رواية فوق جبال الهوان الفصل الواحد والعشرون 21 بقلم منال سالم
رواية فوق جبال الهوان الفصل الواحد والعشرون 21 هى رواية من كتابة منال سالم رواية فوق جبال الهوان الفصل الواحد والعشرون 21 صدر لاول مرة على موقع التواصل الاجتماعى فيسبوك رواية فوق جبال الهوان الفصل الواحد والعشرون 21 حقق تفاعل كبير على الفيسبوك لذلك سنعرض لكم رواية فوق جبال الهوان الفصل الواحد والعشرون 21
رواية فوق جبال الهوان الفصل الواحد والعشرون 21
الفصل الحادي والعشرون
اضطرمت رغبة الحقد في أعماقها مع رؤيتها له وهو يرتدي قناع الحمل الوديع، متناسيًا أنه المتسبب الرئيسي في انقلاب أحوال العائلة، وتضييق الخناق على زوجها حتى اضطر للجوء إلى آخرين لاسترداد حقه، وما تبع ذلك من اقتحامه السابق للبيت وتعقيد الأمور. كان من الصعب عليها تقبل تعزيته، ولا الاستماع لترهاته الفارغة، فصمَّت أذنيها عن لغوه لتصرفه بوقاحةٍ:
-واجبك وصل يا حاج "درويش"، ماظنش إن وجودك هنا هيفرق.
احتقن وجهه غيظًا من طردها له، وقال في صوتٍ أجش وهو يضرب بعكازه الأرضية:
-أنا بعمل بالأصول.
فيما يشبه الانفجـــار صرخت بوجهه، و"راغب" يحول بينهما:
-الأصول؟ ده إنت خليك "فهيم" يلف حوالين نفسه علشان حقه اللي كلته في نصيبه بالفرن.
تدخل ليقول ملطفًا على مضضٍ:
-بالراحة يا حماتي.
فيما هدر "درويش" محتجًا بعصبيةٍ:
-هو اللي مكانش عايز يفهم إن الفرن بيخسر، ومابقاش زي الأول.
بشكلٍ مباشر قامت باتهامه وهي تشير بإصبعها ناحيته:
-إنت اللي حرامي.
اشتاط غضبًا على غضب، وأطلق صيحة محذرة:
-جرى يا ست، ما تخلنيش أغلط.
مرة ثانية تكلم "راغب" محاولًا تهدئة الحال بينهما:
-بالراحة يا حماتي، الحكاية مش ناقصة تعقيد ومشاكل.
رددت "عيشة" على مسامعه بحقدٍ:
-واجبك وصل يا حاج، اتفضل من غير مطرود.
سدد لها نظرة نارية محتدة قبل أن يدمدم بوجهٍ متكدر:
-ماشي يا مرات الـ.. مرحوم.
نظرًا لجهلها بتفاصيل ما حدث بالضبط، لم تجرؤ العمة على قول شيء، إلا حينما غادر الضيف الثقيل، فاستطردتٍ بضيقٍ:
-بالراحة ياختي مش كده.
خاطبتها "عيشة" بصدرٍ ناهج، وأنفاس منفعلة:
-إنتي مكونتيش شايفة حالة المرحوم في آخر أيامه.
ردت عليها في تعاطفٍ:
-منه لله، ربنا ما يكسبه ولا يربحه.
لتستدير بعدها "عيشة" ناظرة تجاه باب البيت –بصورة عفوية- ومتسائلة في دهشةٍ:
-إنتي كنتي فين كده يا "إيمان"؟
ترددت وهي تخبرها بتلبكٍ:
-أصل آ...
سكتت للحظاتٍ لتستجمع شتات أفكارها، فصاحت بها أمها في صبر نافد:
-قولي في إيه؟
بلعت ريقًا غير موجودٍ في جوفها، وأجابتها بشفتين مرتعشتين:
-"دليلة" خرجت، وحلفانة ما تسكت للـ.. بلطجية.
ما إن سمعت بالأمر حتى لطمت على صدرها صارخة في ذعرٍ:
-يا نصيبتي!
للحظةٍ فكر "راغب" في المساعدة، فأبدى عن نواياه في الحال:
-أنا هروح أشوفها.
توسلته "عيشة" في رجاءٍ:
-إلحقها يا ابني.
تطلعت إليه "إيمان" بغير تصديقٍ، وهمهمت مع نفسها بشيءٍ من الاستغراب:
-أول مرة تعمل حاجة عِدلة!
هرول "راغب" في عجالةٍ ليهبط على درجات السلم وهو يلوم نفسه:
-بتحط في حوارات ماليش فيها...
