رواية شظايا قلوب محترقة الفصل الثلاثون 30 بقلم سيلا وليد

رواية شظايا قلوب محترقة الفصل الثلاثون 30 بقلم سيلا وليد

رواية شظايا قلوب محترقة الفصل الثلاثون 30 هى رواية من كتابة سيلا وليد رواية شظايا قلوب محترقة الفصل الثلاثون 30 صدر لاول مرة على موقع التواصل الاجتماعى فيسبوك رواية شظايا قلوب محترقة الفصل الثلاثون 30 حقق تفاعل كبير على الفيسبوك لذلك سنعرض لكم رواية شظايا قلوب محترقة الفصل الثلاثون 30

رواية شظايا قلوب محترقة بقلم سيلا وليد

رواية شظايا قلوب محترقة الفصل الثلاثون 30

"اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك "
كيف أسامحُ من أغرقني في أوجاعٍ لا لغةً تصفها؟..
كيف أطلبُ منهُ أن يفهمَ عمقَ ألمي، وهو لم يشعر أبدًا أنَّ روحي كانت امتدادًا لروحه؟
أتمنَّى لو أنَّ أحدًا يخبره:
أنا التي حملتُ أوجاعي كصليبٍ ثقيلٍ على كتفي..
أنا التي نزفَ قلبي حتى صرخَ الحزنُ داخلي، لكنَّني كنت وحدي..
حتَّى هو كان السيفُ الذي مزَّقني، والقاضي الذي حكمَ عليَّ بالصمت..
هذا الألم ليس جرحًا، عاصفةً تملؤني بالصمتِ والصراخِ معًا..
ليتهُ فقط يشعر، ولو للحظة، كيف يتألَّمُ من كانت روحهِ تهيمُ على حافَّةِ الانكسار..
#شظايا_قلوب_محترقة
تحرَّكَ إلياس إليها كالعاصفة، بعدما وجدَها تترنَّح، ضمَّها بقوَّةٍ حين شعرَ بأنَّ جسدها ينهارُ بين يديه، شعرَ بالألمِ وهو يرى ضعفها، رفعها بين ذراعيهِ وكأنَّهُ يحملُ روحه، عيناهُ مثبَّتتانِ بملامحها التي فقدت ألوانها، وقلبهِ يصرخُ بصمتٍ بينما طلبَ راكان  الطبيب للذهاب بها لغرفته؛ وأشارَ إلى الشرطي يجرُّ راجح إلى حبسه، تحرَّكَ بها إلياس نحو غرفةِ الطبيبِ بخطواتٍ مسرعة..
بعدَ فترةٍ داخل الغرفة، فحصها الطبيبُ سريعًا..دقائقَ مرَّت وكأنَّها دهرًا..تنفَّسَ إلياس بصعوبة ثمَّ قال الطبيبُ بنبرةٍ مطمئنة:
هبوط حاد في الدورة الدموية، وإن شاءالله هتكون كويسة..قالها وتحرك للخارج
رفَّت أهدابها ببطءٍ كأنَّها تخرجُ من كابوس..همست باسمهِ بصوتٍ ضعيفٍ بالكادِ يسمع، لكنَّهُ اخترقَ قلبهِ كالسهم..أمسكَ بكفَّيها الباردينِ يضغطُ عليهما بخوفٍ ممتزجٍ بالحنان، وهمسَ بصوتٍ مرتعش:
"ميرال، أنا هنا...افتحي عيونك.."
استفاقت ببطء، نظراتها تجولُ حولها وهي تحاولُ استيعابَ ما حدث..رفعت يدها بضعفٍ تمسحُ وجهها، و تحاولُ محوَ الألمِ الذي تسلَّلَ إلى ذاكرتها.. التفتت إليهِ بعينينِ غارقتينِ بالتعب والغضب:
- عايزة أمشي...جايبني هنا ليه؟
أشارَ إلى المحلولِ المعلَّقِ بكفِّها وقالَ بهدوء:
"لمَّا المحلول يخلص"
ثمَّ اقتربَ منها وأشارَ إلى حجابها:
ظبَّطي حجابك وهدومك.
لكنَّها نزعت المحلولَ بعنف، غير مباليةٍ بالدماءِ التي سالت من يدها، ونظرت إليهِ بعينينِ ملتهبتينِ وهتفت بصوتٍ متقطِّعٍ مليءٍ بالألم:
-أنا عايزة أمشي...مش هقعد هنا ولا دقيقة..
اقتربَ منها ثمَّ انحنى و أمسكَ بكتفيها بحذر، وأردفَ بصوتٍ هادئٍ محاولًا إخفاءهِ خلف حزمٍ مصطنع:
- اسمعيني، إنتِ تعبانة..اهدي شوية علشان صحِّتك.
نزعت نفسها من بين يديهِ وكأنَّ لمستهِ تُلهبُ جراحها، وقفت بصعوبةٍ رغم الدوار، وقالت بصوتٍ مرتجفٍ لكنَّهُ حادٍّ كالسيف:
-أنا قلت هرجع البيت، وزي ما جيت لوحدي هرجع لوحدي، اهتمامك دا مالوش لازم.
تجمَّدَ مكانهِ للحظة، كأنَّ كلماتها أطفأت كلَّ طاقةٍ بداخله..زمَّ شفتيهِ بشدَّة، ثمَّ قال بنبرةٍ تغلبُ عليها السخرية المرَّة:
-اهتمام مالوش لازمة؟ طيِّب بدل ما نرسم الاهتمام، خليكي هنا لمَّا نشوف وكيل النيابة هيقول إيه، بعد كدة نكمِّل رسم الاهتمام قدَّام الناس.
أنهى جملتهِ بغضبٍ مكبوت، وتحرَّكَ للخارج، يغلقُ البابَ خلفهِ بعنف..
عادَ بعد دقائقَ وجدَ الغرفةَ خالية..شعرَ بأنَّ قلبهِ قد هُزم، استدارَ للممرِّضِ  وسألهُ بصوتٍ مكتوم:
-المدام اللي كانت هنا...راحت فين؟
ردَّ الممرضُ ببساطةٍ لا تتناسبُ مع اضطرابِ قلبه:
"مشيت ياأفندم."
تجمَّدَ في مكانه، يشعر بأنَّ العالمَ بأكملهِ قد توقَّف..أومأ برأسهِ بتعبٍ وتحرَّكَ بخطواتٍ ثقيلة، والغضبُ والقلقُ ينهشانِ روحه..
خطا عدَّةِ خطواتٍ متَّجهًا للخارج؛ ولكن وقعَ بصرهِ عليها وهي تجرُّ ساقيها بصعوبةٍ نحو مكتبِ راكان على الجهةِ الأخرى..توقَّفت أمام البابِ متردِّدة، وقوفها يحملُ من الانكسارِ ما جعلهُ يشعرُ بوخزةٍ في قلبه، خطا إليها وصدرهِ  ينتفض من  القلقِ مايعجزهُ عن التفكير، تحرَّكَ بخطواتٍ تقطعُ المكانَ كالذي يمشي فوق الجمراتِ ولكنَّهُ لم يصل إليها، فقد دلفت إلى الداخلِ سريعًا ..
رفعَ راكان عينيهِ نحوها فورَ دخولها، دقَّقَ النظرَ بحالتها، فلقد انتابَ جسدها الارتجاف...أشارَ إليها بالجلوسِ دون أن ينبسَّ ببنتِ شفة، وكأنَّهُ يمنحها مساحةً لاستجماعِ أنفاسها..
"اتفضلي يا مدام ميرال." قالها بصوتٍ هادئ، وهو يطلبُ لها مشروبَ ليمونادا، ولم يغفل عن ارتعاشِ يديها الذي لم تستطع السيطرة عليه...ثمَّ رفعَ هاتفهِ واتَّصل:
"دخَّل إلياس السيوفي يابني."
لحظاتٍ ثقيلةٍ مرَّت كالدهر، دخلَ إلياس إلى المكتب، عيناهُ وقعتا على جلوسها المنكسر، و كأنَّها تحملُ جبالًا فوق كتفيها، ارتجافها ونظراتها الحزينةِ كانت أبلغُ من أيِّ كلمات..رفعت رأسها نحوهِ وطالعتهُ بعينينِ تبحثانِ عن ملاذ، عن أمانٍ وقوَّةٍ افتقدتها بعد إنقلابِ حياتها لتحوِّلها إلى الانهيار.
اتَّجهَ إلياس ببصرهِ إلى راكان وتمتمَ باعتراض:
-من فضلك ياراكان باشا ممكن تكمِّل تحقيق بعدين..قاطعتهُ هامسةً بصوتٍ خافت:
"أنا عايزة أخلص من القضية، لو سمحت."
وقفَ إلياس مكانه، بملامح ممتزجةً بين الصدمةِ والقلق،..تطلَّعَ نحو راكان ولم يستمع إلى حديثها:
"ممكن تأجِّل التحقيق لبعدين؟" قالها بصوتٍ حازم، لكنَّهُ محمَّلًا بتوترٍ لا يستطيعُ إخفاءه.
