رواية شظايا قلوب محترقة الفصل الثاني والثلاثون 32 بقلم سيلا وليد
رواية شظايا قلوب محترقة الفصل الثاني والثلاثون 32 هى رواية من كتابة سيلا وليد رواية شظايا قلوب محترقة الفصل الثاني والثلاثون 32 صدر لاول مرة على موقع التواصل الاجتماعى فيسبوك رواية شظايا قلوب محترقة الفصل الثاني والثلاثون 32 حقق تفاعل كبير على الفيسبوك لذلك سنعرض لكم رواية شظايا قلوب محترقة الفصل الثاني والثلاثون 32
رواية شظايا قلوب محترقة الفصل الثاني والثلاثون 32
"اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك"
كيفَ لقلبٍ ظننتهُ يومًا موطني، أن يتحوَّلَ إلى منفى لروحي؟..
كيف لمن أحببتهُ حبَّاً يفوقُ الوصف، أن يزرعَ في داخلي هذا الكمِّ من الألم؟
كنت أراكَ نورًا يضيءُ عتمتي، فإذا بكَ تصبحُ ظلًّا يلتهمُ ضيائي..
كنت أظنُّك سكينةً وسلامًا، فإذا بكَ تحملُ لي عاصفةً لا تهدأ..
آهٍ من خيبةٍ جاءت ممَّن كان القلبُ يظنُّهُ الأمان..
خيبةٌ لا تُداوى، لأنَّ الجرحَ جاءَ ممَّن اعتقدتُ أنَّهُ الملاذ..
كنتَ كلَّ أحلامي، فإذا بكَ تصبحُ كلَّ أوجاعي..
كنتَ كلَّ حياتي، فإذا بك تسرقُ منِّي حتى شغفَ البقاء..
ما أقسى أن تكونَ سبب ضعفي هو ذاتك،
وما أصعبَ أن أبحثَ عن الشفاءِ من جرحٍ لا أريدُ نسيانهِ لأنَّهُ منَّك.
أحببتكَ بكلِّ ما فيَّ، ولكن يبدو أن الحبَّ وحدهُ لا يكفي..
ربَّما أنا المخطئ، وربما أنتِ، لكن ما أعرفه أنَّ هذا الألمُ سيبقى شاهداً على حبٍ لم يُكتب له أن يكتمل.
بمنزل ميرال
قاطعهُ صوتُ إلياس كالرعد، ونطقَ بنبرةٍ قاسيةٍ تحملُ من الغضبِ ما يجعلها ترتعش..نبرة قاسيةٌ في التحكُّمِ بكلِّ شيءٍ حوله:
"إن شاء الله هتسمِّيها...جثَّة"
اخترقت الكلمةُ دفاعاتها كطعنةٍ وشعرت بألمٍ يجتاحُ قلبها، حيث كانت تظنُّ أنَّهُ لن يفعلَ شيئًا بوجودِ أخيها، رفعت عينيها إليهِ وهو يقتربُ منها بخطواتٍ ثقيلةٍ باردةٍ كالليلِ الموحش، شعرت بثقلها يطبقُ على صدرها كصخرةٍ لا تُحتمل..كلَّ خطوةٍ يقتربُ منها تشعرُ بأنَّ الهواءَ يهربُ من رئتيها، دبَّ الرعبُ في أوصالها، وارتجفَ جسدها كطيرٍ صغيرٍ عالقٍ بين أنيابِ مفترس..تطلعت إلى نظرات عينيهِ التي يحرقها بها..فالتفتت إلى يزن وظنَّت أنَّ وجودَه سيكونُ حصنها بأوقاتها العصيبة، لكن نظراتهِ حطَّمت ماتبقَّى من أمانها..حدَّقَ بها كوحشٍ يتلذَّذُ بفريسته، وبصوتٍ جافٍّ كالسياطِ همسَ وهو يحاوطُ خصرها:
- مافيش حفلة رقص النهاردة...لمَّا نعمل حفلة، هبقى أجيبك تحيي الليلة."
كلماتٌ ماهي سوى كلمات ولكنَّها تحملُ في طياتها إهانة، بل سهامًا مسمومة، اخترقت أعماقها وأحالتها رمادًا..شعرت بالدموعِ تخنقها، لكن كبرياءها أصرَّ على ألا تسقط أمامه..تعلقت الأعين بتحدي ولكن ضغط على خصرها بقوة آلامتها ومازالت أنفاسه الحارقة تقتلها
-هحاسبك بعدين ...
اقتربَ يزن وابتسامةٌ لعوب وهو يرى غيرةُ إلياس الجنونية، وخاصَّةً حينما لفَّ ذراعيهِ يقرِّبها إليهِ، وهمساته و كأنَّهُ يحاولُ أن يبعدها عن عيونه، وصلَ إلى وقوفهما ثمَّ رفعَ يديهِ يمسِّدُ على خصلاتها، رمقهُ إلياس بعينينِ مشتعلتينِ بالغضب، وقاطعهُ بصوتٍ كالزئير:
"لو لمستها، هقطعلك إيدك."
صُعقَ من تهديدهِ الذي شعرَ به كالقنبلةِ انفجرت في المكان..فتوقَّفَ مذهولًا، غير قادرًا على تصديقِ ما يسمعه..لكنَّ إلياس لم يعطهِ فرصةً للاعتراضِ وأمسكَ بذراعيها بقسوةٍ جعلت الألمُ يندفعُ كتيَّارٍ كهربائيٍّ يصعقُ جسدها، حتى غُرزت أناملهِ في لحمها، أطبقت على جفنيها لتكبحَ آلامها، كانت تعلمُ ثورانهِ ولكن لم تكن تعلم أنَّهُ سيصلُ لتلك الدرجة،
رسمَ ابتسامةً باردةً على ملامحه وأردف:
-ميرال مكنتشِ تعرف إنَّك هنا، معلش يايزن هتطلع تلبس حاجة، ماهو انت لسة مهما كان غريب عليها
قالها وهو يرمقها بالصعودِ للأعلى، لكنها تحدته قائلة:
-بس يزن أخويا..قاطعها قائلًا:
-على فووووق..نطقها بنبرةٍ جافَّةٍ، وعيناهُ تقدحانِ شررًا يريدُ أن يخرجهُ ليحرقَ كلَّ ما يقابله.
صعدت بخطواتٍ سريعة، قلبها ينبضُ بعنفٍ في صدرها، وكلُّ نبضةٍ تهدِّدُ بأن تنفجرَ من رهبةِ حديثه..أغلقت البابَ خلفها بكفَّينِ يرتجفان، وعيناها تكادُ تدمعان..
يا لهوي عليك يا إلياس..معقول دي غيرة ولَّا جبروت؟
انتقلت بخطواتٍ ثقيلةٍ نحو المقعد، حاولت أن تلتقطَ أنفاسها، لكن كلَّ زفيرٍ كان يشعلُ نارًا داخل صدرها..فكَّرت في كلِّ ما فعلته، أرادت أن تراهُ يغار، أن يشعرَ بما تشعرُ به، أن يراها كما تراه...لكن يبدو أنَّ الأمرَ خرجَ عن نطاقِ السيطرة.
وفي تلك اللحظة، دُفعَ البابُ بعنف، وانفجرَ إلياس في الغرفةِ كإعصار..رمقها بعينينِ تتوهجُ بالغضب، وبدونِ أن يمنحها فرصةً للحديثِ اقتربَ منها بسرعة، وقبضَ على شعرها بشدَّةٍ ورفعها بعنف، فشعرت بكلِّ عضلةٍ في جسدهِ مشدودة، كجزءٍ من عاصفةِ ثائرة..جزَّ على أسنانهِ يهدرُ بعنف، وهي ترى ارتفاعَ وهبوطَ صدره:
- بتعاندي مين؟ مش قولتلك قبل ما أنزل لمِّي المحروق دا..
لم تستطع الرد..كأنَّ الكلماتَ لم تجد الطريقَ إلى شفتيها، ولم تكن قادرةً على تبريرِ ما فعلته، حتى وإن كان ما فعلتهُ لم يكن سوى محاولةٍ مستميتةٍ للاقترابِ منه.
لم يتوقَّف عند حديثهِ اللاذع ، بل مدَّ يديهِ لينزعَ عنها الرداءَ بعنف، حتى وقعت يداهُ على جسدها، حينها شعرت وكأنَّ قبضتهِ كالسلاسلِ التي تكبِّلُ روحها، صرخَ في وجهها كالصاعقةِ التي تضربُ قلبها:
- عايزة تخلِّيني مجرم ؟ قولي لي كام مرَّة اتخانقنا علشان الموضوع دا؟
نظراتهِ إليها بالاشمئزازِ كانت كطعنةٍ في صدرها، حينها شعرت وكأنَّها تتناثرُ كالزجاجِ المنكسرِ تحت قدميه، لتشعرَ بالعجزِ عن النطق...فاقت من مأساةِ مافعلت على دفعها على الفراش، فاستسلمت وكأنَّها فقدت قوَّتها بالكامل..والغضبُ يلتهمُ ملامحَ وجههِ كما لو أنَّهُ لا يستطيعُ التخلُّصَ من النيرانِ التي تشتعلُ في قلبه من نيرانِ الغيرة.
نهضت ببطء، اقتربت منه، واحتضنتهُ من الخلفِ تهمسُ له بنبرةٍ خافتة، وهي تشعر بأنَّ الحروفَ تتناثرُ من فمها بصعوبة:
- ممكن تهدى...من فضلك، علشان خاطري؟ أرجوك اهدى..أنا آسفة واللهِ كلِّ اللي فكَّرت فيه إنِّي أغيظك، أعمل إيه وأنا شايفة كلِّ كلماتك أوامر، عارف لو بس وقفت وقولت لي بغير عليكي، مش عايز حدِّ يشوفك كنت هبقى أسعد واحدة..
رغم قولها لتلك الكلماتِ البريئة، لكنَّها لم تكن كافيةً لتطفئَ لهيبَ الغضبِ في قلبه..