ظهرت نواياه على حقيقتها، أراد فقط استغلال أصغر فرصة ليخرج من ذلك الجحيم القابع فيه، وها قد جاءته على طبقٍ من ذهب، لذلك لم يتردد في عرض خدماته الوهمية، ونجا ببدنه.
تجاوز رجال "الهجام" الذين رمقوه بنظراتٍ مستخفة، ليسرع في خطاه متجهًا نحو سيارته المصفوفة بزقاقٍ جانبي.
استقر جالسًا خلف عجلة القيادة، وهذا الصوت العازم يتردد في رأسه:
-أنا هاخد العربية وأخلع، بدل ما يحصلها حاجة وتتبهدل، كفاية اللي صرفته قبل كده علشان أصلحها، وشوية وأبقى أكلمهم وأقولهم إني ملاقيتهاش، وأرجعلهم في تاكسي.
حسم أمره، ونفذ ما نواه دون ترددٍ أو ندم، فلماذا يورط نفسه في قضية خاسرة ويتحمل أعباءً لا تعنيه؟!
......................................
لولا يده الموضوعة على فمها، لملأت الدنيا بصراخها الهائج، ومع ذلك لم يكن من المؤكد سماع نداءات استغاثتها وهي محتجزة قسرًا بداخل السيارة، بسبب بدء السماعات الضخمة في عملها، فصدحت آيات الذكر الحكيم في الأرجاء وغطت على كافة الأصوات. انطلق السائق بالسيارة بعيدًا عن المربع السكني، إلى أن أمره "زهير" بالتوقف عند منطقة غير مأهولة بالسكان، فيما ظل مطبقًا على شفتيها، ليأمره بصرامة:
-استنى برا.
انصاع تابعه فورًا لأمره، وبقي في الخارج يراجع الأوضــاع، ليظل كلاهما بمفردهما في المقعد الخلفي للسيارة. أحكم قيدها مستخدمًا قدرًا محدودًا من قواه الجسمانية؛ لكنها نجحت في تحرير فمها قليلًا لتتمكن من غرز أسنانها في راحته، وقامت بعضه ليتأوه من الألم القاسي قبل أن يُجبر على تحريرها.
ما لبث أن التفتت كليًا تجاهه، لترميه بهذه النظرة البغيضة وهي تصرخ مستغيثة، ويداها تضربانه بعشوائية:
-إلحقوني يا نــــــاس! البلطجي ده خاطفني!
لسوء حظها لم يعرها أحدهم الانتباه، حيث كانت السيارات التي تمرق بجوارها تسير بسرعة عالية، ومن العسير أن يلاحظها أحد، أو يدرك ما تمر به من وضع خطر. شعرت بموجة من الرهبة تتخللها؛ ورغم هذا قاومت ما ينتابها من شعور مفزع باستمرار صب غضبها عليه:
-والله العظيم لهوديك في داهية يا مجرم.
قابل عصبيتها بهدوءٍ حذر:
-اهدي كده واسمعيني، اللي بعمله ده لمصلحتك.
لجوئه للتبريرات جعل داخلها يستعر أكثر، فتجرأت، وباغتته برفع يدها للأعلى لتصفعه بشراسةٍ على وجهه وهي تنعته:
-إنت حيوان، مجرم، رد سجون.
تفاجأ بما فعلت، ولم تتوقع أن تمتلك الشجاعة للقيام بهذا الأمر! كان "زهير" قادرًا منذ البداية على صد ضرباتها الهوجاء، ووأدها في مهدها، إلا أنه تركها تفرغ ما لديها من طاقة مكبوتة، لينتهي الأمر بصفعه، وهذا لم يكن ليقبله مطلقًا، اشتعل وجهه بالغضب الشديد، ورغم ذلك تحامل على نفسه محاولًا ابتلاع تلك الإهانة التي مسته شخصيًا، فكظم غضبه بأعجوبةٍ، وأنذرها في صوتٍ بدا محمومًا إلى حدٍ كبير، لئلا تكرر فعلتها وتتطاول عليه باليد فتخرج الوحش الكامن بداخله:
-هفوتلك اللي عملتيه ده لأني مقدر حالتك.
لم تعبأ بتهديده المبطن، واستمرت في هياجها صارخة في وجهه، وقد كورت يدها لتلكزه في صدره:
-أنا هوديكم في داهية، مش هسيبكم يا مجرمين باللي عملتوه.
ورفعت ذراعها مجددًا استعدادًا لتكرار الصفعة على الجانب الآخر من وجه؛ لكن يده امتدت لتقبض على رسغها، اعتصره تحت أصابعه بقسوةٍ وقد هدر يحذرها بغير تساهلٍ:
-المرادي فيها زعلي.
حاولت استعادة يدها من أسفل قبضته التي تأبى تركها وهي تصيح في انفعالٍ جم:
-ما تزعل ولا تولــع!
