رواية اصرة العزايزة هارون وليلة الفصل الـ 8 و 9 بقلم نهال مصطفي
رواية اصرة العزايزة هارون وليلة الفصل الـ 8 و 9 هى رواية من كتابة نهال مصطفي رواية اصرة العزايزة هارون وليلة الفصل الـ 8 و 9 صدر لاول مرة على موقع التواصل الاجتماعى فيسبوك رواية اصرة العزايزة هارون وليلة الفصل الـ 8 و 9 حقق تفاعل كبير على الفيسبوك لذلك سنعرض لكم رواية اصرة العزايزة هارون وليلة الفصل الـ 8 و 9
رواية اصرة العزايزة هارون وليلة الفصل الـ 8 و 9
لقـد عرف نزار معنى الهوى قائلًا :
"أن تتحكم إمراة بأقدار الرجال ..
ولكن شيئًا فيكِ سريًا !!!!"
ولكن ما هو الشيء السري الخفي الذي كان يشغل بال نزار حينها وجعله ينجذب إليها خصيصًا دونًا عن غيرها !! ما هو الشيء الفريد من نوعه الذي خُلق بالمرأة كي يصنع من رجل ذو جاه ووقار ليكون بين يديها برقة نسيم الفجـر ، يتحول صوته الرخيم لتلك النبرة الهادئة التي يخشي أن تُؤذيها .. مهما تعددت الأقاويل وتنافس الفلاسفة لن تكون بعمق تلك الحقيقة الثابتة والراسخة لهذا الترابط الروحي لانجذاب الرجل لإمراة بعينها ، تلك العاطفة التي تُضاهي عاطفة الأمومة بين الأم وصغيرها ، فالرجل مثلها تمامًا ؛
"فـ كما ينسل من أرحام النساء أجنـة ، يُنسل من أضلع الرجال أحبة . "
#نهال_مصطفى ❤️
•••••••••
-" يسـعد صباحك يا حچ خليفـة ."
أردف هارون جملته الأخيرة وهو يشد طرف عباءته التي خلعها في حضـرة أبيه ، جلس جاره فوق الأريكة الخشبية الموجودة بجانب مدخل الباب الخلفي للمنزل ومكان أبيه المُفضل الذي اعتاد المكوث فيه ، رد عليه ذلك الرجل الذي أصابه الهرم والمستند على عُكازه :
-يجعل الخير كله بين يدك يا هارون يا ولدي .
ثم أتبع أبيه متسائلًا :
-عملت أيهِ فـ شغل مِصنع السكر ، حليت الأمور ؟
تنهد برتياح :
-والله يا حچ مش هكدب عليك ، المُصنع ديه مشاكله كترت ومبقاش چايب همـه .. بفكر أشوف له بيعـة بدال وجع الراس اللي چاي من وراه كُل يوم .
شبح ابتسامة معاتبة بدت على وجهه كأن الأمر لم يرق له ؛ فأردف واعظًا بحكمته المعهودة :
-وأنت كُل ما يوجعك ضِرس هتقِلعه ، بعد كام سنة خشمك هيفضى بالحال ديه !! ما ينفعش يا هارون يا ولدي ، اتعلم تعالچ المشاكل من چِدرهـا حتى ولو فكرت تبيع ؛ تبيع وأنتَ كسبان ومكسب غيرك .
-أنا هعيش عمري كُله اتعلم منك ومن حكمتك يابا .
فأومئ متفهمًا وجهة نظر أبيه ، فهز رأسه بالموافقة :
-أوعدك هشـوف يا حچ ، بس أنا كتت عاوزك في موضوع تاني .
-قول يا هارون يا ولدي ..
تحمحم بحيرة من أين سيبدأ حديثه مع أبيه ، حك ذقنه الخفيفة بتردد :
-بخصوص البت الصحفية اللي چايبهـا هيثم ..
ثم غمغم بسره :
-مجايبه المقندلة زي وشه ..
رمقه أبيه باهتمام :
-مالهـا يا ولدي ، باين عليهـا غلبـانة ولو محتاچة مساعدتنا نساعدوها .
-فاهم يا بوي ، بس أنت خابر هيثم ولدك ملهوش أمان ومينفعش يتساب مع البت دي لروحه يدبسنا في ورطة إحنا مش قِدها ، وفي نفس الوقت على قولك اللي محتاج مساعدة نساعدوه !
أيده أبيـه متفهمًا :
-عداك العيب يا ولدي ..
ثم أتبع هارون متجاهلًا تلك النغزة التي تُحذره من شم هواء بحرها الذي أن لفح قلبه سيغرقه بها ، وأكمل بتوجس :
-هي قالت هتقعد إهنه أسبوع بكَتيره ، فـ أنا هساعدها لحد ما تاخد مُصلحتها وتهملنا وكّمان عشان منصغرش هيثم مع ضيوفه .
-عين العقل يا ولدي ، وخير ما عملت .. هيثم أخوك مدبوب وراسه مريحاه على الآخير خلينا بعيد عنِه..
ثم استند على عكاز لينهض ، فساعده هارون في ذلك وأكمل موصيًا :
-خليك مع الضيفة لحدت ما تخلص مصالحها ، وأكرمها مش عايزين حد يمسك سيرتنا يا هارون ولا يقصر رقبتنا.. بيت خليفة العزايزي مفتوح للغرب قبل القُرب .
تابع السير مع أبيه وهو يسنده :
-على خيرة الله ، أنا قُلت أخد إذنك قبل أي شيء .
تمتم ذلك العجوز صاحب السبعين عامًا بهدوء:
-ربنا يكملك بعقلك يا ولدي .
ما خطت أقدامه أعتاب المنزل ، فأردف :
-قولت لصفية تأجل روحتنا لصالح لبكرة العشية ، يكون هاشم ريح ضهره من السفرية وقعدتوا مع بعضكم هبابة من غير خوتة .