استدارَ إليها بسرعة، وتطايرت نظراتهِ كالسكاكينِ التي تشتعلُ بالغيرةِ وقبض على ذراعيها بشدَّة:
-أوامر!! شايفة خوفي أوامر، شايفة لمَّا أخاف على أهلِ بيتي ومابقاش راجل ديُّوث يبقى أوامر، فيه حاجات ياهانم ماينفعشِ فيها الرأي، لازم تتنفِّذ من غير مناقشة.
-بس دا أخويا، مش غريب والفستان مكنشِ مصيبة لدرجة إنَّك تعمل كدا، ماغادة بتقعد قدَّامك بجيب شورت، ولا مرَّة اعترضت.
-غادة مش مراتي، وأنا مش من النوعية اللي أبص لأختي..إنتي مجنونة دي مش زي دي.
-بس دا اخويا..عادي لو قعدت قدَّامه كدا حتى لو من غير هدوم، إنتَ جوزي وهوَّ أخويا، يعني مش غرب.
لحظةُ صمتٍ قاتلة، ليرمقها بعينينِ تشتعلُ كالنار، وقعت عيناهُ إلى صدرِ فستانها المكشوف، وكانت نظراتهِ تلتهمُ كلَّ جزءٍ فيها..
عادي لمَّا تقعدي جنبِ أخوكي اللي لسة عرفاه من أسبوعين كده؟ كأنِّك مش شايفاني؟
هزَّت رأسها محاولةً إقناعه، لاتعلم أنَّ كلماتها أشعلت نيرانَ أوردته، لم يرد عليها، بل دفعها بقوَّةٍ على الفراشِ مرَّةً أخرى ثمَّ قال بصوتٍ خافت:
-لو لسة باقية عليَّا ابعدي عن غضبي ياميرال، علشان لو غضبت عليكي بجد هخلِّيكي تكرهيني، وأنا مش عايزك تكرهيني، فيه بينا طفل، احترمي علاقتنا إنِّك مامته وأنا باباه.
توقَّفت مقتربةً منهُ تنظرُ إليه بألمِ قلبها الذي يتفتَّتُ من الوجع:
-بس أنا مش عايزة علاقتنا علشان ابننا ياإلياس، أنا عايزاك إنت.
-استدارَ يواليها ظهرهِ وأردفَ قائلًا حتى لا يقعَ تحت وطأةِ عشقه المؤلم:
-اجهزي ياميرال، أخواتك تحت...قالها وخطى بخطواتٍ سريعة، هرولت خلفهِ تمسكُ ذراعيه:
-إلياس لو سمحت بلاش القسوة دي..
نظرَ إلى كفِّها المتشبثِ بذراعهِ ثمَّ رفعَ عينيهِ إلى عينيها:
-مجروح وموجوع منِّك، مينفعش..
صمتًا ثقيلًا بأنفاسها المتقطِّعة، ودموعها التي خانتها دون توقُّف، ابتعدَ بخطواتٍ يشيحُ بنظرهِ عنها، يخشى أن يضعفَ أمامَ عينيها، حاول الهروبَ منها.
- "إلياس...بالله عليك بُصِّلي، ما تخلِّينيش أحسِّ إنِّي واقفة قدَّام واحد غريب."
قالتها بصوتٍ متحشرج، وكلَّ حرفٍ يخرجُ منها كطعنةٍ بصدرها.
رفعَ رأسهِ ببطء، ونظرَ إليها نظرةً واحدةً كانت كافيةً لتفقدها توازنها الداخلي.
"ميرال...أنا تعبت منِّك، تعبت من وجعي على إيدك، إنتي هدمتي كلِّ حاجة بإيدك."
قالها بصوتٍ خافت، ورغم خفوتهِ إلَّا أنَّ داخلهِ كألفِ عاصفةٍ تدمِّرُ كلَّ ما يقابله.
خطت نحوهِ بخطواتٍ متعثِّرة، يدها ترتجفُ وهي ترفعها لتلمسَ وجهه، لكنَّهُ أمسكَ بمعصمها وأبعدَ يدها عنهُ بحزم.
"إلياس، ممكن شايفني إنِّي غلطت، بس أنا خوفت عليك، ودلوقتي مش متحمِّلة فكرة بعدك، قلبي بيموت وأنا شايفاك بتبعد."
انهارت أمامه ، وهي تمسكُ قميصهِ بيديها المرتجفتين، تحاولُ أن تجمعَ شتاتَ نفسها:
-لو كنت مكاني هتعمل كدا.
أبعدَ يديها ببطء، وكأنَّ لمسها كان يحرقه، تراجعَ خطوةً للخلف:
"ميرال، أنا اكتشفت الحبِّ لوحده مش كفاية، كلِّ مرَّة بحاول أسامحك... وللأسف أفشل، المرة دي جرحك كان عميق، لدرجة إنُّه ما بيلمِّش."
نظرت إليه برجاءٍ تحاولُ أن تحيي في قلبهِ حبَّها..
-خلاص يعني كتبت نهاية حكايتنا، كتبتها علشان اللي عملته ولَّا علشان أنا طلعت بنتِ عدوِّك..طيب هتقدر تعيش من غيري، فين حبَّك ليَّا؟..مش اللي بيحبِّ حد بيسامحه؟..
صمتَ للحظة، وكأنَّ كلماتها ضربت وتراً داخله..أغمضَ عينيهِ وحاولَ أن يتنفسَ بعمقٍ ليقاومَ الانفجارِ الذي يشعرُ به..
استدارَ إليها وتعمَّقَ بعينيها الغارقةِ بدموعها، حاولَ النطق، ولكنَّهُ شعرَ وكأنَّهُ لا يعلمُ شيئًا من الأبجدية..
توقَّفَ للحظات، جامدًا صلبًا، يسبحُ في بركةِ صراعهِ بين عقله وقلبه، أجابها ببعضِ الحروفِ الممزوجةِ بالألم، لينطقَ قائلا:
"منكرش أنا بعيش كلِّ يوم في صراع بين قلبي اللي لسه بيحبِّك وعقلي اللي بيصرخ إنُّه ما ينفعشِ أكمِّل، أبحرَ بعينيها وتابع... ميرال، حاسس إنِّك بتخنقيني، مش قادر أواجه نفسي بعد اللي عملتيه، ماضي راجح ميهمنيش، علشان اتربِّيتي على إيدي، يعني مهما يقول ويعمل مستحيل أصدَّق كلمة قالها عليكي، لأنِّي واثق في ميرال اللي مصطفى السيوفي وفريدة ربُّوها، منكرش إنِّك انضغطي، ومنكرش إنِّك عانيتي، بس إنتي نسيتي وسط دا كلُّه إنِّك ملك راجل مستعدِّ يحرق الكون علشانك، للأسف اللي عملتيه كسر جوايا حاجات مش عارف أجمعها تاني، اللي انكسر مابيتصلحش، وإنتي للأسف كسرتي قلبي لمَّا روحتي لراكان تستنجدي بيه وجوزك عايش، وبيحبِّك ويموت لو حصلِّك حاجة "
بكت بألمٍ وأردفت بصوتٍ مليءٍ بالحسرة:
"يعني خلاص كدا، مفيش أمل تسامحني؟"
استدارَ، حينما أصبحت كلماتها تزيدُ من ألمه.. خطا نحو الباب بخطواتٍ بطيئة، وكلَّ خطوةٍ تشقُّ روحهِ نصفين، توقَّفَ عند الباب ولم يلتفت ولكنَّهُ أردفَ قائلًا:
"ميرال... يمكن في يوم تسامحي نفسك، بس أنا مش قادر أسامحك، كان ممكن أطلَّقك، بس حقيقي مقدرتش، ضعفت، منكرشِ إنِّك ساعات بتضعفيني، بس برضو مش معنى إنِّي مطلقتكيش علشان سمحتك، لأ، مطلقتكيش علشان مش مسموح لحبيبة إلياس السيوفي تكون حرَّة، قولتها لك زمان، حبِّي ليكي نار بتكوي، لو بتحبِّيني بجد، سيبيني لحدِّ ماأروق، ومش مسموح لك الغلط، حتى مع أرسلان، أتمنَّى تعاملك مع يزن يكون في حدودِ الإخوة المتعارف عليها مش علشان تغيظيني زي ماكنتي بتخطَّطي." التفتَ برأسهِ وتعلَّقت الأعينُ مستأنفًا:
-أسامح في أيِّ حاجة غير إنِّك تيجي على رجولتي وقلبي، أشارَ إلى قلبهِ وقال:
-طول ما قلبي لسة بينبض باسمك مالكيش إنِّك تغلطي، يمكن لمَّا نبعد وأحسِّ حياتنا بقت مستحيلة أنساكي..قالها وفتحَ البابَ وخرج، لتجلس على المقعد كالتائهة تضغطُ بيديها على قلبها الذي بدا وكأنَّهُ ينكسرُ إلى أشلاءٍ لا يمكن جمعها...
بعد فترةٍ هبطت ميرال للأسفل، بخطواتٍ بطيئة..مازال قلبها يعتصرُ من الألمِ لكلماته، وقعت عيناها على يزن وإلياس، وهما يتحدثانِ بصوتٍ منخفض، وكأنَّهم لا يريدون أن يستمعَ أحدًا لهما. رفعَ إلياس رأسهِ إليها ثمَّ اتَّجهت عيناهُ إلى رؤى، هنا شعرت بثقلِ الهواءِ حولها.. التفتت برأسها لرؤى، التي كانت تجلسُ في ركنٍ مثل طفلةٍ معاقبة، تحملُ بين عينيها ألفَ سؤالٍ وألفَ خوف.
رفعت ميرال عينيها قليلاً لتقابلَ نظراتُ إلياس التي اخترقت دفاعاتها بسهولة، وشعرت باضطرابٍ في أنفاسها، حتى شعرت بأن المكان اصبح ضيِّقًا جدًا على احتمالها..حاولت الهروب، خطت بعيدًا عن مرمى عينيه، وألقت سؤالاً لتكسرَ صمتها الذي أصبح أكثرُ قسوة:
– تشربوا إيه؟
قالتها متَّجهةً إلى المطبخ، ولكن أوقفها إلياس قائلًا:
– استني يا ميرال.
