رواية شظايا قلوب محترقة الفصل التاسع والعشرون 29 بقلم سيلا وليد
رواية شظايا قلوب محترقة الفصل التاسع والعشرون 29 هى رواية من كتابة سيلا وليد رواية شظايا قلوب محترقة الفصل التاسع والعشرون 29 صدر لاول مرة على موقع التواصل الاجتماعى فيسبوك رواية شظايا قلوب محترقة الفصل التاسع والعشرون 29 حقق تفاعل كبير على الفيسبوك لذلك سنعرض لكم رواية شظايا قلوب محترقة الفصل التاسع والعشرون 29
رواية شظايا قلوب محترقة الفصل التاسع والعشرون 29
"اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك"
كنتُ أظن أن الحزن الذي يسكنني كافٍ ليجعلها تُدرك حجم الألم الذي تركته في داخلي، لكنها اختارت أن تُعمّق جُرحي أكثر.
أنتظرت منها عودة تحمل في طياتها اعتذارًا صادقًا، عودة تجبرني على نسيان كل لحظة غابت فيها، حينها كنتُ سأبكي على صدرها بكل ما عشته من وجع، كنتُ سأكشف لها عن ليالٍ ثقيلة مرّت دون أن تكون بجانبي، وسأجعلها ترى كيف مزّقت روحي.
لكني لن أبقى، لن أغفر، وسأرحل بعيدًا؛ لأني أدركت أن الروح التي تتألم من القريب، لا تجد في قربه شفاءً.
كيف أصف لها هذا الألم الذي يتسلل إلى أعماقي دون أن أجد له وصفًا؟
إنه وجع الروح، وجع لا يُسمع ولا يُرى، لكنه يترك أثرًا لا يُمحى.
ليتها تعلم أنني انهرتُ حتى فاض وجعي، وأنها كانت الجرح والقاضي معًا!!!
تُرى من يكون بطلنا المتألم
دلفَ راجح إلى الغرفةِ بخطواتٍ واثقةٍ تحملُ في طيَّاتها التحدي، ناظرًا إلى ميرال بعينينٍ تضجَّانِ بالحدة.
"ألف مبروك يا بنتِ راجح!"، ردَّدها بصوتٍ غليظ، بينما خطت رانيا نحوها بتوتر، متحاشيةً النظرَ إلى إلياس، الذي توقَّفَ في صمتٍ مميت، وجههِ بلا تعابير..خطت مردفة:
"ميرو حبيبتي، حمدَالله على السلامة إحنا تحت من إمبارح، منتظرينك تفوقي يا قلبِ ماما، بابا مرديش يمشي، كان عايز يشوف ابنك."
اقتربَ راجح بخطواتٍ بطيئة، وعيناهُ تتحدَّى كلَّ من في الغرفة، بانتصارٍ هيَّئهُ لنفسهِ الخبيثة، ثمَّ اتَّجهَ نحو فريدة بنبرةِ استعلاء..
لم تتحرَّك فريدة، وكأنَّ الزمن توقَّفَ عند دخولهما، وشعرت بأنَّ حضورهم سيكون عاصفةً ستحرقُ الأخضرَ واليابس، رفعَ حاجبهِ بنظرةٍ ساخرةٍ وهتف:
"مش تعلِّمي ابنك الأصول يافريدة"
قاطعَ صوتهِ دلوفُ أرسلان إلى الغرفةِ بمزاحهِ الذي اعتادوا عليه منذ تقرُّبهِ إليهم، وهو يصدحُ بنبرةٍ سعيدة:
"عمُّو جه يا..."، توقَّفَ فجأة، بعدما وقعت عيناهُ على راجح الذي تابعهُ بنظراتٍ مشحونةٍ بالازدراء، انحنى أرسلان قليلًا نحو غرام، مشيرًا بيدهِ باتِّجاهِ ميرال:
"سلِّمي على ميرال يا غرام."
قالها وعيناهُ على إلياس الذي توقَّفَ ووجههِ كالصخرةِ الباردة، فاقتربَ من فريدة وهو يميلُ برأسهِ باستفهام:
"عندنا ضيوف ولَّا إيه؟"
تجاهلهُ راجح بابتسامةٍ تحملُ سخريةً خبيثة، واتَّجهَ نحو ميرال التي كانت تتنقَّلُ بنظراتها المتوترة بينهِ وبين إلياس، وقفَ أمامها وابتسمَ ساخراً:
"إحنا مش ضيوف يا...اسمك إيه؟ أنا جدِّ الطفل...اللي أخوك طلَّق مراته بعد ما عاش معاها يومين حلوين؛ مش دا اللي قولته لي في المستشفى؟..قالها متهكِّمًا، ثمَّ التفتَ إلى فريدة:
-عاذره، ماهي البنتِ حلوة، طالعة لمرات عمَّها مش كده يا فريدة؟"
خطا أرسلان بهدوءٍ مميت، ووقفَ أمام فريدة وكأنَّهُ درعٌ يحميها، ثمَّ رفعَ رأسهِ بابتسامةٍ ساخرةٍ وتحدَّثَ بنبرةٍ لاتخلو من الاستهزاء:
"جدُّو جاي بنفسه؟ وياترى جاي ينقَّط البيبي، ولَّا جاي يورِّينا إنِّ له جد؟"
مطَّ راجح شفتيهِ بازدراءٍ وردَّ ببرود:
"رغم ما اتعرَّفناش، بس هقولَّك علشان فضولك ما يموِّتكش...أنا جاي أسمِّي الطفل، وأنا اللي هأذِّن في ودنه، مش دي الأصول يا فريدة؟"
سادَ الصمتُ وكأنَّ الزمنَ توقَّفَ للحظة، إلى أن قطعهُ أرسلان بقهقهةٍ مرتفعةٍ جعلت الجميعَ يظنُّونَ أنَّهُ أُصيبَ بالجنون..حاوطَ بطنهِ وهو يضحك ثمَّ توقَّفَ فجأة، وطالعهُ بعينينِ باردتينِ وابتسامةٍ مريرةٍ ممزوجةٍ بالغضبِ الجحيمي:
"أحلى جدُّو والله! تصدَّق؟ كنت جاي مخصوص علشان آخد البيبي لجدُّو... أيوة، حتى ماما قالتلي كده."
أشارَ بيدهِ نحو ميرال وهو يتحدَّثُ بسخريةٍ لاذعة:
آه كويس إنتَ جدُّو، وأنا عمُّو، والبارد اللي هناك أبوه، والبنتِ اللي لسانها أطول منها دي تبقى أمه..مش كده يا بهية؟"
اقتربَ خطوةً نحوهِ وهو يمدُّ كفَّيهِ بتحدٍّ:
"مش هتسلِّم يا جدُّو على عمُّو؟"
اقتربَ راجح ومدَّ يديهِ وعينيهِ تنطقُ بالتحدي، لكن أرسلان أمسكَ بكفَّيهِ وضغطَ عليهما بقوة، وجذبهُ نحوهِ بعنفٍ هامسًا بنبرةٍ منخفضةٍ تحملُ وعيدًا:
"أكيد متعرفنيش...أنا مابتقابلشِ مع الأشكال الواطية إلَّا في ساعاتِ الضرورة، تقول إيه بقى؟..مش أيِّ حد يتمنَّى الوقوف قدَّامي، وبدل جيت لحدِّ رجلي، يبقى لمَّا تشوفني تبصّ في الأرض...مش تتبجَّح."
ارتفعت أنفاسُ راجح، وتوسَّعت عيناهُ بغضبٍ مكتومٍ قبل أن يهدرَ بعنف:
"إنتَ بتقول إيه يا له؟"
اقتربَ من أرسلان أكثر وهمسَ بنبرةٍ تحملُ التوعُّدَ والتحدي:
"شوف البنتِ دي..."، وأشارَ نحو ميرال..
تابعَ بصوتٍ منخفض، لكن كلماتهِ كانت كالصفعات:
"دي بنتي...بنتي أنا، دي مروة راجح الشافعي، اللي زوَّرتوها ونسبتوها لغيري، وفي الآخر أخوك يرميها وجاي يقولِّي كان بيستمتع بيها، بس هاخد حقَّها منكم..
ثارت جيوشُ غضبِ أرسلان، حتى تحوَّلت هيئتهِ كهيئةِ شيطان؛ جذبهُ بقوَّةٍ من عنقهِ من الخلفِ وضغطَ عليهِ حتى أصدرَ صوتًا متألِّمًا، ثمَّ دفعهُ بقوَّةٍ ليسقطَ أمام فريدة..أشارَ إليه وقال بنبرةٍ آمرة:
"اتأسف لها...قولَّها أنا آسف، مش على اللي عملته زمان، لا..علشان وقفت وبجَّحتِ فيها دلوقتي.
رفعَ راجح عينيهِ نحو فريدة بتحدٍّ، وقال بصوتٍ حاد:
"بتحلم يابنِ جمال"
انحنى أرسلان حتى أصبحَ بمستواه، وعيناهُ تتوقدانِ غضبًا:
"ما أنتَ شاطر أهو...وأومال ليه عامل عبده العبيط ومش عارفني؟"
ثمَّ ابتسمَ بسخريةٍ قاتلةٍ وهو يضيف:
"أنا حلو صح؟ علشان كده بتحبِّني، آه صح..بتحبني ليه؟ علشان شبه أخوك اللي مات غرقان، بس...يا ترى مين اللي موِّته؟"
شهقت فريدة بحرقة، واهتزَّ جسدها، وانهمرت دموعها كالسيلِ وهي تهزُّ رأسها رافضةً ما تسمعه:
"لا! مستحيل! أبوك مات غرقان...مفيش حدِّ قتله."
رفعَ أرسلان رأسهِ وصاح:
"غرام، خدي ماما واطلعي شوفي البيبي..
عايز أتكلِّم مع راجح وميرال على انفراد."
أومأت غرام بعينيها وسحبت فريدة، التي تسمَّرت بمكانها، بينما إلياس جلسَ بهدوءٍ غيرَ معتاد على المقعد، يراقبُ بصمت...منتظرًا اللحظةَ المناسبة..
توقَّفت فريدة بأنفاسٍ لاهثةٍ من فرطِ الغضبِ والخوفِ على أولادها، وصاحت بصوتٍ مرتجفٍ متألِّمٍ مختلطاً بالإنزعاج:
كفاية بقى..أنتوا عايزين إيه؟ وإنتِ يا رانيا جاية ليه؟ دي بنتي أنا...مش بنت حد، خدي الراجل دا وامشي من هنا...برَّة..
لكن صدى كلماتها لم يكن سوى شرارةٍ أشعلت نيرانَ راجح، الذي استدارَ ببطءٍ كمن يستعدُّ لهجومٍ وتحوَّلت عينيهِ إلى جمرةٍ متَّقدةٍ وصوتهٍ خرجَ كالسيف:
بنتِ مين؟ مش كفاية تزوير يا فريدة!!
شوفي أنا جيت بالنهار وفي مستشفى، وولادك اللي مفتخرة بيهم الظباط، هاخد بنتي وأنا بطلَّع لساني..
اقتربَ من ميرال بخطواتٍ جريئة، لكنَّهُ توقَّفَ فجأةً عندما وقفَ أرسلان في طريقه، نظراتهِ تحملُ تهديدًا لا لبسَ فيه..
ضحكَ راجح بسخريةٍ مريرة، وقال مستهزئاً:
-امشي من قدَّامي بدل ماأودِّي أمَّك في داهية.
لم يُكمل كلماتهِ حتى انقضَّ أرسلان عليه بلكمةٍ صاعقة، صرخت بها عضلاتهِ بغضب:
هيَّ مين دي اللي تودِّيها في داهية؟!
ترنَّحَ راجح للحظةٍ قبل أن يدفعهُ بغضبٍ وحشي، واشتعلت بينهما مشادَّةً عنيفةً كعاصفةٍ لا تهدأ..وسطَ كلِّ هذا، كان إلياس جالسًا في طرفِ الغرفة، ظهرهِ مستقيمًا كأنَّهُ ملكٌ على عرشه، وعيناهُ لا تفارقانِ راجح، تنتظرُ لحظةَ الحسم.
وفجأةً، اخترقَ الغرفةً رجلٌ ضخمَ البنية، ألقى نظرةً جامدةً على المشهدِ قبل أن يقتربَ من راجح قائلاً:
إحنا جاهزين يا راجح باشا.
حينها رفعَ إلياس رأسهِ وابتسمَ ابتسامةً باردةً كأنَّها موجَّهةً لعاصفة، ثمَّ أشارَ بيدهِ نحو الباب:
خلَّصت مسرحيتك؟ شايف الباب اللي هناك؟ لو لمحتك قدَّامي..وحياة رحمة أبويا اللي لسة ما أخدتش عزاه، لأجرَّك زي الكلب، وأخلِّيك ما تساويش جزمتي..
سادَ صمتٌ ثقيلٌ كأنَّهُ جنازةُ مشاعر، لم يكسرهُ سوى صوتِ خطواتِ رجالِ راجح وهم يقتحمونَ الغرفة؛ ارتجفت ميرال على سريرها كطفلةٍ صغيرةٍ تخشى صفعاتَ القدرِ التي لا ترحم، ثمَّ انفجرت بالبكاء، شهقاتها كانت كطعنةٍ في قلبِ إلياس، ولكن عليه تنفيذَ مخطَّطهِ..
تقدَّمت رانيا خطوةً نحو ميرال، عيناها تتوسلانِ إلياس لكنَّها توقَّفت فجأةً عندما زمجرَ إلياس، غضبهِ الذي صار حممًا بركانية:
"قولت إيه؟"
هزَّت رانيا رأسها بارتباك، وأشارت بيدٍ مرتعشةٍ نحو ميرال:
خلِّيني أشوفها بس يا إلياس...
أجابها بصوتٍ كالرعد، حطَّمَ كلَّ الأملِ الذي تحاولُ التشبَّثَ به:
"برَّة"
لم تجد رانيا سوى أن تتشبَّثَ بذراعِ راجح، تسحبهُ وهي تتجنَّبُ نظراتِ إلياس الثاقبة:
"تعالَ..نبقى نطِّمن عليها بعدين."
لكن أوقفهما صوتُ إلياس المخيف:
"استنى يا راجح"
أخرجَ ورقةً من جيبه، ورفعها أمامَ وجهه:
"امضي هنا"
حدَّقَ راجح في الورقة بذهول، قبلَ أن يرفعَ نظرهِ إلى إلياس كأنَّهُ يحاولُ فهمَ ما يحدث:
-إيه دا إن شاء الله؟!..
-مجنون، علشان أعمل كدا!!لا بعينك يابنِ جمال.
ابتسمَ إلياس ابتسامةً مميتة، وقالَ بصوتٍ كالجليد:
لا بإيدك..مين قال بعينك.