تحدَّثَ راكان بنبرةٍ متَّزنة، لكن كلماتهِ كانت تحملُ وقعًا أثقل:
"أنا مابحقَّقش يا إلياس..راجح طلب تحليلِ الحمضِ النووي، وطبعًا إنتَ عارف دا معناه إيه"
كلماتهِ كانت كصفعةٍ على وجهها..رفعت رأسها فجأةً وشعرت  بأن تصرخ، لكنَّ صوتها خرجَ مهتزًّا، يحملُ وجعًا يهدُّ جبالًا عملاقة:
"وأنا قلت لحضرتك قبلِ كدا...الراجل دا مايربطنيش بيه حاجة..مستحيل يكون أبويا! مستحيل!"
تنفست بعمق وتابعت حديثها المؤلم
-ممكن أكون مختلفة عن الكل، بس يعني أيه أب 
توقَّفت للحظةٍ عن الحديثِ ودموعها تسبقُ كلماتها، ثم أكملت بصوتٍ حاولت أن يبدو قويًا لكنَّهُ انكسرَ تحت ثقلِ آلامها:
"أنا ماليش غير أب واحد...مصطفى السيوفي..لأنُّه الأب اللي ربَّى واحتوى،  الأبّ الحقيقي هوَّ اللي بيعلِّمك الصح من الغلط مش اللي بيخلِّف."
قالتها وهي تحاولُ كبحَ شهقاتها، لكنَّ حزنها الممزوجِ بالألمِ كان أقوى..أغلقت عينيها بقوَّة، وكأنَّها تحاولُ أن تمزِّقَ جفنيها، شهقةٌ عميقةٌ أفلتت منها، ودمعةٌ ساخنةٌ انحدرت على وجنتها  تحرقُ طريقها، ثمَّ نظرت نحو إلياس، وبعينينِ مكسورتينِ تمتمت بصوتٍ ضعيفٍ كالتي تلفظُ آخرَ آنفاسها الأخيرة:
"أنا آسفة يا إلياس...عارفة إنِّي بخذلك للمرَّة المليون."
جهلَ إلياس كلماتها عن أيِّ شيئٍ تتحدَّث، صمتَ ولم يقوَ على الحديث، حتى ثقل لسانه و الكلماتَ تخونهُ أمامَ انهيارها.
استدارت إلى راكان فجأة، وهي تجمعُ بقايا قوَّتها المبعثرة:
"عايزة أقدِّم شكوى في الراجل دا.. بيهدِّدني بجوزي وابني، مش بس كدا، خطفني أنا ووالدتي مرَّة، وكان هيموِّت ابني، لانه للاسف كلامه صح، بيكون الراجل اللي خلفني، وبيكون عم الياس، مش سايبنا في حالنا هو ومراته، حتى أنه ..صمت ثم التفتت إلى إلياس وانهارت دموعها تسيحُ فوق وجنتيها وتمتمت بنبرةٍ متقطِّعة:
-و سرق أوراق مهمَّة جدًا من شغلِ جوزي، وبيهدِّدني بيها، أطالب حضرتك بالتحقيق وتجيب حقِّي وحقِّ جوزي."
كانت كلماتها أشبهُ بطلقاتٍ اخترقت صدرَ إلياس..نظرَ إليها مذهولًا، هزَّةً عنيفةً أصابت كيانه، وعجزَ عقلهِ عن استيعابِ ما قالته، عن أيِّ أوراقٍ تتحدَّث؟ ولماذا أخفت ذلك عنه؟ شيئًا ما يتحطَّمُ داخله، لكنَّهُ لم يستطع النطق...فقط يراقبها، وكلَّ جزءٍ فيه ينهارُ بصمت...
مازالت نظراتها عليه واستأنفت:
-راجح سرق معلومات من جهازك، والأسطوانة اللي حضرتك بتهدِّد بيها رانيا أخدها، وهدِّدني بيهم ياأخضع له، ياإما هيطلَّعك خاين قدَّام جهازك.
-دي مكالمة مش كدا؟.،تساءلَ بها راكان سريعًا..هزَّت رأسها بالنفي وأردفت:
-لا..مش تليفون..بس بعتلي نسخ تصويرية من اللي عنده. 
في تلك اللحظة، صمتٌ أشبهُ بالموت، ويشعر وكأنَّ الجدرانَ تطبقُ على صدرهِ حتى  أصبحَ الهواءُ ثقيلًا، وأنفاسهِ المتقطَّعةِ تحملُ في طيَّاتها معاناةَ التنفس..
جلسَ كتمثالٍ نُحت َمن حجرٍ بارد، بدا وكأنَّهُ يحملُ فوق أكتافهِ جبالًا من الحزنِ والقهر، أغلقَ عينيهِ و صدى كلماتها يخترقُ رأسهِ كالرعد، يدوي بلا توقُّف، يحوِّلُ الصمتَ حولهِ إلى عذاب يستبيح كل مايؤلم
طالعها راكان بذهولٍ ممزوجٍ بصدمة متجمِّدة..لتتوسَّعَ عيناهُ بالدهشة، وحالهِ ينطقُ عشرات الأسئلةِ التي عجزَ عن نطقها، وكأنَّها ألقت قنبلةً فجَّرت كلَّ رأسه.
رفعت رأسها بتردُّد، تنظرُ إلى إلياس وشعورها بأنَّها حملُته أثقالًا من الألم، ليتحوَّلَ وجهها للوحةٍ مشوَّهةٍ بالحزن.. عيناها تورِّمت من البكاء، وارتعشت شفتيها..حاولت النطقَ ولكن صوتها متهدِّج...كلَّ شيءٍ فيها كان يصرخ، لكنَّهُ صراخًا مكتومًا بالألم، لأنَّها تعلمُ أنَّهُ لن يغفرَ لها. 
مازالت تنظرُ إليه بعينينِ غارقتينِ بالدموع، وهمست وكأنَّها تخشى أن تقتلَ ما تبقَّى فيهِ من روح:
-كان لازم أقول كلِّ حاجة، لأنِّي عارفة إنَّك مش هتسكت، وممكن تخسر كلِّ حاجة، أنا خايفة عليك، عجزت ياإلياس"..قالتها بصراخ متناسية أين وجودهما
لكنه  لم يتحرَّك..لم يرفع رأسه..حتى أنفاسهِ بدت وكأنَّها توقَّفت.. كانت كلماتهِ عالقةً في صدره، كالحجرِ الثقيلِ يعجزُ عن دفعه.
حوَّلت وجهها إلى راكان، ونظراتها مليئةِ بالانكسارِ و الضعف..كان يحدِّقُ فيها بنظرةٍ تحملُ مزيجًا من الصدمةِ والشفقة..شهقاتها المرتفعةِ كانت كأنينِ الروحِ المعذَّبة. وقفت أمامهِ بثباتٍ لم تكن تملكهُ قبل قليل، وواصلت بصوتٍ مرتجفٍ ولم تستطع السيطرة على شهقاتها التي  ترتفعُ في الغرفةِ ثمَّ قالت بصوتٍ أقربُ إلى العويل، لكنَّها مملوءةً بإصرار:
"حضرتك عرفت الحكاية كلَّها...وأنا لسة عند كلامي..الراجل دا لو كان أبويا يبقى مجرَّد كلام...ماليش علاقة بيه..أنا متنازلة عن كلِّ حاجة تربطني بيه، حتى لو اتعيَّن ملك على عرش العالم، أنا مش عايزة منُّه حاجة."
توقفت وتقدَّمت خطوةً للأمام، وصوتها ازدادَ ضعفًا لكنَّهُ كان يشبهُ سكينًا يُغرسُ في الصدور:
"جوزي عايز ينتقم بطريقته..عارفة إنِّ دا حقُّه، حقُّه ياخد بتار والدته وأخوه وأبوه،  بس أنا خايفة عليه..هوَّ مش خايف على حياته، الراجل دا مش بني آدم، بلاويه كتيرة..بس هوَّ مصر إنُّه يخسر حياته!"
كانت كلماتها كأنينِ روحٍ ممزَّقة، تهيمُ على وجهها وسطَ العاصفة، تبحثُ عن مخرجٍ لكنَّها لا تجدُ إلَّا المزيدَ من الأشواك..نظرت إلى إلياس للمرَّةِ الأخيرة، كان كلَّ حرفٍ تنطقهُ كالسيف، يقسمُ قلبهِ إلى نصفين..بدا وكأنَّ العالمَ بأسرهِ يحبسُ أنفاسهِ مع كلِّ كلمة... ظلَّت نظراتها عليهِ وكأنَّها تقولُ وداعًا دون أن تنطقَ بها، بينما هو رغم جموده، كان يحترق..كلَّ شيءٍ فيه كان يصرخُ بصمت، يصرخُ بلا صوت، الألمُ قد استنزفَ كلَّ ذرةٍ من وجودهِ في بحرٍ من الوجع...
اقتربت منهُ بخطواتٍ مهزوزةٍ ووضعت كفَّيها على كتفه، ممَّا جعلهُ ينتفضُ من مكانهِ مبتعدًا عنها..أطبقت على جفنيها،  فالآن علمت أنَّها خسرتهُ إلى الأبد، همست بخفوتٍ بعدما شعرت بانقطاعِ أحبالها الصوتية:
-عارفة إنَّك زعلان منِّي...عارفة إنِّي جرحتك، بس خلاص...بكرة الكلِّ هيعرف الحكاية، ولازم كلِّ واحد ياخد حقُّه...يابنِ عمِّي، حتى لو الحق دا هيكسرنا."