أشار برأسهِ إلى رؤى، التي كانت تبدو وكأنَّها تنتظرُ حُكمًا بالبراءةِ أو الإدانة، ثمَّ التفتَ إلى يزن الذي بدا متردِّدًا قبل أن ينطق:
– كنت بتقول إنِّ طارق له أخت، بس ما عرفتش إذا كانت عايشة ولَّا ميتة.
أومأ يزن ببطء، عيناهُ تحملُ شيئًا من الحزنِ والدهشةِ وهو يتابعُ رؤى بعينينِ زائغتين:
– دي رؤى اللي طنط فريدة قالت عليها؟
قالها يزن لتشعرَ ميرال بأنَّ كلماتهِ كرصاصةٍ أصابت قلبها دون سابقِ إنذار، ومازالت تعاني بلعنةِ الماضي التي مازالت تخنقُ راحتها، ثورانٌ بقلبها عن مشاركتها لزوجها، هل يعاقبها الحاضرُ والماضي معًا لتُسحبَ إلى دوامةِ الغرقِ أكثر وأكثر، نظرت إلى رؤى التي كانت تحدِّقُ بهما بجهل، وهي لا تفهمُ حديثهما..
تقدَّمَ إلياس بخطواتٍ واثقةٍ نحوها، ساحبًا كفَّها بخفَّة، لكنها شعرت بالضعفِ يزحفُ إليها، وكأنَّ تلك اللمسة خلفها عاصفة، من دقائقَ كان يعاملها كشيطانة، والآن يحاوطها بحنانِ ذراعيه، رفعت رأسها تنظرُ إلى وجههِ القريبِ ولمعت دموعها حينما تسلَّلَ الشكُّ لعقلها لتقول:
-إلياس إيه اللي بيحصل؟..
توقَّفت ميرال تراقبُ المشهدَ من بعيد، وقعت عيناها على ذراعيهِ التي يحاوطُ بهما رؤى كأنَّهُ درعُ حمايةٍ لها لتشعرَ بنغزةٍ تحرقُ صدرها..لم تستطع احتمالَ ما ترى فهربت إلى المطبخ، خطواتها كانت أسرعُ من دموعها التي تكافحُ للهروب.
حاولت أن تبدو متماسكة، لكن صوتها جاءَ منكسرًا وهي تقول:
– هعمل حاجة تشربوها.
لكن صوتَ إلياس أوقفها مشحونًا بالثقلِ والغموض:
– مش لمَّا تسلِّمي على أختك الأوَّل؟
توقَّفت في مكانها بجسدٍ متجمِّدٍ وكأنَّها تحوَّلت إلى تمثالٍ عاجزٍ عن الحركة. التفتت ببطءٍ لتقابلَ عيني رؤى التي كانت تحملُ كلَّ معاني الذهول..لتهتفَ رؤى بصوتٍ مرتجفٍ بالكادِ استطاعت النطق:
– أختي؟
اقتربَ إلياس من ميرال وحاوطها من خصرها بخفَّة، لتقفَ أمام رؤى مباشرةً وتحدَّثَ بصوتٍ متَّزن، لكن كلَّ كلمةٍ منه كانت كطعنةٍ لكلتيهما:
– ميرال بتكون أختك الكبيرة يارؤى.
طالعتهُ رؤى بذهول، علَّها تستوعبَ الكلماتِ التي وقعت على أذنيها كصدى رعدٍ أصابَ أذنها بالصَّمم..التفتَ إلياس إلى يزن الذي كان يقفُ متصلِّبًا في مكانه، يحاولُ جمع شتاتِ نفسه..أشارَ إليه وقال بنبرةٍ هادئةٍ:
– وده أخوكم أنتو الاتنين..وكمان عندكم أخ تاني أكبر من ميرال، بس مش موجود دلوقتي.
هنا شعرت أنَّ قدميها لاتستطيع أن تحملها، وأنَّ جسدها أوشكَ على الانهيارِ رغم معرفتها سابقًا، تلألأت عيناها بالدموعِ تبتعدُ عن نظراتِ الجميعِ لتنزل بنظرها، اقتربَ إلياس منها ولفَّ ذراعيهِ حولها بتملُّكٍ ينظرُ إلى يزن منتظرًا ردَّةَ فعلهِ مع رؤى، خطا إليها يزن بخطواتٍ بطيئةٍ إلى أن توقَّفَ أمامها، ليشعرَ كلاهما بثقلِ الحقيقةِ التي تفصلُ بينهما. ثمَّ قالَ بنبرةٍ حزينةٍ تحملُ مرارةَ السنين:
– زي ما سمعتي، إنتي أختي أنا وميرال، كنت فاكر إنِّك ميتة، أو إنِّ راجح وصلِّك، بس ما توقعتش إنِّك تكوني قريبة من أختك وما تعرفوش بعض.
قاطعهُ صوتُ إلياس يحملُ مزيجًا من السخرية والمرارة:
– يعني جت على دي؟ أنا عشت مع أمِّي تلاتين سنة وما كنتش أعرف إنَّها أمِّي.
التفتَ بنظرهِ إلى وجهِ ميرال، التي كانت تبدو كالحاضرةِ الغائبة..غارقةً في صمتها القاسي وأكملَ بمرارة:
– وعايش مع بنتِ عمِّي وما كنتش أعرف، فطبيعي رؤى تكون عايشة وما نعرفهاش.
ضحكَ بخفَّةٍ لكنَّها كانت ضحكةً خاليةً من أيِّ فرح، يحاولُ كسرَ الجليدِ الذي يشعرون به:
– من الآخر كده، راجح عمل شبكة عنكبوتية لذيذة..بس الصراحة أجمل شبكة، مش كده يا ميرال؟
قطعَ حديثهِ بكاءَ الطفل، لتبتعدَ ميرال عن ذراعهِ منتفضةً و تحرَّكت بسرعةٍ باتِّجاهِ الطفل، ونطقت بكلماتٍ تعني الكثير والكثير :
– بدل إنتَ قلت كده ياإلياس، يبقى لازم يكون كده.
لكن أوقفها صوتُ رؤى وهي تقولُ بنبرةٍ تحملُ انكسارًا وذهولاً:
– يعني ياإلياس، إنتَ بتكون ابنِ عمِّي؟! أنا بكون بنتِ عمَّك اللي عرفته من فترة؟
أغمضت ميرال عينيها بقوَّة، شعرت وكأنَّ كلماتَ رؤى تمزِّقُ روحها إلى أشلاء، لكن ما زادَ الألمَ كان صوتُ إلياس الذي أكملَ بنبرةٍ ثقيلةٍ لكنَّها حاسمة:
– وجوز أختك كمان، تخيَّلي يعني مش بس ابنِ عمِّك، لا ده جوز أختك.
تسارعت خطواتُ ميرال، وصعدت الدرجَ وهي تحاولُ أن تهربَ من كلِّ شيء، دموعها انهمرت بلا توقُّف، وأصبحت تشعرُ أنَّها تسيرُ في ممرٍّ مظلمٍ لا نهايةَ له، كلَّ كلمةٍ سمعتها كانت خنجرًا يغرزُ في صدرها، وكلَّ حقيقةٍ انكشفت كانت تلتهمُ جزءًا من روحها...يكفي لعنات الماضي، أقسمت أنَّها سوف ترمِّمُ نفسها حتى لو وقفت بين جيوشِ العالمِ الظالمة، وصلت إلى ابنها وأخذتهُ من المربية تشيرُ إليها بالخروج:
-سبيه معايا أنا ههتمِّ بيه..إلَّا أنَّ المربية قطعت حديثها:
-مدام، الباشا قالِّي أهتمِّ بيه وبلاش إرهاق لحضرتك، اختنقَ صوتها تشيرُ إليها بالخروج:
-مفيش إرهاق روحي شوفيهم في المطبخ خلِّيهم يقدِّموا حاجة للضيوف، ويعملولي عصير فريش..هزَّت رأسها بالموافقةِ وتحرَّكت دون حديث..
أطبقت على جفنيها بعد خروجها، ولكن قاطعها بكاءَ طفلها لترفعهُ وتحتضنهُ بقوَّةِ إلى صدرها:
-مالك حبيب مامي، جعان ولَّا إيه..وضعتهُ على فراشهِ لتهيِّئ نفسها لإطعامه، ولكن ارتفعت أنفاسها من بكائهِ المستمر وهي تفتحُ زرَّ كنزتها بأناملها المرتعشة؛ ليرتجفَ جسدها بالكاملِ لعدمِ قدرتها على السيطرة على أنفاسها مع بكاءِ طفلها..جلست بجوارهِ تنظرُ إلى بكائهِ بصمت..وكأنَّها فقدت روحُ المحاربةِ للتعايش، بالأسفلِ استمعَ الى صوتِ بكائهِ المتواصل، ليهبَّ مفزوعًا ينادي على مربيته:
-الولد بيعيَّط ليه كدا؟..
أجابتهُ بصوتٍ جعلته متَّزنًا:
-المدام أخدته وقالت هتهتمِّ به، التفتَ إلى يزن ورؤى قائلًا:
هطلع أشوف يوسف، البيت بيتك يايزن..قالها ولم ينتظر حديثهِ ليأكلَ درجاتِ السلَّمِ بخطواتهِ السريعة، وصوتُ ابنهِ يخترقُ أذنه، دفعَ بابَ غرفتهِ لتقعَ عيناهُ على جلوسها بجوارهِ تطالعهِ بجسدٍ هربت منه الدماء، بل هربت منهُ الحياة، انحنى يحملُ الطفلَ بهدوءٍ وعيناهُ تحتضنُ جلوسها الذي أدمى قلبه، حاولَ تهدئةَ ابنهِ ولكن ارتفاعَ بكائهِ زلزلَ جدرانَ الغرفة..جلسَ بجوارها متمتمًا بهدوء:
-ميرال الولد مش بيسكت، ليه أخدتيه من النانا؟..