استدارَ إلى ميرال، التي كانت ترتجفُ كالورقةِ تحت عاصفةِ الشتاء، وسألها بنبرةٍ هادئة:
الراجل دا فيه حاجة تربطك بيه؟
أجابت بصوتٍ متهدِّج، بالكادِ يُسمع:
"لا"
أشارَ إلياس إلى الورقةِ مرَّةً أخرى، صوتهِ باتَ أكثرُ حدَّة:
"امضي"
ثمَّ رفعَ عينيهِ إلى أرسلان،
الذي استدارَ إلى الرجالِ الذين اقتحموا الغرفة:
-أنتوا جايين تهدِّدوا ظابط مخابرات، وواقفين مع الخاين، الراجل بيخون البلد، شركة الأمن اللي شغَّالين فيها لازم تاخد موقف ضدُّكم، غير طبعًا الخيانة..نظرَ الرجالُ لبعضهم بخوف، وارتباك، ولكن صوتَ راجح سيطرَ على توترهم:
-كذاب متسمعوش كلامه، لحظةً وأخرجَ أرسلان الكارت الخاص به:
-أنا ممكن أقبض عليكو دلوقتي ، معايا كلِّ الصلاحيات..تراجعَ الرجالُ باعتذار:
-إحنا آسفين ياباشا..
خطا أرسلان خلفهم ليغلقَ باب الغرفة، وجذبَ المقعدَ وجلسَ بجوارِ البابِ وعلى وجههِ ابتسامة انتصار:
-عايز أتفرَّج بمزاج..
التفتَ راجح إلى إلياس:
-مش همشي غير ببنتي، إنتَ اللي تاخد أمَّك والواد اللي هناك دا وتمشوا..
لكن إلياس لم يحتمل أكثر، انقضَّ على راجح بقبضةٍ صلبةٍ كالصخر، سدَّدَ له لكمةً جعلتهُ يترنَّح..
ارتفعَ بكاءُ ميرال ليملأ المكان، وكأنَّ قلبها الصغير يصرخُ طلباً للرحمة، حتى اقتحمَ جاسر الغرفة بصوتٍ كالمطرقة:
إيه اللي بيحصل هنا؟
تراجعَ راجح بخطواتٍ متعثِّرة، يحاولُ أن يستعيدَ رباطةَ جأشه، لكنَّهُ فشل..
جلسَ إلياس بهدوءٍ على مقعدٍ قريب، وجههِ صارَ قناعًا من البرود، قالَ وهو يرفعَ الحجابَ على خصلاتِ ميرال المتناثرة:
زي ما شوفت، جايب بلطجية وعايز يهجم علينا..
التفتَ إلى جاسر، وأكملَ ببرودٍ مليءٍ بالسخرية:
اتجنِّن لمَّا عرف إنِّنا اشترينا أسهم الشركة، وجاي بيقول: "هاخد البنت اللي بقالكم سنين بتربُّوها، مش انتوا عاملين ظباط، هاخدها وأنا بطلَّع لكم لساني." عايز أشوف القانون هيعمل إيه.
ضحكَ أرسلان بصوتٍ مرتفع، وغمزَ لإلياس قائلاً:
الله يخرب بيتك، هوَّ إنتَ اللي جرجرته لهنا؟
ردَّ إلياس بثقةٍ دون أن يلتفت:
أومال..
ثمَّ أشارَ إلى جاسر قائلاً بحزم:
البلاغ يا حضرةِ الظابط؛ الراجل دا جاي يخطف مراتي وبيستهزئ بمهنتي
حاولَ راجح أن يدافعَ عن نفسه:
دي بنتي..
قاطعهُ أرسلان بابتسامةٍ مستفزة:
أثبت..
تقدَّمَ جاسر خطوةً بينهما، وقالَ بصرامة:
إحنا هنلعب؟ دلوقتي فيه شهود وتسجيلات إنَّك جاي تخطف مرات حضرةِ الظابط؛ والراجل اللي مسكناه فوق كان عايز يخطف الطفل اللي في الحضانة..والرجالة اللي سلمت نفسها لأمن المستشفى، دول ايه، اكمل جاسر وهو يشير إليه
-إنتَ مختَّل عقلي..
توقَّفَ جاسر، وسحبَ أنفاسهِ بهدوء، ثمَّ نظرَ نحو راجح بعينينِ تعكسانِ صراعًا عنيفًا، حاولَ التمسُّكَ بهدوئه، وبين امتعاضهِ من ذاك عديمِ الأخلاق الذي يريدُ أن يختطفَ الطفل، رفعَ عينيهِ و قال بصوتٍ خفيضٍ لكنَّهُ مشحونًا بالحدِّة:
"لو سمحت، تمشي من غير شوشرة، إحنا في مستشفى، الناس هنا مش ناقصة دراما."
رفعَ عينيهِ بتأنٍّ نحو إلياس، محاولًا الحفاظَ على رباطةِ جأشه:
"ياريت يا إلياس باشا تيجي علشان التحقيقات...الوضع محتاج توضيح."
أومأ إلياس بصمتٍ ثقيل، لكن قبلَ أن يتحرَّك، اقتربَ أرسلان بخطواتٍ واثقةٍ، بدا وكأنَّهُ يحاولُ السيطرةَ على كلِّ ذرَّةٍ من غضبه، لكنَّهُ أشارَ نحو إلياس وهو يقول:
"خليك مع مراتك...أنا هتصرَّف هنا."
لكن عيني إلياس لم تفارق راجح، فكانت نظراتهِ كالسيف، ثمَّ اقتربَ منهُ أكثر، وهمسَ بصوتٍ خفيض، يقطرُ سمًّا:
"بعد إذنك يا جاسر باشا، هقول للمتَّهم حاجة."
تراجعَ جاسر قليلاً، مشدوهًا بما يحدثُ أمامه، بينما اقتربَ إلياس من راجح وتمتمَ بنبرةٍ تنزفُ مرارةً وكبرياءً مجروحًا:
"كنت عرضت عليك عرض...وإنتَ رفضته...دلوقتي بقى اللعب على المكشوف."
لم يتراجع راجح، بل رسمَ ابتسامةً ساخرةً على وجهه، وأردفَ بنبرةٍ مستفزة:
"هنشوف ياابنِ...السيوفي."
قالها و أدارَ وجههِ ببطءٍ نحو رانيا، وأشارَ إليها متمتمًا بثقة:
"ارجعي على البيت...وأنا شوية وهحصلِّك."
تحرَّكَ الشرطي نحوهِ ليقيِّدهُ بالأصفادِ الحديدية، لكنَّ إلياس صاحَ فجأةً بصوتٍ يكسرُ صلابةَ المكان:
"ابعد يا بني...راجح باشا هيروح معاك من غير كلبشات."
ثمَّ نظرَ إلى جاسر بعينينٍ امتلأتا بالتناقض، وقال بصوتٍ خافتٍ لكنَّهُ مشحونٌ بالعاطفة:
"آسف يا جاسر باشا...الباشا دا بيكون عمِّي، فرجاءً منِّي احترامًا لوالدي...مش أكتر."
عقدَ جاسر حاجبيه، وبينما كان يحاولُ فهمَ كلماتِ إلياس، قطعَ أرسلان هذا التوتُّرَ بصوتٍ جافٍّ كالصخر:
"هنتحرَّك ولَّا نقعد نحكي على أطلال كوارث راجح الشافعي؟"
ثمَّ رمقَ إلياس بنظرةٍ باردةٍ كأنَّها تحذيرًا أخيرًا وقال بنبرةٍ مشبعةٍ بالقسوة:
"دا مش عم، تمام؟ مش عايز أسمع الكلمة دي تاني."
ارتدى نظَّارتهِ بخفَّة، وتحرَّكَ للخارجِ بخطواتٍ تخفي تحتها عاصفةً من الغضبِ والخيبة..توقفت أمامه رانيا
-عملت اللي قولت عليه، وجبته، ممكن بقى تجيب الفيديو لو سمحت
أشار إليها بتكبر:
-لحظة ومش عايز اشوف وشك الزبالة دا قدامي ..قالها ثم دلفَ إلى الغرفة، يشعرُ أنَّ هناكَ مايخنقه، كان يريدُ أن ينهي حوارَ زوجته، دفعَ البابَ ودلفَ للداخلِ وجدها تبكي كأنَّ دموعها محاولةً يائسةً لإطفاءِ حريقِ ألمها، صوتُ نحيبها كان كالسكاكين، يقطعُ كلَّ ذرَّةٍ من قلبه، طالعها بأسى وهي بين أحضانِ فريدة، التي لم تجد سوى الصمتِ لمحاولةِ تهدئتها...
توقَّفَ إلياس عند البابِ للحظة، أغمضَ عينيهِ محاولاً كبحَ غضبٍ يشعلُ صدرهِ كبركانٍ على وشكِ الانفجار، ثمَّ تقدَّمَ نحوها بخطواتٍ ثقيلة، وكلَّ خطوةٍ تحملُ وزناً لا يُحتمل..
جلسَ بجانبها، يعدل وضعية نومها، مدَّ يدهِ ببطءٍ نحو يدها المرتجفة، ثمَّ همسَ بصوتٍ بالكادِ خرج من بين شفتيه، حائرًا بين الرجاءِ والألم:
"اطمِّني...أنا هنا...مش هسيبك أبدًا."
لكنَّها لم ترفع عينيها نحوه، كانت غارقةً في حزنها، وكأنَّ الكلماتَ لم تعد تعني شيئًا، أغلقَ عينيهِ مرَّةً أخرى، محاولًا أن يجدَ القوةَ في ضعفها وحزنها
توقَّفت فريدة تراقبُ غرام بعينينِ تحملانِ القلقَ والحنان، وهمست بصوتٍ يشوبهُ الارتباك:
"حبيبتي، تعالي انت وغادة ننزل نشرب قهوة تحت، لحدِّ ما أرسلان يرجع."
أومأت غرام بخفوت، تبحثُ عن مهربٍ من هذهِ الأجواءِ الثقيلة، ثمَّ تحرَّكت بخطواتها البطيئة نحو الخارج.. أمَّا هو فقد استدارَ نحو ميرال، التي مازالت تبكي في صمتٍ أشبهَ بصراخٍ مكتوم..
اقتربَ منها ونظراتهِ تحملُ مزيجًا من الحزنِ والغضبِ المكبوت، ثمَّ قالَ بنبرةٍ حاولَ أن تبدو هادئة لكنَّهُ فشل:
"ممكن أعرف بتعيَّطي ليه دلوقتي؟ الراجل دا يلزمك..."
انفجرت حروفُ صوتها وكأنَّها شظايا من قلبٍ محطَّم:
"ليه؟!"
-كانت الكلمةُ أشبه بعاصفة، نطقتها بحزنٍ قاتل، وأغمضت عينيها بقوَّةٍ تحاولُ حبس َالألمِ في داخلها، لكن صوتَ راجح لم يرحمها، يتردَّدُ في أذنيها كجرسِ موت:
"رايح تقولُّه اتجوِّزتني متعة؟ هتفضل لحدِّ إمتى كده؟ لحدِّ إمتى هدوس عليَّا علشان غرورك وكبرياءك؟"
رفعت رأسها إليه، ونظرتها تحملُ خليطًا بين الوجع والحزن، تستجديهِ أن ينفي ما قالهُ راجح..همست بصوتٍ مثقلٍ بالبكاء:
"قولتها ولَّا لأ يا إلياس؟ قولت لراجح؟ دبحتني...دبحتني للمرَّة اللي مبقتشِ عارفة عددها!"
تراجعَ إلياس خطوتينِ للخلف، وكلماتها التي أصابته في مقتل، أدارَ وجههِ بعيدًا عنها، لكنَّهُ لم يستطع الهروبَ من نظراتها التي اخترقتهُ كالسيف، بكت بحرقةٍ وهي تمرِّرُ أصابعها المرتجفةِ على وجهها، محاولةً كبحَ دموعها بلا جدوى..
-ميرال أنا قولتها علشان أحرقه زي ماحرقنا..
هزَّت رأسها تتمنَّى أن يسحبَ اللهَ روحها حتى تنتهى من هذا العذاب، ردَّدَ اسمها مقتربـًا منها، رفعت عينيها التي تتلألأُ جواهرها ثمَّ نطقت بنبرةٍ ممزوجةٍ بالحسرة:
"قولتها...علشان تحرقه، صح؟ بس الحقيقة...إنتَ حرقتني أنا..أنا الوحيدة اللي بتحرق ياإلياس...أنا وبس."
صوتهِ خرجَ متحشرجًا وهو يحاولُ التبريرَ لكنَّهُ لا يملكُ شيئًا يقوله:
"ميرال، إنتِ مش فاهمة..."
لكنَّها لا تريدُ أن تسمع، أغلقت أبوابَ قلبها أمام كلماته، فيكفي ماتشعرُ به..
-ميرو حبيبتي، إنتِ واثقة فيا..قالها وهو يجلسُ بجوارها يحتضنُ كفَّيها بين راحتيه، رفرفت أهدابها بثقلِ عبراتها وتمتمت بلسانٍ ثقيل:
-مكنتش بثق في حدِّ غيرك، ولا عايزة حدِّ غيرك..دنا برأسهِ لمستوى جسدها:
- ولا مسموح لك تثقي في غيري..لمعت عيناها بدموعها:
-أثق، بعد إيه ياإلياس، بعد مابعتلي واحدة بتساومني على ابني، بتقولِّي سوري أنا أولى من الغريب..
صمتٌ مميتٌ بالغرفة، ونظراتُ الذهولِ تجلَّت بملامحه، متسائلًا عمَّا نطقته:
-أنا مش فاهم حاجة، قاطعَ حديثهِ دخولُ الطبيبة، كأنَّها نسمةٌ باردةٌ تخترقُ نيرانَ كلماتها التي ألقتها، اقتربت الطبيبةُ و ابتسمت قائلةً بنبرةٍ مفعمةٍ بالطمأنينة:
"حمدَ الله على السلامة."
ردَّت ميرال بصوتٍ مكتومْ يكادُ يختفي بين بكائها:
"الله يسلِّمك."
دقَّقت الطبيبةُ النظرَ نحوها بتساؤل:
"إنتِ بتعيَّطي علشان تعبانة؟ ما تعيَّطيش، علشان كدة مش كويس. إنتِ لسه والدة، جسمك محتاج الراحة."
نقلت بصرها نحو إلياس الذي تحرَّكَ في زاويةِ الغرفة، صامتًا كتمثال، ثمَّ أردفت بابتسامةٍ مرحة:
"وبعدين، فيه حدِّ يبقى متجوِّز راجل بيخاف عليه كده ويعيَّط؟ دا كان هيتجنِّن عليكي."
أغمضت عينيها، في محاولةٍ للهروبِ من كلماتِ الطبيبةِ التي أشعلت نيرانَ صدرها، تفحَّصت جرحها بحرص، ثمَّ تابعت بجدية:
"لازم تتحرَّكي شوية..لو مشيتي كام خطوة هنطَّمن إنِّ كلِّ حاجة تمام."