توجَّهَ راكان إلى الكاتب ثمَّ أشارَ إليهِ بالخروج وطلبَ من ميرال الجلوس مرَّةً أخرى: 
-اتفضلي مدام ميرال، ثمَّ اتَّجهَ إلى إلياس وأردف:
-اعتبر مفيش كلمة من اللي اتقالت هتتسجِّل، والورق اللي انكتب اعتبره مش موجود، بس أفهم كلِّ حاجة، أنا بصراحة مش فاهم، يعني إنتَ ابنِ عمها، طيب إزاي إلياس مصطفى السيوفي، من حقِّي أعرف أنا بعمل إيه في القضية، راجح الشافعي وإلياس السيوفي..
عايز أعرف كلِّ حاجة.." قالها راكان بصوتٍ هادئٍ لكنَّهُ حازم، وعينيهِ تحاصرها..
بدأت ميرال تروي الحكاية، تتقطَّعُ أنفاسها بين الكلماتِ وهي تتخيَّلُ معاناةَ فريدة  كلَّ لحظةٍ بكاملِ وجعها..تحدَّثت عن وفاةِ جمال وعن التهديدِ الذي أرسلهُ إليها راجح..كانت كلَّ كلمةٍ تسقطُ من شفتيها كجمرةٍ تحرقُ صدرَ إلياس قبل أن تصلَ إلى مسامعِ راكان..أمَّا هو فكان جالسًا بثباتٍ يشبهُ الصخر.
حين انتهت، قالَ بهدوء:
"ممكن تنتظري إلياس برَّة يا مدام ميرال."
نهضت ببطء، بساقينِ لا تقويانِ على حملها، ثمَّ اقتربت من إلياس الذي كان جالسًا كتمثالٍ لا يتحرَّك..كالحاضرِ الغائب، همست بصوتٍ مرتعشٍ بالكاد يُسمع:
"هستناك برَّة..."
التفتَ راكان بنظراتهِ إلى إلياس، وقال بسؤالٍ يشقُّ السكون:
"يعني..إنتَ مش ابنِ سيادةِ اللواء مصطفى السيوفي؟"
أغمضَ إلياس عينيهِ للحظة، يحاولُ كبحَ ذلك البركانِ الذي يكادُ ينفجرُ بداخله، رفعَ رأسهِ ببطءٍ وعيناهُ تلمعانِ بغضبٍ مكتوم، ثمَّ قال بصوتٍ هادئٍ يحملُ في طيَّاتهِ عاصفة:
"حياتي الشخصية...مالهاش أيِّ علاقة باللي حضرتك بتحقَّق فيه يا سيادةِ المستشار."
رفعَ قامتهِ بثقةٍ مستفزَّة، وكأنَّما يريدُ أن يضعَ حدًا لأيِّ محاولةٍ للاقترابِ من أسراره، وأردفَ بنبرةٍ حادَّة:
"الموضوع اللي المدام حكته ملوش علاقة بالقضية..أنا هنا عشان بلاغ محاولة خطفِ ابني، والمساومة على أسهمِ الشركة اللي اشتريتها..دا الملف اللي قدَّام حضرتك، والباقي..كلامها، هيَّ تشهد على اللي يخصَّها، أمَّا القرابة دي... ما تربطنيش بيه حاجة."
صمتَ راكان للحظة، ثمَّ سألهُ بابتسامةٍ غامضة:
"طيب...ليه لمَّا الظابط جاسر الألفي جه يحطّ الكلبشات في إيده، رفضت؟ وقلت: "عمِّي مايرضنيش؟"
اقتربَ إلياس ببطء، واستندَ بكفَّيهِ على مكتبِ راكان، محدِّقًا في عينيهِ بنظرةٍ تخترقُ السكون:
"علشان القصة اللي حضرتك سمعتها دلوقتي..وعدت نفسي محدش هيحطِّ الكلبشات في إيده غيري..لكن للأسف... لسة واخد احتياطاته..كلِّ اللي عملته إنِّي رميتله الطعم...ومستنِّي لحظة سقوطه، يا باشا."
ارتسم على وجهِ راكان ابتسامةً هادئةً لكنَّها تحملُ في طيَّاتها تحدِّيًا واضحًا، وقال بنبرةٍ ساخرة:
"أوه...طلع ظنِّي فيك صح ياإلياس..
عملت كدا علشان تخرَّجهم ويوصلوا لراجح، بس ليه ياترى؟..ماهو كدا كدا معاهم.
-حضرتك ذكي ياباشا وهتعرف لوحدك..
علشان كدا طلبتني بالاسمِ مش صدفة، صح؟"
ابتسمَ إلياس بسخريةٍ مشوبةٍ بالثقة:
"وإنتَ كمان يا راكان باشا، طلعت زي ما بيقولوا عليك...بس ماتنساش اللي قدامك فهد الأمنِ الوطني، مش معنى ساكت لراجح يبقى ضعيف، لا..علشان عايزه يعيش كلِّ لحظة رعب وهوَّ عارف ومتأكد هوصلُّه."
ضحكَ راكان بخفوت، ثمَّ قال:
"لسة الفهد صغيَّر، يا سيوفي..لكن نصيحة منِّي..خاف على مراتك وابنك،  اللعب بالنار ليه تمن كبير."
وقفَ إلياس مكانهِ للحظة، ثمَّ رفعَ عينيهِ بثباتٍ مهيب وقال:
"بكرة هتلاقي مكالمة منهم، وهتسمع خبر عنهم..وقتها هتشوف بعينك مين اللي هيلِّم القضية."
تراجعَ راكان للخلف، وأشارَ بيدهِ نحو البابِ قائلاً بابتسامةٍ خافتة:
"خايف تندم "
ردَّ بنبرةٍ مغموسةٍ بالألم: 
-مش أصعب من إنَّك تلاقي حياتك اللي بنتها هوا ياباشا..
بمنزلِ آدم: 
كانت تُنهي بعض أبحاثها العملية، استمعت إلى رنينِ هاتفها:
-أيوة يارؤى عاملة إيه..استمعت إلى بكائها على الجانبِ الآخر: 
-إيلين أنا محتاجاكي أوي، ينفع تيجي عندي؟..نظرت بساعةِ يدها ثمَّ أجابتها بدخولِ آدم:
-حبيبتي مش هينفع دلوقتي، ممكن بكرة بعد الجامعة..انحنى وطبعَ قبلةً على وجنتها يهمسُ لها: 
-خلَّصي تليفونك أنا برَّة..ابتسمت لهُ تهزُّ رأسها ثمَّ تابعت حديثها مع رؤى:
-رؤى فيه إيه مالك؟..إنتِ بتعيَّطي ليه؟.. 
-عملت مصيبة ياإيلين، وإلياس لو عرف هيموِّتني..نهضت من مكانها وأغلقت البابَ حتى لا يسمعَ آدم حديثهم: 
-عملتي إيه يارؤى؟..ارتفعت شهقاتها 
وقصَّت لها ماصار، ثمَّ تابعت: 
-مش بس كدا، بعد ماكنت عندها روحت مكتبه علشان أكمِّل مخطَّط الشيطانة دي بس مالقتوش، كلَّمتها أقولَّها..قالتلي فيه واحد هيجيلك واشغلي العسكري اللي على الباب هندخل نجيب فيديو خاص بيَّا، الكلام دا من أسبوعين، بعدها عرفت إنِّ ميرال ولدت وإلياس منعني من الخروج وحاطط حارس على باب بيتي، تفتكري ميرال قالت له؟..ولَّا الستِّ دي أخدت حاجة تانية غير الفيديو؟..كلِّ ماأتَّصل بيه مابيردش، اكتشفت أنُّه رفع رقمي من عنده. 
انتفضت إيلين كالملسوعة، وبدأت تسبَّها:
-يامتخلِّفة، أعمل فيكي إيه دلوقتي، إنتي تعرفي إنِّك كدا ممكن تكوني ضرِّتيه، أووف منِّك يارؤى أوف، واللهِ تستاهلي اللي يعملُه فيكي..قاطعهما صوتُ آدم:
-إيلين الأكل برد، قافلة الباب ليه؟.. 
التفتت له وحاولت رسمَ ابتسامةٍ تهزُّ رأسها: 
-حاضر حبيبي، دقيقة وجاية.
استمعت رؤى إلى حديثهما، فاعتذرت لها: 
-آسفة ياإيلين مكنتش أعرف جوزك عندك، مبروووك رجعوكم حبيبتي، روحي شوفيه. 
-هجيلك بكرة تمام.. 
أجابتها على الجانبِ الآخرِ بالموافقة.
عندَ يزن قبل عدة أيام :
ربتت على كتفهِ بعد ذهابِ جاسر: 
-يزن مين اللي كلِّمك وقالك إيه؟..خلاك تعمل كدا..طالعها بنظراتٍ جامدةٍ ثمَّ همسَ بتقطُّع:
-بيخيَّروني بينك وبين إيمان.. 