ضرب على رأسه متذكرًا ذلك الأمر الذي تنساه :
-صفية دي ما عضيعش وقت واصل ، دي ما صدقت عاوزة تخلص مني قوام قوام .
ضحك خليفة بخفوت :
-عايزة تفرح بيـك يا هارون ، وأنا كّمان عاوز أشوف عيالك قبل ما أقابل وجه كريم يا ولدي .
-بعد الشر عنك يا أبو هارون .. حسك في الدِنيـا .
أحس بتورطه في الأمر ولا يوجد مفر حتى ولو لم يلزمه ، سواء زينة أو غيرها فهو لا يميل لأمور الزواج وزيادة حِمله في هذا التوقيت بالذات ، ولكنه عقد كلمته مع أمه ولا يمكنه التراجع عنها مهما حدث ، فـ غمغم على مضضٍ :
-اللي فيه الخير ربنا يقدمه يابا.
•••••••
-"اكـسر شمالك يا هلال ، بيتهم اللي بالأزرق ده "
أردفت هاجر جملتها الأخيرة وهي تصف له طريق بيت رُقية ، فامتدت عينيه للطريق الضيق الذي يحاصره الخضرة من الجانبين ؛ فأوقف السيارة معترضًا :
-لو دخلت لـ چوه مش هقدر أطلع .. والعربية هتتغبر .
ثم تأفف باختناق متحدثًا بلغتـه التي لا يجد نفسه إلا عندما ينطق بها :
-يكفي بهذا القدر ، يمكنها قطع تلك المسافة القصيرة سيرًا .
وبخته هاجر رافضة قطعًا :
-هِلال !! هيثم كان يدخل ويطلع عادي ، متعقدش الموضوع .
رد بإيجاز :
-أنا أعلم بأمر الطريق وأمر سيارتي ..
فاض صبـر هاجر منه ، واكتفت بإرسال نظرة اعتذار لصديقتها ثم جاءت مقترحة :
-طيب روح وصلها الشنطة لحدت باب البيت ، طالمـا مش هتخـش لچوه .. الشنطة تقيلة ومش هتتجر في التعاتير دي .
عض على شفته بامتعاض وهي يبرق لأخته كي تصمت :
-اتقوا شر الشُبهات ، لا يجوز يمكنها حَمل حقيبتها بنفسها ..
كادت هاجر أن تحتد في نبرتها فتدخلت رُقية التي قالت مغلولة من تصرفاته العبثية الغير مفهومة :
-خلاص يا هاچر ، سيبيه على راحته .. أصل شيل شنطتي شُبهة بالنسبة له ..
ثم وضعت يدها على مقبض الباب وأكملت مندهشة بنفس النبرة المغلفة بالسخرية :
-أتتبع دينًا جديدًا يا مولانا !!
ثم هبطت من سيارتـه التي قفلت بابها بغيظ ، فحدج أخته مضطربًا لصفع باب عربيته التي لا يتحمل عليها الغُبار :
-هل هذا جزاء المعروف !! هل هذا رد الجميل !
ثم وقفت رقية أمام نافذة السيارة جهة هاجر لتلقي جُملتها الأخيرة متعمدة وصولها لأخيها صاحب الحكم والمواعظ التي لا تروق لها ؛ وأردفت بتخابث :
-على فِكرة عچلة العربية سليمة ومفيهاش حاچة يا دكتورة هاچر ، عرفي فضيلة الشيخ أنُ الكِدب كمان حرام ؛ شكله نساي .
ثم تركته مشدوهًا متسع العينين ، يتجلجل بالكلام لا يعرف ماذا سيقوله غير أنه وجه أسهم عتابه لأختهِ ، عاد للهجته الصعيدية مواصلًا بحـدة ممتزجة باللوم :
-أنا قولتلك مش هركب حريم يا ستي في عربيتي ، بدل ما تشُكرني جاية تعلمني الأدب !! وكّمان طلعتني كاذب .. أنا كاذب !!
بطش الغضب بملامحه ثم هبط من سيارته بعد ما فتح الباب الخلفي للسيارة وترك هاجر في غيبوبة ضحكها ، اتجه لعندها وهو يتجلجل موضحًا موقفه وعينيه بالأرض مشيرًا بسبابته :
-بأي حق تتهميني بالكذب يا أخت رقية !! اتعلمين ما بسيارتي أكثر مني !!
وقفت أمامه متحدية وكأن راقت لها فكرة الانتقام من تشدده بالدين وتعسره المُبالغ فيه حد التطرف :
-طبعا أعرف !! وآكيد مش هتهمك بالباطـل لان فعلا العچلة سليمة .
أحمرت وجنته من شدة الإحراج إثر كشف كذبته البيضاء ، فكيف كان عليه أن يخبرها بأن عينيها يُثيران الفتنة بقلبه المؤمن ، أن ملامحها البريئة المعكوسة بالمرآة لم يتحمل مقاومتهما وتجعله ينحرف عن طريقه .. بلل حلقـه باختناق وهو يسحب لها الحقيبة كي ينتهي ذلك الحوار المنهزم به ولأول مرة يهزمه أحد كما فعلت هي :
-استغفر الله !! زهرًا تزرع شوكًا تحصد ...هذا هو طباع البشر .
ثم كادت أن تأخذ حقيبتها منه إثر نداء هاجر المعترضة :
-ما تخلصونا في أم يومكم ديه !! عاوزة أروح لأمي .
رفض أن يترك لها الحقيبة التي يحملها بل قفل باب السيارة وأسرع الخُطى صوب المنحدر الذي ينتهي ببيتهم وهو يذكر الله جهرًا متجاهلاً ندائها المتكرر خلفـه ولم يلبٍ ندائها إلا برفع صوته المهلل بالذكر حتى وصل لأعتاب بوابة بيتهم وترك الحقيبة بضيق هاتفًا بلطف خفي :
-إهانة مقبولة يا أخت رقية .. اشكرك.