أومأت ميرال بصمت، ثمَّ استدارت الطبيبةُ نحو إلياس:
"هبعت الممرضة تساعدها، الحركة أهمِّ علاج."
-دكتورة ابني كويس...تساءلت بها بقلبٍ ينتفض..
التفتت إليها بابتسامةٍ مطمئنِّة:
"ابنك زي الفل، محتاج بس شوية وقت في الحضَّانة..حمدَ الله على سلامتك."
غادرت الطبيبة، تاركةً خلفها قلوبًا تئنُّ من الحزن.
كسرَ إلياس الصمت، محاولًا السيطرةَ على زمامِ الأمور:
"هترجعي الفيلا..مينفعشِ تقعدي لوحدك."
رفعت ميرال رأسها ببطء، ونظراتها التي امتزجت بالحزنِ و التعب، وردَّت بصوتٍ منكسرٍ لكنَّهُ حاسم:
"مش هسيب بيتي يا إلياس..ولَّا إنتَ رجعت في كلامك؟"
"ميرال، مينفعشِ تقعدي لوحدك، ابنك في مكان وأنا في مكان، وإنتِ محتاجة حدّ جنبك."
هزَّت رأسها بالنفي، والدموعُ تتدفُّقُ بلا توقُّف:
"الفيلا؟ الفيلا اللي طردتني منها مفيش حاجة بتربطني بيها...ولا حتى إنتَ."
سقطت كلماتها كصفعةٍ مدوية، تركتهُ في صمتٍ مهيب، بينما هي أمالت رأسها، تحاولُ إخفاءَ انكسارها، لأنَّها تعلمُ أنَّها بدونهِ لا تعرفُ للحياةِ معنى..
دلفت الممرضةُ بابتسامةٍ هادئة:
حمدَ الله على السلامة، الدكتور قالت أساعدك تتحرَّكي شوية...جاهزة؟
أومأت برأسها بصمت، تُخفي عينيها بعيدًا عن إلياس، وكأنَّها تخشى أن تلتقي بنظراته، اقتربت الممرضة بحذر، محاولةً مساعدتها للنهوض، لكن بمجرَّد أن حاولت الحركة، خرجت منها صرخةُ ألمٍ مكتومة..توقَّفَ الزمنُ للحظة، حتى انتفضَ واقفًا كمن لسعتهُ النار، يهدرُ بصوتٍ عالٍ مشحونٍ بالخوف:
بتعملي إيه؟ مش شايفاها تعبانة؟ اطلعي برَّة فورًا..
تراجعت الممرضةُ بتوتر، تحاولُ الدفاعَ عن نفسها:
"بس يا فندم..."
"قلت برَّة"
قالها بصوتٍ حادٍّ، ثمَّ اقتربَ إليها، وكلَّ شيءٍ فيه اختلف، انحنى أمامها، جاثيًا على ركبتيهِ كمن يحاولُ الوصولَ إلى أعماقِ ألمها، وأردفَ بنبرةٍ هادئة، وبنظراتٍ مليئةٍ برعبٍ لم يعرفهُ من قبل:
حاسة بإيه؟ تعبانة؟ أجيب الدكتورة؟
عجزت عن الإجابةِ وهي ترى في نظراتهِ اللهفة والخوف، ولكن ألمها كان أكبرُ من الكلمات، استندت برأسها على كتفه، وكأنَّها تبحثُ عن ملاذٍ، عن مهربٍ من العاصفةِ التي اجتاحت جسدها وروحها، عاصفةُ ارتباطِ روحها بروحه، فهمست بصوتٍ بالكادِ يُسمع:
تعبانة...مش قادرة أتحرَّك...
انحنى ليحاوطها بين ذراعيهِ بحذر، وكأنَّها زجاجٌ قابلًا للكسر، احتواها بقوَّة وبحنانٍ وخوفٍ لا يمكن وصفهما، لما لا وهي أثمنُ ما يملكُ
حاولت تحريكُ قدميها، لكنَّ الألم أوقفها، بكت تهزُّ رأسها بعجزٍ ورفض:
لا...مش قادرة...عايزة أنام...لو سمحت يا إلياس، سبني أنام..
توقَّفت خطواته، لكنَّ قلبهِ لم يتوقَّف عن النبضِ بعنف، نظرَ إليها وكلماتها التي أحرقت كلَّ ما بداخله..اقتربَ أكثر، يضمُّها إلى صدره، وكأنّّهُ يحاولُ أن يُغرقَ ألمها في أعماقِ روحه:
- متخافيش أنا معاكي مش هسيبك..
حاوطت خصرهِ كالطفلةِ التائهةِ التي وجدت أخيرًا أمانها...أغمضَ عينيهِ متلذِّذًا بتلك اللحظة، فلقد حُرمَ من جنةِ أحضانها منذ أكثرَ من شهرينِ حتى أصبحت حياتهِ باردةً ومظلمة، ولكنَّهُ تحمَّلَ تلك الحياة ليشعرها بالراحة، ولا يعلمَ أن بعدهِ ماهو سوى ألمٍ يمزُّقها...تراجع يجذبها ويخطو بجوارها بهدوء شهقت بصوتٍ متعب، تحاولُ أن تتحدَّث:
"هقع..."
ابتسمَ ابتسامةً باهتة، ومسحَ دموعها المتساقطةَ دون وعي، وهمسَ بصوتٍ دافئٍ يغلِّفهُ الحنان:
إنتِ في حضني...تفتكري ممكن أسيبك توقعي؟..دفنت رأسها بصدره تضغط على آلامها
أبعدَ رأسها برفق، ليتعمَّقَ في ملامحها التي رسمَ الألمُ ، نظرَ إليها نظرةً أخبرتها بكلِّ شيءٍ كان عاجزًا عن قولهِ منذ البداية، ثمَّ همسَ بصوتٍ مليءٍ بالحب:
عايزك تقعي...بس في حضني، لأنِّك مهما تعملي مفيش غيره.
شعرت بقلبها يترنَّحُ بين كلماتهِ ونظراته، لم تستطع أن ترفضَ دفءَ كلماته، ولا حنانَ احضانه، تمنت أن يتوقف الزمن هنا فاستسلمت لوجودهِ الذي كان يطغى على كلِّ شيء، وكأنَّها وجدت في قلبهِ الأمان الذي افتقدتهُ منذ ابتعاده
ثقُلَ جسدها وأوشكت قدماها على الاستسلام، فارتجفَ جسدها وهي تهمسُ بخفوتٍ يكادُ يُسمع:
رجَّعني على السرير لو سمحت.
لمعت عيناهُ بقلقٍ ينهشُ داخله، فحاصرَ جسدها بذراعيه، ونطقَ بصوتٍ محمَّلًا بخليطٍ من القلقِ والغضب:
ميرال، لازم تتحرَّكي...سمعتي كلام الدكتورة..
شهقت وهي تحاولُ التقاطَ أنفاسها:
رجَّعني على السرير...بقولَّك.
قالتها بنبرةٍ حادَّةٍ كادت تُفقدها ما تبقَّى من اتزانها...أمسكها بإحكامٍ بيديهِ التي كانت كالحصنِ المنيع ليردف:
امشي خطوة كمان، وبطَّلي دلع...لو ما تحرَّكتيش هسيبك توقعي، متفكريش هتصعبي عليّ.
أطبقت عينيها بقوَّة، هي تعلمُ أنَّهُ يفعلها..جرَّت قدميها بصعوبة، وشهقةُ ألمٍ اخترقت شفتيها أشعرتها بالعجز، ولكن ذراعيهِ كانت تدعمها رغم جمودِ وجهه، الذي باتَ أشبهُ بجدارٍ صلدٍ لا يكشفُ شيئًا.
خطت بثقلِ جسدها بين ذراعيه، وهي تحاولُ سحبَ قدميها خطوةً بخطوة، لكنَّها كانت تشعرُ وكأنَّ جبلًا ينهارُ عليها، بسببِ قوَّةِ الألم، خطت مرَّةً أخرى، رغم أنفاسها المتقطِّعة، والألمُ الذي يشتعلُ في أطرافها، لم يكن أمامها خيارًا سوى الانصياعِ له، بينما عينيهِ تراقبها بإهتمام ليحزن على
وجهها الشاحبَ الذي كان أشبهُ بلوحةٍ مكسورة، وعيناها الجريحتانِ تغرقانِ في بحرٍ من الألم، وشفتيها ترتجفانِ بلا صوت..شعرت بجسدهِ يحاصرها، كدرعٍ يخفي خوفهِ عليها تحت ملامحَ صارمة..رفعت عينيها لتقابلَ عينيهِ القلقةِ رغم برودها، تحرَّكت خطوةً بعد خطوة، إلى أن وصلت أخيرًا..لتتنفَّس بعمق، تستجدي هدوءًا مؤقتًا..ساعدها بالجلوسِ على السرير، ثمَّ قال بحزم:
اقعدي، وبلاش تنامي دلوقتي.
طالعتهُ بنظراتها المتألِّمة، وتمتمت برجاءٍ يذيبُ الحجر:
عايزة أشوف الولد...خليهم يجيبوه، لو سمحت.
نطقت بها من بين شفتيها كرجاءٍ مستميت، وعيناها تتفحَّصه، جلسَ بجانبها وضمَّها إلى صدره، لكنَّها شعرت حضنهِ كصخرةٍ باردة، بدا غريبًا على ملامحه الذي يحاول أن يرسمها:
حاضر، هتشوفيه...بس لازم تتحرَّكي شوية كمان، علشان نقدر نروح له مع بعض.
رفعت رأسها، والدموعُ تتساقطُ بغزارة:
يعني إيه؟! مش عارف تجيبه؟ لازم أنا اللي أروح له؟
رفعَ ذقنها برفق، وعيناهُ تبحرُ في وجهها الشاحب، ونبرتهِ التي جاءت هادئة، عكسَ ملامحهِ الباردة:
ميرال...الولد مش ممكن يخرج من الحضَّانة..محطوط على جهاز تنفُّس، وأنا لسه ما شفتوش، فوقي ونطلع نشوفه مع بعض.
شهقت بألم، وأردفت بنبرةٍ مكسورة:
من إمبارح...لحدِّ دلوقتي؟ للدرجة دي مش فارق معاك إنَّك ما شفتهوش؟!
لمعت عيناهُ بشيءٍ من السخرية، كأنَّ كلماتها أصابتهُ في مقتل..صرفَ بصرهِ عنها ليهربَ من اتِّهامها..
لا...كنت عايز أطَّمن عليكِ الأول، تفتكري هيفرق معايا قدِّك يا مدام ميرال؟
نزلت دموعها، وراحت تلكمهُ بضعفٍ على صدره:
إنتَ بتعمل معايا كده ليه؟! عايز تجنِّني؟ لمَّا إنتَ كده...بتموِّتني ليه؟! حرام عليك...والله حرام.
جذبها بقوَّةٍ يضمُّها كمن يخشى أن تنهارَ بين يديه:
اهدى طيب...بلاش نعاتب بعض دلوقتي..قالها محاولًا السيطرةَ على أعصابه، لكنَّهُا جرت نفسها بعيدًا متألمة فلقدَ نفذ صبرهِا واحترقَت من الداخل، اقتربَ منها كأنَّما يحاولُ أن يمحو المسافةَ التي خلقتها كلماتها لإحراقه، مرر أنامله على وجنتيها، إلى أن توقف على شفتيها هامسًا بنبرةٍ متعبة:
مبقتشِ عارف أتعامل معاكي إزاي...أنا تعبت منِّك ومن اتهاماتك، بتتعاملي كأنِّي مش موجود في حياتك.
رفرفت أهدابها مبتعدةً عنه ببطء، تحاولُ رسمَ مسافةٍ بينهما، وأردفت بتقطُّعٍ ونبرةٍ متعبة:
دايمًا أنا الغلط، دايمًا أنا الغبية، أنا اللي بجي عليك وبجرحك، أنا...يا إلياس باشا ستِّ مفترية...وإنتَ الراجل الحنيِّن، صح؟
هزَّ رأسهِ بيأس، وزفرَ بتنهيدةٍ أحرقت جوفه، نهضَ من مكانهِ بعد أن عجزَ عن الردّ، ومالَ برأسهِ نحوها قائلًا:
هبعت لك ماما...خلِّيها تساعدك تتحرَّكي شوية، أنا عندي شغل.
صاحت بصوتٍ مختنقٍ وهي تراقبهُ يهمُّ بالخروج:
- مش هتطلع للولد؟
توقَّفَ واستدارَ نحوها بعينينِ مثقلتينِ بالألم، وتمتمَ بنبرةٍ تشبهُ التهديد:
قلت لك هنطلع مع بعض، لمَّا نطَّمن عليه هنيجي ناخده ونخرج إحنا التلاتة مع بعض على الفيلا، غير كده، ما تتكلميش.
تحدَّت نظرته، وتمتمت بسخريةٍ مشوبةٍ بالمرارة:
"أنا مش هرجع الفيلا..إنتَ طردتني منها، نسيت ولَّا إيه؟
ومش بس كدا تسكت..لا تروح قدام راجل أهمِّ حاجة عنده يذلِّني وتقولُّه بتمتع، هستغرب ليه ماإنتَ قولتها قبل كدا..على العموم ياإلياس باشا، أنا مش هرجع معاك تاني، والحمدُ لله ظهر بسرعة اللي عايز يمتَّعك أكتر.
تراجعَ خطوةً إلى الوراء، زافرَ بحدَّة، ثمَّ أشارَ بيدهِ نحوها وهو يقولُ بصوتٍ جليدي:
- مش هردّ عليكي لأنِّك مالكيش رأي بعد رأيي، حضَّري نفسك، هخلَّص شغل وأرجع آخدك.
استدارَ إليها بنظراتٍ حملت وعيدًا وتهديدًا في آن:
هتعقلي ونرجع بيتنا...نربِّي ابننا... هحطِّك في قلبي، لكن لو تعبتيني..الولد مش هيعيش برَّة بيت أبوه، ولا إنتِ هتعيشي لوحدك وإنتِ مراتي، قالها وخرجَ يغلقُ البابَ خلفهِ بقوَّة، شعرت وكأنَّ صوتهِ أشبهَ بصفعةٍ لقلبها الذي يتصارعُ بين الحبِّ، والخوفِ، والغضب.
بمنزلِ يزن:
كانت تجلسُ على الأريكة، شاردةَ البال بحديثِ كريم وحبِّهِ لها؛ ولكن انتفضت من مكانها عندما استمعت إلى طرقٍ عنيفِ على الباب، ضغطت على صدرها محاولةً تهدئةَ خفقانِ قلبها، و شعرت بالاستغرابِ من ذلك الطرقِ العنيف، فخطت مذعورةً بأنفاسٍ متوترة، ظنًّا أنَّ معاذ أصابهُ مكروه..