طالعتهُ بعيونٍ صامتةٍ ولكنَّها تحملُ الكثيرَ من المعاناة، رفعَ كفَّيهِ يمسِّدُ على خصلاتها:
-خدي ابنك في حضنك وسكِّتيه يالَّه،
إن شاءالله كلِّ حاجة هتكون كويسة، هزَّ رأسهِ وأشارَ إليها أن تلتقطَ ابنها..
أغمضت عينيها حتى لا تسمحَ لدموعها بالانهمار..انحنى يطبعُ قبلةً حنونةً على وجنتيها هامسًا لها:
-متأكِّد فترة صعبة علينا كلِّنا بس هتعدِّي إحنا قدَّها، يالة حبيبتي سكِّتي ابنك..قالها وهو يضعُ الطفلَ بين يديها
وضعَ الطفلَ بين يديها فشعرَ بارتجافةِ جسدها، هنا شعرَ أنَّ روحه تخترقُ
للحظة، تجمَّدت عيناهُ عليها، تبحثُ في ملامحها وداخلهِ ضجيجٍ من المشاعر المتناقضة..
ألمٌ يكادُ يخنقه، عفوٌ لا يعرف كيف يمنحه، اشتياقٌ يتآكله، واضطرابٌ يعصفُ بكلِّ شيءٍ داخله..لم يكن يعلم ما عليه فعله، لكنَّهُ كان متأكِّدًا من أمرٍ واحد: مازال قلبه ينزف منها، نعم هو مجروح..منها.
أغمضَ عينيه باستسلام، علَّهُ يستكينُ من تلك المشاعرِ العاصفة، محاولًا التمسُّكَ بصبره، كبحَ غضبهِ داخلهِ بصعوبة، ثمَّ رفعَ ذراعيهِ وجذبها إليه، يضمُّها بقوَّةٍ يشعرها بأنَّهُ حبلها الوحيد الذي يمكنهُ انتشالها من الغرق، استسلمت لذراعيه، وشيئًا بداخلها انكسرَ أكثر..وضعت رأسها على كتفهِ وهي تهتفُ بخفوت، صوتها بالكادِ يصلُ إليه، لكنَّهُ كان محمَّلًا بكلِّ ما بها من ألم:
هنفضل نعاني لحدِّ إمتى ياإلياس؟ لحدِّ إمتى الماضي هيفضل يحرق أرواحنا؟ أنا...أنا مش قادرة أقبل رؤى كأخت، حاولت من يوم ما قلت لي، حاولت والله، بس مقدرتش..كلِّ ما أتذكَّر إنَّها السبب في وجعي منَّك...بكرهها، مش قادرة أخدها في حضني، عارفة إنَّك ممكن تقول عنِّي جاحدة..بس واللهِ غصب عنِّي..
شعرَ بكلماتها كسكِّينٍ تقطعهُ ببطء..حدَّقَ في عينيها بعمق، يحاولُ أن يُغرقَ أحزانها في بحرٍ من السكينةِ التي لم يعد يملكُ منها الكثير..رفعَ خصلاتَ شعرها التي انسدلت على وجهها بحنان، وأدارَ وجهها الذي أبعدته نحوهِ ليحجزَ نظراتها المكسورةِ بعينيه، وتحدَّثَ بصوتٍ دافئٍ رغم مرارةِ مايشعرُ به، فنطقَ بنبرةٍ متَّزنةٍ بعضَ الشئ:
- ميرال، إنتي مش وحشة..مفيش حدِّ يقدر يقول عنِّك جاحدة، لأنِّك مش كده..
إنتي طيبة جدًا، بس الظروف أحيانًا بتجبرنا نعمل حاجات غصبِ عنِّنا.. دلوقتي، لازم تتقبِّليها، مش لأنَّها مجرَّد أختك..لكن لأنَّها إنسانة محتاجاكي، رؤى مش وحشة، هي بس محتاجة أمان، محتاجة تحسِّ إنَّها مش لوحدها، إنَّها وسط عيلة.
قاطعتهُ فجأة، بصوتٍ مليءٍ بالمرارةِ وكسرٍ لم تستطع إخفاءه، عيناها تفيضُ غضبًا وغيرة:
- رؤى عايزة حاجة واحدة، إلياس..عايزاك إنتَ، هيَّ قالتهالي، بكلِّ برود وثقة قالت بدل هنطلَّق، هيَّ أحقِّ بيك..تخيَّل؟ مين اللي أعطاها كلِّ الثقة دي؟ مين خلَّاها تقف قدَّامي وتقول الكلام ده؟
ضحكَ ضحكةً صاخبة، لكنَّها لم تكن من قلبه، كانت ضحكةً مشحونةً أقربُ إلى الانفجار..لكنَّها أشعلت نيرانَ الغيرةِ في عينيها أكثر..
تراجعت للخلفِ وهي تضمُّ طفلها إلى صدرها بقوَّة، كأنَّها تخافُ أن يُسلبَ منها كما سُلبَ كلَّ شيءٍ من حياتها، أشارت إليهِ بحدَّة:
- لازق فيَّا ليه؟ مش المفروض إنَّك بتعاقبني؟ روح بقى، روح للطيبة الحنونة اللي إنتَ خايف على مشاعرها ومبرَّرلها كلِّ حاجة..وأنا؟ أنا أيِّ حاجة منِّي بتعلَّق لي عليها مشنقة..
صمتَ للحظة، كلماتها شقَّت قلبهِ نصفين، زفرَ بقوَّة ثمَّ أشارَ إلى طفلهما الذي بين ذراعيها، وكأنَّهُ لم يستمع إلى حديثها:
خلِّي بالك من يوسف يا ميرال... ربِّنا يهديكي.
قالها بصوتٍ خافت.. محمَّلًا بكلِ خذلانِ العالم، ثمَّ استدارَ وغادر..ومع كلِّ خطوةٍ يبتعدها، كان يتركُ خلفهِ عالمًا من الألم، ممزوجًا بحبٍّ ممزَّق، وأحلامٍ انطفأت تحت ثقلِ الماضي.
بالجامعة وخاصة كلية الطب
توقفت بجوار صديقتها تقص لها ماصار منذ الاسبوعين المنصرمين ..عانقتها خديجة بمحبة
-ألف مبروووك، والله فرحت لك ياروحي، المهم ادم عمل ايه في القضية
زفرة حارقة اخرجتها من جوفها وكأنها اشواك تؤلمها ثم اردفت:
-الحقيرة لسة مصرة، لأ وجايبة شهود أنه هددها، وبيساومها على حاجات، ومش بس كدا رفعت قضية عليه أنه أجبرها تسقط الجنين، الحيوانة كانت حامل وسقطت وتهمت ادم
-يالهوي ياإيلين، دي شكلها قادرة
هزت رأسها قائلة:
-للأسف، وآدم هيتجنن، بس بيقولي دا جزاته وعقاب ربنا له، بس مش عارفة حاسة أنه مخبي عليا حاجة كبيرة تفتكري ايه
لكزتها تشير إلى استاذ المادة
-الدكتور دخل، مش عايزين كلمة منه، شوفتي مكنش عجبك دكتور الجثث الحليوة جالك فعلا دكتور جثث ميتين
ضغطت على أسنانها تشير إليه بعينها
-غليظ جدا، وبقيت اكره السكشن بتاعه، والله دومي كان عسل، انا معرفش دا ايه، لا واسمه شمس، دا يسموه ضلمة يخربيته..قطع حديثهما
قائلًا:
-الدكاترة اللي مش مبطلين رغي، ركزو معايا، انتوا دكاترة مش اطفال ..ذهب ببصره إلى إيلين واردف
-دكتورة إيلين ممكن لو سمحتي تيجي هنا وتشرحي لزمايلك ازاي نسحب عينة من الجثة علشان نعرف سبب الوفاة
-لما تموت يادكتور وقتها هعرف
توقف يطالعها ممتعضًا:
-لما اموت..ارتفعت ضحكات الجميع، لتطلع إليه مردفة:
-مش قصدي كدا، قصدي لما اشوف جثة هشرح لحضرتك
في صباحِ اليومِ التالي في منزلِ يزن، اجتمعَ الجميعُ على طاولةِ الطعامِ بأجواءٍ مفعمةٍ بالدفء، بعدما استعادت إيمان بسمتها بعد أسابيعٍ من الألم و الحزن..كان الضحكُ يملأُ المكان، وكأنَّ الغيومَ التي خيَّمت على البيتِ قد انقشعت أخيرًا. قطعَ كريم الأجواءَ المرحةِ بنبرةٍ واثقة:
بما إنِّنا هنعمل الخطوبة قريب، إيه رأيكم نعمل حفلة جوازكم معانا بالمرة؟ وأهو بدل ماإنتَ وراحيل تعبانين كده."
نظرت راحيل إلى كريم، ثمَّ إلى يزن، قبل أن تخفضَ عينيها سريعًا، وقد احمرَّت وجنتاها بخجل..قاطعهُ يزن بنبرةٍ هادئةٍ لكنَّها حازمة:
"لأ مش دلوقتي، خلِّينا نفرح بيكم الأوَّل، وبعد كده نبقى نقرَّر هنعمل إيه."
نهضت راحيل بعدما استمعت إلى ثقلِ كلماتهِ وهي تردِّد:
"هشوف إيمان بتعمل إيه."قالتها وخطت إلى الداخلِ بخطواتٍ متعثِّرة، تاركةً وراءها أنفاسًا مشحونةً وكلماتٍ غير منطوقة.
ظلَّ يزن يتابعُ تحرَّكاتها حتى غابت عن ناظريه، ثمَّ أطلقَ زفيرًا طويلاً وكأنَّهُ يحاولُ إفراغَ قلبهِ من ثقلٍ لا يُحتمل..لحظاتٍ من الصمتِ مرَّت كأنَّها دهرًا، حتى نطقَ كريم بنبرةٍ متفاجئة:
"مالك يا يزن؟ شكلك مش مرتاح؟"
أدارَ يزن وجههِ بعيدًا، وبدأ يشعلُ سيجارتهِ بنظراتٍ تحملُ مزيجًا من الألمِ والغضب، ثم قالَ بصوتٍ كاد يخنقه:
"أنا مش ناوي أكمِّل مع راحيل يا كريم."