لم ينتظر ردها بل هرول كي لا يستسلم لرغبة قلبه المُلحة بالنيل من ملامحها الهادئة ولو لمرة واحدة ، تجاهله لها جعلها تضرب الأرض غضبًا وهي تجُر حقيبتها نحو الباب :
-ديه شيخ ازاي ديه !! ديه يروح يتعالج .
لم تخطٌ خطوة ففوجئت بتلك اليد الملعونة التي توبخها بقسوة:
-في أيه بينك وبين هلال العزايزي يا بت عمي !!
جذب ذراعها باعتراض وهي تنهره بعنفوان :
-سيب يدي يا بكر !! أنت مچنون ولا مبلبع أيه على الصُبح !!!
ثار بركان الغضب بملامحه :
-وأنتِ لساتك شوفتي چنان !! هلال العزايزي كان يعمل أيه إهنه يا رقية!!!
صرخت بوجهه كي يكُف عن طريقها الذي يتبعه كظلها :
-وأنت مالك !! أنت مالك يا بكر ، ولآخر مرة عقولهالك بالذوق ابعد عن طريقي وإلا هروح لهارون العزايزي وهو يتصرف معاك ومن بلطجتك .
قالت جملتها الأخيـرة وهي تدفعه عن طريقها كي يبتعد عنها ، كي لا يقف بوجهها مرة آخرى ، لم تتزحزح خطوة فكان أمامها كالسد المنيع مهددًا :
-وأنا إكده هتهت وأكش ! يكون في معلومك أنا إهنه مكان المرحوم عمي .. وطول ما هو مش موجود تبقي في حمايتي وتحت طوعي ومن حقي أعرف كل حاچة عنك !
اختنقت من تحكماته الزائدة عن الحـد :
- بصفتك مين !!
تلونت ملامحه الخبيثة وهو يقف أمامها بنظراته الشرانية :
-ولد عمك الوحيد وجوزك وقدرنا مكتوب في السما قبل الأرض يا ضكتورة .. ده العُرف اللي متخلقش اللي يغيره .
-ده عشم أبليس في الجنة يا بكر يا بن عبير .
كانت نبرتها قوية ولكنها مهزوزة ، خالية من أي سند ، سندها الوحيد فارق الحياة وتركها فريسـة لبكر ولعرف العزايزة الذي يمنح الأولوية لزواج الفتاة الوحيدة لابن عمها الشقيق دون غيره ؛ هنا خرجت أمها من البيت إثر صوتهم المرتفع ، فلم يُهنئها باستقبال ابنتها التي تُعد لها أشهى المأكولات:
-خير يا بكر !! حسك عالي ليه ؟! البيوت ليها حُرمة.
كعادته قلب السحر على الساحر مرتديًا وجه الطيبة :
-يرضيكي قِلة القيمة اللي فيها رقية دي !! هِلال العزايزي موصلها لحد باب الدوار ، دي الأصول يا مراة عمي !!الخلق كلو وشنا .
وقفت أمها أمامه كالسد المنيع الذي يحمي ابنتها من أي اتهامات:
-اقطم يا بكر كلمة زيادة هقِل منك في قلب دارنا ، أنا بتي بمليون راجل ومحدش يستجرى يرميها بالباطل ، شكلك نسيت روحك ونسيت أن اللي قدامك دي تربية أبو الفضل العزايزي ..
ثم اقتربت منه رافعة سبابتها بنبرة تحذيرية :
-أبعد عن بتي يا بكر ، أنا معنديش بنات للچواز ، بتي وهقعدها چاري ليك عِندينا حاچة.
حك بكر ذقنـه وهو يخطف نظرة سريعة من تلك التي تحتمي بظهر أمها ، وقال بتخابث:
-شكلك أنتِ اللي ناسية يا مراة عم ، أن بتك بورثها بمالها كِلياتهم من نصيب العبد لله ، ده العرف والشرع لإنك مجبتيش الواد الليِ يعصبها (يمنعها ) من قدري معاها.
هتفت رقية بقوة رافضة تلميحاته السخيفة :
-ده بعينك يا بكر ، الموت عندي أهون ولا أنك تطول شعرة مني ، ونصيبك في حق أبوي لو عرفت تثبته ابقى خُده ..
ثم غادرت حِما أمها ووقفت أمها لترمي قذيفتها بوجهه بنبرتها القوية لا تخشى أحد :
-وأثبت ، أبوي كاتب كل أرضه بيع وشرا ليّ أنا وأمي ، واللي معرفش يديهولك مجلس العزايزة وريني هتاخدو كيف !! ويلا جُر عجلك من إهنه وقصاد أمي لو قطعت طريقي تاني يا بكر هقِل منك ومن اللي جابك .
بنظرات الثعلب الذي لا ينوي إلا الغدر رمقها من رأسها للكاحل وعلى محياه تلك الابتسامة الماكرة التي تعني أنه لا يستسلم ولم يتنازل عن مطامعه بهذه المسكينة التي أخدت منها الحياة كُل شيء وحتى المال استكثرته عليها ...
يجلس هِلال بجوار أخته بعد ما اشعلت فتاة الكبريت النيران برأسه وهو يستغفر تارة وتمتم طورًا حتى انفجر بوجه أخته غير مصدقًا :
-أخرتها كذاب !! أول وآخر مرّة هجيبك فيها من المحطة يا هاچر .. أنتن تستاهلن هيثم وأشباهه.
رمقته هاجر الغارقة بالضحك على حاله ثم قالت :
-صراحة أنتَ زودتهم يا مولانا !! أنت قارش مِلحة البت ليه مش فاهمة !! دي غلبـانة .