ضيَّقت عينيها مستفهمةً عمَّا نطق:
-يعني إيه مش فاهمة؟..اتَّجهَ إلى دراجتهِ البخاريةِ دون حديث..وصلَ بعد قليلٍ إلى المشفى، وجدَ أخاهُ فاقَ من نومهِ.. اقتربَ ورسمَ ابتسامة:
-حبيبي عامل إيه؟..نهضَ كريم متَّجهًا إليه: 
-عملت إيه؟..انحنى يقبِّلُ جبينَ أخيه: 
-حمدَالله على السلامة ياحبيبي..
-إيمان ياأبيه، أخدوا إيمان..جلسَ على طرفِ الفراشِ وتساءل:
-معاذ إنتَ شوفت الناس دي في الحارة عندنا؟..هزَّ رأسهِ بالنفي، ثمَّ صمتَ للحظةٍ متذكِّرًا شيئًا: 
-بس أعرف عمُّو اللي كان راكب العربية، الراجل دا بيجي عند عمُّو مرسي بيشتري فول وطعمية..لمعت أعينُ يزن بالأمل، ومسحَ كريم على وجههِ ودقَّاتُ قلبهُ تتسارعُ بقوَّة، منتظرًا حديثَ معاذ بلهفة..ظلَّ يتحدَّثُ إليهم بصوتٍ متعبٍ حتى علمَ مايشيرُ إليه فنهضَ متَّجهًا إلى المكانِ الذي أخبرهُ به معاذ، مع مهاتفتهِ لجاسر. 
مرَّت عدَّةُ ساعاتٍ حتى ظهرَ الرجلُ بسيارتهِ ينادي على صاحبِ عربةِ الفول، ثمَّ أخرجَ شيئًا يغمزُ إليه، دقيقة واحدة وكان جاسر محيطًا بالسيارة.. 
ظلَّ عدَّةِ ساعاتٍ بتحقيقاتٍ مع ذلك الرجل ولكن دون فائدة، ظلَّ يدورُ كالأسدِ الحبيسِ حتى فقدَ الأمل، تحرَّكَ بعدما أُغلقَ الأمل أمامه إلى فريدة، وصلَ إلى فيلَّا السيوفي وطلبَ مقابلةَ فريدة، قصَّ لها ماصار.. 
-طلَّقها يابني، وإنقذ أختك، لو الموضوع دا وراه راجح مش هتعرف توصلَّها، وإنتَ كنت متجوِّزها علشان تنتقم..همَّا سبقوك بخطوة، دا عمل كدا وهوَّ محبوس، يعني أقلِّ حاجة هيقولها اثبت.. أنا تحت إيد الحكومة، ودا كان ظابط وعارف بيعمل إيه، قاطعهم دخولُ إلياس بوجهٍ كالصخر، وزَّعَ نظراتهِ بينهما فاقتربَ منهم: 
-أهلًا ياباشمندس، أكيد دلوقتي عرفت ليه كنت عندك..هزَّت فريدة رأسها تنفي معرفته، ضيَّقَ عيناهُ متسائلًا وأشارَ باستخفاف:
-لا يامدام فريدة أوعي تقوليلي إنِّ المهندس ميعرفشِ إنِّي ابنِ عمُّه، ولَّا الأستاذة العظيمة مراتي بتكون أخته.. 
صدمة سحبت أنفاسهِ وهو يتمتمُ كالمجنون:
-مين ابنِ عمِّ مين؟!وأختِ مين؟!!أنا مش فاهم حاجة، يعني إيه؟.. 
صعدَ دون حديثٍ فوضعهِ لايتحمَّلُ أيَّ حوار، نادتهُ فريدة: 
-حبيبي إيه اللي حصل؟..ميرال عملت إيه ؟!..تحرَّكَ وكأنَّهُ لم يستمع إلى حديثها..
كانت عيناها تتابعانِ ابنها الذي يصعدُ الدرجَ بجسدٍ أثقلته الهموم..
التفتت على صوتِ يزن فجأة، نظرت إليه، لكنَّ عقلها كان غارقًا في ابنها وحالته..ماذا حدث؟ هل وافقت ميرال على ما قرَّرته؟ أم اقتنعت بحديثِ أرسلان؟
أعادها صوتُ يزن إلى الواقعِ بصوتٍ جافٍّ ممتزجٍ بنفاذِ صبر:
أنا جيت لحضرتك علشان أعرف أوصل لراجح، مش علشان تلخبطي دماغي.
شعرت بأنفاسها تتسارع، وعجزت عن الرد...لم تكن تعرف بماذا ترد، هل تخبرهُ أن يطلِّقَ زوجته؟ أم تتركهُ ليحاربَ وحده؟ ابتلعت غصَّتها واقتربت منه، تمسكُ كفَّيهِ كأنَّها تتوسلُ إليه:
تعال، هقولَّك حاجة وبعدها قرَّر بنفسك، حضرة اللواء في الطريق، وهوَّ هيقولَّك تعمل إيه.
بعد دقائق، استمعَ يزن إلى حديثها بوجهٍ خالٍ من التعابير...حاولت أن تسيطرَ على ارتباكها وهي تستطرد:
-يعني رؤى وميرال اخواتك 
انا عارف برؤى، بس مرات إلياس دي اول مرة اعرف، وازاي رؤى وصلت لحضرتك، أنا كل اللي اعرفه، أنه كان متجوز واحدة ممرضة جاب منها ولد وبنت، بس معرفش اسمائهم، ازاي عرفتيها... استطردت بصوتٍ يفيضُ بالألم:
رؤى جات لي وهي عندها خمس سنين... واحدة سابت البنت قدَّام باب الملجأ وهربت، ما شفتش اللي سابتها، لكن البنت كان معاها سلسلة فضة مكتوب عليها اسم "رؤى".
تنهَّدت وهي تسترجعُ الذكرياتَ المؤلمة:
مرَّ بعد جيتها للملجأ حوالي أكتر من عشر سنين، بعدها جالي ظرف للدار..كان الظرف من سمية، مرات أبوك..فيه أوراق رؤى وصورها، هيَّ كانت شافتني صدفة في نادي كانت شغالة فيه ممرضة...قبل ماتجيب البنت الدار، فلمَّا تعبت وعرفت إنَّها عندها سرطان، سألت عن عنواني، وسابت البنت قدام الملجأ...وبعد سنين جالي الظرف اللي يخصِّ كلِّ حاجة لرؤى، رحت المستشفى اللي كانت محجوزة فيها زي ماهيِّ كانت كاتبة في الجواب، بس عرفت من سجلِّ المستشفى إنَّها ماتت في مستشفى حكومي بعد معاناة مع المرض.
نظرَ يزن إليها بعينينِ غائمتين:
-والولد؟ أخوها فين؟
ارتعشت يدها وهي تكملُ بصوتٍ مكسور:
- طارق...راجح خطفه منها..كانت خايفة على البنت يفسدها زي ما هو عمل مع طارق، علشان كدا جابت لي البنت، بس هيَّ بعتتها مع جارتها اللي كانت بتهتمِّ بالبنتِ بمرضها..
-طارق المحبوس في السجن؟
رفعت نظرها إليه بدهشة:
"شكلك عارف كلِّ حاجة."
قبل أن تكمل، قطعَ الحديثُ دخولِ مصطفى، استدارَ يزن نحوه بوجهٍ متألِّمٍ.. أشارت فريدة لمصطفى قائلة:
- دا يزن، أخو ميرال أقعد، اسمعه..وأنا هعمل لك قهوة.
بعد ساعات، وصلَ يزن إلى منزله..كانت رحيل  تنتظره، عيناها مليئتانِ بالتوترِ والقلق. اقتربت منه متلهِّفة:
"كنت فين؟ عملت إيه؟"
أشارَ إلى حقيبتها، وردَّ بنبرةٍ ثقيلةٍ خاليةٍ من المشاعر:
-تعالي أوصَّلك..مالوش داعي وجودِك هنا..
وضعت يدها على ذراعهِ محاولةً استيعابَ كلماته، ثمَّ قالت بصوتٍ متقطِّع:
"همَّ عايزين إيه يا يزن؟"
ابتلعَ غصَّتهِ بصعوبة، وحاولَ السيطرةَ على نفسه، لكنَّهُ لم يستطع منعَ نبرةِ الألمِ بصوته:
"بيخيَّروني بينِك وبين أختي."
شعرت بقبضةٍ تعتصرُ صدرها، ثمَّ شهقت شهقةً عاليةً قبل أن تتساقطَ دموعها كالشلال...حاولَ السيطرةَ على نفسهِ حتى لا يضمَّها إلى صدرهِ يدفنُ كلَّ مايشعرُ به في أحضانها، ولكنَّها لم تنتظر تردِّده، فرفعت عينيها المليئتينِ بالألمِ نحوه، ثمَّ ألقت بنفسها في أحضانه، تبكي بشهقاتٍ مرتفعة:
"اسمع كلامهم يا يزن، همَّ عرفوا يلعبوا عليك صح، أنا عارفة مين بيعمل كده."