توجَّهت إلى البابِ بتردُّد، خطواتها بطيئةً ودقَّاتُ قلبها تضجُّ في أذنيها؛ وقفت أمام البابِ وأخذت نفسًا عميقًا قبل أن تزفرهُ بهدوء، توقَّفت تنظرُ إلى امرأتانِ بملامح غريبة، باردةً ومريبة..نطقت إحداهما بنبرةٍ حادَّةٍ متسائلة:
"إنتِ إيمان؟"
تراجعت قليلاً لكنَّها أومأت ببطء، وابتسمت بعفويةٍ محاولةً إخفاءَ ارتباكها، فتسألت ببراءة:
"أيوة... مين حضرتكم؟"
التفتت المرأة إلى رفيقتها، وقالت بنبرةٍ حادَّة:
"تعالي يا فوقية"
ثمَّ دفعتها بعنفٍ إلى الداخل، ليترنَّحَ جسدُ إيمان وتسقطَ على ركبتيها، ارتفعَ أنينًا خافتًا من حلقها وهي تلتفتُ حولها بذهول:
"إنتو مين؟ عايزين إيه؟!"
لم تُجبها أيٍّ منهما، فرفعت صوتها تصرخُ باسمِ اخيها، إلَّا أنَّ إحداهنَّ وضعت محرمةً على فمها لتستنشقَ رائحةً حادَّةً اخترقت أنفها وأثقلت رأسها، حاولت المقاومة، لكن أطرافها خانتها.. عينيها ثقُلت بأهدابها لتغمضها، رغم محاولاتها التي بائت بالفشل، لتجذبَ الأخرى وشاحًا ووضعتهُ فوقها وحملتها لتهتفَ ساخرة:
"البنتِ دي مبتاكلشِ خالص، دي خفِّ الريشة..اتِّصلي بالواد يجي بالعربية قدام البيت...رفعت هاتفها قائلة:
"الأمانة خلصت...جهِّز العربية."
ثم وضعت الهاتفَ في جيبها، وأشارت إلى رفيقتها:
"غطِّيها بالحجاب دا كويس عشان محدش يلاحظ."
تحرَّكتا للخارجِ بوصولِ معاذ الذي ترجَّلَ من دراجتهِ..ينظرُ إلى السيداتِ بذعرٍ وهما يحملانِ إيمان التي ظهرت خصلاتها من تحتِ الوشاح، هرولَ يصرخُ بعدما تأكَّدَ أنَّها أخته:
"إنتو مين؟ وأخدين أختي فين؟!"
لكن استدارت إحداهنَّ إليهِ بوجهٍ خالٍ من الرحمةِ ودفعته بقوَّة..ارتطمَ رأسهِ بحافَّةِ الجدارِ الصلبِ لينهارَ جسدهِ الصغير على الأرض، لتسيلَ دمائهِ البريئةِ على جبينه، ممتزجًا بصمتٍ مخيفٍ كالذي فارقَ الحياة..
على الجانبِ الآخرِ من الشارع، كانت مها تترجَّلُ من سيارةِ أجرة..توقَّفت فجأةً عندما رأت المشهدَ أمامها، توسَّعت عيناها بعدما وقعت على وجهِ ايمان الذي ظهرَ بعد سقوطِ الوشاحِ من فوقه، فخرجَ صوتها مخنوقًا بشهقة:
"إيمان!"
ركضت نحو السيارة، لكنَّها اختفت سريعًا، لتلفتَ نحو معاذ الذي سقطَ ملقىً على الأرضِ بلا حراكٍ كالذي فارقَ الحياة، انحنت إليهِ تتمتمُ بذعر:
"معاذ! فوق...أرجوك!"
هزَّتهُ بعنف، لكنَّها توقَّفت عندما شعرت بالدماءِ الساخنةُ تغمرُ يديها، اتَّسعت عيناها برعب، ودموعها انهمرت بغزارة..أمسكت هاتفها بيدٍ مرتعشةٍ وحاولت مهاتفةَ يزن، ورغم محاولاتِ الرنينِ المتواصلة، لكنَّهُ لم يُجب.
حاولت مرَّةً أخرى، وضغطت على زرِّ الاتصالِ بكريم، وهي بالكادِ تستطيعُ التحدُّث:
"كريم...ردّ أرجوك!"
عند يزن في المعرض:
كان كريم يجلسُ بمقابلتهِ يتناولُ قهوته، استمعَ إلى رنينِ هاتفه، أخرجهُ ثمَّ نظرَ إلى يزن:
-دي مها؟!
ابتسمَ ساخرًا ثمَّ أشارَ بيده:
-فكَّك منها، أنا حظرتها من عندي أصلًا،
رفعَ حاجبهِ وتحدَّثَ غامزًا:
-إيه الغزالة غيرانة ولَّا إيه؟..
رفعَ فنجانهِ وارتشفَ بعضهِ ينظرُ بشرود:
-تفتكر اللي زي رحيل دي تنفعني ياكريم؟..
-مش اسمها كدا يايزن، اسمها إنتَ عايزها، حاسس إنَّك هتقدر تكمِّل معاها، قاطعهم رنينُ هاتفهِ مرَّةً أخرى، فأشارَ إليه:
-دي مصمِّمة، احتضنَ كوبهِ قائلًا:
-ردِّ عليها، بص، أنا فكّّك منِّي، ولا كأنَّك شوفتني.
غمزَ بطرفِ عينهِ وانحنى له:
-يا وحش ياخاطف قلوب البنات، أقطع دراعي من هنا لو مكنتشِ رحيل بتحبَّك..
ابتعدَ بنظرهِ عنهُ ورجفةٌ أصابت قلبهِ متمنيًّا حديثه..
-أيوة يامها، آسف بس مشغول..
على الجانبِ الآخر:
-يزن معاك ياكريم..غمزَ ليزن وأجابها:
-ولا شوفته من كام يوم، بقولِّك يامها، نصيحة فكِّك منُّه، هوَّ..قاطعتهُ تصرخ:
-اسمعني ياكريم فيه ناس هجموا على بيته وخطفوا إيمان وضربوا معاذ حاول توصلُّه.
هبَّ من مكانهِ منتفضًا:
-إيمان مالها، إنتِ بتقولي إيه؟!..جذبَ يزن الهاتف:
-إيه اللي بيحصل يامها في إيه؟..
-يزن بتِّصل بيك من زمان، فيه ستَّات خطفوا إيمان وضاربين معاذ، وراسه بتنزف..
ركضَ إلى درَّاجتهِ البخاريةِ وقادها بسرعةٍ جنونيةٍ ولم يستمع إلى حديثِ كريم الذي هرولَ خلفهِ بسيارته..
دقائقَ معدودةً ليصلَ إلى منزله، قفزَ من فوق درَّاجتهِ على الزحامِ بعد صراخِ مها والتفافِ الجمعِ حولها..
اقتربَ يزن، وعيناهُ تدورانِ بجنونٍ بحثًا عن أخته..عندما وقعت عيناهُ على معاذ الملقى على الأرض، كادَ قلبهِ يتوقف.
"معاذ! معاذ!"
ركعَ بجواره، يمسكُ بوجههِ الذي أخفتهُ الدماء، يهزُّهُ بعنفٍ محاولًا إيقاظه، نظرَ إلى مها التي كانت تبكي بلا توقُّف، وصرخَ فيها بنبرةٍ هزَّتها من الداخل:
"فين إيمان؟! مين عمل كده؟!"
"اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك"
الحب أحيانًا يحتاج إلى التضحية والصبر، خاصة عندما تكون الجراح عميقة. القرار الصعب بالابتعاد قد يكون ضروريًا للشفاء، لكن المشاعر الحقيقية دائمًا ما تجد طريقها للظهور.
بمنزلِ آدم:
وصلَ إلى منزلهِ بعد الإدلاءِ بأقواله، دارَ زين كالجريح هادرًا بنبرة ممزوجة بالألم:
-على آخرِ الزمنِ اتجرِّ في الأقسام بسبب حيوانة، وابني المتخلِّف، قاطعه آدم متألمًا:
- بابا لو سمحت أنا مخنوق ومش متحمِّل كلمة..
-لا والله، احمد ربنا يادكتور، لولا وكيل النيابة المحترم، المتقِّي ربِّنا كان زمانه مشي ورا رجلِ الأعمال اللي بيشتري الناس بفلوسه..
وصلت إيلين على أصواتهم، رمقها بنظرةٍ تحملُ الكثيرَ من الآهاتِ ثمَّ تحرَّكَ إلى شقَّتهِ دون حديث، ربتت مريمُ على كتفها تهمسُ إليها:
-اطلعي ورا جوزك حبيبتي..خطت إلى وقوفِ زين:
-خالو ايه اللي حصل؟..
مسحَ على وجههِ بعنف، كادَ أن يقتلعَ جلده، أشارَ أحمد إلى مريم:
-مريم اعملي عصير ليمونادا لبابا، أومأت موافقةً وتحرَّكت للداخل، اقتربت إيلين إلى جلوسه:
-خالو حضرتك مابتردش ليه؟..الستِّ دي بلَّغت على آدم ليه؟..
حاوطَ رأسهِ عندما عجزَ عن الحديثِ
بينما أردفَ أحمد:
-علشان رفض يرجَّعها، لفَّقتله تهمة أنُّه حاول يقتلها..
شهقةٌ أخرجتها من بين شفتيها متسائلةً بذعر:
-وعملتوا إيه؟..جلسَ أحمد وقصَّ إليها ماصارَ قائلًا:
-القضية كانت مع وكيل نيابة محترم، مصدقشِ كلامها، بعد ماعرف، ووقعها بالكلام، بس طبعًا أبوها مسكتشِ وحاول يردِّ كرامة بنته، وحاول الضغط بكلِّ طرقه، إدارة الجامعة طبعًا وقَّفت آدم عن العمل، لحدِّ ما التحقيقات تنتهي.
-إيه...قالتها بعيونٍ مصدومة، وقلبًا مفتَّتًا بالوجع..
قاطعهم دلوفُ سهام ومحمود، والد إيلين، بصوتٍ غاضبٍ يزلزلُ الأجواء:
إيه اللي بيحصل دا؟ إزاي ابنك يتجوِّز على بنتي يا زين؟ أنا أسافر كام شهر، أرجع ألاقي بنتي جوزها متجوِّز عليها؟!" رمقَ إيلين بنظرةٍ يملؤها الغضب، وهدرَ بصوته:
"لمِّي هدومك يا بتّ..أنا مستحيل أسيبك يوم واحد في البيت دا، ومتخافيش من حد أنا هقفلُهم كلُّهم، مش كنتِ عايزة تطلَّقي؟ هطلَّقك منُّه غصب عنه"
قاطعتهُ إيلين بصراخٍ مرتعش، اختلطت فيه القوَّةُ بالحزن:
"ومين قال لحضرتك إنِّي عايزة أطلَّق؟! أنا بحبِّ جوزي ومش هطلَّق منه!.. وياريت تبعد عن حياتي يا بابا."
ثمَّ اقتربت بخطواتٍ ثابتةٍ تشيرُ إلى سهام، وهدرت بحدَّة:
"إنتَ والستِّ دي مالكوش تدخَّلوا في حياتي."
ثمَّ التفتت بنظرةٍ قوَّيةٍ نحو زين، وكأنَّها تبحثُ عن ملاذٍ أخير:
"خالو، البيت دا بيتي، وياريت تعرَّف أبويا كتَّر خيره إنُّه تعب وجه خايف عليَّ." قالتها بنبرةٍ حاولت أن تبدو قوية، ورغم ذلك لم تستطع إخفاءَ رعشةِ الحزنِ التي تسلَّلت إليها.
تحرَّكت نحو البابِ بخطوةٍ واثقة، ثمَّ استدارت ترمقَ سهام بنظرةٍ اخترقتها:
"آسفة يا مدام سهام، جوزي تعبان ولازم أكون جنبه، البيت بيتك، وأكيد هتلاقي ضيافة محترمة...ما هو حضرتك في منزل زين الرفاعي."
قالتها بحسمٍ وارتقت السلَّمَ بخطواتٍ ثقيلةٍ كأنَّها تحملُ جبالاً فوق قلبها.
بشقَّتها، دلفت بخطواتٍ متردِّدة، تخشى أن توقظَ ألمًا جديدًا في قلبهِ المثقلِ بالهموم..وجدتهُ مستلقيًا على الفراش، يغلقُ عينيهِ وكأنَّهُ يهربُ، من صخبِ الحياةِ الذي أنهكه، تقدَّمت بهدوءٍ وجلست بجوارهِ على الفراش..
حدَّقت في ملامحهِ التي بدا عليها الإرهاق، وجبينهِ الذي ارتسمت عليهِ خطوطٌ من الوجع..شعرت بوخزةٍ في قلبها وهي ترى الرجلَ الذي أحبَّتهُ يتحمَّلُ كلَّ هذا العبءِ وحده..خلَّلت أناملها بين خصلاتِ شعرهِ برفق، محاولةً أن تمسحَ بأطرافِ أصابعها شيئًا من ألمه..
مالت نحوهِ، وقبَّلت جبينهِ قبلةً طويلة، وكأنَّها تقولُ له "أنا هنا...ولن أترككَ وحدك"رفرفَ أهدابهِ الثقيلة، وفتحَ عينيهِ قليلاً ليجدها تراقبهُ بنظرةٍ مشبعةٍ بالحبِّ والقلق، همسَ بصوتٍ خافت:
"إيلين محتاجة حاجة؟"
اعتدلَ قليلًا، مستندًا على الوسائدِ خلفهِ لكنَّها اقتربت منه، تطالعهُ بعينينِ غمرها الحزن:
"إيه اللي حصل؟ وليه كانوا بيحقَّقوا معاك من إمبارح؟"
أغمض عينيه للحظات، ثم تمتم:
"مفيش حاجة...عايز أرتاح، من إمبارح منمتش، عندي صُداع ومش حاسس بدماغي، لو مفيش حاجة مهمَّة، سبيني أنام"
شعرت بقلبها ينفطرُ وهي تراهُ بهذا الضعف، لم ترد عليه بل، ترددت للحظات ثم صعدت بجوارهِ على الفراش، وجلست تشيرُ إلى ساقيها بابتسامةٍ دافئة:
"نام هنا...أعملَّك مساج، كلِّ الألم هيروح."
نظرَ إليها للحظاتٍ ، ثمَّ تمدَّدَ برأسهِ فوق ساقيها، أغمضَ عينيهِ وارتسمت على وجههِ ابتسامةً باهتةً يشعر بلمسةُ أملٍ وسطَ ظلامه.
بدأت تحرِّكُ أناملها برفقٍ بين خصلاتِ شعره، وكأنَّها تعزفُ سيمفونيةٍ من الطمأنينة..كانت تنظرُ إليهِ بنظراتٍ تحملُ كلَّ ما لم تستطع الكلماتُ التعبيرَ عنه، قرَّبت وجهها من أذنه، وهمست بصوتٍ ناعم:
"حاسس بإيه دلوقتي؟"
فتحَ عينيهِ قليلاً، لتلتقي عيناهُ بعينيها القريبتينِ جدًا، تلاقت نظراتهما في صمتٍ ساحر، وكأنَّها تحملُ حديثًا طويلًا من الحبِّ الذي لا يحتاجُ إلى كلمات..رفعَ كفَّيها برفقٍ من على رأسه، وطبعَ قبلةً دافئةً على راحتيها.