اتسعت عينا كريم بذهول:
"إنت بتقول إيه؟! أومال ليه رجعت كتبت عليها تاني بعد ما طلَّقتها؟"
نفثَ يزن دخانَ سيجارتهِ ببطء، يشعرُ بأنَّ زفيرهِ يحملُ جزءًا من ألمهِ المكبوت، ثمَّ قال ببرودٍ مصطنعٍ يخفي جرحًا غائرًا:
"علشان راجح رجَّعتها، علشان أقف له.. هوَّ هيخرج من السجنِ قريب، وعايزه يعرف إنِّ كلِّ حاجة بقت تحت سيطرتي، أملاك راحيل بقت باسمي، ودي أوَّل ضربة."
تجمَّدَ كريم في مكانه، ونظرَ إلى يزن بحدَّة وقال بنبرةٍ تتأرجحُ بين الغضبِ والاستنكار:
"يعني إيه؟ رجَّعتها مش علشان بتحبَّها؟"
قهقهَ يزن بسخريةٍ مريرة، ثمَّ نظرَ إليه بعينينِ غارقتينِ بظلالِ خيبةِ أملٍ عميقة:
"أحبِّ مين يا كريم؟ أظن إنتَ فاهمني أكتر من كده..أنا أسلِّم قلبي لحدِّ تاني؟ مستحيل، الحبِّ ده لعبة أنا خسرتها زمان، أنا اتبهدلت، اتذلِّيت، وانكسر قلبي قدَّام ناس متستهلش، وراحيل...مش أكتر من جزء من خطِّتي."
وقفَ كريم فجأة، وهدرَ بنبرةٍ أشبه بعاصفةٍ تضربُ هدوءَ يزن الزائف:
"بس راحيل مالهاش ذنب في اللي حصل لك! إنتَ ليه بتظلمها معاك؟"
نظر إليه يزن بعيونٍ غارقةٍ في بحرٍ من المرارة، وقال بصوتٍ كأنَّهُ اعترافٌ مؤلم:
"وأنا مش هأذيها يا كريم..هيَّ عمرها ما كانت جزء من انتقامي، كلِّ اللي عايزه إنِّي آخد حقِّي من راجح؛ عايز أشوفه وهوَّ مذلول قدَّامي زي ما أمِّي كانت مذلولة بين إيديه وهيَّ حامل فيَّا، بتتوسَّل له علشان يودِّيها للدكتور وهوَّ رافض..
ظلمها، طردها في نصِّ الليل، وإصراره إنَّها تسقَّطني، علشان راجح باشا مش من مستواه يخلِّف من ستِّ فقيرة، وبعد ماعرف رانيا مابتخلفش قرَّر ياخدني منها..ولولا طنط فريدة كان زماني بقيت زي طارق ياأمَّا في السجن، ياأمَّا ميت زي ابنه اللي الحقير دخَّله في شغله وهوَّ مالوش في حاجة، أنا بس عايز أشوفه مكسور...زي ما كسرنا كلِّنا، بنتِ زيِّ رؤى ذنبها إيه تعيش يتيمة وأبوها عايش، دي كانت في ملجأ ياكريم..أمَّها ماتت ومالقتشِ اللي يدفنها وعارف الصدمة الأكبر إيه؟. إنِّ البنتِ جت بطريقة غير شرعية ولولا وقوف فريدة ضدُّه وتهديدها له مكنشِ البنتِ اتثبِّتت..
سحبَ نفسًا من سيجارتهِ وزفره يحرقُ رئتيهِ كإحساسٍ بالغدرِ والخسَّةِ واستطرد:
-لو شوفت حياة ميرال إزاي، كنت اقتنعت إنِّ موت راجح لا محالة منُّه، واحدة كانت من أنجح المحرِّرين..الكلِّ بيحلف بذكاءها وأسلوبها، تعالَ شوفها دلوقتي بيتهموها بالاستهتار، ومبقتشِ تنفع حتى مراسلة، ليه دا كلُّه؟..علشان حياتها اللي اتهدِّت في لحظات، غير علاقتها بجوزها اللي على صفيح ساخن، وكلِّ كلامها أنا بنتِ عدوُّه؛ إزاي هقدر أنام في حضنه وأنا شايفة في عيونه وجع من راجل يُعتبر أبويا.
اسكت ياكريم الراجل دا مسبشِ حدِّ إلَّا لمَّا أذاه، وفي الآخر لفَّق لي تهمة علشان اتجوِّزت راحيل ولمَّا معرفشِ يمسك حاجة عليَّا خطف أختي، وإنتَ شوفت رجعت إزاي، انسى مرارةِ الساعات اللي عشتها وأختي بين مجرمين..كان مفكَّر نفسه ذكي علشان يتنازل لراحيل على كلِّ حاجة، قال خايف بعد قضيةِ إلياس يسألوه من أينَ لك هذا، أهو هيطلع من المولد بلا حمص..
-أنا عارف يايزن إنَّك مجروح وموجوع، بس اللي أقصده إنَّك تكمِّل مع راحيل هيَّ متستهلش..
مينفعشِ ياكريم إحنا الاتنين مختلفين، شوف حياتها إزاي وشوف حياتي إزاي، الفترة اللي قرَّبت منها عرفت عمرنا مانتِّفق..
سادَ صمتٌ ثقيل..وكلماتُ يزن غرزت جرحًا عميقًا في روحِ كريم، الذي بات يرى أمامهِ رجلاً ليس فقط مدفوعًا برغبةِ الانتقام، بل غارقًا في جروحِ الماضي التي تأبى أن تلتئم.
هوت الصينيةُ من يديها بعدما استمعت إلى حديثهِ الذي سحبَ أنفاسها؛ لتترقرقَ عيناها بالدموعِ تهمسُ بنبرةٍ ممزوجةٍ بحروفِ الألم:
-ليه..ليه تعمل كدا؟..
تجمَّد للحظات..صمتًا قاتلًا بينهما، وكأنَّ العالمَ توقَّفَ ليشهدَ صراعَ أرواحهم، جرت ساقيها بثقلٍ إلى أن توقَّفت أمامهِ محطَّمة، وهو يحاولُ أن يخفي انكساراتهِ تحت قناعٍ بارد، كان صوتُ أنفاسها المتقطِّعةِ وضرباتِ قلبها المتسارعةِ ك جرسُ إنذارٍ يشقُّ أذنيه.
اقتربت منهُ أكثر، ودموعها تنسابُ بلا توقُّف، وصوتها يتهدَّجُ بين البكاءِ والغضب:
- كنت حاسة إنِّ في حاجة غلط، لكن ماقدرتش أصدَّق إنَّك ممكن تكون بالشكلِ ده..ليه يا يزن؟ ليه؟
نظرَ إليها بعينينِ زائغتين، وكأنَّهُ يبحثُ عن مخرجٍ من مواجهتها. .رفعَ يديهِ وكاد يلمسُ كتفها لكنَّهُ تراجع، يشعرُ بأنَّ لمسهِ لها أصبح محرَّماً عليه..ثمَّ نطقَ بصوتٍ خافت، يحملُ في طياتهِ شيئاً من الألم:
"أنا آسف..."
صرخت فيه مجددًا، بصوتٍ يملؤهُ الألم أكثر من الغضب:
- آسف؟! آسف على إيه؟ على قلبي اللي كسرته؟ ولَّا على روحي اللي دمَّرتها؟ ولَّا على الكذبة اللي عشتها وأنا فاكرة إنِّي مع حدِّ بيحبِّني؟
تراجعَ خطوتين، وأخفضَ رأسهِ بخذلان من نفسه، وأحس بأنَّ كلماتهِ خانته، لكنَّهُ نطقَ بحروفٍ ممزوجةٍ بالألم:
- أنا ماكنش عندي اختيار...كان لازم أعمل كده، مكنشِ قدَّامي طريقة تانية...
ضحكت ضحكةً مريرة، وهي تهزُّ رأسها غير مصدِّقة:
- كان لازم؟ وإيه عنِّي أنا؟ أنا مالي؟ أنا مجرَّد وسيلة؟
هزَّ رأسهِ بخفَّة، ثمَّ همس:
- مش هقدر أبرَّر لنفسي، اللي عملته غلط... وعارف إنِّك مش هتسامحيني، بس حقيقي مكنشِ قصدي أخدك لعبة.
-لعبة..يعني كنت بتلعب بمشاعري؟!..
أشارت إلى أذنها ثمَّ إلى الجهةِ الثانية حينما همسَ له بحبِّها؛ وأردفت بنبرةٍ متقطِّعةٍ تشعرُ بأنَّ الحروفَ تعاندها للخروج:
-يعني هنا لمَّا قولتي لي بحبِّك كنت بتلعب بمشاعري، تلعب بيَّا أنا!..
أشارت إلى نفسها تدورُ حولهِ بنظراتٍ مشتَّتة ضائعة:
-وأنا الهبلة اللي صدَّقتك، وعملت تنازل بكلِّ حاجة..
-آسف يارحيل بس حقِّي لازم أخده بإيدي..ومكنشِ قصدي آذيكي قالها
ثمَّ استدارَ مبتعدًا، تاركًا خلفهِ قلبها المهشَّم، وكلماتها الأخيرة تلحقُ به
بعد عدة أيام، وهو اليوم المقرَّر لخروجِ راجح من السجن، بعدما توصل إلياس إلى ماسعى إليه توقَّفت سيارةٌ سوداء فارهة أمام المحكمة، كان بداخلها إلياس وسائقهِ الخاص، فتحَ البابَ ببطء، نزعَ نظارتهِ الشمسية، ثمَّ ترجَّلَ بخطواتٍ ثابتةٍ وواثقة.
قبل أن يتمكَّنَ من التقدُّمِ أكثر، ظهرَ راجح فجأة، يتقدَّمُ نحوهِ بخطواتٍ مليئةٍ بالتحدي، ونطقَ بسخرية واضحة:
"أوعى تقولِّي إنَّك جاي تبارك لي يا ابنِ جمال."
