رواية فوق جبال الهوان الفصل الثاني والعشرون 22 بقلم منال سالم

رواية فوق جبال الهوان الفصل الثاني والعشرون 22 بقلم منال سالم

رواية فوق جبال الهوان الفصل الثاني والعشرون 22 هى رواية من كتابة منال سالم رواية فوق جبال الهوان الفصل الثاني والعشرون 22 صدر لاول مرة على موقع التواصل الاجتماعى فيسبوك رواية فوق جبال الهوان الفصل الثاني والعشرون 22 حقق تفاعل كبير على الفيسبوك لذلك سنعرض لكم رواية فوق جبال الهوان الفصل الثاني والعشرون 22

رواية فوق جبال الهوان بقلم منال سالم

رواية فوق جبال الهوان الفصل الثاني والعشرون 22

الفصل الثاني والعشرون
آن أوان الثــأر، ولن يتم ذلك إلا بعد ترتيب مسبق مع أحد تابعيه، حتى يحدث المراد، ويتربع على عرش القوة والسلطة، فقد طال انتظاره للحصول على هذه المنزلة الهامة واستعادة ما سُلب من عائلته قديمًا، لذا بذل "العترة" الغالي والنفيس لشراء ذوي النفوس الضعيفة، وأعد العدة للقيام بهجومه المباغت في هذا اليوم تحديدًا متوقعًا أن يحقق الانتصار الساحق، ويدعس خصمه اللدود تحت قدمه.
من قبيل الاحتياط، توارى "عصفورة" عن الأنظار وهو يتعمد إجراء تلك المكالمة العاجلة ليمنح معلومة ثمينة لمن باعه ولائه. تلفت حوله لأكثر من مرةٍ، قبل أن يؤكد في صوتٍ جعله خفيضًا:
-دي فرصتكم، لو عايزين تحطوا عليهم وما تقوملهمش قومة من تاني!
انتظر لهنيهة ليسمع ما يقوله الطرف الآخر قبل أن يشدد عليه:
-أنا بلغتكم باللي عندي، ومستني الحلاوة، ماتجوش تنسوني ساعتها.
سكت للحظاتٍ، ثم أضاف في جديةٍ:
-سلام، علشان محدش ياخد باله.
تنفس بارتياحٍ، وأعاد وضع الهاتف في جيبه، ما إن التفت ورائه حتى وجد "عباس" يقف على مسافة مترين منه، ويطالعه بنظراتٍ نارية شرسة، ليلوي بعدها ثغره معقبًا في تهكمٍ ساخط:
-وليه الاستعجال؟ ما تكمل على راحتك.
وكأنه رأى ملك الموت بأم عينيه، فهربت الدماء من عروقه، وشحب وجهه للغاية، فيما خرج صوته متقطعًا مرتعشًا:
-ريس "عـ..عباس"!
فرقع الأخير بإصبعيه آمرًا بعض أتباعه:
-هاتوه الكلب ابن الـ .... ده، اشحنوه على الخرابة!
في التو استجابوا لأمره، وانقض عليه اثنان من الرجال الأشداء، ليقيداه من ذراعيه، فصاح في توسلٍ مذعور:
-إنت فاهم غلط يا ريس "عباس"، أنا معملتش حاجة.
أخبره ببرودٍ مميت:
-صح ولا غلط، مش أنا اللي هحاسبك، استلقى وعدك بقى يا حلو من الكوبارة بذات نفسه!
قاوم "عصفورة" انقياده القسري إلى حتفه قدر المستطاع هاتفًا بفزعٍ عظيم:
-استنوا يا رجالة، اسمعوني بس.
توعده "عباس" بلا رأفة:
-فاكرينا داقين عصافير يا "عصفورة"، ده إنت هيتنتف ريشك ريشة ريشة!
هتف مدافعًا عن نفسه مدعيًا بالكذب، والخوف قد استحوذ على كامل بدنه: 
-مظلوم يا جدعان.
لم يصغِ إليه أحد، وسحبوه سحبًا تجاه إحدى السيارات الخاصة بهم، ليلقوا به بداخلها، قبل أن يستقر بجواره آخر، وتنطلق في مسارها.