كانت كلماتها كالخناجرِ تخترقُ قلبه، تسارعت دقَّاتهِ بعنفٍ وشوقٍ جارف، ضمَّها إليهِ لأوَّلِ مرَّة، عانقها بشدَّةٍ كأنَّما يحاولُ أن يحميها من عالمٍ ظالمٍ.. كانت أضلاعهما تنصهرُ في حضنٍ واحد، وكأنَّما يتشاركانِ ألمًا واحدًا، وعزاءً واحدًا..دفنَ وجههِ في شعرها وهو  يبحثُ عن الأمانِ الذي افتقدهُ منذ افتقادِ أخته..
تراجعَ قليلاً، واحتضنَ وجهها بين كفَّيهِ وهمسَ بنبرةٍ تقطرُ ألمًا:
"هلاقيها...الظابط بيدوَّر، وفيه حد مهم عمل اتصالاته."
لكن هزَّت رأسها بالنفي، مع دموعها التي انهمرت على وجنتيها، و همست بصوتٍ متهدِّج:
"مش هيعملوا حاجة يا يزن...دول أخدوها من بيتك، همَّ عايزين أملاك بابا، تخطيط شيطاني."
قبَّلَ جبينها بهدوءٍ مؤلم، ثمَّ وضعَ جبينهِ فوق جبينها، وأردفَ بنبرةٍ جعلها متَّزنةً رغم الأعاصيرِ التي تعصفُ بداخله:
"مش هتخلَّى عنِّك، حتى لو أخدوا روحي..
لمعت عيناها بسعادةٍ باهتةٍ وسط سيلِ دموعها..لم تتمالك نفسها، حاوطت عنقه بشغف، وقبَّلت وجنتهِ بارتعاشٍ وهي تهمس:
"طلقني يا يزن...أنقذ أختك قبلِ فوات الأوان."
تراجعَ قليلاً، محدِّقًا في عينيها بذهول، وكأنَّ كلماتها صاعقةً مزَّقت قلبه..للحظة، كان الزمنُ متوقِّفًا بعجزه، دقائقَ مرَّت عليهما ونظراتهما تحكي ماتخفي قلوبهما، إلى أن قطعَ صمتهم المتألِّم، وانحنى يهمسُ إليها ببعضِ الكلماتِ التي جعلت سيقانها تتلاشى، ليحاوطَ خصرها دون تفكيرٍ ويحتضنُ ثغرها لأوَّلِ مرَّةٍ كأنَّ هذه القبلةُ نجاتهِ من الغرقِ عمَّا سيفعله، لحظاتٍ بل مرَّ وقتٌ ولم يشعرا بنفسهما، تركها رغمًا عنه، واحتضنَ كفَّيها متَّجهًا إلى الخارج
بعدَ دقائق، كان يقفُ أمام فيلا عائلتها،  ترجَّلَ عن دراجتهِ البخارية، وخطا بجوارها بخطواتٍ ثقيلةٍ حتى دخلا حيث تنتظرهما والدتها ورانيا..
وقفت أمامه، تحاولُ السيطرةَ على دموعها، لكنَّ صوتَ بكائها خانها، فانهمرت  كالأمطار..رفع عينيهِ نحوها، ملامحهِ جامدةً كالصخر، لكنَّ صوتهِ انكسرَ رغم صلابته:
"وصَّلتك بيتك زي ما أخدتك منُّه أوَّل مرَّة...إنتِ طالق يا راحيل."
ثمَّ أضافَ بنبرةٍ ثقيلةٍ متقطِّعة:
"ورقتك هتوصلِّك في أقرب وقت."
استدارَ بسرعةٍ قبل أن يرى نظراتها التي مزَّقت قلبه، محاولًا أن يكبحَ دموعهِ التي غدرت به، ومع كلِّ خطوةٍ يبتعدها، كان يقسمُ في داخلهِ أن يحرقَ كلَّ من تجرَّأ على إسقاطِ دموعها، أن يحوِّلَ ظلمهم إلى رماد، مهما كان الثمن..
باليومِ التالي، سيارةٌ توقَّفت أمام المنزلِ وألقت إيمان جسدًا شاحبًا وكأنَّ روحهِ سُلبت منه. 
مرَّت عدَّةَ أيامٍ وعادَ أرسلان من الخارج، 
بمنزلهِ كانت تغطُّ بنومٍ عميقٍ وكأنَّها غائبةً عن الوعي، تسلَّلَ إلى الغرفةِ مستغربًا ظلامَ المنزل، بحثَ عنها بلهفةٍ ودقَّاتٍ عنيفة، وجدها غارقةً بنومها، خطا إليها بهدوء، حتى لا يفزعَ نومها، جلسَ على حافَّةِ الفراش،  
ثمَّ انحنى يطبعُ قبلةً فوق وجنتيها..
رفرفت أهدابها بعدما تسرَّبت رائحتهِ إليها: 
-أرسلان..داعبَ وجنتيها:
-نايمة ياكسولة، وأنا اللي كنت جاي وشيطاني بيرسم..أستغفرُ الله العظيم،  
اعتدلت بنومها ومازالت تشعرُ بثقلِ رأسها فتمتمت: 
-وحشتني أوي على فكرة، بقالك ساعة بترغي، حتى ماقولتش يابتِّ خدي بوسة...توسَّعت عيناهُ بذهولٍ يطالعها بصدمة، ثمَّ تجوَّلَ بعينيهِ بالمكانِ يردف:
-مراتي كانت هنا، إنتي مين يابنتي؟..لكمتهُ بصدرهِ وهي تقهقهُ على حركاته.. 
فجذبها لأحضانهِ بضحكاتهِ قائلًا:
-غرام انحرفت يابشر، بتقولِّي هات بوسة..لكزتهُ تدفنُ وجهها بحضنه: 
-بس بقى واللهِ هزعل منَّك، معرفشِ مالي أصلًا بقيت أخبَّط كتير..قهقهَ وهو يدفعها على الفراش، ثمَّ انحنى يحاوطها بذراعيه: 
-خبَّطي ياروحي، أهمِّ حاجة في التخبيط،  التخطيط كيف تعشقينَ زوجكِ في خطوةٍ واحدة. 
انكمشت ملامحها باستفهام، لم يدعها لحظةً للتفكيرِ ليخطفها إلى عالمهِ الذي لا يقتربَ منهُ سواها وحدها..
بعدَ عدَّةِ ساعاتٍ اتَّجهَ إلى قصرِ الجارحي، بعد اتصالِ صفية به وطلبت منهُ الحضور، ولجَ للداخلِ ليجدَ فاروق بانتظاره، اقتربَ منه وانحنى يطبعُ قبلةً فوق كفَّيهِ بحنان:
-حبيبي وحشتني، رفعَ كفَّيهِ يربتُ على كتفه:
-وإنتَ كمان ياحبيبي، رفعَ عينيهِ إلى والدهِ بفرحة، أبيهِ عاد يتحدَّثُ مرَّةً أخرى، جثا على ركبتيهِ أمامهِ وعيناهُ تشعُّ بالسعادةِ والحبور:
-بابا حبيبي، حضرتك رجعت تتكلِّم تاني؟.. نهضَ فاروق من مكانهِ يتحرَّك، رغم خطواتهِ الثقيلةِ إلَّا أنَّهُ حرَّكَ قدمه، نظراتٌ فقط، نظراتٌ تعني الكثير والكثير من عشقِ هذا الرجلِ لابنه، وعشقِ الولدِ لأبيه، من قال أنَّ الأبوَّةَ بارتباطِ الاسم، الأبوةُ إحساسًا وحنانًا ومسؤولية..ضمَّةٌ شاهقةٌ من فاروق إليه، يضمُّهُ بقوَّةٍ لأحضانهِ وهو يردِّد:
-كنت عارف إنَّك ابنِ حلال ياحبيبي، ربِّنا يخليك ليا يارب، خرجَ من حضنِ والدهِ يزيلُ دموعهِ بحنانٍ قائلًا:
-أنا فداك يابابا، أينعم أنا مش ابنك من دمَّك، بس عمرك ماحسِّستني بكدا، دايمًا كنت ليَّا درع الأمان، أيوة منكرشِِ ليا أب تاني، بس أنا معرفوش ومأخدتش منُّه غير ذكراه وبس، وأكيد مش هيزعل منِّي، لأنَّك أب وتستاهل كلِّ حاجة حلوة، أنا فعلًا ربنا بيحبِّني.
احتضنَ فاروق وجههِ وطبعَ قبلةً فوق جبينه: 
"ربنا يباركلي فيك ياحبيبي"
قاطعهم رنينَ هاتفه..تراجعَ يزيلُ دموعه:
-ينفع كدا خلِّتني أعيَّط، وأنا مش بعملها كتير..ربتَ على كتفهِ ثمَّ أشارَ إلى هاتفه:
-شوف مين..تراجعَ بعيدًا: 
-أيوة ياميرال. 
-إنتَ رجعت إمتى؟  تحرَّكَ للخارجِ بعدما استمعَ إلى نبرتها الحزينةِ وأجابها:
-أنا جايلِك، عشر دقايق وأكون عندك، قالها واتَّجهَ إلى سيارته، رافعًا هاتفه:
-غرام أنا رايح لميرال، لازم أشوفها ضروري..