ضغط إلياس على شفتيهِ بابتسامةٍ باردةٍ مفعمةٍ بالسخرية، وردَّ بصوتٍ هادئٍ لكنَّهُ لاذع:
"طبعًا يا راجح باشا، عربيتك الفاخرة واقفة وراك، ومراتك في البيت محضَّرة لك حمَّام سخن، يبقى استحمَّى علشان ريحتك مقرفة..وبالمرة، عندك بدلة شيك؟ روَّق بيها رانيا بدل ما هيَّ ماشية تلفِّ البلد وتلمِّ الرجالة." قالها
ثمَّ بصقَ على الأرضِ بازدراء، وأردفَ بنبرةٍ قاطعة:
"مقرفين!"
أنهى حديثهِ، وقعت عيناه على أحد السيارات المرصوفة بالجهة الاخرى، ابتسم ساخرًا يتمتم لنفسه
-ابن حلال وتستاهل، اهو دلوقتي اتكشفت انك عمي ياراجح، ياله بالشفا، قالها وارتدى نظارته متجهًا نحو سيارتهِ دون أن ينتظرَ ردًّا، تاركًا راجح يغلي من الغضب، ووجههِ قد احمرَّ كالجمرِ المشتعل.
داخلَ سيارته، أمسكَ إلياس هاتفهِ بعصبية، وبدأ يتحدَّثُ بصوتٍ حاد:
"عملت إيه يا ظابط نصِّ كم؟"
عند أرسلان وصلَ إلى المكانِ المنشود، ثمَّ صعدَ فوق السيارةِ يراقبُ فيلا راجح عن بُعد، انحنى يجذبُ بعض الفواكهَ وبدأ يلوكها بهدوءٍ وعيناهُ الصقريةِ تخترقُ الأنحاء، أمسكَ هاتفهِ وهاتفَ إسحاق:
-إسحاقو حمدالله على السلامة ياحبيبي.
على الجانبِ الآخرِ أجابهُ وهو يرتدى ثيابه:
- نازل رايح لفاروق إنتَ فين..
-أنا بسلِّم على راجح..توقَّفَ إسحاق عمَّا يفعلهُ وتساءل:
-بتخطَّط لإيه؟..
استطعم فاكته وأجابَ بنبرةٍ باردة:
-يقتل رانيا، أو هيَّ تقتله، المهمِّ نخلص من واحد فيهم.
-غلط يابنِ فاروق، لسة بدري على الخطوة دي، لازم تاخدوا حقُّكم الأوَّل بالعقل مش بالتهوُّر.
-عمُّو اتأخرت على ميعادك سلام ياإسحاقو.
-سبَّهُ الآخر وتوقَّفَ يتنهَّد، ثمَّ رفعَ هاتفهِ وتحدَّثَ مع أحدهم:
-شوف راجح الشافعي راح فين بعد خروجه من المديرية؟..وسلَّكه بعيد عن بيته..
بعد دقائقَ استمعَ إلى رنينِ هاتفه:
-عملت إيه؟..
- أشعلَ سيجارةً ونفثَ تبغها وأجابهُ بتهكُّم:
"العروسة مستحميِّة ولابسة بدلة الرقص وشغالة الله ينوَّر..تعجبني دماغك يا جوز ميرال."
توقَّفَ إلياس للحظة عند سماعِ اسمِ "ميرال"، وكأنَّ النارَ اشتعلت داخله، ردَّ بغضبٍ مكتوم:
"وحياة لسانك الطويل، لو قرَّبت من بيتي تاني، ما أنا راحمك..
هقطع إيدك، يا بارد!"
ضحكَ أرسلان ضحكةً مستفزة، وأردفَ بخبث:
"لو ابن ابوك اعملها، ماشي يا جوز ميرال."
اشتعلَ غضبُ إلياس أكثر، وقال بحدَّة:
"ما بحبش الهزار في حياتي الشخصية، دلوقتي ركِّز معايا..الزفتِ الِّلي اسمه راجح دا عايزك ظلُّه، صوَّر كلِّ حاجة، وياربِّ تفلح المرَّة دي"
أنهى المكالمةَ بحنقٍ واضح، وألقى هاتفهِ على المقعدِ بجانبه. أخذَ نفسًا عميقًا محاولًا تهدئةَ نفسه، ثمَّ تمتم:
"تعالَ ورِّيني شطارتك يا مسكَّر."
بينما كانت سيارتهِ تنطلق، ظلَّ يحدِّثُ نفسهِ بغضبٍ مكبوت:
"ماشي يا ميرال..فاتحة البيت شاطئ البحر الأحمر؟ بتعانديني؟"
ضغطَ بقوَّةٍ على عجلةِ القيادة، وكأنَّها تنفيسًا عن الغضبِ الذي يلتهمه.
عند فيلا راجح:
كانت رانيا تتمايلُ بخفَّةٍ بجسدها فوق طاولةٍ صغيرة، ترتدي فستانًا قصيرًا يبرزُ مفاتنها بشكلٍ صارخ، وكأنها فتاه في العشرينات، في المقابلِ كان هناكَ رجلًا جالسًا على الفراش، يتناولُ الفاكهة، وعيناهُ تلتهمانها بنظراتٍ شهوانية.
رفعَ الرجلُ صوتَ الموسيقى، ونهضَ بخفَّةٍ ليتمايلَ بجوارها، ضحكاتهِ ترتفعُ مع كلِّ حركة، ويداهُ تتجولُ بلا استئذان.
تلاعبت رانيا برباطِ روبه، وكأنَّها تغريهِ أكثر، فجأةً اندفعَ نحوها ودفعها بقوَّةٍ على الفراش، متملِّكًا اللحظةَ وكأنَّ العالمَ لا يتَّسعُ لغيرهما...
عند راجح في طريقهِ إلى الفيلا:
قبل وصولهِ إلى فيلته، رنَ هاتفه..تناولهُ من يدِ سائقهِ وأجابَ بلهجةٍ واثقة:
"ألو؟ مين معايا؟"
جاءهُ صوتًا هادئًا من أرسلان، يحملُ نبرةَ تهديد:
"أهلاً يا راجح، وحشتني يا راجل..أكيد ما تعرفنيش، أنا عمِّ الولد."
ارتبكَ راجح للحظة، وردَّ بحذر:
"عايز إيه؟"
أجابهُ بصوتٍ مصحوبًٍ بتنفيثِ دخانِ سيجارته:
"حبيت أبلَّغك إنِّ عربيتك فيها قنبلة.. وهتنفجر بعد دقيقة بالظبط."
تجمَّدَ الدمُ في عروقِ راجح، وارتفعَ صوتهِ صارخًا في سائقه:
"وقَّف العربية! بسرعة!"
حاولَ السائقُ التوقُّفَ بجنون، لكنَّهُ صاحَ بذعر:
"العربية ما بتوقفش، يا باشا!"..
مرَّت قرابةَ الساعةِ ولم يظهر راجح، اشتعلَ غضبُ أرسلان، وهو ينظرُ إلى ساعتهِ بينما راقبَ الشخصَ الذي خرجَ من فيلا رانيا، زفرَ بحدَّة كمن يحاولُ كبحَ طوفانِ الغضبِ داخله، ثمَّ قال بلهجةٍ حادة:
- راح فين الغبي دا؟ هوَّ صدَّق إنِّ العربية فيها قنبلة ولَّا إيه؟
قطعَ تفكيرهِ صوتُ رنينِ هاتفه، نظرَ إلى الشاشةِ بانزعاجٍ وهو يضغطُ أسنانهِ بغيظ:
أهو الزنان، هيبدأ ينقِّ عليَّا..
رفعَ الهاتفَ وأجابَ ببرود:
"نعم."
على الجهةِ الأخرى، تحدَّثَ إلياس وهو يقودُ سيارتهِ باتجاهِ فيلا السيوفي:
- عملت إيه؟ وراجح عمل إيه؟
ردَّ أرسلان بضيق، يشغِّلُ محرِّكَ سيارتهِ بعنف:
- مجاش، شكله مات في الطريق من الخضة..أنا مش فاضي دلوقتي، بعدين ندوَّر على حاجة تانية.
أغلقَ الهاتفَ دون أن ينتظرَ ردًّا..حدَّقَ إلياس في الهاتفِ بغضبٍ مكتوم، ثمَّ تمتمَ بسخرية:
"واللهِ كنت عارف إنَّك فاشل."
بعد عدة أيام
وصلَ إلى فيلا العائلة، دلفَ إلى الداخلِ ليجدَ والدتهِ تقفُ أمام إحدى العاملات، تشيرُ بيدها لإكمالِ تعليقِ زينةِ رمضان.. لاحظَ انشغالها فاقتربَ مبتسمًا:
-ماما، بتعملي إيه؟
التفتت إليهِ مبتسمة، وعلى وجهها علاماتُ الإرهاقِ الممتزجةِ بالفرحة:
أهلًا ياحبيبي، بنعلَّق زينة رمضان.
هزَّ رأسهِ بتفهُّمٍ ثمَّ سألَ سريعًا:
-بابا فين؟
أشارت إلى غرفةِ المكتب دون أن تتوقَّفَ عن توجيهِ التعليمات، وقبلَ أن يخطو نحوها، أوقفتهُ قائلةً بنبرةٍ هادئة:
- عدِّيت على مراتك؟ قولت لها تيجي تفطر معانا؟
تجاهلَ سؤالها واستمرَّ في طريقه، غير راغبٍ في فتحِ أيِّ نقاش..نظرت إليه بحزنٍ خنقَ روحها، وكأنَّها تراقبُ انهيارهما تدريجيًا:
وصلت غادة ، وتساءلت بخفوتٍ وهي تلاحظُ ملامحَ والدتها الشاردة:
- ماما، مالك؟
تنهَّدت والدتها وأجابت بتثاقل:
- عملتي إيه مع مرات أخوكي؟ هتيجي؟
هزَّت غادة رأسها بقلق:
- معرفشِ يا ماما، إن شاءالله تيجي هي وعدتني، بس عرفت إنَّها زعلانة جدًا من إلياس، تخيَّلي بقاله أكتر من أسبوعين ما شافشِ ابنه.