رفض تحريرها، وخاطبها بحزمٍ، وقد استنفر كل ما فيه:
-لحد دلوقت أنا مقدر اللي إنتي فيه، وصدقيني لو اللي عملتيه ده كان حصل قصاد أخويا، مكانش سابك إلا وهو مصفي دمك.
استفزها بعبارته الأخيرة، فلم تمنع نفسها من الإساءة إليه، لذا استخدمت "دليلة" يدها الأخرى لتصفعه وهي تهينه باهتياجٍ:
-كلاب، مجرمين.
لم تتوقع، بل لم يطرأ على بالها من الأساس أن يبادلها الصفعة بأخرى مماثلة في القوة على صدغها، لتشهق أولًا من الصدمة قبل أن تتحول شهقتها إلى صرخة ألمٍ:
-آه.
لحظتها فقط ترك يدها، ليشير بإصبعه في وجهها مرددًا:
-أنا نبهت عليكي.
وكأنه يحاول إخفاء ندمه اللحظي على ردة فعله العنيفة تجاهها، ارتدى قناع الجمود على وجهه، فيما وضعت يدها على موضع الألم الصارخ، وانخرطت في بكاءٍ شديد، ليزفر في ضيق قبل أن يستند بظهره للخلف. سحب نفسًا عميقًا إلى رئتيه، وقال بخشونةٍ:
-إنتي مش عايزة تسمعي لحد، ولا حتى مقدرة الوضع اللي الكل فيه.
لم تبعد يدها عن خدها المشتعل بصفعته، ولامته في حــرقةٍ:
-أسمع إيه؟ إنتو موتوا أبويا بحسرته، لأ وكمان واقفين تاخدوا عزاه كأنكم من العيلة، إيه الجبـــروت ده؟
نظر ناحيتها ليخاطبها:
-لأنكم قصاد الناس كلها بقيتوا ملزمين مننا.
صرخت في حدةٍ بعدما خفضت من يدها لتستخدمها في التلويح أمام وجهه:
-واحنا مش عايزين شبكتكم السودة دي...
طالعها بغموضٍ، وقد اشتدت عضلات وجهه، بينما تابعت في اندفاعٍ:
-ويا ريت تقول لأخوك على اللي عملته فيك، خليه يمــــوتني وأحصل أبويا.
ليتها تعي حجم المخاطر التي تحيط بها لطيشها الأرعن! عاود الالتفاف تجاهها ليكلمها بجديةٍ، وقد بدت أنفاسه ثقيلةٍ إلى حدٍ ما:
-أخويا مش هيموتك زي ما إنتي مفكرة على طول، بالعكس هيخليكي تتمني الموت ألف مرة في اليوم وما تطوليهوش...
من بين دموعها التي غشت حدقتيها نظرت إليه بغلٍ، فأكمل في هدوءٍ يتنافى مع ما يضمر في صدره حاليًا:
-أنا بحميكي من شر إنتي مش عارفاه.
رمته بنظرة احتقارية قبل أن تهاجمه لفظيًا:
-ده على أساس إنك ملاك بجناحين؟ ده إنت شيطان، ما تفرقش عنه!
رد مؤكدًا على وصفها:
-أيوه، أنا أخوه، وجايز شيطان زيه...
لتبدو نبرته مشدودة وهو يتم جملته:
-بس مش أسوأ منه.
باعدت عينيها الغارقتين في الدموع عنه، لتدفن وجهها بين راحتيها هاتفة ببكاءٍ:
-أنا بكرهكم.
زفر بعمقٍ، وخاطبها ببرودٍ وهو يعاود الاسترخاء في جلسته:
-خلصي كل جنانك، علشان أرجعك عند أمك، إلا إذا كنتي حابة أخدك الفيلا.
رفعت وجهها ناحيته، ونعتته بغيظٍ:
-حيوان.
قابل عصبيتها بنفس الأسلوب الجامد مرددًا في هدوءٍ:
-كملي.. أنا مش متضايق، طالما ده هيريحك، ويخلي عقلك يرجعلك.
أشاحت بوجهها للناحية الأخرى، ولم تكف عن البكاء، بينما استدار "زهير" تجاه نافذته عندما طرق عليها تابعه، ضغط على زر خفض الزجاج، وسأله في تحفزٍ:
-خير؟
مال عليه ليخبره في صوتٍ خافت ومتوجسٍ:
-ريس "زهير"، عيونا اللي جوا جماعة "العِترة" بيقولوا في حاجة مش طبيعية عندهم.
ضاق ما بين حاجبيه بوضوحٍ، في حين أكمل تابعه:
-بيحشدوا لكل رجالتهم.
فرك "زهير" جبينه معلقًا بعد لحظاتٍ من التفكير:
-شكل الليلة النهاردة صباحي.