...............................
كانت كمن لا يراه وهي جالسة بجواره على المقعد الخلفي، لم تحاول النظر تجاهه ولو لمرةٍ واحدة، رغم إحساسها بأنه لم يبارح نظرته عنها، مقتت للغاية هذا الشعور الموجع بقلة الحيلة، كم ودَّت لو امتلكت من القوة والنفوذ ما يُمكنها من ردعه، ومعاقبته على جرائره معها، أيظن أن الإجبار والعنف قد يجدي نفعًا معها؟ أيعتقد في نسيانها لما صار وأوصل والدها الراحل لهذه الحالة اليائسة؟ إنه لواهم حقًا إن ظن أنها قادرة على تجاوز ما عاشته بسهولة. تنبهت "دليلة" من شرودها المشحون بكل الأفكار العدائية حينما سمعت صوت هذا الغريب المتواجد معهما يقول بلهجةٍ محذرة:
-يا كبيرنا، في وشوش شكلها غريب متجمعة على الناصية.
أمعنت النظر في الطريق محاولة تبين مقصده، بينما استمر الرجل يقول في توجسٍ:
-مش باين عليهم إنهم من الناس اللي نعرفها.
قال "زهير" مفترضًا:
-جايز جايين يعزوا...
تعمد إلقاء كلماته وهو ينظر إلى تأثيرها على ملامحها، وأضاف وهو يقرأ تعبير السخط المرسوم على وجهها المتجهم:
-ما احنا حبايبنا كتير، وما بيفتهومش واجب.
غمغمت بصوتٍ خفيض مستاء؛ لكنه كان مسموعًا إليه:
-معدتش إلا السرسجية يحضروا!
فجـأة صدح الرجل مُطلقًا تحذيره الخطير:
-دول جماعة "العِترة".
ضيق "زهير" عينيه ليتبين صدق ما فاه به، فحينما اقتربت السيارة من محيطهم، شاهد ما تحمله أياديهم من رشاشاتٍ آلية وأسلحة متفرقة، ليتحفز على الفور في جلسته، ضاربًا بقبضته على كتف الرجل وهو يأمره:
-اقطع من الطريق ده.
دون ترددٍ أو استفسار لبى أمره، وانحرف بالسيارة في حركة نصف دائرية، أحدثت فيها إطاراتها وهي تحتك بالأسفلت صوتًا عاليًا، لتثير انتباههم، لتنطلق بعدها صيحات استهجانٍ منهم، وكأن نفير الحرب قد صدح. 
صرخت "دليلة" فزعًا حينما أُلقي تجاه جانبها من السيارة زجــاجة موضوع في فوهتها قطعة قماش مشتعلة، بما تعرف بالمولوتوف، لتتهشم على البدن المعدني محدثة دويًا مخيفًا، قبل أن تنطلق منها ألسنة اللهب الحارق وكأنها قنبلة هائلة. لحسن حظها لم تتعرض للأذى، فيما جذبها "زهير" تجاهه من كتفيها، وأمرها وهو يجبر رأسها على الانحناء:
-انزلي تحت.
فعلت مثلما أمر، وانكمشت على نفسها لتختبئ، وسألته في ذعرٍ مبرر:
-هو في إيه؟
تجاهل منحها الجواب، وظل يأمرها بغير تساهلٍ:
-ما تطلعيش إلا لما أقولك.
كانت المسافة الفاصلة بين المقعد الخلفي والأمامي كفيلة لمواراة جسدها النحيف، فجلست فيما يشبه القرفصاء، وخبأت رأسها بمرفقيها، كما شعرت بيد "زهير" موضوعة على عنقها، كأنما يحاول بطريقةٍ ما حمايتها.