ربتت الأم على كتفِ غادة بحنانٍ وهي تحاولُ طمأنتها:
- طيب روحي شوفي إسلام صحي ولَّا لسه ياحبيبتي.
أومأت غادة وتحرَّكت نحو الطابقِ العلوي، بينما ظلَّت الأمُّ تحدِّقُ في زينةِ رمضان بحزنٍ يلفُّهُ الشجن، تهمسُ لنفسها:
- وبعدهالك يابنِ فريدة، وبعدهالك.
ساعاتٌ قليلةٌ مرَّت، والأجواءُ بدأت تهدأ مع اقترابِ لحظةِ إطلاقِ مدفعِ الإفطار، لكن الغليانَ في القلوبِ ظلَّ يتصاعدُ دون توقُّف.
دقَّت الساعةُ واقتربت لحظةُ الإفطار، لتجتمعَ العائلةَ حول المائدةِ التي زينت بأشهى الأطباق،
اتَّجهت فريدة إلى طاولةِ الطعام، تُلقي نظرةً أخيرةً عليها، تطالعها برضا وسعادة مشوبةً بشيءٍ خفيٍّ وهي تراقبُ الباب.. أخذت نفسًا عميقًا واستدارت على صوتِ إسلام:
"يااه، أخيرًا شوفت ضحكة ستِّ الكل!"
رسمت على وجهها ابتسامةً خفيفة، وجذبتهُ من أذنهِ بلطفٍ قائلة:
"وأنا كنت كشرية ياابنِ مصطفى؟"
قهقهَ بصوتٍ عالٍ محاولًا الإفلاتَ من يدها:
"أبدًا أبدًا..."
ركضت غادة نحوهما، تملأُ المكانَ بحركاتها الطفوليةِ وصوتها المرح:
"بتهزَّروا من غيري؟ أنا زعلانة"
تراجعت فريدة مبتسمةً على طفولتها الصافية، ثمَّ رمقت ساعةَ يدها بأنفاسٍ متلاحقةٍ كمن ينتظرُ شيئًا على أحرِّ من الجمر:
"ميرال اتأخرت..تفتكروا هتيجي ولَّا هترجع في كلامها زي كلِّ مرَّة؟"
جلست غادة على المقعدِ متنهدةً بحماسٍ ممتزجٍ بالأمل:
"هتيجي، أنا متأكدة..المرَّة دي لازم تيجي، ماهي بقالها كتير اوي مجتش هنا." ثمَّ أضافت بصوتٍ حالم: "هيّّ وعدتني..."
قطعَ حديثهما وصولُ رؤى التي ألقت تحيةَ المساءِ بصوتٍ هادئ:
- "مساء الخير."
ردَّت فريدة بلطفٍ ممزوجٍ بهدوءِ الأم التي تحتضنُ الجميع:
"مساء الخير يا حبيبتي، اقعدي شوية، عمِّك هينزل دلوقتي."
ثمَّ وجَّهت بصرها نحو إسلام، الذي جلسَ يتابعُ هاتفه:
"إلياس صحي ولَّا لسه ياإسلام؟"
ردَّ دون أن يرفعَ عينيه:
"بيصلِّي العصر، راحت عليه نومة."
لحظات ودوى صوتُ مدفعِ الإفطار، تزامنَ مع نزولِ مصطفى وإلياس، اقتربَ مصطفى من فريدة بخطواتٍ واثقة وحنانٍ يظهرُ في قسماتِ وجهه، ليطبعَ قبلةً على جبينها:
"رمضان كريم يا ستِّ الكل."
ردَّت بابتسامةٍ باهتةٍ وهي تنظرُ إلى بابِ الفيلا:
"كلِّ سنة وإنتَ منوَّرنا يامصطفى."
جلسَ مصطفى على المقعد بجوارها، يربتُ على كتفها بحنان:
"اقعدي يا فريدة، المغرب أذن..ولَّا ناوية تفضلي صايمة للصبح؟"
رفعَ إسلام عينيه نحوها بحزن، ثمَّ تحرَّكَ بهدوءٍ إلى غادة، التي أخفضت رأسها وكأنَّها تحاولُ إخفاءَ شعورها، تناولَ كوبًا من العصيرِ ووضعهُ أمام والدتهِ بحنو:
"اشربي يا حبيبتي."
رفعت فريدة عينيها التي لمعت بالدموع، وأغمضتهما للحظةٍ تتمنَّى خلالها أن تراها تدخلُ عليهم بابتسامتها المعتادة...وصل إلياس ملقيًا التحية على الجميع، وجلس على مقعده المخصص، وقعت عيناه على مقعد ميرال بجواره، حينما استمع الى صوت فريدة
-اقعدي جنب رؤى حبيبتي، دا كرسي مرات اخوكي، ضغطت غادة على شفتيها لتمنع عبراتها تتمنى من الله ألا تخذلهم ميرال هذه المرة، لحظات، ودلفت ميرال من البابِ بصوتها الرقيقِ وابتسامتها التي تحملُ ألفَ شعور، وهي تحملُ طفلها.
هبَّت غادة نحوها مهرولةً كطفلةٍ وجدت لعبتها المفضلة:
"مش قولتلك يا ماما؟ ميرو مستحيل تخلف وعدها معايا، صح ياميرو؟"
ضحكت ميرال تضمُّها بمحبَّة:
"أقدر أزعَّلك ياروح ميرو؟"
سحبتها غادة نحو طاولةِ الطعام، لكن مصطفى توقَّفَ فاتحًا ذراعيهِ بحماسٍ إلى حفيده:
"حبيبة عمُّو، وحشتيني، إنتي وحبيب جدُّو"
احتضنتهُ ميرال بمحبَّة، ثمَّ اتَّجهت إلى فريدة التي جذبتها بعنفوانٍ عاطفي، تحتضنها وكأنَّها غائبةٌ عنها سنوات.. شهقت فريدة بصوتٍ مرتعش، بينما الدموعُ انهمرت من عينيها:
"زعلانة منِّك أوي أوي ياميرال.. ثمَّ..."
وضعت يديها على وجنتيها، وتابعت:
-بس مش مهم، المهمِّ إنِّ حبيبة قلبي نوَّرت بيتها تاني..
ربتت على كتفها بحنانٍ قائلة:
"مقدرشِ على زعلك ياحبيبة قلبي، بس مضغوطة في الشغل والله..وقلت لعمُّو كده، لسة نازلة بقالي كام يوم ."
قاطعهم صوتُ إسلام بمزاحٍ حاولَ كسره:
"مش ناوية تسلِّمي عليَّا؟ أنا جعان وعايز آكل."
استدارت إليهِ، وابتسمت رغم دمعاتها:
"وحشتني يا سلومة، عامل إيه؟"
ردَّ بمزاحٍ ثقيل:
"أحسن منِّك يا روح سلومة، عارفة لو مش في رمضان كنت بوستك، بس يلَّا، الله يسامح رمضان."
اتَّجهت بنظراتها إلى إلياس ورسمت ابتسامة، رفعَ عينيهِ إليها، لم يستطع أن يخفي ألم اشتياقه الدفين، مر أكثر من أسبوعين لم يراها .
نظرت إليهِ للحظات، وقلبها يثقلُ بالمشاعر:
"كلِّ سنة وإنتَ طيب ياإلياس."
أجابها بهدوءٍ مخيف و ملامح ثابتة، لكن عينيهِ كانت عاصفةً بالاشتياق، ثمَّ قالَ بصوتٍ خافت:
"وإنتي طيبة."
قالها ونهضَ من مكانهِ بغتة بعدما تجرع العصير، وكأنَّ المكانَ أصبح ضيِّقًا عليهما، أوقفتهُ فريدة:
-حبيبي ماأكلتش ليه؟..توقَّفَ ولم يستدرَ إليها قائلا:
"شربت عصير وشبعت، عندي شغل لازم أخلَّصه، انحنى جهة والده يحمل طفله
-هاخده لما تخلص أكل ياحبيبي."..ثم
اتَّجهَ بنظرهِ إلى غادة وأضاف:
"خلِّيهم يعملولي قهوة."
قالها وتحرَّكَ بخطواتٍ ثقيلةٍ نحو الداخل، لكنَّ صوتَ فريدة أوقفه:
"إلياس استنى"..خطت إليهِ
وتشبَّثت بذراعهِ بقوَّة، أردفت بنبرةٍ تحملُه رجاءً خفيًا:
"علشان خاطري، اقعد معانا..أنا ما صدَّقت نتجمَّع."
توقَّفت خطواتهِ لكنَّهُ لم يلتفت، قال ببرودٍ كالصقيع:
"ولازم التجمُّع يكون على الأكل؟ حضرتك عارفة أنا ماليش في الأكل."
قالها وتحرَّكَ سريعًا، مغلقًا البابَ خلفه، وقلبهِ الذي يأنُّ بعنفٍ داخله، حاولَ أن يبتعد، حاول أن ينسى، ولكنَّ قلبهُ يقبضُ عليهِ بعنف..
توقَّفت فريدة تنظرُ إلى البابِ المغلقِ بعيونٍ زائغة، بينما قالت ميرال بصوتٍ متهدِّج وهي تربتُ على كتفها:
"اقعدي، ياحبيبتي، هوَّ كده دايمًا دا إلياس يعني...المفروض تكوني حفظتيه."