عند رانيا 
جلست أمام المرآة تنظر إلى نفسها بسعادة تتذكر الماضي، ومافعلته بفريدة، جذبت هاتفها وتحدثت 
-أيوة ياباشا، عملت ايه لراجح..أجابها قائلًا:
-الموضوع المرة دي تقيل يارانيا، بس لو عايزة نخرجه نخرجه، بس التمن صعب 
توقفت تتلاعب بخصلاتها، ثم جلست على الفراش وهمست بنبرة ناعمة:
-متنساش أنه جوزي ياباشا، ولازم اقف جنبه، وبعدين هيخلص من اللي واقف في زوركم 
نفث تبغه وتوقف ينظر إلى المساحة الشاسعة قائلًا:
-رانيا راجح كارت محروق مبقاش ينفعنا، احنا مش قتلناه علشان خاطرك، خلصي بس موضوع بنت العامري، لازم نسيطر على الشركة بأي طريقة 
-والتمن ياباشا
-عايزة ايه يارانيا ..مطت شفتيها بتفكير مصطنع ثم تمددت على ظهرها:
-عايزة فريدة الاسيوطي تكون تحت رجلي ياباشا، شوفو هتعملوها ازاي، وكمان بنتي وابنها يكونو عندي بكرة بالكتير، وهي متنازلة عن جوزها، وجوزها لازم يدخل السجن، قدامكم ورق يلف المشنقة حول رقبته مش السجن بس 
-دي طلبات ولا أوامر يارانيا 
صمتت لحظات ثم اردفت بنبرة أنثوية ناعمة:
-دا العشم في اخلاصي لحضرتك ياباشا، وانت عارف رانيا دايمًا في الخدمة... ارتفعت ضحكاته قائلًا
-منتظرك بالليل يارانيا، عايز مساج من بتوع ليال الانس 
-عيوني ياباشا
بمكانًا اخر، ألقى السماعة، يبصق عليها بعدما استمع الى الحديث، ثم اتجه إلى شريف
-وصلت لأيه 
-كل حاجة ممسوحة ياإلياس، دا لعب متقن ..زفر حادة أحرقت جوفه، وذهب ببصره للبعيد وهو يهمس 
-لا فيه طريقة علشان اوصل للخاين، بس المهم اسمعني ونفذ اللي هقوله بالحرف الواحد..قص له ما يريده
فتطلع إليه باعتراض 
-بس كدا ممكن حياتك تتعرض للخطر..هز رأسه قائلًا:
-سبها لله، الموضوع دا محدش يعرفه، حتى بابا يا شريف، اتعلم تلم لسانك مش تفتي عليا علشان هقصه قريب
-هو خايف عليك ياإلياس، حمحم قائلًا:
-فيه حاجة كمان..نظر إليه منتظر حديثه، فنطق قائلًا:
-راكان البنداري ..ضيق عيناه منتظر باقي حديثه 
-بعت حد بيت مدام ميرال، بس الصراحة معرفش المدام تعرف ولا لأ
اومأ له ينقر بأصابعه على باب السيارة قائلًا:
-كنت مستغرب سكوته، أصله ديب كبير ومش هيعدي الموضوع بالساهل
-أيوة ياالياس بس متنكرش أنه ماعملش حاجة بكلام مدام ميرال 
تنهد بمرارة واردف بنبرة باردة:
-كفاية اللي عرفه، المهم انزل كمل شغلك، وخلي بالك، وزي ماقولت لك اللي يسألك عن حاجة احنا متخانقين، عايز الجهاز كله يعرف أننا متخانقين وأنا بشك فيك 
-اعتبره حصل يابص 
بعد دقائق استمع الى رنين هاتفه، لمح اسمها ينظر شاشة هاتفه، ولكنه لم يعريه، رفع الهاتف واتصل بمربية ابنه
-ايه الاخبار الولد كويس
-زي الفل ياباشا، بس المدام مابتخليش حد يهتم بيه غيرها
-تمام عينك عليه
بمنزل ميرال ..
بعدَ فترةٍ كان أرسلان جالسًا بمقابلتها، يستمعُ إلى ماصارَ في تلك الفترة، دفعَ المقعدَ بقدمهِ بغضبٍ وثارَ هاتفًا:
-إحنا متفقناش ماتجبيش سيرة المكتب دي، دا إهمال ياغبية وفيها سين وجيم، وطبعًا إلياس اتجنِّن؟..
هزَّت رأسها بالنفي وتمتمت بنبرةٍ منكسرة:
-لا..من يومها مابكلمنيش، حتى يوم ماخرَّجنا يوسف من المستشفى ماما فريدة اللي كانت معايا.
مسحَ على وجهه بعنفٍ وحاولَ التفكير، تذكَّرَ عدم عودةِ إسحاق قبلَ أسبوع..رفعَ نظرهِ إليها متسائلًا: 
-وراجح فين دلوقتي؟..
-محبوس، بس عرفت من مصادري سهل أنُّه يخرج لو التحليل كان في صالحه..
أومأ لها وهو يضغطُ على أعصابه، تذكَّرَ شيئًا وتساءل:
-ورانيا محاولتشِ بعد كدا تكلِّمك تاني؟..
هزَّت رأسها قائلة:
-من وقتها ماعرفشِ عنها حاجة..نهضَ من مكانهِ وعيناهُ عليها: 
-غبية يابنتِ عمِّي، واحمدي ربنا إنِّ إلياس معملشِ فيكي حاجة لحدِّ دلوقتي، دا ظابط أمنِ دولة، يعني كلِّ خطوة بحساب، وحضرتك روحتي فضحتيه، قولت لك وأكِّدت عليكي تقولي اللي اتَّفقنا عليه..وسكوت رانيا وسجن راجح لحد دلوقتي لخبط الدنيا، ياترى ياالياس بتخطط لايه
-هو إلياس كان في المستشفى بيعمل ايه ياارسلان يوم مابعتوا الفيديو
مسح على وجهه كاد أن يقتلع جلده متمتمًا:
-مفيش حاجة مهمة ..المهم انت غلطي غلط كبير اوي 
توقَّفت بمقابلته: 
-أستنَّى لمَّا يقتلوه، أخوك مُصر أنُّه يموِّت راجح. 
وصلَ إليها بخطوةٍ يقبضُ على ذراعها بقوَّة:
-أنا ماموتوش علشان الموت أرحم له، استني واتفرجي هعمل فيه إيه، أخلَّص بس من اللي في إيدي..
-يبقى جهِّز كفنك يابنِ عمِّي..دفعها بقوَّةٍ حتى سقطت على المقعد، وانحنى يحدقها بنظراتٍ نارية:
-مفيش حد بيموت قبلِ عمره ياأستاذة ميرال، أقدارنا محسوبة، والأسباب متعدِّدة، المهم أيِّ حاجة لو صغيرة عرَّفيني..قالها واستدارَ متحرِّكًا للخارجِ تأكلُ خطواتهِ الأرض، كما تأكلُ النيرانُ سنابلَ القمح.. 
باليوم التالي : 
ذهبت رؤى إلى فيلا السيوفي بعد محاولاتٍ عديدةٍ من فريدة لإقناعِ إلياس بخروجها من منزلها إلى الفيلا، ولكنه رفض باستماتة، فاتجهت إلى مصطفى الذي أمر حارسها بخروجها
ترجَّلت من سيارةِ الأجرة بدخولِ سيارتهِ إلى الحديقة، توقَّفت وانتظرت وصوله، ترجَّلَ متَّجهًا إلى وقوفها يشيرُ إليها: 
-واقفة كدا ليه، وازاي خرجتي من غير أذني، فركت كفَّيها تبتعدُ بنظراتها عنه: 
-جاية علشان أتكلِّم معاك، مش عارفة أوصلَّك..لوى شفتيهِ بابتسامةٍ ساخرة: 
-ولَّا جاية تخطبيني من أمِّي، يابنتي لو وقفتي قدامي من غير هدوم مش هتهزي فيا شعرة، ماتفكريش ممكن افكر فيكي، حتى لو طلقت ميرال، مستحيل ارتبط بواحدة زيك؟..ارتجفَ جسدها من قسوةِ كلماته
-ليه..؟!، اقتربَ منها وقبض على ذراعها بقوَّةٍ حتى شعرت بانكسارها وهمسَ بفحيح:
-متخلنيش أكرهك في اليوم اللي احترمتك فيه، كنت بتعامل معاكي على إنِّك بريئة مش واحدة قذرة.. 
-إلياس اسمعني..دفعها بقوَّةٍ حتى سقطت على الأرضيةِ الصلبة، لتتأوَّهَ بخفوت، انحنى بجسدهِ منها واستطردَ حديثهِ وهو يجزُّ على أسنانه: 
-لو قرَّبتي من مراتي هحرقك يارؤى، مجربتيش ناري، إيَّاكي ثمَّ إيَّاكي تقرَّبي منها.. 
-مش أنتوا هتطلَّقوا؟..
-اخرسي..صرخَ بها ممَّا جعلَ فريدة تخرجُ على صوته، ركضت إلى وقوعِ رؤى تنظرُ إليها بأسى وأردفت توبِّخه:
-إنتَ خلاص مبقاش حدِّ قادر عليك، قومي ياحبيبتي تعالي معايا..