تصاعدت الأحداث بشكلٍ جنوني ومتواتر، حيث تكرر الهجوم العدائي، وألقيت زجاجات المولوتوف من كل اتجاه، لتصبح السيارة هدفًا سهل المنال، بينما استمرت "دليلة" في الصراخ المرعوب:
-يا مــاما! الحرب قامت ولا إيه؟
تجرأت لترفع عينيها للأعلى قليلًا، خاصة حينما أبعد "زهير" يده، فرأته قد أخرج هاتفه المحمول من جيبه، ويضعه على أذنه، لتلمح في يده الأخرى سلاحه الناري سرعان ما انفلتت منها شهقة غريزية خاصة وهو يلوح به هادرًا: 
-في كمين معمولنا على أول الحتة يا "كرم"...
دون أن تستوعب ما يدور، تفاجأت به يستخدمه لإصابة أحدهم، فصرخت عاليًا، وخفضت من عينيها بعدما أطبقت عليهما بقوةٍ لئلا تبصر ما يحدث، في حين ظل "زهير" يوجه رجله:  
-دوس بنزين.
شعرت بموجة من الدوار تجتاح رأسها عندما التفت السيارة مجددًا بشكلٍ مباغت في دورة كاملة، وبسرعة عالية جعل أنفاسها تنخطف، وقلبها يتوقف للحظةٍ عن النبض، قبل أن يصيح الرجل مرددًا في نبرة عبرت عن قلقه:
-الطريق اتقفل علينا، شكلها مدبرة يا ريسنا.
رد عليه "زهير" في صوتٍ شبه لاهث:
-كان متوقع إن ده يحصل، بس مكوناش عارفين الضربة جاية إمتى؟
فيما صرخت "دليلة" دون أن تجرؤ على النظر للأعلى:
-ده شغل عصابات وعصبجية، أنا عايزة أخرج من هنا.
حذرها "زهير" في لهجةٍ آمرة:
-ما تطلعيش بدل ما تتغربلي.
وكأن ما حولها تحول لساحة من حرب الشوارع، ارتفعت صيحات الاستهجان المصحوبة بأصوات الطلقات النارية، تلك التي لا تعرف من أين تأتي، قبل أن تشعر بقبضةٍ غليظةٍ تجذبها من مرفقها، وصوته المألوف يأمرها:
-حاسبي.
وجدت نفسها ترتمي لا إراديًا في أحضانه، وذراعه القوي يطوقها من ظهرها، لتنظر إليه فارغة الثغر، فيما هشم أحدهم زجاج جانبها من السيارة بعصا غليظة، فظلت تصرخ بلا توقفٍ، ليسحبها "زهير" إلى الخارج هاتفًا:
-تعالي معايا.
لم يكن أمامها خيار آخر، فقد جذبها بقوته خلفه، فكادت تنكفئ على وجهها بسبب عدم قدرتها على مجاراته، فتراجع ليمسك بها ويدفعها من جانب ذراعها للأمام، لتسمع أحدهم يصيح في غضبٍ:
-وراهم أوام، أوعو يفلتوا منك.
اعتقدت أن هلاكها أكيدًا، ولا نجاة لها من تلك المطاردة المحفوفة بكل أنواع المخاطر؛ لكن على عكس ما ظنت تفاجأت بظهور أتباع "زهير" عندما قادها إلى زقاقٍ جانبي، فراحوا يشكلون عائقًا أمام هؤلاء العتاة، فهتف أحدهم:
-من هنا يا ريسنا.
كانت لا تدري أين تسير أو إلى أين تتجه، انقادت كالعمياء إلى حيث يوجهها الغرباء، لتجد آخرين يقومون بإرشادهما إلى منطقة بعيدة آمنة من التهديد. لم يفلت "زهير" رسغها من أسفل قبضته، وظل يركض بها هنا وهناك وكأن لديه خريطة تامة بأرجاء المكان، إلى أن وصل في النهاية عند بنايةٍ آيلة للسقوط، تسمرت في موضعها مصعوقة، وسألته بأنفاسٍ متقطعة:
-احنا فين كده؟
أمرها وهي تشعر بيديه القويتين تدفعان إياها للتقدم:
-تعالي.
قاومته باحتجاجٍ نافضة قبضتيه عنها:
-أروح فين؟ إنت مش شايف المكان ده؟
جال بناظريه حوله، بينما استمرت تهتف في خوفٍ:
-البيت هيقع.