-يعني إنتي مش زعلانة؟..هزَّت رأسها بالنفي ورسمت ابتسامةً على وجهها:
-هزعل ليه..قالتها وهي تنظر إلى مكانه وطعامه الذي لم يمسه، فتوقفت تجمع بعض من طعامه واردفت بهدوء
-هدخله الطبق دا، يمكن ياكل حاجة..ربتت فريدة على ظهرها
-هياكل منك صدقيني، اومأت وتحركت إلى الغرفة التي يمكث بها، كان جالسًا على الأريكة يداعب طفله وهو يضحك بصوت مرتفع، استمع الى خطواتها خلفه، رفع نظره إليها وقعت عيناه على ماتحمله، فرجع إلى إبنه
-أنا مش جعان، وانت عارفة اكلي بيكون كدا، بشرب عصير وبعد فترة باكل اي حاجة ..اقتربت تضع سرفيس من الطعام بجواره
-احنا في رمضان ودا اول افطار، لو مضايق من وجودي، ممكن امشي
-ايه اللي بتقوليه دا، لا طبعا، انا مش جعان..جلست بجوار طفلها تتطلع إليه بإشتياق
-معنى اللي عملته كدا، حتى ماهانش عليك تقولي كل سنة وانت طيبة، استنيت تليفونك طول اليوم
-وهتستنيه على طول ياميرال، مش عايز اتكلم ونوجع بعض، انا بعيد، ورغم طلبت منك ماتشتغليش غير لما الولد يكبر كالعادة روحتي لبابا واستنجدتي بيه، اللي فهمته من عمايلك أنا هامش، ويمكن كمان ماتكونيش حبتيتي، مجرد تعود قدامك، أو حبيت شخصية إلياس مش اكتر ..توقفت تتطلع إليه بصمت دون حديث، ثم تحركت للخارج، وصلت إلى جلوس الجميع، جذبُت المقعدَ لتجلس عليه، وقعت عيناها على رؤى:
-إزيك يارؤى..ابتعدت عنها قائلة:
-أهلًا ياميرال ..مطَّت ميرال شفتيها بعدمِ رضا إلى أن قاطعها مصطفى:
-عاملة إيه حبيبتي وأخبار شغلك إيه؟..
أجابتهُ مبتسمة وهي تضعُ المحرمة على ساقيها:
-الحمد لله ياعمُّو، وشكرًا لحضرتك إنَّك أقنعت إلياس أنزل الشغل.
قاطعتها رؤى تطالعهم ببغض:
-معرفشِ ليه رافض شغلك، وهوَّ مصر على الطلاق...حمحمَ إسلام قبل التهابِ الأجواء قائلًا:
-بتِّ ياميرو شوفتيني وأنا على التلفاز، إيه رأيك حلو صح؟.
التمعت عيناها بابتسامةٍ، محاولة نسيان كلمات إلياس، فأردفت قائلة:
-الله أكبر عليك ياحبيبي بجدِّ سعيدة بيك ياإسلام، ويارب أشوفك أحسن لاعب باسكت في العالم كلُّه.
رفعَ ياقةَ ملابسهِ بغرورٍ غامزًا لها :
-إن شاء الله..تطلَّعت فريدة إليها متسائلة:
-يزن راح لك، كان عايزك إنتي ورؤى تروحو تفطروا عنده النهاردة، بس أنا رفضت وقولت له أنُّكم هتفطروا معايا.
تناولت الطعامَ متذكِّرةً حديثُ إلياس ورفضهِ الخروجَ خارجَ نطاقه، فأجابتها:
-مش هعرف ياماما، وقتي ضيَّق بجي من شغلي تعبانة وابني طول الوقت مع النانا، مش موافقة، أنا هعزمه لعندي عايزة أتعرَّف على أخته وخطيبها.
أومأت فريدة متفهِّمة، كانت نظراتُ رؤى مصوَّبةً عليها حتى نطقت:
-إيه رأيك نزور بابا ونشوفه عمل فينا كدا ليه؟..
رمقتها بحدَّة وهدرت بنبرةٍ مستاءة:
-أبوكي إنتي، الراجل دا مستحيل تربطني بيه علاقة، إيه عاجبك فضايحه اللي مالية الجرايد..
استندت رؤى على الطاولةِ وحدقتها بنظرةٍ غاضبة:
-حضرتك اللي عاملة حفلة عليه، دا مهما كان أبونا، هتستفادي إيه وإنتي عمالة تسلخي فيه بالطريقة القذرة دي، ولا علشان خايفة تخسري جوزك اللي هو في الأساس مش معبرك وكل تفكيره أنه يطلقك، احسن لك فكري ازاي تحسني صورة ابوكي اللي احنا لحد دلوقتي معرفناش الحقيقة، مجرد كلام سمعناه، تقدري تقوليلي ياسيادة الصحفية فين الدليل أنه بالبشاعة دي
-رؤى..صرخَ بها إلياس يشيرُ إليها بحدَّة:
-البيت دا محترم وللناس المحترمة، عايزة تقعدي فيه يكون بأدبك وبس.
نهضت رؤى وألقت المحرمة:
-تمام ياحضرةِ الظابط، عرفت إنَّك بتطردني، بس ياترى دا شو علشان المدام ولَّا علشان بتخطَّط لحاجة تانية؟..
-اخرسي يابت..قالها واقتربَ منها كالشيطان..توقَّفت فريدة أمامه:
-خلاص ياحبيبي هيَّ ماتقصدش..أبعدَ والدته عنها، ثمَّ جذبها من ذراعيها بقوَّة، ليدفعها بعيدًا عن طاولةِ الطعام..
أوقفهُ مصطفى يصيحُ بعنف:
-دا احترامك لأبوك يامحترم..توقَّفَ عاجزًا وكأنَّ جسدهِ شُلَّ بالكامل، فلم يعد لديه القدرة على الصمت، ورغم ذلك اتَّجهَ إلى غرفةِ مكتبهِ مرَّةً أخرى دون أي ردَّةِ فعل.
تنهَّدَ الجميعُ بعد مغادرته، توقَّفت رؤى وانهارت دموعها باستياءٍ ثمَّ وزَّعت نظراتها على الجميع قائلة:
-أنا آسفة بس مهما كان دا أبويا، مش عارفة أكرهه أو بمعنى أصح مش عارفة أعمل إيه، يمكن علشان معنديش حد ولقيته إنقاذ، أو يمكن علشان طول عمري عايشة من غير أب، نفسي أعرف إحساس البنت اللي عندها اأب بيكون إيه احساسها...اقتربت من فريدة واحتضنت كفَّيها:
-أنا عارفة إنِّك مقصرتيش معايا، حضرتك وعمُّو مصطفى بس نفسي أشعر بطعمِ كلمة بابا، أنا بشوفها بس، عمري مانطقتها، يمكن قولت ماما لحضرتك، بس بابا دي معناها إيه؟. توجَّهت بنظراتها إلى ميرال:
-احمدي ربِّنا على حياتك، أنا لو مكانك هقول ربِّنا بيحبِّني أوي أوي، اتربيت مع ستِّ عظيمة، وراجل أيِّ بنت بتتمنَّى يكون أبوها، حتى لو إنِّك عارفة أنُّه مش باباكي بس كفاية منتمية لسيادةِ اللواء مصطفى السيوفي، ويوم ماتتجوِّزي تتجوِّزي راجل أيِّ بنت في الدنيا تتمناه، معاكي حاجات غيرك نفسه بربعها ...قالتها وصعدت سريعًا للأعلى.
-صمتٌ ثقيلٌ بالمكان بعد صعودها، إلى أن قطعَ الصمتَ صوتُ غادة التي تلألأت عيناها بالدموع:
-رؤى صعبانة عليَّا أوي، اليتم وحش أوي، يعني إحنا ربِّنا عوضنا بماما، بس هي لا ماما ولا بابا.
قاطعهم مصطفى يشيرُ إلى الطعام:
-افطروا وأنا هطلع لها وأراضيها..قالها وتحرَّكَ وهو يحملُ يوسف الذي وضعه إلياس على ساقه عند خروجه
توقَّفت ميرال لتأخذَ طفلها إلَّا أنَّهُ أوقفها:
-خلِّيه معايا حبيبتي، وبعدين هعدِّيه على باباه، هوَّ كان جاي ياخدله حاجة بس أنا كلَّمته بعنف، ربتَ على كتفها يشيرُ إلى الطعام:
-روحي افطري، وياعبيطة متبعديش عن جوزك حتى لو هوَّ رافض، دا مجرَّد كلام ..
بعد عدَّةِ ساعاتٍ ارتفعَ صوتُ ضحكاتهم بالحديقة، قفزَ إسلام يجلسُ بجوارِ ميرال وهو يحملُ يوسف ويداعبه؛ ثمَّ حاوطَ أكتافها مقتربًا منها يهمسُ بجوارِ أذنها ليرتفعَ صوتُ ضحكاتها وهي تلكزه، وهناك أعينٌ من النيرانِ نشبت بهما مخالبَ الغيرةِ التي نهشت بصدره، ليخرجَ عن صمتهِ يدفعُ المقعدَ ويتحرَّكُ للخارج، وصلَ إلى الجمعِ ينظرُ إلى إسلام الذي يحملُ ابنه، وقعت عيناه على ذراعيه الذي يضعه على المقعد خلف ميرال وكأنه يحاوطه به..نيران أشعلت بأوردته فاقترب منه ولم يشعر بنفسه سوى وهو يتلقف ابنه ويمسك اسلام من ياقته يدفعه بعنف حتى سقط على الأرض الصلبة يصرخ متألمًا ليهب الجميع على ذلك المشهد، لم يكتفي بذلك بل جذبه وهو يوقفه، ويلكمه بقوة، يضغط بعنف على ذراعه يهمس بهسيس نيران الغيرة
-علشان تبقى تعاندي وتمشي ورا تخطيط ارسلان ..قالها ليسمع صوت ذراعه مع صرخات اسلام ..هرولت ميرال تبعده عن إسلام الذي احتضن ذراعه
-حيوان مفترس الله يخربيت خططك ياارسلان ضيع مستقبلي ..انحنت ميرال أمامه
-اسلام..صرخ بوجهها
-انسيه، ااااه ياماما، المفترس كسر دراعي، جثت بركبتيها أمامه مع وصول فريدة
-ايه اللي حصل..بحث بنظره على إلياس الذي استقل سيارته وغادر المكان بسرعة جنونية
انتهى الفصل اتمنى أن ينال إعجابكم
لا تجعلوا القراءة تنسيكم ذكر الله