-استني عندك...صاحَ بها بنبرةٍ غاضبةٍ واقتربَ وعيناهُ ترمقها بنيرانٍ جحيمية:
-إنتِ مش جيتي علشان تشوفيني، وقولتي الكلمتين، يالَّه ارجعي على بيتك وإيَّاكي أعرف إنِّك خرجتي منُّه، ولا كلِّمتي حد..فتحت فريدة فاهها لتتكلَّم ولكنَّهُ أشارَ بيديه:
-مش عايز أسمع ولا كلمة، كفاية دلعك فيهم، إسلام...صاح بها ليقتربَ إسلام المتوقِّفَ على بعدِ خطواتٍ يشاهدُ المشهدَ بأسى، هو يعلمُ قسوةِ 
أخيه، ولكن لايعلم ماالذي فعلتهُ لتجني هذه القسوة..دقيقةٌ واحدةٌ وكانت بسيارةِ إسلام وعيناها تذرفُ دموعَ الكسرةِ بشهقات..اقتربت منهُ فريدة تهزُّ رأسها بالأسى:
-ودي ذنبها إيه يابني علشان تعاملها كدا؟..استدارَ إلى سيارتهِ وهو يتمتم:
-ذنبها إنَّها حاملة دمِّ أبوها الفاسد، واللهِ لأنضَّفه من شوية أغبية، ركضت خلفهِ تتشبَّثُ بذراعه:
-إلياس إنتَ وعدتني مش هتعمل حاجة في ميرال مش كدا ياحبيبي؟.. 
طالعها باستخفافٍ ثمَّ استقلَّ السيارةَ وتحرَّكَ متَّجهًا إليها، عشرونَ يومًا لم يراها بهما، منذ آخرَ مقابلةٍ لهم بمكتبِ راكان..وصلَ بعد فترةٍ وترجَّلَ من سيارتهِ متحرِّكًا للداخل..
بالأعلى كانت تجلسُ أمام مهدِ طفلها، تغنِّي له بلحنٍ خافتٍ يفيضُ دفئًا، وكأنَّ صوتها يحكي قصةَ حبَّها...و عيناها تنحتُ ملامحهِ البريئة، التي تشبهُ والده، تذكَّرت حديثَ فريدة عن إلياس وهو بعمره، ابتسمت وهي تحرِّكُ المهدَ بخفَّة، حتى يغفو بسلامٍ..
قطعَ وصلةَ شغفها بطفلها رائحةِ زوجها، دارت نحوهِ سريعًا بعدما استنشقت رائحته، وعيناها تبحثانِ عنه بنبضِ قلبها،  نهضت من مكانها ومازالت تحتضنهُ بعينيها، هنا ضعفت بعدما تعلَّقت الأعينُ ببعضها ورغبةً سيطرت بكلِّ جوارحها أن تلقي نفسها بين ذراعيه، أن تختبئَ في حضنه، تخبرهُ عن كمِّ اشتياقها..لكن جسدها خانَ إحساسها و ظلَّت بمكانها، بعدما لمحت جدارَ الجفاءِ الذي بدا واضحًا في كلِّ حركةٍ منه..
تقدَّمَ ببطء، خطواتهِ ثقيلة، يشعرُ بعدمِ قدرتهِ على الحركةِ نحوها..فقلبهِ وعقلهِ يصفعهُ بقوَّةٍ بعدما دعست على كرامته، خطا وعيناهُ تحتضنُ نومَ طفلهما.. 
ابتسمت بارتباك، محاولةً أن تخفِّفَ من وطأةِ الصمت القاتل:
-لسة فاكر تيجي؟..خطا إلى المهدِ و تجاهلَ حديثها حتى شعرت بطعنةٍ في كبريائها..ولم يرحم حزنها  ليمرَّ بجوارها وكأنَّها غير موجودة، واتَّجهَ نحو الطفل..انحنى ببطء، وطبعَ قبلةً طويلةً على جبينهِ الصغير، ومرَّرَ إبهامهِ على وجهه..همسَ له بحنانٍ أبويٍ وكأنَّ قناعَ الجمودِ سقطَ لينطقَ بنبرةٍ حانية:
-حبيب بابي، ريحتك وحشتني، آسف انشغلت عنَّك، بس أوعدك مش هبعد تاني..
تجمَّدت مكانها، وعيناها تفيضُ من الألمِ والحزنِ معًا،. أرادت أن تصرخَ وتلقي نفسها بأحضانه، فلقد ماتت قهرًا ببضعةِ أيامٍ كيف ستعيشُ بعيدةً عنه، عيناها لم تفارق جسدهِ الذي ظهرَ نزولهِ لبعضِ الوزن، أطبقت على جفنيها بقوَّةٍ آلمتها ليكسرَ الصمتَ طرقاتٍ على الباب، تلاها دخولُ المربية التي انحنت باحترام:
"أفندم يا باشا؟"
رفعَ يدهِ وأشارَ إلى الطفلِ دون أن ينظرَ إليها:
"جهِّزي يوسف هنمشي"
كانت كلماتهِ كصفعةٍ قويَّةٍ على وجهها، فتحت عينيها في ذهولٍ وكأنَّها لم تستوعب ما قال..رأتهُ يتحرَّكُ نحو الباب دون أن يلتفت، وكأنَّ كلَّ ما بينهما لم يكن يومًا موجودًا.
هرعت خلفه، خطواتها متعثِّرة، وكلماتها تخرجُ متقطِّعةً من بين شفتيها المرتعشتين:
"ليه؟ رايح فين بالولد؟!"
توقَّفَ عند الشرفة، لكنَّهُ لم يلتفت إليها...ظلَّ يواليها ظهره، اقتربت أكثر، وضعت كفَّيها المرتعشتينِ على كتفيه، محاولةً أن تستجمعَ شجاعتها وسطَ هذا الانهيار:
"إلياس... "
لكنَّها فوجئت بردِّ فعلٍ كالصاعقة، إذ انتفضَ مبتعدًا عنها كأنَّها أحرقت جلده. نظرَ إليها بعينينِ حادتين، وقال بصوتٍ كالسيف:
" ما تقربيش منِّي من غير إذني!"
ثمَّ أشارَ بيدهِ نحو المهدِ بحركةٍ حاسمة، وكأنَّها إعلانُ حرب:
"هاخدوه بيت أبوه..ابني هيطلع راجل،  مش هسمح إنُّه يعيش تحت تربيِّتك الضعيفة."
كانت كلماتهِ أشبهُ بسكاكينَ تنهالُ على قلبها بلا رحمة..ارتعشت شفتيها، وانحدرت دموعها كالسيل..لم تحاول كبحها هذه المرَّة، فقد كانت كلماتها أثقلُ من أن تُحتمل:
"يعني إيه؟! إزاي تقدر تعمل كده؟!"
نظرَ إليها نظرةً طويلة، مليئةً بالبرودِ والمرارة، ثم نفث دخانَ سيجارتهِ بهدوءٍ قاتلٍ وقال بابتسامةٍ مُرَّة:
"يعني يوسف مش هيعيش معاكي..إنتِ مش مؤهلة، وأنا أقدر أخده بسهولة جدًا، وإنتِ عارفة ده."
تراجعت خطوةً للخلف، وكأنَّ الأرضَ اهتزَّت تحت قدميها..شعرت بأنَّها تغرقُ في ٍبحر من العجز، والألمُ يخنقُ أنفاسها. همست بصوتٍ مرتجف:
"إلياس...هوَّ محتاجني..أوعى تعمل فيَّا كدا."
لكن ردِّهِ كان أشدُّ قسوةً ممَّا توقَّعت، حيثُ قال بجمودٍ كالصخر:
"حنانك؟ يوسف مش هيحتاجه..ابني عايزه راجل، مش يجري على الغُرب يحميه علشان أبوه ضعيف."
ظلَّت واقفةً مكانها ، مكسورة، منهارة، تراقبُ تحرُّكهِ وهو يبتعدُ دون أن يلقي نظرةً واحدةً إلى الوراء..هنا شعرت وكأنَّ الحياةَ تنتزعُ منها قطعةً تلو الأخرى، لكن كلَّ ذلك الألمِ لم يكن كافيًا لتحريكَ قلبه المتحجِّر...إذ بها تصرخُ بكلماتٍ جعلتهُ يستديرُ إليها، اقتربت منه وعيناها تصدرُ أنينَ قلبها: 
-ابني حياتي ياإلياس، لو اخدته يبقى بتموِّتني، مستحيل أسيبك تاخده، مستحيل..قاطعَ حديثهم وصولُ الخادمة: 
-فيه واحد تحت ياباشا بيقول عايز حضرتك..أومأ لها ثمَّ أشار:
-قدِّمي له حاجة وأنا نازل ..ثمَّ وصلَ إليها بخطوةٍ واحدةٍ يدفعها بقوَّةٍ إلى الداخل حتى لا أحد يستمعُ إلى حديثهما..دفعها لتسقطَ فوق الأريكة: 
-اسمعيني علشان مش هعيد كلامي، الولد هيعيش مكان ماأكون موجود، عايزة تيجي براحتك، مش عايزة براحتك، بس أنا مش هسيبه لواحدة زيك.. 