قبض على معصمها مجددًا، وقال بهدوءٍ:
-متقلقيش.
أجبرها على الصعود معه إلى الأعلى، فاعترتها موجة هائلة من الخوف، خاصة مع تهالك الدرج وعدم وجود درابزين للإمساك به، فبدا من العسير عليها الوقوف باتزانٍ وهي تحاول بلوغ الطابق العلوي. بالكاد تمكنت من السير على البسطة المهدمة، متجنبة الحديد البارز من الجوانب، حتى ولجت إلى ما يشبه المنزل، كان المكان شبه معتم، مطموس المعالم، وبالتالي تركته يوجهها إلى حيث يريد. أخفاها "زهير" خلف جدار قائم من الطوب الأحمر، كان في منتصف المنزل تقريبًا ليحجب عنها الأنظار، ويحول دون وصول أي طلقات غادرة إليها. نظر ناحيتها قائلًا بنفس اللهجة الآمرة:
-خليكي هنا.
كان على وشك المغادرة بعد قوله ذلك، سرعان ما تلفتت "دليلة" حولها محاولة رؤية تفاصيل المكان، فوجدته متهالكًا، وهناك كتل من الحطام والركام منتشرة بشكلٍ فوضوي في كل مكان، بجانب التجمعات الرملية والبقايا العفنة، لذا عفويًا امتدت يدها لتمسك به من مرفقه لتستوقفه، وهي تسأله في ذعرٍ:
-إنت رايح فين وسايبني هنا؟
نظر إلى موضع يدها، فتحرجت من تصرفها اللا إرادي قبل أن تضطر لاستعادها، فأكد لها:
-المكان ده متأمن.
ردت فيما يشبه السخرية:
-إنت بتهزر صح؟ ده كله ضلمة وشكله يخوف واحتمال العمارة تقع، وتطربأ فوق دماغي.
حاول تهدئة روعها بقوله:
-متقلقيش، شوية وراجعلك، المهم ما تظهريش قصادهم مهما حصل.
رغمًا عنها كانت مضطرة للبقاء، راقبته وهو يغادر لتظل بمفردها محاطة بمخاوفها المتزايدة، همهمت مع نفسها باستنكارٍ وهي شبه ترتجف:
-أنا إيه اللي وقعني الوقعة السودة دي؟
..........................
لم يكن ليدع أي شيء يحرمه من الظفر بثـــأره، فأرسل عشرات الرجال المدججين بكافة أنواع الأسلحة الآلية، والبيضاء، وما يلزم لضمان التفوق على غريمه اللعين، فتقدم الرجال في حيطة وحذر، بناءً على ما وردهم من معلومات سابقة، لاجتياح معقل عائلة "الهجام"، وتدميره نقطة نفوذه وقوته عن بكرة أبيها. بسهولةٍ تدعو إلى الريبة والشك، تمكن أتباع "العِترة" من بلوغ وجهتهم، فأصبحوا في الباحة بمقاومة ضعيفة، شبه محدودة، لا تقارن بما هو معروفٍ عن رجال "الهجام" من شراسةٍ وقوة لا يستهان بها. تساءل أحدهم بتعجبٍ:
-الحوار فيه حاجة مش تمام، ولا إنت رأيك إيه؟
رد من يقودهم في توجسٍ:
-وأنا حاسس كده برضوه، مش معقول التَبَّة هادية أوي كده.
رد عليه مبررًا:
-ما جايز كلهم في العزا.
قال مؤَمنًا عليه:
-احتمال...
ليصدر بعدها أمره المسموع والنافذ لمن حوله:
-المعلم "العترة" قال عايزاها نار قايدة، نجيب عاليها واطيها.
رد الأقرب إليه في طاعة:
-وجب.
لينطلقوا في الحال صوب بيته؛ لكن قبل أن تطأ أي قدم الدرج، ظهر عشرات الرجال في محيط التَبَّة وحاصروهم من كل اتجاه، وهم يحملون أحدث أنواع الأسلحة الآلية المصوبة إلى رؤوسهم،  بدا المكان وكأنه ثكنة عسكرية، مؤهلة لمجابهة أشد الأعداء. 