ظل تابعه ينتظر تعليماته، ليسمعه يسأله أخيرًا:
-الكل جاهز؟
أومأ برأسه مؤكدًا:
-أيوه يا ريسنا.
أمره في حزمٍ:
-إدي الكوبارة خبر.
رد عليه بهزة مقتضبة من رأسه:
-وصل يا زعيم.
انصرف بعدها ليترك لهما مساحة من الخصوصية، فتكلم "زهير" في هدوءٍ:
-احنا هنفضل هنا لحد ما تقوليلي إنك عايزة ترجعي، إن شاءالله الفجر...
لم تنظر تجاهه، ليستأنف حديثه بما يشبه النصيحة:
-بس أظن أمك هتقلق عليكي، ده لو إنتي خايفة عليها ومش عايزة يجرالها حاجة من القهرة، وخصوصًا إنها لسه ما فاقتش من صدمة موت أبوكي.
مسحت دمعها المسال بظهر كفها، وقالت في إيجازٍ، ودون أن تبعد عينيها عن جهتها من الطريق:
-رجعني عندها.
لم ترَ شبح ابتسامته التي ظهرت لثانية قبل أن تختفي ليردد في استحسانٍ:
-عين العقل.
ثم فرقع بأصابعه ليستدعي التابع مجددًا وهو يأمره:
-اطلع بينا على الحارة.
استجاب لأمره في الحال:
-ماشي يا كبيرنا.
...................................
رغم مراقبته لعمال الفِراشة وهم يضعون اللمسات الأخيرة للانتهاء من نصب سرادق العزاء، إلا أنه لم يغفل عن متابعة ما يخصه، وصلته الأنباء عن تدبير هجوم وشيك من قِبل أعوان "العترة"، وكأنه ينتهزون فرصة انشغاله بالعزاء ليضربوا ضربتهم، ما لم يعلموه عن شخصه العتيد أنه لن يتردد في الانتقام ممن يظن نفسه بقادرٍ على مناطحته في سلطته، سيتلقى الوعد والوعيد إذا تجرأ واستعرض قواه متوهمًا نجاحه في هزيمته. عاد "كرم" ليحدق في وجه "عباس" وهو يسأله:
-الكلام على إيه يا كوبارتنا؟
التوى ثغره بابتسامةٍ واثقة قبل أن يخبره:
-سيبهم يعيشوا الدور واللحظة، لحد ما يخشوا الخَيَّة برجليهم.
قال مؤازرًا:
-أوامرك يا سيد الناس.
بحركةٍ دائريةٍ بطيئة مسح "كرم" على صدره قائلًا:
-احنا ورانا عزا، وفي ناس جاية تعمل واجب، خلينا نشوفهم.
تحرك "عباس" هاتفًا وهو يشير لرجاله باللحاق به:
-تمام يا ريس.
...................................
منحته الزاوية التي جلس عندها من رؤية كل من يلج أو يخرج من البناية بوضوحٍ، فظل قابعًا في مكانه، لا يتحرك .. سحب "موجي" الأنفاس العميقة من النارجيلة التي وُضعت أمامه ليحبسها في صدره لعدة لحظاتٍ قبل أن يحررها على دفعات صغيرة متواترة، وعيناه مرتكزتان على المدخل. تساءل رفيقه في ضجرٍ:
-احنا هنفضل مستنين كده كتير؟
أجابه بوجهٍ محتقن:
-لحد ما تظهر.
اقترح عليه بنزقٍ:
-طب ما نطب عليها أحسن؟
رد محتجًا عليه:
-وألاقي اللي يمنعها عني؟
بحسبةٍ عقلية سريعة وجد الأمر منطقيًا، ويستحق الانتظار، فتمتم في اقتضابٍ:
-معاك حق.
لكن ما لبث أن عادت الحيرة لتعصف برأسه، حك ذقنه متسائلًا:
-بس إفرض ما طلعتش، هيبقى العمل إيه؟
أكد له بيقينٍ مريب:
-لأ، أنا واثق إنها هتخرج.
في شيءٍ من الاستفهام سأله:
-ليه يعني؟
أجابه مشيرًا بعينيه تجاه المدخل بعدما ترك المبسم جانبًا:
-كل الحريم اللي في البيت بينزلوا واحدة ورا التانية يروحوا العزا، أكيد هتطلع زيهم.
تحفز في جلسته، وسأله في جديةٍ:
-وناوي على إيه لما تشوفها ساعتها؟
حمل وجهه تعبيرًا قاتمًا للغاية، فيما أظلمت عيناه الداكنتين، وغاب عنهما لمعة الحياة، ليردد في عزمٍ وإصرار:
-أوصلها بنفسي للآخرة ........................ !!