شعرت برجفة تسري في جسدها، وارتفعت دقات قلبها، ليشعر بأنها تدق على باب قلبه ليجذبها أكثر إليه،. لم تستطع مقاومة تلك المشاعر الجياشة التي اجتاحتها، فمالت برأسها وطبعت قبلة رقيقة على جبينه.
رفع رأسه قليلاً، ليطبع قبلة طويلة على وجنتها، ثم سحبها نحوه لتجد نفسها في حضنه. احتضنها بقوة وكأنها الحصن الذي يحتمي به من كل شيء. همس في أذنها بصوتٍ مبحوح مليء بالحب:
"إيلين... عايزك كدا على طول تكوني الأمان اللي عايز أعيشه."
ابتسمت بخجلٍ ودفنت وجهها في صدره، تستمعُ إلى صوتِ دقَّاتِ قلبه، الذي بدا وكأنَّهُ يعزفُ لحناً خاصًّا بها..رفعَ وجهها برفقٍ بأنامله، ونظرَ في عينيها بعمقٍ، ثمَّ اقتربَ ليطبعَ قبلةً على شفتيها، قبلةً حملت كلَّ ما عجزَ عن قوله، قبلةً جعلتهما ينسجانِ معًا لحظةً من الحبِّ الخالص، بعيدةً عن كلِّ ما يشوبُ حياتهما.
لم يعد العالمُ موجودًا في تلك اللحظة.. ليتحول العالم أجمع إلى عالمٌ لا يسكنهُ سوى قلبينِ ونبضًا بنبض عشقهما
بالمشفى عند ميرال
مساءَ اليوم، دخلَ إلياس غرفةَ المشفى بخطواتهِ الثقيلة، كالذي يحملُ على كتفيهِ جبالاً من الهموم، نظرَ إلى ميرال التي غفت بسلام، وورغم ملامحها الهادئةِ إلَّا أنَّ وجهها كان شاحبًا...وقفَ للحظة يتأمَّلها، وروحهِ تستنجدُ بها..التفتَ ببطءٍ إلى والدتهِ التي كانت تجلسُ بالقرب، وعيناها غارقتانِ في مصحفها، تطمئِنُ قلبها بكلماتِ الله، شعرت بوجودهِ فرفعت رأسها بابتسامةٍ مفعمةٍ بالحنان:
"حمدَ الله على السلامة يا حبيبي."
"الله يسلِّمك."
اقتربَ بخطواتٍ هادئةٍ نحو ميرال وسبحَ بعينيهِ بتفاصيلها، ثمَّ سألَ والدتهِ بصوتٍ خافتٍ حملَ خوفًا خفيًّا:
"هيَّ عاملة إيه دلوقتي؟"قالها ثمَّ
انحنى بحنانٍ وجمعَ خصلاتِ شعرها التي انسدلت على وجهها، نظرت والدتهِ إليهِ وربتت على كتفه، وخرجت كلماتها كبلسمٍ لقلقه:
"كويسة يا حبيبي...بس سألت عليك لمَّا اتأخَّرت."
أومأ متفهِّمًا، ثمَّ أجابها:
"عدِّيت على القسمِ علشان أشوف عملوا إيه مع راجح."
صمتت للحظة، ثمَّ سحبت ذراعهِ بخفَّة، تقودهُ بعيدًا عن السريرِ وعيونها تحكي الكثيرَ من القلق، خفضت صوتها وسألت بلهجةٍ متوجِّسة:
"إنتَ اللي جبته هنا، ياإلياس؟!"
أخرجَ زفرةً حملت غليانَ صدره، ثمَّ هزَّ رأسهِ نافيًا بقوَّة:
"لا، ياماما أنا عرفت بس إنُّه بيحاول يضغط عليَّا، ما توقعتش إنُّه هيجي لهنا..شكِّيت، وفعلاً كان ناوي يخطف يوسف...بجاحته دي؟ ما تخيلتهاش أبداً."
لمعت دموعها كاللآلئِ في ضوءِ الغرفةِ الخافت، وونطقت بنبرةٍ مرتجفةٍ ممزوجةٍ بالخوفٍ الذي ملأ قلبها:
"إلياس، ابعد عن الراجل ده، أبوك بيقول إنُّه تبع منظمات إرهابية..إحنا مش قدُّه يا حبيبي، أنا السبب في كلِّ ده.
شعرَ بطعنةٍ حادة في قلبهِ من كلماتها، رفعَ رأسهِ بعنادٍ وتمتم:
"ممكن ما نتكلمشِ في الموضوع ده؟ ملكيش دعوة.."
انهمرت دموعها بغزارة، وطالعتهُ بنظراتٍ معاتبةٍ ثمَّ أردفت بنبرةٍ متألِّمةٍ وكأنَّها تصرخُ بكلِّ ما تحملهُ من مشاعرِ الأمومة:
"يا بني، حرام عليك أنا قلبي مش هيستحمل، خلِّيني أفرح بوجودكم جنبي، أنا مش عايزة أخسرك إنتَ واخوك"
أغمضَ عينيهِ بقوَّة، يحاولُ إخمادَ الغليانِ الذي يحرقُ داخله، صوتها المتألِّمَ يُنهكُ روحه..فتح عينيهِ وهي تتمتمُ وصوتها يخرجُ متقطِّعًا بين شهقاتها:
"اللي يخلِّيه يفتح بطنِ بنته وهيَّ حامل وكان عايز يقتلها، ممكن يعمل أيِّ حاجة فيكو، هوَّ قبلِ كدا هدِّدني بيكو."
تشبَّثت بذراعهِ وبيدينِ ترتجفانِ همهمت:
"مش هحلف بحياتي عندك بس وحياة ابنك يا بني، فكَّر فيه متوجعشِ قلوبنا عليك وعلى ابنك."
لم يتحمَّل كلماتها التي كانت كالسياطِ على قلبه، رفعَ يديهِ وحاوطها بذراعيه، ليحتوي كلَّ ضعفها وخوفها..ضمَّها إليهِ بقوَّة ٍيحاولُ أن يطمئنها وهمسَ بحنانٍ مشوبٍ بالغضبِ المكبوت:
"ماما، متقوليش كده، إيه مش أحلف بحياتي؟ مين قالِّك إنِّك مش غالية عندي؟ بلاش تضعفيني في الحتَّة دي، يامدام فريدة..إنتِ عارفة ومتأكدة ممكن أهدم الكون كلُّه علشانك، وعارفة إنِّي بخاف عليكي حتى من ِقبل ما أعرف إنِّك أمِّي..
رفعت رأسها تنظرُ إليهِ بعينينِ مليئتينِ بمزيجٍ من الحبِّ والرجاء، ثمَّ تمتمت بصوتٍ خافت:
"عايزة أحضنك يا إلياس."
لم ينتظر حتى تُكملَ كلماتها، كانت مشاعرها كافيةً لتقتحمَ قلبهِ ليضمَّها إلى صدرهِ بحنانٍ يغلبهُ الألم، ارتفعَ بكاءها بين أحضانهِ وهي تهمسُ بصوتٍ مخنوق:
"وحياة أغلى حاجة عندك، ما تحرم أمَّك من حضنك يا حبيبي."
ابتعدت قليلاً عنهُ تنظرُ إليه، عيناها غارقتانِ في دموعها تتوسلهُ:
"ابنك يا بني، فكَّر فيه هوَّ ومراتك..خلِّيك جنبهم."
ضمَّ وجهها بين يديه، وقبَّلَ جبينها بحنانٍ عميق:
"علشان ابني ومراتي، الراجل ده لازم ينتهي يا ستِّ الكل، تمام كده؟"
"برضو يا إلياس..."
لم يمهلها لتكمل، استدارَ نحو ميرال وهو يقول:
"صاحبيني بقى يا مدام فريدة ما صدَّقتي تاخدي عليَّا"
لكنَّهُ توقَّفَ عن الحديثِ فجأةً عندما لمحَ ميرال مستيقظة، ودموعها تسيلُ على وجنتيها بصمت، اندفعَ نحوها بخطواتٍ ملهوفة:
"ميرال..بتعيطي ليه؟"
ابتعدت بعينيها عنهُ كأنَّما تخفي مشاعرها المتضاربة..
انحنت فريدة بحنانِ أمٍّ تودُّ لو تقتلعَ الألمَ من قلبِ صغيرتها:
حاسة بإيه يا حبيبة ماما؟
رفعت ميرال عينيها المبتلَّتينِ بالدموع، وردَّت بصوتٍ متحشرجٍ وأجابتها:
مفيش يا ماما.
نظرَ إلياس إلى والدته، وقالَ بهدوءٍ يشوبهُ الأرق:
روحي يا ماما، من إمبارح وإنتِ هنا، وأنا معاها، كلَّمت الدكتورة وقالت كام ساعة وهنرجع البيت.
ربتت والدتهِ على ذراعهِ بحنانِ الأمّ، تمتمت برفق:
خلاص يا حبيبي، خلِّي بالك منها..أرسلان كلَّمني وقال هيعدِّي على البيت علشان غرام رجعت مع غادة.
أومأ دون كلام، بينما جمعت والدتهِ أشياءها بنظرةٍ أخيرةٍ لميرال، ثمَّ سألتها:
محتاجة حاجة يا ميرو؟
هزَّت ميرال رأسها، بالكادِ خرجَ صوتها وهي تردُّ بخفوت:
لا، سلِّمي على عمُّو.
طبعت قبلةً دافئةً على جبينها، وهمست لها بنبرةٍ حنونة:
افرحي بابنك يا حبيبتي...وانسي أيِّ حاجة.
بعد فترةٍ من مغادرةِ فريدة، سادَ صمتٌ ثقيلٌ، قطعهُ إلياس بصوتٍ رخيم:
إيه رأيك تتمشِّي شوية؟
رفعت ميرال رأسها ببطء، تطالعهُ بعينينٍ تائهتينِ وتمتمت بصوتٍ يحملُ بين طيَّاتهِ الرجاء:
"عايزة أشوف ابني..لو سمحت"
اقتربَ منها إلياس،وتجوَّلت عيناهُ بالغرفة، ليلتقطَ وشاحًا ثقيلًا ووضعهُ على كتفيها بحذرٍ كما لو كانت قابلةً للكسر، همس:
تعالي نطلع نشوفه، بس اتحرَّكي بحذر.
ابتسامةٌ ممزوجةٌ من التعبِ والامتنان، وأومأت برأسها، مدَّ يدهِ ليساعدها على الوقوف، وكأنَّما يحملُ معها ثقلَ خطواتها المتعثِّرة..لم تكد تخطو خطوتينِ حتى أطلقت تأوُّهةً خافتة، قبضت على كفِّهِ بألم، فانحنى إليها يهمسُ بصوتهِ المبحوح:
أشيلك؟
رفعت عينيها إليه، لتلتقي نظراتهما، ورجفةٌ أصابت قلبها لتشعرَ برغبةٍ جياشةٍ أن تخترقَ أحضانه، حتى تُشبعَ روحها المهلكة، لكنَّها تراجعت بارتباكٍ وهي تتذكَّرُ الجراحَ التي تركها لها..
تحرَّكت بخطواتٍ بطيئة، يتخلَّلها ألمًا خافتًا، ثمَّ توقَّفت تلتقطُ أنفاسها المتقطِّعة..فجأةً، انحنى وحملها بين ذراعيه، كما لو كانت كنزًا يخشى عليه من الضياع.
إلياس..نزِّلني..
نظرت إليه بعينينِ متوسِّلتين، لكنَّهُ أجابها بصوتهِ الذي لايقبلُ الجدال:
عايزة تشوفي ابنك؟ يبقى لسانك جوا بوقِّك..بلاش أضطر أسكِّتك بطريقتي... وهموت وأعملها، على فكرة أنا مش قديس يا ميرا..
-إيه موضوع ميرا دا؟..
-بعدين، أقولِّك عليه، بتسأليني وأنا شايلك ولسة والدة..
-أنا مطلبتش على فكرة..ابتسمَ ساخرًا وهو يدلفُ إلى المصعدِ قائلًا:
-وأنا قولت مش عايز أسمع صوتك.
استسلمت بصمتٍ وهي تشعرُ بدفءِ صدرهِ فدفنت رأسها في صدره، وكأنَّها تريدُ أن تهرب َمنهُ داخلَ أحضانه.. ابتسمت ساخرةً من نفسها على شعورها الذي وصفتهُ بالغباء.
وصلَ بها إلى الحضَّانة، وضعها برفقٍ على قدميها، لكنَّها شعرت وكأنَّها لا تزالُ تحملها ذراعاه لمحاوطتهِ لها بكلِّ ما يملك..
وزَّعت نظرها بين الأطفال، تشيرُ إلى زوجها:
-أنهي فيهم ياإلياس؟..فين يوسف؟
رفعَ عينيهِ إلى ابنه، أشارَ إلى الزجاجِ حيث يرقدُ طفلهما..ارتجفَ قلبها وشهقت بقوَّة، كأنَّها لأوَّلِ مرَّةٍ ترى معنى الحياة.
اقتربت من الزجاج، وضعت كفَّها المرتجفَ عليه، تشعرُ أنَّها تلمسهُ رغم المسافة:
ابني...يوسف، حبيبي...إمتى أضمَّك لحضني؟
اقتربَ إلياس منها، وحاصرَ جسدها بذراعهِ، وهمسَ بصوتٍ يحملُ وعدًا:
كلَّها أيام وهيكون في حضنك، شدِّي حيلك يا ميرا، وأقوي علشانه.
رفعت عينيها الممتلئتينِ بالدموعِ إليه، همست بشفتينِ مرتعشتين:
أنتوا أغلى حاجة في حياتي يا إلياس، مستحيل أفرَّط فيكم، حتى لو فضلت أعاني العمر كلُّه.
شعرَ بكلماتها تتسلَّلُ إلى أعماقهِ كبلسم لجراحِ قلبه، ضمَّ وجهها بين كفَّيهِ وهمسَ بصوتٍ يحملُ العشقَ الدفين:
وأنا مستعدّ أضحِّي بحياتي علشانكم يا ميرال...
ابتسامةٌ تحملُ الكثيرَ من الألم، ثمَّ وضعت رأسها على كتفه، ونطقت بصوتٍ ضعيف:
أنا مش عايزة تضحِّي بحياتك...أنا عايزة أكون بعيدة شوية، ألملم جروحي اللي لسة بتنزف...خلِّي حبِّي ليك شفيع إنِّنا نبعد شوية.
قطبَ جبينهِ بشدَّة، ونظرَ إليها باستغراب:
ليه؟ ليه مصرَّة تعصَّبيني؟ دايماً تخلِّيني أخرج عن شعوري، وترجعي تقولي أنا مفتري!