رفع حاجبه مستنكرًا ومعترضًا على طيبتها فقال وكلماتها تتقاذف كحبات الفِشارة برأسه :
-لكنها سليطة اللسان .. وناكرة للمعروف .
ثم نظر إليها مبرقًا كإنه غير مصدق ما رمته بهِ :
-أنا كاذب !!!!!
تخفي الضحك خلفها كفها الموضوع على شِدقها وأعينها اللامعة وهي تسأله بتخابث :
-بالحق !! أنتَ ليه خليتها تغير مكانها وعچلة العربية مفيهاش حاچة !!
هتف مرتبكًا :
-الأمر لا يعنيكِ ..
-يعني أيه ؟!
عاد للهجته التي كُل ما يضيق به الأمر يستعين بها قائلًا بتوتر بينّ بكلماته :
-يعني أقطمي أنتِ كّمان لحدت ما نوصلوا يا هاچر .
••••••
~بمرسى علم .
-" أنا أهو قصاد بوابة النجع بالظبط ، يلا قومي نامي وبطلي غَلبـه "
أرسل لها صورة على موقع التواصل الاجتماعي الذي يربطهم في فترة غيابه كاتبًا جُملته الأخيرة لتلك التي قضت ليلتها معـه تتابع خطواتـه ، شرعت بتسجيـل رسالتها الصوتية بصوتها العذب الذي يشدو بتنهيدات عشقها الغير متناهي وقالت :
-حمدلله على سلامتك يا حبيبي .. خلي بالك من نفسك وأول ما تعرف تكلمني كلمني في أي وقت يا هاشم ، صوتك وحشني .. اتصور كتير وابعت لي .. بحبك .
ثم قفلت هاتفها وتدلت أقدامها الحافية بالأرض لترتدي نعالها الفرو وتُجر في أقدامها لغُرفة النوم بمنزل أمها .. ما كادت أن تخطو خطوتين ففوجئت بأمها التي تتأهب للخروج ، نظرت لها بأعينها التي تحاوطها غيمة القلق السوداء وبصوت مُرهق :
-صباح الخير يا مامي.
حدجتها سامية بلوم :
-أنتِ لسه صاحية منمتيش يا رغد !! ليه يا بنتي بتعملي في نفسك كده .
رفعت جفونها النائمة بصعوبة بالغة :
-لازم اطمن على هاشم يا مامي هو وصل وبيسلم عليكِ ..
ثم تثاوبت مُعلنة عدم قُدرتها على تحمل المزيد من السهر :
-هدخل انام بقا .. خلاص مش قادرة .
لم يرق لأمها الحال فلجأت للصمت لأن أي كلام غير مُجدي معها ، فتمتمت بملل :
-طيب نامي وأنا نازلة النادي أفطر مع صُحابي .
أومأت كالسكيرة وهي تتجه لغرفتها ولكنها تذكرت شيء جعلها تعود لأمها مرة ثانية:
-مامي استنى بعد إذنك ..
عادت لغُرفة الجلوس التي كانت تقطن بها وأمسكت بعلبـة أقراص منع الحمل وعادت لها :
-ممكن بس تصوري دي على موبايلك، عشان خلصت ومكسلة أطلبها .. هاتيها وأنتِ وراجعة بليز .
تناولت سامية العُلبة من ابنتها وقرأت الاسم فغلت الدماء بعروقها وهي تلومها :
-أنتِ لسه بتاخدي الحبوب دي يا رغد !! وبعدين ، أنا بدأت اتخنق من الحال ده ..ده كلام ميرضيش حد.
غمغمت بتعب :
-حال أيه بس يا مامي !!
-حالك أنتِ وهاشم ، فات سنة وشهرين ولسه معرفش أهله ، وبيتعامل معاكي كإنك شقة مفروشة يجي يريح فيها كام ساعة ويختفي بالأسابيع .. المهزلة دي لازم تنتهي يا رغد ..كفاية .
-يا مامي والله ما متحملة اسمع كلمة زيادة ، بجد الصداع هيفجر دماغي .
لم تهتم أمها بحالتها ، بل واصلت حلقة عتابها وبنفاذ صبر :
-لا يا رغد ، الحُبوب دي أنتِ مش هتاخديها تاني !! ولو هاشم مش هيعلن جوازكم قُدام أهله بالذوق ، يبقي لازم يعلنه بالعافيـة .
تشبثت برأسها التي تصدح من قلة النوم :
-يا ربي !! مامي أنا هروح أنام وأول ما أصحى نتكلم ونتخانق على راحتنـا ، بس بليز متنسيش تجيبيها .. يلا Have a nice day ...
تركت أمها التي تحمل قُفة الجزع فوق كتفيها وعدت لغرفته وارتمت على السرير ولا يشغل رأسها شيء إلا النوم .. رمت سامة علبة الدواء بحقيبتها متوعدة :
-طيب يا رغد ..
غادرت سامية منزلها وأول مكان ذهبت له صيدلية الدكتورة إيمان رفيقتها المُقربة ، دخلت لعندها بملامح وجهها الغاضبة وقالت بدون سابق إنذار :
-إيمان أنا محتاجة مساعدتك ..
تركت إيمان ما بيدها وألتفت لصديقتها :
-سامية !! مالك يا حبيبتي ..
أخرجت عُلبة الدواء من حقيبتها ووضعت على سطح المكتب :
-شايفة العلبة دي ،عايزة واحدة زيها .. وعايزة أبدل الأقراص اللي فيها بأي نوع ڤيتامين مشابه .. اتصرفي يا إيمان لو ليا خاطر عندك ...
•••••••
~نجـع العزايـزة ...