توقَّفت مقتربةً منه: 
-مش هتقدر ياإلياس، القانون معايا، شوف هتاخده إزاي..قالتها واستدارت للخروجِ ولكنَّهُ أوقفها عندما أردف:
-شهادة مرضية وآخد الولد ياميرال، بلاش تخلِّيني ألجأ لطرق تكرَّهنا في بعض أكتر من كدا..
-تكرَّهنا بعض...ردَّدتها بذهول، تشيرُ إلى نفسها:
-كرهتني ياإلياس؟! رمتني خلاص..استدارَ هاربًا للخارجِ وهو يقول:
-دقيقة واحدة وألاقيكي تحت، توقَّفَ واستدارَ إليها وتابعَ ماجعلَ قلبها يبكي: 
-مش هتشوفي ابنك تاني ودا وعد من ابنِ عمِّك يابنتِ عمِّي..قالها بابتسامةٍ ساخرةٍ، ركضت إليه وتشبثت بكفيه
-مش هتاخد الولد مش كدا ..نزفت روحه من دموعها ورغم ذلك حاول الثبات أمامها 
-لو تعرفي حبيتك قد أيه مكنتيش عملتي فيا كدا، دنت حتى اختلطت انفاسهما 
-عملت كدا من خوفي عليك، تراجع بعيدًا، يشير إلى ثيابها
-غيري هدومك وانزلي ياميرال، مابقاش ينفع ...قالها ونزلَ للأسفل..
وجدَ يزن واقفًا على بابِ المنزل، مسحَ على وجههِ بغضبٍ يشيرُ إليه بالدخول:
-لا واللهِ ودا احترام وهبل زي اللي متجوِّزها، دلفَ للداخلِ وعيناهُ تتجوَّلُ بالمكان، حمحمَ معتذرًا وقال:
-محبتش أدخل من غير إذن، استمعَ الى خطواتها على الدرج..وصلت إلى وقوفهم تحدِّقُ في يزن بجهل..
-أهلًا ميرال..ضيَّقت عينيها تنظرُ إليهِ باستفهامٍ ثمَّ أشارت عليه:
-مين دا ياإلياس؟.. 
جلسَ على المقعدِ يسحبُ نفسًا، وأشارَ إلى يزن:
-أنا تعبت خلاص، اتكلِّم إنتَ. 
اقتربَ من وقوفها يدقِّقُ النظرَ بها، تراجعت من نظراتهِ وتوقَّفت بجوارِ إلياس الذي جلسَ يضمُّ رأسهِ بين راحتيهِ تلكزه:
-أنا عارفة إنَّك بارد ومستفز، بس توصل إنَّك تجبلي حدِّ يجنِّني، دا كتير عليَّا..رفعَ رأسهِ ينظرُ إليها بصمتٍ ثمَّ تمتمَ بنبرةٍ هادئة:
-ماتقولَّها يابني إنتَ مين، أنا شوية هتلاقوني بجري في الشارع من العيلة دي، توقَّفَ يجذبها بقوَّةٍ وبعيونٍ كالثلج: 
-أخوكي، وماتتخضيش علشان لسة فيه غيره..اقتربَ يزن منها وتوقَّفَ أمامها، وعيناهُ تتأمَّلُ ملامحها وكأنَّهما تبحثانِ عن روحٍ غائبةٍ عنه..لم يكن الشبهُ بينهما واضحًا، لكن انجذابهِ نحوها كان أقوى من أن يُفسَّر..شعورًا غريبًا يشدُّهُ إليها، وكأنَّها جوهرةٌ ثمينة، خطواتهِ كانت بطيئةً لكنَّها واثقة، فيما كانت عيناها تحاصره، كمن يبحرُ وسطَ أمواجٍ متلاطمةٍ لا تعرف الراحة..انهمرت الدموعُ من عينيها كشلالٍ جارف، يغرقُ ملامحها التي بدت كلوحةٍ مرهقةٍ من الألم.
"ميرال..." نطقَ اسمها، وصوتهِ اخترقَ قلبها كالسهم، يهزُّ كيانها بعنف..
جسدها ارتجف، وكأنَّ زلزالًا قد ضربَ كلَّ شيءٍ بداخلها، شُحبَ وجهها، وتراجعت بخطواتٍ مرتعشة، وهي تحاولُ أن تستوعبَ ما تسمعه..هل يُعقل؟! أخًا آخر؟ لكن هذه المرَّة ليس كالأخِ الذي أنكرته؟ شعرت وكأنَّ الهواءَ يختنقُ في صدرها، وماضي والدها يعاقبها على أفعاله..
شردت بعينيها في الفراغ، كأنَّها تهربُ من واقعٍ لا يُحتمل، واقعٌ لا يفعلُ سوى نزيفِ روحها المجروحة، فجأةً عانقت نفسها بقوَّة، كمن تستجدي الحمايةَ من عالمٍ لم يرحمها أبدًا...تعمَّقت عيناها المتحجِّرةِ بالدموعِ بأعينِ إلياس وبصوتٍ مختنقٍ بالبكاءِ يحملُ من الألمِ والحزنِ مايحمل انفجرت قائلة:
"ليه بتعمل فيَّا كده؟! أكيد دا مش أخويا...لا! مستحيل..إنتَ بتعاقبني، مش كده؟! أنا تعبت، واللهِ تعبت! لو عايزني أختفي، هختفي! بس كفاية وجع...أنا مش البنتِ اللي بتقولوا عليها!"
استدارت بعنف، وكأنها تريدُ أن تبتلعها الأرضَ لما يحدثُ لها، ولكنَّها وقفت فجأةً ونظرت إليه بعينيها الغارقتينِ بالدموع، ونطقت وكأنَّ كلماتها حروفًا من الألمِ الذي تشعرُ به:
"خلاص يا إلياس! أنا مش بنتِ حد...أنا بنت خلقت من معاناة، من وجع، من كسر...كفاية، لو سمحت...كفاية!"
حاولَ أن يقاطعها، لكنَّها ابتعدت تضعُ يدها أمامه، فأصبحت على شفا جرفٍ من الانهيار..اقتربَ منها ونظرةً حانية:
"ميرال... اسمعيني لو سمحتِ..."
لكنَّها لم تسمعه، وكأنَّ صوتها يعلو فوق كلِّ شيء:
"إنتوا عايزين منِّي إيه؟! أنا بعدت..روح  اتجوِّز، عيش حياتك، أقسم بالله ما هقف في طريقك..لكن كفاية تفضلوا توجعوا فيا! أنا تعبت...واللهِ تعبت!"
انفجرت بالبكاءِ حتى سقطت على الأرض، تهزُّ رأسها بعنف، تتمتمُ بكلماتٍ تخرجُ من فمها كأنَّها صرخاتُ روحٍ مكسورة:
"إيه اللي بيحصل ده؟! أنا عملت إيه عشان أستاهل كل ده؟!"
رفعت عينيها المكسورتينِ إليه، وقالت بألمٍ يخترقُ القلوب:
"ليه؟! علشان حبِّيتك؟! علشان صدَّقتك؟! تبعتلي واحدة تساومني على ابني وتقولِّي آسفة متزعليش؟! ودلوقتي...دلوقتي بتجيبلي راجل غريب وتقولِّي ده أخوكي!"
صفَّقت بيديها، وابتسمت بسخريةٍ مشوبةٍ بالدموع، لكن تلك الابتسامة تحوَّلت فجأةً إلى ضحكاتٍ هستيريةٍ كمن أصابهُ مسًّا من الجنون..
"كتير عليَّا...كتير أوي، أب مجرم...أم مجرمة...وراجل قاسي، كبريائه فوق كلِّ حاجة...ودلوقتي جاي يقولِّي أخوكي..أخوكي؟!"
هبَّت من مكانها فجأة، واندفعت نحوه، تمسكُ بملابسهِ بجنونٍ تهزُّهُ بعنف:
"إنتَ عايز منِّي إيه؟! ابني مش هتاخده لو جبت الدنيا كلَّها مش هتاخده..ناقص تعمل إيه؟! عايز تطلَّع شهادة بجنوني؟! ناقص إيه يا إلياس؟!"
حاوطَ جسدها وعيناهُ كانت مليئةً بالثقلِ والحزن، بصوتٍ صار أشبهُ بالهمسِ القاتل:
"ناقص حاجة واحدة يا ميرال...لازم تعرفيها..البنتِ اللي قولتي عايز أتجوِّزها... بتكون أختك من راجح."
كانت كلماتهِ كطعنةٍ أخيرةٍ في صدرها..توقَّفت عن الحركةِ وصمتت، وكأنَّ الزمنَ توقَّفَ للحظة..ثمَّ ارتعشت شفتيها، وعينيها اتسعتا، بجملتهِ التي تردَّدت على أذنيها كالرعدِ الذي يدوي مفجِّرًا شظايا بالمكانِ ليصمَّ الأذنَ وتعمى الأعين، وتشعرَ بالانهيارِ مجدَّدًا بين يديهِ تهمسُ بخفوت: 
"يارب أكون بحلم، يارب يكون حلم"


انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لجروب الواتساب اضغط هنا