كان "سِنجة" أول من ظهر من داخل البيت ليقول باستخفافٍ وهو يضع بين شفتيه سيجارته الزهيدة:
-طب مش قبل ما تيجوا كنتوا تدونا خبر؟ حتى كنا قومنا معاكو بالواجب!
دفقة من الخوف والقلق سادت بين رجال "العِترة"، ليتساءل أحدهم:
-دول جوم منين؟
تابع كلامه إليهم هازئًا:
-احنا سيبناكو تخشوا الخية برجليكم، وعملنا عليكم كماشة زي ما إنتو شايفين.
ألقى بسيجارته عند قدمه، وخطا فوقها ليسحقها قائلًا بتحدٍ مستمتع وهو يفرك كفيه معًا:
-ورونا بقى هتطلعوا منها إزاي!!
ثم رفع ذراعه للأعلى هادرًا في الجميع:
-هجـــــوم يا رجـــالة!
في لمح البصر امتلأت الباحة الخارجين بمئات الأفراد المزمجرين في غضبٍ، وممن هم مستعدين للاقتـــتـال حتى الرمق الأخير، 
................................
على الجانب الآخر، ظهرت سيارات ربع نقلٍ، تحمل عشرات الأفراد في صناديقها المعدنية، لتتحرك في تتابع منتظم، وكأنها في استعراضٍ واضح للقوى، قبل أن تتوقف في منتصف الشارع الرئيسي لتعيق حركة المرور بشكلٍ تام. ليقوم أحدهم ممن يمتلكون البنية الجسمانية الضخمة بالترجل من السيارة التي تتصدر المقدمة. 
انتصب صاحب الوجه الأسمر، والنظرات الشرسة، في وقفته المتبخترة، ليسير مرتديًا بنطاله الجينز القديم، وقميصه الداكن بتفاخرٍ واستعلاء نحو سرادق العزاء، وصوته الأجش يسبقه مناديًا حتى يلفت انتباهه:
-يا "هــجام"!
اتجه "كرم" ببصره نحو من يألف صوته جيدًا، رماه بنظرة باردة، غير مهتمة، ليتابع الأخير في شيءٍ من التعجرف:
-مرضتش أجي لواحدي، وجبت ناسي معايا تعزي.
ثم فرد ذراعيه على طولهما، لتعج المنطقة بالمزيد من الرجال وهم يتبارون في إظهار ما يملكون من أسلحة على مختلف أنواعها. لم تهتز شعرة واحدة من رأس "كرم"، ورد باسمًا وهو يملأ صدره بالهواء:
-وماله، كله هيتردلك قريب.
ألقى أحدهم بعصا غليظة في الهواء، ليتلقفها "العِترة" قائلًا بما ينم عن نوايا سيئة للغاية:
-ده لو فضلت لسه قاعد فيها.
قبل تحديه الواضح قائلًا بثباتٍ:
-إنت جاي منطقتي تهددني؟ ده حتى عيبة في حقي.
واندفع تجاهه قاصدًا ضربه بيديه العاريتين، ليصيح أحد ما من الخلفية بصوتٍ جلجل في الأرجاء:
-كرسي في الكلوب.
..................................
بينما كانا جالسان على المقهى، وقبل أن تندلع الأزمة، لاحظ "موجي" توتر الأجواء في المنطقة، ليشاطره رفيقه في مراقبة الأوضــاع مستفسرًا:
-حاسس إن في عوأ هيحصل في المكان، شايف الناس اللي حوالينا؟.
رد مؤيدًا:
-أيوه، أشكالهم ماطمنش...
وقبل أن تدور في رأسه فكرة بعينها عن إرجاء انتقامه، تكلم بحسمٍ:
-بس احنا مش منقولين من هنا.
هز رأسه بالإيجاب قائلًا بقلقٍ محسوس:
-ماشي، خلينا ناخد ساتر جوا القهوة، لحد ما الدنيا تروق.