تعجبت نجاة على حال نغم التي انسحبت فجأة من بينهم بدون كلمة وغادرت الدار قبل استقبال صديقتها المقربة هاجر .. فتدخلت نجاة متهامسة :
-هيام ، هي نغم مالها !!
انتهت هيام من لف وشاحهها الذي يتناسق مع لون عباءتها الأنيقة مكتفية بوضع لمسات خفيفة من الكُحل كي تتأهب لاستقبال إخوتها حيث قالت بحزن وخيم وهي تدور لها :
-نغم عينها من هارون ورايداه ، أكيد لما سمعت إنه هيُخطب زينة متحملتش .
تنهدت نجاة بتلك النبرة الحارقة والتي يندس خلفها بركان من القهرة :
-ااه ، يا وچع القلب يا ربي !! الزمن بيعيد نفسـه يا هيام ، نفس الوچع كاس وداير على الكُل .. طيب وهارون أيه قوله !
جلست على طرف السرير حائرة في تلك النيران التي تلتهب القلوب :
-ماعرفاش يا نجاة ، ولا عارفة أيه في راس هارون أخوي .. عمره ما لمح أنه قلبه ميال لزينة .. لو چينا للحق ، نغم الأولى بهارون ، متعلمة ويتيمة وفي حالها وعتحب الخير للكُل ، لكن زينة عبيطة وبتلعب بالبيضة والحجر ..
استيقظ الجرح النائم بقلب نجاة وهي تربت عليه بكفها كي يهدأ لتقول متأثرة :
-قلبي عندك يا نغم يا حَبيّبتي ...
الخيال يسترد شيئًا لم يعد أبدًا ؛ تخيلت للحظة أن ولو الزمان لم يسن سيوفه عليها ويبتر كُل أجنحتها الوردية لتجتمع بحبيبها ، حيث أردفت بتلك النبرة اليائسـة :
-عارفة يا هيـام أصعب حاجتين على أي ست ، أنها تشوف حبيبها مع واحدة غيرها ، وتاني حاجة تنام في حضن رچل وقلبها وعقلها مع رچل غيره .. أنا اتكتب عليّ التانية ولسه ما دُقتش مرارة الأولى .. بس مفيش مهرب من الوچع ؛ هيچي اليوم .. ونغم يا حبة عيني هتدوق مُر الاتنين ..
أيدت هيام حديث صديقتها بالمثال الشهير قائلة :
-صدق المثل اللي قال أشوف حبيبي في مقبرة ولا أشوفه في حضن مرا .
ثم تمسكت بأيدي صديقتها المُثلجة بحنو :
-نجاة ، لساتك عتفكري في رءوف حتى بعد ما اتجوزتي !!
تفوهت بنبرة بقايا الحب الذي لم يتبقى منه أي شيء ألا الكلمات والحُلم ، سالت تلك الدمعة المحبوس من طرف عينيها وقالت :
-ولا عمري نسيتـه ، اتجوزت وخلفت وقضيت سنتين مع جوزي بس عمري ما اتمنيت غير رؤوف وكنت دايمًا بدعي لربنا يسامحني بس قلبي من چادر ينسى .
ثم جففت عبراتها المنسكبة وقالت:
-تعرفي، الفرق بين الجواز بحب والجواز الخالي منـه أيه !! كيف الفـرق بين أن قُدامك طبقين من نفس الصنف واحد فيهم عادم والتاني حايق ومّبهر .. أهو الحُب ده هو رشة الملح اللي على الوكل اللي بيطعمه ويحليه على لسانك ، تخيلي تتجبري على وكلة عدمانة ، هتاكلي منها لإنك چعانة بس عمرك ما هتكوني حاسة بمتعتها ، ولو غابت عنك سنين عمرك ما هتتوحشيها .
خيم الأسى على ملامح هيام متأثرة بهموم صديقها التي ظنت أنها تنسات حب عمرها وعاشت في كنف الواقع وتحت وطأة أعرافهم ؛ فتمتمت بشفقة :
-وجعتي قلبي يا نجاة ، ليه يا حبيبتي تعملي في روحك إكده وأنتِ عارفة طريقك مع رؤوف مسدود ، لو مازن مش معاكِ كُنت هقولك من حقك تحلمي، لكن ولدك قفل باب الحلم بضبة ومفتاح..
فغمغمت بأسف مبطن بالحسـرة :
-ولو قُلت يا جواز ، هيجوزوني واحد من أخواته .. يبقى بلاها أحسن ، أنا قفلت قلبي على رؤوف وولدي مازن ..
صوت قرع الطبـول التي تُعلن مجيء هاشم ختم جُملة نجاة الأخيرة وكأنها إشارة خير بأن مهما طال سواد الليل لابد من شمس الفرح تزيحه ، نهضت هيام راكضة نحو النافذة لتزيح الستار وتعلن فارحة :
-هاشم جيه ..
ثم انخفضت نبرتها بتوجس :
-نجاة !! ده رؤوف چاي معاه .
-متهزريش يا هيام !!
لفت وشاحهها بعشوائية وهي تتوارى خلف الستار لتصدق مسامعها التي نفت الخبر ، كان واقفًا بجوار سيارته مرتدي بذلته العسكرية ويخرج أشيائه .. تلصصت النظر له بجفون مرتعشـة وأيدي متشبثـة بالستار كأنها تقبض على جمر قلبها المحترق ، فـ يشدو صوت الألم كاشفًا عن همه بأحد الأبيات الشعرية التي تربت عليها ولا تعلم بأنها يومًا ستعيشها بنفس القدر من الألمِ :
لن تستطيع سنين البُعدِ تمنعُنا
إنَّ القلوبَ برغمِ البُعدِ تتصِلُ
لا القلب ينسى حبيبًا كانَ يعشقهُ
ولا النجوم عنِ الأفلاكِ تنفصِلُ ..
