكون راح شغل، انا هحاول مع يوسف تاني...قالتها وتحركت للخارج سريعا بالطفل الذي ارتفع بكاره..أمسكت الهاتف بيد مرتعشة تحاول مهاتفته، ولكنه مغلق 
هوت على المقعد بملامح شاحبة تحدث نفسها:
-يعني ايه، دا قالي مش هيبعد تاني، يعني كان جاي علشان ..شهقة اخرجتها تهز رأسها بعنفوان مع انسياب عبراتها 
-تاني ياالياس، بتكسرني تاني ..نهضت تدور بالغرفة وبدأت تحطم كل ماتطاله يدها وتصرخ بغضب
-ليه ..بتعمل فيا كدا ليه، اااااه صرخت بها لتهوى على الأرضية تحتضن ركبتيها وتبكي بشهقات مرتفعة...ولكن توقفت فجأة بعدما استمعت إلى صوت صراخ بالأسفل باسمه 


انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لجروب الواتساب اضغط هنا