لم يعارضه، فجمع أشيائه، وانتقل إلى داخل المقهى، باحثًا عن موضعٍ آخر يتيح له رؤية مدخل العمارة، وإن كان من زاوية أبعد.
........................................
انطلقت شارة البدء، والتحم الجمعان معًا بضراوةٍ، وراح أتباع كل فئة يكيلون لبعضهم البعض اللكمات والضربات بكل عنفٍ وعداوة، فيما انقض "كرم" على "العِترة" مسددًا لكمة قاسية في وجهه؛ لكنه تفاداها باحترافيةٍ قبل أن يشدد قبضتيه على عصاه الغليظة ليضربه بها على جانبه، فأتت الضربة موجعة ومؤلمة، ليترنح للحظةٍ، ويدعي أنه انحنى أرضًا بعدما فقد اتزانه، وغريمه من ورائه يهزأ به:
-ساعتك أزفت يا "هجام"، في غيرك طلع وهيركب الموجة.
كان غرضه إلهائه وخداعه ببساطةٍ ريثما يتمكن من القبض على حفنة من التراب بيده وفي الخفاء، احتفظ بها داخل قبضته، ثم اعتدل في وقفته، ورد عليه لاصقًا بثغره ابتسامةٍ سخيفة:
-مفكر حتت البتاعة اللي معاك دي هتقدر عليا؟
بكرهٍ شديد أخبره:
-الشومة دي اللي كسرت أبويا بيها زمان، وجه وقت أخدان الحق.
تحداه بأسلوبه المستفز الساخر:
-طب خليك أد كلمتك يا .. راجل، وكمل للآخر!
نجح في استثارة غضبه، فأطلق "العِترة" صيحة أشبه بالزئير، قبل أن يرفع ذراعه للأعلى ليكرر نفس الفعلة السابقة، فيما تمكن "كرم" من الإفلات منها ببراعةٍ، لينفض التراب في وجهه، فتناثر مقتحمًا عينيه، لتلتهب الاثنتان في الحال، مما جعله غير قادرٍ على الرؤية.
أعطى ذلك الفرصة والأفضلية لـ "كرم" ليتفوق عليه، حيث ركله بقسوةٍ أسفل معدته فتأوه من الألم القاسي، وانحنى للأمام، ليقوم بعدها بانتزاع العصا من يده، وضربه بها على ظهره عدة مراتٍ متعاقبة، فانطرح أرضًا وتكوم على نفسه محاولًا حماية وجهه وهو يصرخ من الألم الذي عصف بكل جزئية من أطرافه.
................................
الجلبة الهائلة الصادرة بالخارج استحثت الجميع على متابعة ما يدور عبر الشرفات ومن أسطح العمارات، وكانت "عيشة" من بين هؤلاء الذين استحوذ عليهم الفضول، خاصة مع غياب ابنتها الباعث على الخوف، فانطلقت إلى الخارج لتشاهد ما يجري بالأسفل من تضارب عنيفٍ. لطمت على صدرها صارخة في ذعرٍ:
-يادي المصيبة! الشارع كله ماسك في بعضه.
فيما لحقت "إيمان" بها، وتطلعت إلى الشارع، فشهقت هي الأخرى مفزوعة، لتدير رأسها تجاه والدتها التي راحت تندب في خوفٍ أكبر:
-وأختك ما نعرفلهاش طريق، طب افرضي كانت وسطهم؟ هيبقى العمل إيه؟ 
ربتت على كتفها بترفقٍ، وقالت وهي تضع الهاتف بالقرب من أذنها:
-أنا هكلم "راغب" أشوفه وصل لفين.
أتاها الرد الآلي الذي يفيد بعدم إتاحة هاتفه، فقالت بوجهٍ باهت:
-تليفونه مقفول.
سددت لها "عيشة" نظرة جانبية ناقمة قبل أن تخاطبها في ازدراءٍ:
-هو في مرة نحتاج فيها جوزك في حاجة ونلاقيه؟
كانت محقة في ذلك، فقلما وجدته إلى جوار العائلة في وقت الأزمــات. تنهدت مرددة في حزنٍ ممزوجٍ بالخوف:
-عديها على خير يا رب.