ويبقى السؤال هُنا ؛ كيف يمكن للعقل إقناع القلب بواقعٍ لا يرغب فيه !!!
أنتفض قلبها مذعور من سطو أوجاعه وهي تعيش الحسرة بأشد أنواعها وقالت :
-هيام أنا لازم أرجع بيتي ، مش هچدر أشوفه .
تشبثت بها هيام رافضة :
-هتروحي فين !! دانتِ جاية مخصوص تقعدي معاي لحد الفرح ، تقلي قلبك وواجهي يا نجاة الهرب مش حل يا بت خالي ..
ثم تمسكت بيدها :
-خليكي چاري وأنا مش ههملك واصل .
~بالحديقة ..
-خُدي بيدي يا بتي ، هاشم جيه ولازمًا استقبله بنفسي.
طلبت السيدة " أحلام " التي ترتشف الشاي مع " ليلة " بالحديقة وما كادت أن تفتح الحوار معها قطعهم صوت قرع الطبول والصخب بالخارج ، لبت ليلة طلبها ورافقتها الخُطى وهي تقول :
-هاشم ده أصغر من هارون ، صح كده !!
تسير أحلام بخُطاها المائل إثر خشونة رُكبها ولكن إقبالها على تربية يدها كان أهم من ألف وجع يعوقها، كانت تستند على ليلة وقالت :
-الاتنين بيناتهم ١١شهر بالتمام ، كنت شايلة هارون على يدي حتة لحمة حمرة ، جات صفية تندب لي ، ألحقيني يا عمتي أنا حِبلى ..
صعدت أحلام درجات السُلم بتأوه فأكملت:
-قولتلها خير وبركة وأهو الأخوات يرعرعوا مع بعضيهم وأنتِ خلفي وأنا هربي ومتعتليش هم .. ما صدقت مسكت في الكِلمة جابت ٧ بطون ورا بعض ..
فتدخلت ليلة مستفسرة :
-هما مش المفروض٦ بس !!
حملت أحلام على مرفق ليلة التي يسندها وهي تخطو تلك الدرجة الأخيرة بالممر :
-بعد هيثم جابت هدى ، بس اتولدت ناقصة ومتحملتش وماتت الله يرحمها ..
ما طل طيفهـا من الباب فترك هاشم حقيبته التي يسحبها من السيارة وترك إقبال الجميع حوله من كُل صوب وحدب وأسرع الخُطى نحو أحلام تلك المرأة التي تربى على يدها .. مال على كفوفها و أغرقهم بالقُبل ثم ضمها لصدره متلهفًا لحضنها :
-تصدقي بالله ما حد عيوحشني قِدك في البيت ديه ، ولولاكي ما أعتبه واصل ..
تقهقرت ليلة لتبتعد عنه وتفسح لهم مجالا للحوار ، قطعت درجتي السُلم لتقف تحت ظل الشجر تُراقب فرحتهم الجميلة بحماس ، جاءت صفية من الخلف وهي تضربه بكتفه معاتبة :
- وأمك يا هاشم ! تصدق إنك واطي ما طمر فيه الـ٩ شهور ، أنا مخلفتش غير هارون ولدي وبس .
فارق حضن زوجة أبيه وأمه الثانية معاتبًا :
-وه !! دايما ملبساني في حيط يا أحلام !! أهي اتقمصت ..
ثم دار لأمه وقبل كفوفها ثم رأسها قبل أن يعانقها بحب ؛ وكأنه يقدم قُربان اعتذاره :
-وأنا ليّ بركة غيرك يا صفيـة يا عسل أنتِ ، والله وحشتيني قوي ووحشني وكلك .
ثم همس لها ليسايس أموره وهو يُقبل يدها :
-جايب لك جوز غوايش أول ما شوفته قولت دول ناقصهم يد صفيـة ، اتعملوا عشانها .
قرصته بغلٍ:
-طب سيبني ألحق ازعل منك ، دايمًا واخدني في حديتك الحلو ديه وبتاكل عقلي بكلمتين !
غمز بطرف عينه :
-مبقاش هاشم ولدك لو معملتش إكده ..
على الجهة الآخرى ؛ يقف هارون الذي فرغ أعيرته النارية بالهواء مُرحبًا بعودة أخيه حتى فرغت خزنته تولى الخفر تلك المهمة عنه ، ثم انضم لـ الحج خليفة مُرحبين برؤوف ، تعانق الرفاق وقَبل رؤوف يد عمه المنكمشة من الهِرم وقال :
-يديم حسك في الدنيا يا عمي ...
جاء هٍلال بسيارته من الخلف قاطعًا دهليز البوابة حتى وصل لجمعهم وفي نفس اللحظة جاء هيثم حاملًا معداته الموسيقية معلقًا الطبلة على كتفه وشرع باستقبال أخته بالقرع الصعيدي .. سب هيثم بسره لهاجر التي تتأهب للنزول :
-أخوكِ ديه هيعقل ميتى!!!
علقت حقيبتها وقالت بنفاذ صبر :
-إحنا عاوزين نبقوا مچانين يا اخي ، فكك مننا ..
رمقها بسخط :
-علمك السفه مثله .. الله يهديكِ .
جهر هيثم مُرحبًا بأخيه وهو يدق الطبلة :
-حِما وحِمات الوطن ، حظابط ، وتاني مرة حظابط هاشم بيه العزايزي اللي رافع راسنا بره وچوه وقايد النار في قلوب عدوينا.
جاءت هاجر راكضة لترتمي بحضن هاشم الذي لم تراه منذ شهرين ، فتلقى أخته الصغيرة وتربية يده بلهفة حبيب أو أب يستقبل ابنته .. حملت يساره أخته وهو يقول :
-وحشتيني قوي يا مفعوصة ..