احتضنت ذراعهِ بتوسُّل، وكأنَّها تخشى أن يبتعدَ عنها:
"إلياس علشان خاطري، متتعبش قلبي
خفضَ رأسهِ قريبًا منها، وتمتمَ بنبرةٍ جياشة:
-بلاش نوجع بعض ياميرال، علشان كدا بنإذي بعض..
انسابت دموعها بغزارة، أزالها بأصابعهِ برفقٍ وقالَ بشيئ من حنان:
بدل الدموع دي، فكَّري إزاي نرجع بإبننا، إزاي نكون سوا..مش نبعد.
هزَّت رأسها بضعف، وقالت بنبرةٍ محطَّمة:
-أنا مجروحة وموجوعة وخايفة..
-تبقي غبية ومتخلِّفة، وأنا مش هفضل أدلَّع وأطبطب كتير.
-يبقى مبتحبنيش ياإلياس..
صمتَ للحظة، ثمَّ زفرَ بقوًَة، ونظرَ إلى طفلهما وقالَ بحدَّة خافتة:
شوفتي الولد؟ يلَّا ننزل..قلِّة الكلام معاكي أحسن.
عند يزن:
تمَّ جحز معاذ بالمشفى، ظلَّ بجوارهِ لعدَّةِ ساعات، ثمَّ خرجَ من غرفةِ أخيهِ كمن يحملُ العالمَ فوق كتفيه، عيناهُ ممتلئتانِ بالقلق، وخطواتهِ متخبِّطةً يبحثُ عن أختهِ بتيه، وجدَ كريم يقفُ بالخارجِ فتوجَّهَ إليه بلهفةٍ تسبقُ كلماته:
"إيه يا كريم، وصلت لحاجة؟"
هزَّ كريم رأسهِ بحسرةٍ وأجابَ بنبرةٍ تشوبها الكسرة:
"قدَّمت البلاغ، بس قالولي لازم يعدِّي أكتر من أربعة وعشرين ساعة عشان يتحرَّكوا."
انعقدَ حاجبا يزن بغضبٍ مكبوت، ثمَّ أدارَ وجههِ نحو غرفةِ أخيه بنظرةٍ مفعمةٍ بالأسى قبلَ أن يلتفتَ إلى كريم مجدَّدًا:
"خلِّيك هنا وأنا هتصرَّف."
أمسكهُ كريم من ذراعهِ بقلقٍ وهو يسألهُ بجدِّية:
"هتروح فين؟"
تردَّدَ يزن للحظةٍ قبل أن يتذكَّرَ راكان، فتوهَّجت عيناهُ ببصيصٍ من الأملِ وأجاب:
"فيه حدِّ كبير أعرفه، مش ممكن يسكت، هيعمل حاجة أكيد."
ربتَ كريم على كتفهِ مطمئنًّا رغم قلقهِ الواضح:
"طمِّني يا يزن...لولا معاذ مكنتش هستنَّى."
أومأ له يزن سريعًا وتحرَّكَ بخطواتٍ متسارعة، كأنَّ الأرضَ تشتعلُ تحت قدميه.
بعد وقتٍ قصير، وصلَ إلى مكتبِ راكان، عيناهُ تبحثانِ عنه كالغريقِ الذي يتشبَّثُ بقشة..سألَ عنه بتلهُّف، لكنَّهُ لم يكن موجودًا، أطلقَ زفرةً حارقةً وبدأ يتراجعُ بخطواتٍ ثقيلة، وكأنَّ الألمَ يمزِّقُ كلَّ خليةٍ في جسده.
وفي طريقهِ للخروج، لمحت عيناهُ وقوفَ جاسر مع أحدِ الأشخاص..خطا يزن نحوهِ كأنَّ القدرَ يهديهِ خيطًا أخيرًا للخلاص.. حاولَ تجلية صوتهِ المبحوحِ من التوتر، ثمَّ قال:
"حضرتك...ممكن دقيقة؟"
التفتَ إليه جاسر بعينينِ حادتين، متأمِّلًا وجههِ الذي يحكي مأساتهِ قبل أن ينطق..
"فيه حاجة؟"
قال يزن بصوتٍ متلعثمٍ لكنَّهُ مليئًا بالإصرار:
"أنا المهندس اللي حضرتك قابلتني من حوالي تلات شهور...الظابط إلياس السيوفي كان كلِّمك عنِّي."
حاولَ جاسر أن يسترجعَ ملامحهِ دون جدوى، لكنَّهُ أومأ له مشجعًا:
"طيب، محتاج إيه؟"
قصَّ يزن عليه ماصار سريعًا، كأنَّ كلماتهِ تتسابقُ مع الوقت، وعيناهُ تبرقانِ بألمٍ لا يُخفى، دقائقَ فقط مرَّت، لكن وقعها على يزن كما لو كان يُعيد شريطَ عمرهِ كاملًا، وافقَ جاسر على مرافقتهِ للتحقِّقِ من الأمر..بعد قليلٍ وصلَ إلى منزله..
في الشارع، وقفَ جاسر يدقِّقُ في المكانِ بعينِ الخبير، ثمَّ سأل:
"فيه كاميرات هنا؟"
هزَّ يزن رأسهِ بحسرةٍ وأجابَ بصوتٍ متقطِّع:
"حضرتك شايف المكان...ناس على قدِّ حالهم، الكاميرات رفاهية مش في حساباتهم."
أومأ جاسر بتفهُّم وهو يمسحُ المكانَ بنظراتٍ ثاقبة، فجأةً، وقعت عيناهُ على متجرٍ يبعدُ أمتارًا قليلة، فاندفعَ نحوهِ بخطواتٍ سريعة، وتبعهُ يزن بقلبٍ يكادُ ينفجر..
دخلَ جاسر إلى المتجر، وقال للشابِّ الواقفِ خلف الطاولةِ بابتسامةٍ مصطنعة:
"عندك سجاير يابني؟"
أجابهُ الشابَّ الذي بدا في أوائلِ العشريناتِ من عمره، وهو ينظرُ إليه بريبة:
"أيوة، عايز نوع إيه؟"
استندَ جاسر على طاولةِ المحلِّ وهو يتفحَّصُ المكانَ بعناية، لفتَ انتباههِ الكاميرا المعلَّقة، فأشارَ إليها قائلاً:
"الكاميرا دي شغالة؟"
أومأ الشابُّ بالإيجاب، فقالَ جاسر بنبرةٍ جادَّةٍ ممزوجةٍ بابتسامةٍ واثقة:
"طيب، عايز أشوف تسجيلات كاميرا المحل من إمبارح، من الساعة خمسة المغرب لحدِّ الساعة تمانية."
ارتبكَ الشابُّ وأجابهُ بتوتر:
"ماينفعش..حضرتَك مين؟"
اقتربَ جاسر منه بثقةٍ ممزوجةٍ بحدَّة، أمسكهُ من عنقهِ برفقٍ مُهدَّد، وقالَ بابتسامةٍ ماكرة:
"أنا اللي هيجاوبك عالسؤال ده بعد ما تفتحلي التسجيلات...يلَّا افتح الجهاز."
تردَّدَ الشابُ للحظة، لكنَّهُ في النهايةِ أُرغمَ على فتحِ الجهاز..
جلسَ يزن خارجَ المنزل، بكتفينِ مثقلينِ بالهمومِ ورأسهِ منكَّس من الألم..يشعرُ بتعبِ أنفاسه، وكأنَّ الهواءَ انسحبَ من حوله، كلَّ نفسٍ يختنقُ في صدره، شعرَ بيدِ مها تربتُ على كتفهِ بحنو، وتمتمت بصوتٍ هادئٍ تحاولُ تهدئته:
هنلاقيها إن شاءالله، الظابط ده باين عليه شاطر..باين من طريقته، صدَّقني.
رفعَ يزن رأسهِ ببطء، عيناهُ مليئتانِ بحزنٍ غائرٍ وألمٍ لا يُخفى، وقالَ بصوتٍ مرتجف:
ليه؟ ليه ما حدش منعهم؟ إزاي دخلوا الحيّ وخطفوها، إزاي أختي تتخطف من بيناتنا؟
عجزت مها عن الردِّ قبلَ أن تهمس:
واللهِ ما فكَّرت في غير إنِّي ألحقها، ما لحقتش أستوعب اللي بيحصل، اتفاجأت زيك.
كلماتها كانت كسكينٍ حادٍّ يمزِّقُ صدره، اقتربت منه، وحاولت التخفيفَ عنهُ غير قادرةٍ على النظرِ في عينيه، أخرجَ زفرةً حارقةً يريدُ أن يحرقَ بها الكون، ورغم ذلك أومأ متفهِّمًا، قاطعهم اقترابَ راحيل بخطواتٍ متسارعة، وجهها يشعُّ قلقًا..
يزن! كريم قال لي حاجة غريبة؟ إيه اللي بيحصل؟
وقفت راحيل بجواره، ووزَّعت نظراتها بينهِ وبين مها التي تراجعت أكثر، وأردفت بصوتٍ خافت:
أنا في بيتي، لو الظابط احتاجني قول لي..
هزَّ يزن رأسه، بالكادِ يستطيعُ الردَّ قبلَ أن يهمس:
"شكرًا يا مها."
غادرت مها بخطواتٍ بطيئة، رنَّ هاتفهِ فجأة، أمسكَ به بلهفةٍ ويداهُ ترتجفانِ وكأنَّهُ يتعلَّقُ بخيطِ نجاةٍ وسطَ بحرٍ هائج:
"أيوة..مين؟"
جاءَ صوتُ الرجلِ من الجهةِ الأخرى، محمَّلاً بالتهديد:
أختك عندنا بأمان دلوقتي، لكن الظابط اللي معاك مش هيوصل لحاجة..لو عايزها سليمة، ورقة طلاق مراتك تكون بالليل في إيديها..غير كده أختك هترجع، لكن مش زي ما هيَّ ولو البوليس عرف انساها، والصراحة هيَّ عجباني وعايزاك تنساها.
فُصلت المكالمة وهو يشعر وكأنَّ سكينًا اخترقَ صدره...ظلَّ يزن ممسكًا بالهاتفِ يحدِّقُ فيه بصمت، أنفاسهِ متقطِّعة، وكلماتهِ عالقةً في حنجرته.
اقتربَ جاسر منه، طالعهُ بحاجبينِ معقودينِ وهو يقولُ بحزم:
العربية اللي شفناها في الكاميرات كانت من غير نمر، وكأنِّنا بندوَّر على إبرة في كوم قش..بس متخافش، إن شاء الله إدِّيني كام ساعة وهتصرَّف.
لكن يزن لم يردّ، وكأنَّهُ لم يستمع إليه.. نظراتهِ فقط كانت على راحيل، وجودها أمامهِ يزيدُ من آلامه، وصوتُ الرجلِ ما زالَ يتردَّدُ في أذنه، يحرقُ كلَّ خليةٍ في جسده..ورقةِ الطلاق...أم أخته؟ صراعًا بين حياتهِ وحياةِ أخته ، وبين قلبهِ وروحهِ التي تنهارُ مع كلِّ لحظةٍ تمر.
بمنزلِ اسحاق:
جلسَ على جهازِ عملهِ الخاصِّ يواصلُ أعمالهِ باهتمام، قاطعهُ رنينَ هاتفه:
-أيوة فيه إيه؟..
-مفيش أثر ياباشا لمدام دينا للأسف، قلبنا عليها المكان مش موجودة..
-يعني إيه؟..مشغَّل شوية عيال، بكرة تكون قدَّامي، بدل ماأدفنكم كلُّكم.
بعد عدَّةِ ساعاتٍ جلسَ يلتقطُ سترتهِ وتحرَّكَ إلى منزلِ والدته، دقائقَ ودلفَ للداخلِ وجدها تجلسُ مع إحدى صديقاتها:
-معقول إسحاق باشا عندي..
رمقَ صديقتها وأردفَ متهكِّمًا:
-كفاية عليكي الجواري اللي عندك، نهضت صديقتها ترمقهُ بنظرةٍ حادَّة، ليهتف:
-الباب على الشمال، أوعي توقعي بجزمتك اللي شبه صنارة السمك..في الآخر ممكن يكون ماضيكي زي مدام أحلام، أوعي تكونوا مدوبينهم خمسة وأربعين..
-إيه ياأحلام قلِّة ذوق ابنك دي..
-أووه امشي على بيتكو، بينادوا عليكي عندك غسيل وطبيخ، امسحي البوهية اللي بتدفعي عليهم فلوس العيل اللي إنتِ متجوِّزاه، وشوفي كرنبة وجهِّزي عشوة حلوة لجوزك يمكن عمره يطول ويفضل يحبِّك.
-إسحاق..صاحت بها أحلام.
التفتَ يرمقها ساخطًا:
-إيه عايزة كرنبة؟ولَّا شوية بط تربِّيه؟..
-سوفاج..قالتها صديقتها وتحرَّكت مغادرةً المكان..
ارتفعت ضحكاتهِ وهو يجذبُ المقعدَ يجلسُ عليه، يقومُ بتقليدها:
-سوفاااج..الله يرحم أبوكي، كان بيلبس البنطلون مقلوب.
-إنتَ ياحيوان إيه اللي بتعمله دا، هبَّ من مكانهِ واقتربَ منها بعيونٍ تطلقُ سهامًا حتى اختلَّ جسدها وهوت على المقعد تنظرُ إليه بخوف، وتمتمت بصوتٍ متقطِّع:
-إسحاق أنا لسة بعاني من خنقك ليَّا، حاوطَ مقعدها وغرزَ عينيهِ بمقلتيها:
-هموِّتك ياأحلام لو كنتي ورا موضوع دينا، هخدك كدا وأرميكي في البحر للسمك ياكلك، فاكرة أبويا ياأحلام، فاكرة عملتي فيه ايه؟..
جحظت عيناها تهزُّ رأسها برعبٍ وتمتمت:
-إنتَ فهمت غلط، إحنا كنا أطلَّقنا خلاص، رفعَ كفَّيهِ وحاوطَ عنقها يجذبُ ذلك العقدِ الذي يزيِّنُ عنقها، وأردفَ بهسيس
-شايفة الرقبة الحلوة دي، هلفِّ عليها المشنقة، زمان سكت علشان وعدت أبويا، وعلشان فاروق وبس، دلوقتي مفيش حاجة هتمنعني، ولو فاروق وقف قدامي صدَّقيني هرميه معاكي في البحر، قطعتي الخيط الرفيع، ولولا مكانة الأم اللي ربِّنا حثِّنا عليها واللهِ كنت دفنتك من زمان، لأنِّك متستهليش تكوني أم..فلوسك كلَّها اتحوِّلت باسمِ أرسلان، كلِّ شهر تروحي تبوسي على إيده وتطلبي منُّه مصروفك.