طغت عليها غريزتها الأمومية، فهتفت في عزمٍ، غير مبالية بتبعات اندفاعها الأرعن:
-أنا مش هفضل كده واقفة أتفرج ومش عارفة سكة لبنتي، لازمًا أنزل أدور عليها.
اعترضت "إيمان" طريقها، وأمسكت بها من منبتي كتفيها صائحة:
-تروحي فين بس يا ماما والدنيا مقلوبة تحت؟
سرعان ما غشت الدموع عينيها، فقالت بأسى:
-دي أختك ولواحدها، إزاي أهدى؟
تفهمت طبيعة خوفها، فما كان منها إلا أن سحبتها إلى حضنها، وضمتها قائلة بهدوءٍ:
-إن شاء الله هتكون بخير، أنا هطلبها وأشوف هي فين.
لم ترغب في إفزاع والدتها بقول الحقيقة، فشقيقتها حينما خرجت غاضبة من البيت لم تحمل شيئًا في جيبها، طغى شعورها بالاستياء العارم على أي لمحة من العقل، ورددت فيما يشبه المناجاة: 
-يا رب نجينا من المهالك.
......................................
فزعها أن تظل هكذا بمفردها في هذا المكان الخَرب، وصوت دوي طلقات النار يحاصرها، كانت تموت رعبًا في كل لحظة تمر عليه وهي لا تملك ما تزود به عن نفسها إن تجرأ أحدهم ووصل إليها، وفكر في مهاجمتها. تذكرت أنها نسيت أخذ هاتفها المحمول معها أثناء اندفاعها الأعمى، ولم يكن معها أي نقود لتستخدمها في استقلال وسيلة مواصلات عادية. ضربت "دليلة" بيدها على جبينها في ضيقٍ، وظلت تنتظر حتى أوشك صبرها النفاد، فقالت في عنادٍ:
-ما أنا مش هفضل كده كتير في مكاني مستنية البلطجي ده يجي يطلعني من هنا.
تحفزت قائلة بإصرارٍ:
-أنا هرجع البيت بنفسي، واللي يحصل يحصل.
استجمعت جأشها، وخرجت من مخبأها لتتجه نحو البسطة المتهالكة بخطواتٍ بطيئة محاولة تبين طريقها وسط العتمة، إلا أن قدمها تعثرت في أحد أسياخ الحديد البارزة، فتعرقلت، وانكفأت على وجهها، لتصطدم رأسها بقوةٍ بكتلةٍ حجرية أفقدتها الوعي في الحال.
....................................
لم يتوقف "كرم" عن تأديب من ظنه أنه قادر على هزيمته إلا حينما بات جسده ساكنًا لا يتحرك، تركه ينازع الموت، ليستقيم في وقفته الشامخة وصدره يلهج بقوةٍ. مسح العرق الغزير عن ذقنه بظهر كفه، وخاطب الجميع بصوته الجهوري الأجش وهو يطوح بالعصا في الهواء:
-كبيركم أهوو...
توقف الحشد عن التناحر ليتفقدوا ما آل إليه الوضع، فرأوا كيف غدا "العِترة" عبرة للجميع، ليكمل "كرم" هديره الحانق:
-شايفين؟ مرمي زي الدبيحة بعد ما اتعلم عليه من تاني.
ثم دار بالعصا على أوجه الناظرين إليه من أتباع ذلك الخاسر مضيفًا في زهو:
-وبقيتكم اتعلقوا في التَبَّة، ده لو لسه معندكوش خبر.
صارت نبرته أكثر حدية وهو يتوعدهم:
-أصلها مش هتوقف عند كده.
بدت عيناه عازمتان للغاية ، بل وخاليتان من أي نزعةٍ للشفقة أو الرحمة وهو ينهي خطابه القصير، ضاربًا برأس العصا على الأسفلت القاسي:
-بس نخلص الواجب اللي ورانا، وهحاسب كل اللي خانوا ................................. !!!

انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لجروب الواتساب اضغط هنا