فانضمت لهم هيام لتملأ فراغ يمينه مناديـه باسمه :
-هاشم !! حمدلله على سلامتك ..
لحظات من الحب والألفة وعودة الغرباء لأوطانهم لحيث ما ينتمون ، تعانقت القلوب والأيدي وسكنت الأرواح المغتربة بين الأخوة الذين لم يعتادوا الفراق منذ الصِغر ..
تعلقت عيني رؤوف الواقف بجوار عمه ، بعيني تلك الجميلة التي تتوارى خلف الجدار ، تحضن صغيرها وتتحاشى النظر إليه تمامًا ، رفرف قلبها بنظرة خاطفة اختلستها منه فتعانقت الأعين بدلًا من الأجساد ، دفئت القلوب من صقيع غُربتها فسحبت نفسها وفرت لتحتمي من نظراته بجدران المطبخ التي تخفي لهب قلبها المحترق عنه ..
في ظل الاحتفالات والضحك والترحاب ، مالت هاجر نحو هيثم لتشكو من أخيها:
-أنتَ ما جيتش ليه !! هِلال طلع مرارة اللي جابوني وخلي رقبتي قد السمسمة قصاد رقية .
شهق هيثم باهتمام :
-اياك يكون زعل رقية بت عمي أبو الفضل ، دي حُب عمري القديم !!
رفعت حاجبها متعجبة وعائمة على عومه :
-أنت بقالك حب عمر جديد من غير ما تقول لي !!
انضم هاشم لعندهم في تلك اللحظة التي يتطلعون فيها لليلة التي تتجلجل من الإحراج والخجل في ظل أجوائهم العائليـة ، فدخل متسائلًا وهو يفحصها من رأسها للكاحل :
-هي دي !! مين الطلقة اللي هِناك دي يا هيثم ، محيراني من الصُبح ..
تنهد هيثم مغازلًا :
-عشان إكده قلبي من ساعة ما شافها موجوع.
هاشم مستنكرًا :
-لا يا راجل !
مسح على صدره بتوهم :
-ماهي طلقة صُح ورشقت في قلب أخوك .
فتدخلت هاجر بنفس الفضول :
-أيوة مين يعني العيار الناري الطايش ديه ! أخلص وقول .
فأتبع هاشم بفضول قــاتّل:
-أيوة مين الحلوة !! جاوب .
توسل له هيثم هائمًا :
-والنبي ابقى قول لاخوك لانه ناكر انها حلوة..
ثم تاه ببياض بشرتها الساطع كضوء الشمس :
-دي بتنور في الشمس ..
وأكمل بتنهيدة طويلة :
-وچوة قلبي كمان.
لاحظت ليلة نظراتهم المسددة لعندها فتفاقم توترها وانصب الخوف بقلبها و بعينين بريئتي كأعين أرنب مذعور أخذت تتحاشى النظر لهم ، فتحمحم هاشم متحمسًا وهو يرتب في ملابسه :
-سيبك منه ده ، أروح اتعرف عليها بنفسي ..
هتف هيثم محذرًا :
-هاشم ، ولاه .. تعالى هارون لو شافك مش هيحلك ..
فتدخلت هاجر بنبرة مُحقق قانوني:
-احكي لي دلوق مين دي وأيه قصتها !! انجز يا هيثم .
ما رأت هاشم يقترب منها فولت وجهها هاربة من سطو النظرات المربكة التي لم تتحملها ، ما خطت قدمها خطوة فنادى عليها قائلًا :
-على فين !! الكُل جيه ورحب بيّ إلا أنتِ ، قلت أما أجي أنا وأرحب بيكي بنفسي.
لملمت شتات قوتها ودارت لها والتوتر يعبث بكيانها:
-لا أبدًا ، أنتوا عيلة في بعض ، مش لطيفـة ادخل ما بينكم يعني ..
رفع حاجبه مستنكرًا وتلك الابتسامة لا تُفارقه متجردًا من لهجته الصعيدية :
-ولا لطيفة تُقفي لوحدك كده !!
ثم مد يده ليُصافحها :
-هاشم العزايزي... رائد جيش ، وأنتِ !
مدت يديها المرتعشة من هول الغُربة التي أحستها وهي تُعرفه بنفسها :
-ليلة سامح ، إعلاميـة ..
رفع حاجبه معجبًا:
-يا جامد !! ماهما لو يجيبولنا القمر ده على التلفزيون أنا مش هتحرك من قدامه .
انضم هيثم لحوارهم وهو يلكزه منفردًا بساحة الحوار معرضًا نفسه بثقة :
-ديه هاشم أخوي .
غمغمت بقلة خبرة:
-ااه هو عرفني بنفسـه ..
فتدخل هيثم واعظًا :
-زين ، ابعدي عنه عاد لاني متعلم الصياعة على يده !! فهتلاقينا فول وانقسمت نصين .
حدجه أخيه برزانة وهو يدافع عن نفسه أمامها:
-متصدقهوش ده بيبوظ سُمعتي ، أنا جاي أرحب بس بضيوفنا واتعرف عليهم .
تمتم له هيثم ناصحًا :
-خف نحنحنة هارون هيولع فينا ..
رد من خلف فكيه المنطبقين :
-اسمها مجاملة لطيفة يا بئف ..هعلم فيك لميتى !
تأرجحت عيني ليلة متحيرة لم تترجم صوت همهماتهم وقالت مستفهمة:
-هو في مشكلة !!
-متجمعين عند النبي !!
أتاهم صوت هارون متحمحمًا من الخلف وهو يغطى كتفيه بعباءته الصعيدية وبنبرتـه الحادة ثم قال :
-خير ؟!
حك هيثم رأسه مردفًا لهاشم :
-جالك الموت يا تارك الصلاة !!