قالها واعتدلَ مرتديا نظَّارتهِ وخطا بعض الخطوات، ثمَّ التفتَ يشيرُ إليها بالعقدِ الذي جذبهُ من عنقها قائلًا:
-دا ههاديه لمرات أرسلان، هقولَّها هدية منِّك، ياله موتي بحسرتك، أنا مسافر يومين هتقرَّبي منهم اعرفي إنِّك بتكتبي شهادة وفاتك، وحياة رحمة أبويا لو جيتي جنب أرسلان لأموِّتك بإيدي، أكيد عارفة ابنك..
بفيلا السيوفي وخاصَّةً على طاولةِ الطعام،
كان الجميعُ يتناولونَ طعامَ الغداء، في جوٍّ من المرحِ الذي أضافهُ أرسلان وهو يقصُّ لهم ماصار إلى راجح، نظرَ إلى فريدة قائلًا:
-عارفة ياماما نسيت أسأله، بيقولوا إيه في الأدان..لكزتهُ غرام تشيرُ إلى طعامه، غمزَ بعينيهِ:
-مالك ياروحي، بتعاكسيني قدَّامهم
عيب..
-لا بقولَّك كل، بقالك ساعة بتتكلِّم ومأكلتش والأكل برد..
ضيَّقَ عينيهِ متسائلًا:
-يعني أنا رغاي..هزَّت رأسها قائلة:
-لا ياحبيبي أنا اللي رغاية..
ضحكت غادة بخفَّة تبتعدُ بنظراتها عنهما، فوقعت عيناهُ عليها متذكِّرًا أوَّلَ مرَّةٍ يراها:
-عارفة إنِّك شبه مراتي، بريئة جدًا..
قاطعتهُ فريدة:
-الطيبونَ للطيباتِ حبيبي، مراتك بنت حلال ربِّنا يباركلك فيها...
ابتسمَ بحبٍّ ينظرُ إلى غرام يهزُّ رأسهِ متمتمًا:
-ماما صفية كمان قالت كدا، تورَّدت وجنتيها خجلًا لتبتعدَ بنظراتها عنهما، فضحكَ بصوتٍ مرتفع:
-شوفتي اتكسفت أهي..
-ربنا يخلِّيها لك حبيبي..حاوطَ جسدها قائلًا:
-دي غرامي ياأمِّي، مش مراتي بس..
مطَّ إسلام شفتيه قائلًا:
-مفيش غرام ليَّا أنا كمان، ألقاهُ بشريحةِ خيار:
-لا ياحبيبي دوَّر بعيد عنِّي..ارتفعت الضحكاتُ بينهما، بينما فريدة التي وقعَ بصرها على مقعدِ زوجها وإلياس وميرال، لتهمسَ بخفوت، ورغم أنَّ الصوتَ خافتًا إلَّا أنَّ أرسلان استمعَ إليهِ وهي تمتم:
-يارب يكمِّل فرحتنا بالغايبين..
ربتَ على كفَّيها وابتسمت عيناها:
-هيرجعوا بالسلامة إن شاءالله..قاطعهُ رنينَ هاتفه:
-أيوة ياملاكي...عند ملك، ابتعدت عن صفية تهمسُ له:
-ارسلان مجتش ليه؟ ماما قاعدة في الحديقة منتظراكم.
حمحمَ معتذرًا وعيناهُ على فريدة، ثمَّ أجابها:
-حبيبتي هعدِّي عليكم، إحنا كدا كدا هنبات عندكم النهاردة..استمعَ إلى صراخها المبهج:
-احلف..ابتسمَ بحنانٍ أخوي قائلًا:
-وحياة ملاكي عندي، خلِّيهم يجهزوا أوضتنا كدا حلو؟..
-أحسن أخ دا ولَّا إيه..أنهى مكالمتهُ ينظرُ إلى فريدة بأسى:
-عارف كنت واعدك هنبات النهاردة هنا، بس بابا مشفتوش من إمبارح، وعدِّيت على دكتوره، قالِّي علاجه إنِّي أحسِّسه باهتمامي، بابا تعبان خايف أبعد عنُّه..
ربتت على ظهرهِ بمحبةٍ قائلة:
-لا ياحبيبي روح له، هوَّ مهما كان باباك، وله حق عليك، وفاروق بيحبَّك أوي يابني، وربِّنا بيحبِّني أكتر..
رفعَ كفَّيها وطبعَ قبلةً فوقهما:
-ربِّنا يخلِّيكي ليَّا ياستِّ الكل، نظرَ إلى غادة:
-قهوتي أستاذة غادة..نهضت مبتسمة:
-عيوني، توقَّفت غرام متحرِّكةً خلفها:
-هروح أعملها لك معاها، أوقفتهم فريدة:
-الشغالة هتعملها حبيبتي..هزَّت غرام رأسها بالرفضِ قائلة:
-لا ياماما..آسفة لحضرتك بس قهوة أرسلان أنا اللي بعملها.
غمزَ بطرفِ عينهِ وأردفَ مشاكسًا:
-أصلها بتحطِّ لي جرعة مخدِّر ياماما..
طالعتهُ فريدة بشهقة:
-إنتَ بتقول إيه؟!..هزَّت رأسها تضحكُ عليهِ فسحبت نفسها وتحرَّكت خلفَ غادة..التفتَ ضاحكًا ثمَّ أردف:
-مالك يامدام فريدة على رأي ابنك التقيل..مخدِّر حب وعشق يافريدة مش اللي في دماغك، طلعتي حما إنتي كمان.
بعد عدةِ أيامٍ والوضعُ كما هو،راجح الذي حُبسَ خمسةً عشرً يومًا احتياطيًا على ذمَّةِ القضية، خرجَ من السجنِ متَّجهًا إلى النيابةِ العامةِ لاستكمالِ التحقيقات، توقَّفت رانيا أمامهِ بعد تهديدهِ الواضحِ لها:
-عملتي إيه؟..
ارتجفَ جسدها وهي تطلَّعُ إليه:
-مابلاش ياراجح، إنتَ كدا هتفتح نار جهنَّم علينا، نظرَ إلى الشرطي، ثمَّ قبضَ على ذراعيها:
-هفضحك متنسيش إنتِ دلوقتي تحت ضرسي، هتروحي تنفِّذي كلِّ اللي قولته، أنا لازم أنهيهم قبلِ ماينهوني..
-تمام، هكلِّمه وهوَّ هيتصرَّف، رفعَ كفَّيهِ على وجهها وأردفَ شامتًا:
-برافو عليكي يارانيا، ووعد أرَّجع لك بنتك، ومتخافيش البنتِ مش هتعمل حاجة، مهما كان إنتِ أمَّها، أه هتقرف منِّك شوية، بس هترجع وتعترف بينا، ووقتها نعرف نستغلَّها كويس.
جذبهُ الشرطي بعدما استمعَ إلى صوتِ الرجلِ بدخولهِ إلى وكيلِ النيابة..
دلفَ إلى الداخلِ وجدَ إلياس جالسًا بعجرفتهِ كعادته، توقَّفَ بعدما أشارَ راكان إلى الكاتبِ أن يفتتحَ القضية كعادته، ثمَّ رفعَِ وجهه إلى راجح متسائلًا عن التهم المنسوبة إليه..
لا ياباشا همَّا اللي خطفوا بنتي، وهدُّدوني، وقالوا لي لو حاولت تقرَّب منها هنسجنك، ماهم رتب، وأنا أكتر واحد عارف أصحاب الرتب بتعمل إيه..
وزَّعَ نظراتهِ بينهما ثم أشارَ للكاتب
-اكتب يابني:
بناءً على اختصاصِ النيابة العامة، نطلب من السيدة ميرال جمال الدين الحضور إلى مقرِّ النيابة العامة..
اكتب اليوم والتاريخ في تمامُ الساعة.. اكتب الوقت، وذلك للإدلاءِ بشهادتها في القضية، اكتب رقمِ القضية، ويرجى الالتزام بالموعدِ المحدَّد، ونحيطكم علمًا بأنَّ عدم الحضور قد يعرِّضها للمساءلةِ القانونية..
قاطعهُ راجح قائلًا:
-مروة راجح الشافعي ياراكان باشا، مش ميرال زي مابيدُّعوا..
قالها وهو يغرزُ عينيهِ بأعينِ إلياس الصامت..
-إنتَ مااخدتش وقتك، يبقى ماتتكلمشِ غير لمَّا أذن لك..قالها راكان بحدِّة..أومأً برأسهِ ورسمَ الطاعةِ قائلًا:
-تحتِ أمرِ معاليك، بس قبل ماتحكم وأنا طمعان في عدلِ معاليك، تجيب البنت لوحدها من غير ما حضرةِ الظابط يقرَّب منها، أصله هيهدِّدها، وهي هتشهد، هتقولَّك قد إيه الراجل دا ظالم ومفتري وبيتبلَّى علينا..
-خلَّصت كلام..خده ياعسكري.
رمقَ راجح إلياس ساخرًا، وتحرَّكَ دون حديث، ممَّا جعلَ الشكَّ يتسلَّلُ إلى قلبهِ بأنَّهُ فعلَ شيئًا، عكسَ مخطَّطه.
قطعَ شرودهِ راكان:
-الراجل دا بينك وبينه حاجة غير محاولته ابتزازك، وخطف ابنك؟..
هزَّ رأسهِ بالنفي، ثمَّ نهضَ يغلقُ حلَّتهِ قائلًا:
-لو مفيش حاجة تانية تسمح لي أمشي؟..
تراجعَ راكان بجسدهِ وعيناهُ تخترقُ إلياس ثمَّ أردف:
-بس هو بيتكلِّم بثقة، وأنا آسف، لازم مدام ميرال تشهد، إنتَ عارف طبعًا شهادتها هتفرق، ياأمَّا يثبت زي ماقال إنَّها بنته ودي طبعًا مش هيكون فيها قضية، أما لو شهدت..القضية هتتطوَّر وممكن كمان يكون حبس، دا خطف وتهديد بالقتل.
-أنا قولت الِّلي عندي ياراكان باشا، معنديش كلام تاني..قالها واستدارَ للمغادرة ليوقفهُ راكان:
-لو كان فيه ضغط على المدام إنتَ هتتأثَّر ياإلياس، خلِّي بالك من النقطة دي..طالعهُ بنظرةٍ واثقة:
-المدام في بيتها ياراكان باشا، وأكيد هتعرف لو حاولت..اتِّصل بيها، مش أنا اللي أستخدم مراتي في حسابات شخصية، وزي ما قولت لحضرتك الأمر كلُّه بسبب أسهم الشركة، قالها ثمَّ ارتدى نظارتهِ وتحرَّكَ مغادرًا المكان..
بعد يومين بمنزلِ ميرال،
وضعت الخادمةُ أمام فريدة عصيرها، نظرت إليها فريدة:
-وبعد هالك، أصرِّيتي ترجعي على بيتك، رغم محاولته ركبتي دماغك، يابنتي مينفعشِ اللي بتعمليه، ابنك بكرة يخرج من الحضَّانة، مش هينفع تربِّيه لوحدك..
ترقرقت عيناها بالدموعِ وأردفت:
-ماما فريدة، سبيني براحتي لو سمحتي، لازم أبعد شوية، احترموا قراري لو سمحتي، مش هوَّ قال لو مرجعتش عنده حياتنا انتهت، اعتبريها انتهت.
-بتغلطي يابنتِ فريدة، وكدا هتزهَّقي جوزك منِّك، أوعي تفكَّري هيبكي عليكي..
لمعت عيناها بالمرارة، وأردفت بنبرةٍ مكسورة:
-خلاص ياماما أنا رسمت حياتي، وهوَّ كمان لازم يبعد عنِّي ويرسم حياته، مش هياخد منِّي غير الألم والوجع، مركزه حسَّاس وأنا متأكدة إنِّ راجح مش هيرحمه، وشوفتي بعينك
استمعت فريدة إلى رنينِ هاتفها.
-أيوة حبيبي..
-ماما أنا هتأخَّر شوية، هعدِّي على يوسف كمان، قولي للمدام متخرجشِ برَّة النهاردة، معرفشِ راجح ناوي على إيه.
-هوَّ مش محبوس ياحبيبي؟..
زفرَ بغضبٍ ثمَّ أردف:
-شكله بيحضَّر لمصيبة، هيَّ مطلوبة تشهد بكرة في النيابة، المهمِّ ماتخرجشِ من البيت، جذبت الهاتفَ من فريدة وهدرت به:
-أنا هنزل أشوف ابني ياإلياس، قولت لك الراجل دا خلِّيني منِّي له، أنا مش هفضل محبوسة، سمعتني؟..
-طيب يبقى إعمليها وأنا أقسم بالله أحرمك من ابنك، واحدة متخلِّفة..قالها وأغلقَ الهاتف..
ثارت جيوشُ غضبها تنظرُ إلى فريدة بحزن:
-شوفتي بيقول إيه..سحبت نفسًا ودفعتهُ متوقِّفة:
-أنا هروح أطمِّن على يوسف، وبلاش إنتِ النهاردة بس، لمَّا نشوف راجح ناوي على إيه..
بعد فترةٍ من مغادرةِ فريدة، أمسكت هاتفها بعد تفكيرٍ دامَ لدقائق:
إنتَ فين ؟!
نهضَ معتذرًا:
نعم ياآخرة صبري، أيكونشِ خلعتي جوزك وأعجبتي بيَّا، ماأنا حلو برضو.
-ظريف، تعالَ ليَّ فورًا، علشان أخوك مش ناوي يجبها البر.
-ما أنا قولت لك ياأمِّ يوسف، أنا أحسن منُّه، على العموم لو هتجهِّزي عشا رومانسي هجيلك، غير كدا ماأعرفكيش..
-أرسلان لازم تيجي لي فورًا، وبطَّل تريقة، في مصيبة.
ابتسمَ ساخرًا:
-هوَّ أنا من يوم ماعرفتكوا شوفت حاجة غير المصايب، الحمدُ لله، ماغيرتش اسمي، أنا عند أهلي، انسوني ياعيلة هم..
سبَّتهُ تصرخ به:
-عشر دقايق وتكون عندي، جاتك نيلة وإنتَ رغاي..قالتها وأغلقت الهاتف.
نظرَ إلى الهاتفِ المغلقِ بشهقة، يشيرُ إلى غرام:
-شوفتي البتِّ قفلت في وشي..
ارتفعت ضحكاتها تهزُّ رأسها:
-تستاهل، ماإنتَ استفزِّتها
-لا ياحنينة، دي تربية ابنِ السيوفي، يارب أشوف فيه يوم، هوَّ والسحلية مراته..
بعد وقتٍ قصيرٍ من انتظارِ وصولِ أرسلان، دلفت الخادمةُ إلى غرفتها بصوتٍ متردِّد:
مدام، الظرف دا جالك.
تناولت الظرفَ بيدٍ مرتجفة، فتحتهُ ببطءٍ كأنَّها تخشى ما ستجدهُ داخله؛ ارتفع نبض قلبه بعنفٍ وهي تخرجُ منه أسطوانةً وبعضَ الأوراق..تراجعت بخطوةٍ للخلفِ وهمست لنفسها:
أسطوانة؟...بتاعة إيه دي؟!
بدأت تقرأُ الأوراق، وعيناها تتسعانِ برعبٍ مع كلِّ كلمة،فجأة، شهقت بقوَّةٍ وسقطت الأوراقَ من يدها، بينما ارتجفَ جسدها، هرعت إلى جهازِ الكمبيوتر بيدينِ ترتعشان، فتحتهُ بسرعةٍ وهي تشعرُ وكأنَّ الهواءَ أصبحَ ثقيلاً في صدرها، وعندما ظهر ما بداخلِ الأسطوانةِ على الشاشة، تجمَّدت في مكانها..انفلتت دمعةٌ من عينيها، ثم تبعتها دموعًا أخرى، تشعر قلبها ينفجرُ من الداخل.
في تلك اللحظة، قطعَ رنينُ الهاتفِ البكاء القاتل..مدَّت يدها بتردُّدٍ وهي بالكادِ تلتقطُ أنفاسها، وردَّت بصوتٍ مبحوح:
"ألو؟"
جاءها صوتًا عميقًا وهادئًا، لكنَّهُ يحملُ تهديدًا مبطَّنًا:
أكيد عارفة هتعملي إيه..
وقبل أن تنطقَ بكلمة، أغلقَ المتَّصلَ الخطّ، تاركًا صوتَ الصمتِ يلفُّ المكانَ من جديد..تجمَّدت لثوانٍ، ثمَّ سقطت على ركبتيها بعجز، تنظرُ حولها كمن يبحثُ عن مخرجٍ من كابوس.
فجأةً، جذبت هاتفها وأصابعها ترتجف:
"أرسلان، إنتَ فين؟"
أجابها متحدِّثًا بنبرةٍ مازحةٍ رغم قلقهِ الواضح:
إيه يا بنتي، أوعي يكون وحشتك كده..
لكنَّ صوتهِ المرح تبدَّدَ عندما استمع الى صوت بكاؤها توقَّفَ للحظة، ثمَّ وضعَ يدهِ في جيبهِ حينما رنَّ هاتفه..رفع إصبعه ِمعتذرًا وقال :
لحظة، هردّ على إلياس!!
فتحَ الخطَّ بصوتٍ جاد:
-أيوة، يا بني، إنتَ فين؟
جاءهُ صوتُ إلياس متعبًا لكن حازمًا:
أنا في المستشفى، ماتخفش، بابا معايا، خلي بالك من ماما وميرال.
قطبَ أرسلان جبينهِ بقلق وقال:
- إيه؟ لأ، أنا جايلك حالًا.
ردَّ عليهِ إلياس بصرامة:
اسمعني، متتعبنيش..ماما رجعت مع غادة لبيت ميرال، خلِّي بالك منهم، وأنا الصبح هكون عندك، جرح بسيط مش مستاهل تقلق.
تردَّدَ أرسلان للحظة، وهو ينظر إلى غرام وشعرَ بالعجزِ يجتاحهُ وقال بصوتٍ مبحوح:
-إلياس...في إيه؟
لكن إلياس قاطعهُ بنبرةٍ حادَّة:
خلاص، هقفل دلوقتي.
أغلقَ إلياس الهاتف، وبدا أرسلان والقلق ينهش صدره، التفتَ إلى غرام التي كانت تقفُ بجانبهِ تراقبُ ملامحهِ القلقة، وسألتهُ بارتباك:
"أرسلان، مالك؟ في إيه؟"
تجاهلَ سؤالها، وتحرَّكَ بخطواتٍ متوترةٍ نحو منزلِ ميرال، لكنَّهُ توقَّفَ عندما وصلت سيارةُ فريدة..خرجت من السيارةِ بخطواتٍ مسرعةٍ واتَّجهت إليه، عيناها تمتلئانِ بالرعب:
-أرسلان، أخوك ماله؟ إيه اللي حصل؟
أمسكَّ بيدها وسحبها إلى الداخلِ وهو يقول:
معرفش! اتَّصل وقالِّي إنُّه في المستشفى، حتى مقاليش أنهي مستشفى.
شهقت ميرال التي كانت خلفه، تطالعه بعينين زائغتينِ تنطقان عن خوفٍ دفين:
-أنا كنت عارفة...كنت عارفة إنُّهم مش هيسكتوا!
اقتربت غرام منها، واحتضنتها بقوَّة، وصوتها يفيضُ بالمؤازة:
حبيبتي، اهدي ما ينفعشِ كده.
انهارت ميرال بين ذراعيها، وبدأت تبكي بشهقاتٍ متقطِّعة:
خلِّيه يبعد عنِّي يا ماما...واللهِ راجح مش هيسيبنا في حالنا..هوَّ عايز ورقة طلاقي علشان يرتاح...خلِّيه يطلَّقني، مش هوَّ اللي قال وقت ما أطلب الطلاق هيطلَّقني؟ ليه رجع في كلامه؟
ربتت غرام على ظهرها، ومسحت دموعها وهي تقولُ بحنان:
لأنُّه بيحبِّك يا بنتي، متمسِّك بيكي لأنُّه بيحبِّك.
رفعت ميرال رأسها، وعيناها غارقتانِ بالدموع، وقالت بصوتٍ مخنوق:
وأنا بعشقه، واللهِ بعشقه..بس مستقبله أهم، هو قالها لي بنفسه مش هريَّح ابنِ السيوفي طول ما أنا على ذمِّته.
ثمَّ أمسكت بكفَّي والدتها بقوَّة، وقبَّلتهما وهي تتوسَّل:
لو بتحبِّيني زي ما بتقولي...خلِّيه يطلَّقني، أنا كفاية عليَّا يوسف، واللهِ ما هتجوِّز تاني لو عايز تعهُّد بكده هعمله..دول ناس مجرمين، أنا عرفت حقيقتهم..وهو كمان عارفهم..
نظرت غرام إليها بصدمة، وهمست بصوتٍ يملؤهُ الخوف:
إنتِ قصدك إيه يا ميرال؟
هزت رأسها وارتفعت شهقاتها متحركة إلى الأعلى..شعر ارسلان أن هناك خطب ما مرعب، هناك ماتخفيه قد يؤدي إلى الهلاك..أشار إلى الأعلى
-اوضتها فين، ثم أشار إلى غرام
-اطلعي وأنا جاي وراكي لازم اتكلم معاها، اتجه بنظره الى فريدة
-ماما إلياس كويس، أكيد بيخطط لحاجة، بس ايه معرفش، هطلع لميرال ونازل على طول
صعد بعض درجات السلم توقف على رنين هاتفه، ليتوقف مجيبًا:
-أيوة ياعمو...على الجانب الآخر
-حبيبي أنا في المطار، هستناك بكرة متتأخرش، هقفل الفون خلي بالك
-عملت ايه في موضوع مكتب إلياس ياعمو...سحب نفسًا عميقًا ثم زفره قائلًا:
-للأسف متقلب ياارسلان، أنا ادخلت شخصيًا، وفيه حد بيحاول يلم الموضوع..ضرب بقبضته على الدرج
-ياولاد الكلب ..قاطعه إسحاق
-متقلقش، أنا هلم الموضوع، نخلص بس العملية، متنساش دي مهمة جدًا جدًا..
-تمام ياعمو، ربنا يسهل ..
في اليومِ التالي:
دلفت ميرال إلى غرفةِ وكيلِ النيابة.. بخطوات متثاقلة، لكنَّها محمَّلةٌ بثقلِ القرارِ الذي اتّّخذته..في الداخلِ كان راكان يكتبُ ملاحظاتهِ بدقَّةٍ قبلَ أن يرفعَ عينيهِ نحوها ويسألها بنبرةٍ جادَّة:
إيه رأيك في اللي قاله المتَّهم راجح الشافعي؟
قبلَ أن تجيب، فُتحَ الباب فجأة، ودخلَ أحدُ المسؤولينَ قائلاً بصوتِ متردِّد:
إلياس باشا برَّة، وعايز يدخل لحضرتك
رفع راكان حاجبه بدهشةٍ كمن لا يصدق ما يسمعه، ثم أشار بيده قائلاً بصوتٍ يحمل غضباً مكبوتاً:
ازاي يعني يدخل؟ عايز يحضر التحقيقات!
توقف راجح مبتسمًا وكأن يملك العالم بأسره، لم يُظهر أي توتر، بل نظر ميرال نظرة مشبعة بالسخرية، وأردف بنبرة مليئة بالاستخفاف:
"أو يمكن يهددها... مش كده يا مروة؟"
اخترقت كلماته صدرها كالنصل الذي استقر في صدرها، لكن قاطعه راكان بعاصفة من الصرامة وهو يهتف بصوتٍ هادرًا:
هو أنا سمحت لك بالكلام؟ مسمعش صوتك!
ثم أشار بيده إلى الحارس بجانب الباب وأمره دون تردد:
"دخله!"
انفتح الباب ببطء ودخل إلياس بخطوات واثقة، ألقى التحية ثم تحدث بصوتٍ مبحوح يحمل آثار الأيام الماضية:
آسف يا باشا قطعت كلام معاليك، بس مراتي لسه والدة من أسبوعين وخفت عليها.
تراجع راكان بجسده في كرسيه قليلًا كأنه يزن الكلمات، ثم رفع حاجبه بحدة وقال بثقة لم تهتز:
"وأنا هتعبها يعني يا حضرة الظابط؟"
ثم أدار رأسه نحو ميرال، التي كانت جالسة وكأنها تحارب عاصفة بداخلها، وهمس وكأنه يطمئنها:
"سؤالين وبس، مراتك مش متهمة علشان تخاف عليها."
أومأ له إلياس بامتنان، وقال بخفوتٍ يحمل داخله شعوراً بالاستسلام:
شكرًا لمعاليك. أنا هفضل بعيد، واعذرني على تدخلي.
ضحك راكان بسخرية قائلاً بتهكمٍ واضح:
طيب لو رفضت يا إلياس يا سيوفي؟ هتفضل برضو؟
رفع إلياس رأسه بثبات وابتسم ابتسامة هادئة أخفت خلفها غضبه، ثم قال بصوت ثابتٍ لكنه مثقل:
"لا طبعًا. إحنا رجال قانون ومش هنكون فوق سلطته يا راكان باشا. ولا يهمك، أنا بره، ومراتي هنا في أمانتك.
استدار بخطوات بطيئة نحو الباب، لكنه توقف فجأة حينما استمع الى صوت راكان:
اقعد واستنى مراتك، وده مش بعمله مع حد، بس علشان ظروف مراتك.
استدار إلياس ببطء، وجهه يعكس تناقضات كثيرة بين الامتنان والقلق و رسم ابتسامة واهنة وقال بهدوء لا يخلو من الاحترام:
-شكرًا لمعاليك. أنا كنت داخل بإرادتي، وحضرتك خرجتني بإرادتك. بالتالي، مينفعش أكسر إرادة حضرتك أو قوانين معاليك... أنا بره.
وجه نظره إلى ميرال، التي كانت تجلس بلا حراك، كأنما تحاول السيطرة على أنفاسها المتلاحقة، وتمتم بصوتٍ بالكاد يُسمع:
"انا بره مستنيكي"
تجمّدت ميرال في مكانها للحظة، كلمات إلياس التي ألقتها وسط محيط متلاطم، لكنها لم تستطع أن تتمسك بها، جاءها صوت راكان كالصاعقة يقطع شرودها:
-راجح الشافعي بيقول إنك بنته، وإنهم خاطفينك. ومش بس كده، جوزك بيهددك علشان تعيشي معاه"
صمت قاتل للحظات، نظرت ميرال إلى راجح، الذي بدا وكأنه يستمتع بكل لحظة برعبها، ثم تذكرت إلياس وطفلها، مزيج من الصور والأصوات تضرب عقلها وقلبها، إلى أن شعرت كأن أنفاسها تُنتزع من رئتيها، حاولت التحدث، لكن الكلمات عاندتها. فجأة، قاطع الصمت صوت راكان بالسؤال مرة أخرى
رفعت ميرال رأسها ببطء، عيناها تحتجزان بالدموع التي أبت أن تسقط، وقالت بصوتٍ متحشرج يحمل كل الألم الذي كانت تخفيه:
- من يوم ما فتحت عيني وأنا معرفش غير إني ميرال جمال الدين.
أومأ راكان برأسه مشجعًا لها أن تكمل. لكن ميرال التفتت فجأة نحو راجح، الذي بدا وكأنه يفترس ضعفها بعينيه. عادت بنظرها إلى راكان، وصوتها يرتجف بشدة وهي تحاول السيطرة على انهيار وشيك:
"أنا فعلًا مش ميرال جمال الدين..."
ضحكة راجح العالية قطعت الجو كصفعة على وجه ميرال، ارتفعت ضحكاته كالذي فاز بانتصار ساحق، ثم قال بنبرة مشبعة بالازدراء:
وظهر الحق! مش قولتلك يا باشا؟ خطفوها وهددوها.
نظرت إليه وهي تشعر بنفسها كالجمرة المشتعلة، صرخت بصوتٍ عالٍ ملأ الغرفة:
آه، مش ميرال جمال الدين... بس أنا كمان مش مروة اللي المجنون ده بيقول عليها!
تقدمت بخطواتٍ متسارعة نحو راجح، كأنها تستمد قوتها من كل الألم الذي شعرت به، صرخت مجددًا بصوتٍ مختنق بالألم والغضب:
"أنا ميرال وبس!"
وفجأة انقضت عليه كمن فقد عقله، أظافرها تغرز في وجهه بلا رحمة. صرخت بصوتٍ يكاد يشق الغرفة نصفين:
أنا مستحيل أكون بنتك! مستحيل! أموت ولا أكون بنت واحد مجرم زيك!
حاول راكان التدخل سريعًا، لكنه وجد نفسه أمام عاصفة لا تهدأ. صرخ بها بقوة وهو يمسك بيدها بعنف ليبعدها عنه:
مدام ميرال!
**لكنها لم تتوقف، كأنها تطلق كل ما كان يحرق روحها لسنوات. بكاؤها بدأ يعلو، وأخيرًا انهارت بين يدي راكان، جسدها يتهاوى كأنه لم يعد يحتمل، ليشير إلى رجله
-نادي على جوزها
دلف إلياس إلى المكتب في لحظة واحدة، كطفل مذعور يبحث عن أمانه. وقف للحظة يشاهد زوجته، قلبه يتمزق وهو يرى شبحها المنهك بين ذراعي راكان. خطى نحوها بسرعة، ضمها بحذر بين ذراعيه، وهمس لها بصوتٍ عاجز:
"ميرال أهدي"
لكنها لم تستجب..لتدفعه بقوة تصرخ كالمجنونة
-"ابعدو عني، انا مش عايزة حد فيكم، انا ميرال وبس، ارحموني ..قالتها لتسقط بين يديه وهي فاقدةً للوعي، وقد خيم السكون على المكان بعد عاصفةٍ لن تُنسى أبدًا بقلبه مما ألقته عليه"