ثم جهر هاشم مدافعًا عن نفسه وعن أخيه :
-أحم طبعا خير !! مش خير يا هيثم !!
ساير أخيه مؤيدًا وهو يغازل ليلة بأنظاره المهذبة في حضرة أخيه :
-خير طبعا يا هاشم ..ده خير الخير.
فحرك هاشم حاجبه مؤكدًا :
-قال لك خير أهو يا هارون..
تأرجحت عيني هارون الكاشفة لجميع تصرفاتهم العبثية وقال بـ خُبث :
-خير أنتوا يا ولاد صفية ..
هنا جاءهم صوت هِلال من الخلف الذي انشغل لجمعهم وقال متسائلًا :
-لعله خيرًا يا أبناء الخليفة..
طافت عيني ليلة حول الأربعة رجال حولها رغم تشابه ملامحهم إلا أنهم يحملون طباع مختلفة تمامًا عن بعضهم .. ابتسمت بخجل وأحمر وجهها حتى تعلقت بأعين هارون المتوعدة وهي تهز كتفيها بتحيـر ثم شبكت يديها خلف ظهرها ونظرت لهم بحماقة قبل أن تفر من سطو نظراتهم كالغزالة الهاربة من صيادها :
-خير !!
نظر كُلا من هاشم وهيثم لهِلال إثر فرار ليلة من بينهم بعتب حتى جهر هيثم ساخطًا :
-هو إن حضرت الملائكة غابت الشياطين !!
فرُسمت ضحكة مزيفة على وجه هاشم لهِلال :
-منور يا مولانا .. واحشني .
عض هارون على شفته السفلية بامتعاض مُشرًا لهاشم وهيثم بتحذير وعينيه يغازلها شعاع الشمس :
-هتلموا روحكم ولا ألمكم بمعرفتي !! ما تحضرنا يا شيخ هِلال !!
فجر هِلال واعظًا :
-وجود تلك الفتاة بالبيت فتنـة ولابد من رحيلها على الفور يا حضرة العُمدة .
حدجه هاشم مستنكرًا وهو يغادر :
-اسكت .
وبنفس الأسلوب وبخه هيثم وهو يلحق بهاشمه وقدوته :
-ياريتك ما اتكلمت .
فعاتبه هارون بمزاح :
-عقولك لك أحضرنا ، مش تصرفهم .. بالإذن يا مولانا ....
•••••••
~عصـرا .
فرغ الرجال من تناول سفرة الغداء الممتلئة بأشهى الأطعمـة اللذيذة والتي ذات طابع صعيدي الذي يميّزه بالدسامة والروائح الفجـة .. تعمدت نجاة ألا تلتقي برؤوف المتلهف لرؤيتها قبل رحيله .. جلس السيدات بالغرفة الأخرى لتناول غدائهن ، اجتمعن الكُل في أجواء عائلية يملأها الضحك والألفة فلم يعد للغربة بينهم مكانًا .. شيئًا فشيئاً تفرقت جماعتهم كُل منهما ذهب لمفترقه ، صعد كل من هاشم وهاجر لغرفتهما كي ينالان قسطًا من الراحة ، غادر رؤوف بعد ما خاب أمله في الظفر بنظرة من عيني حبيبته .. ذهب هِلال لإقامة صلاة العصر بالمسجد ، وهيثم الذي غادر ليباشر بقية مهامـه الموكل بها من أخيه ..
تجلس ليلة بجوار أحلام يتسامران في أجواء دافئة حنونـة ، تفحصت أحلام معالم وجهها بعناية وهي تقرأهما :
-وشك مبدر كيف القمر وضحكتك حلوة بس روحك دبلانة يا بتي وشايلة حِمل جِبال .. سيبك من الشُغل واحكي لي همك اللول .
عقدت حاجبيها مذهولة من تعريها أمام تلك العجوز التي أصابت كلماتها مُنتصف قلبـها :
-هو للدرجة دي باين عليـا !!
-الحزن والحب كيف النار بالعين مهما حاولتي مش هتعرفي تداري دُخانهم .
يبدو أن جلستها مع هذه السيدة التي تحاورها من كل قلبها أفيد من ألف جلسـة مع طبيبها النفسي ، حكت جدار رقبتها بتوتر فأحمر مكان أظافرها كإحمرار وجهها وقالت بحسرة :
-ساعات كتير بسأل نفسي ، ليـه بيحصل معايا كده !! ليه كُل العقد والكلاكيع دي في حياتي أنا ، تعرفي يا طنت .. أنا نسيت يعني أيه فرحة من وقت ما كان عندي ١١ سنـة .
قاطعتها تلك السيدة ذات خبرة طويلة بالحياة وقالت بحكمـة :
-هموم الخَلق مدارياها الحيطان ، محدش خالي .
ثم مسحت على رُكبتيها بلطف ؛ وأكملت :
-مش هتحكي لأحلام !! متقلقيش سرك في بير ليوم الدين يا بتي .. فضفضي يمكن لما تفضفضي ترتاحي .
تاهت في دروب ماضيها بين فراق جِدها ، وهجران أمهـا وموت أبيها ، واتهامها المتواصل بالفشـل .. بين تلك الليالي الطويلة التي عاشتها بخوف حتى اعتادت أن تكون خائفة .. بين شعور الوحدة المميت الذي يسكنها .. كُل الدروب مظلمة ولكن من أين ستشرق الشمس لتُنير عتمتها !!
كان هذا سؤالها الآخير الذي ختم القدر جوابه عندما فاقدت من شرودها على جمهرة صوته متسائلًا :
-أنا طالع ، محتاجـة حاجة يا أحلام . ؟؟
-تِسلم يا حبيبي .. هحتاجك سالم غانم من كُل شر .
لم يتطرق بالنظر إليها تعامل مع وجودها كالمقعد الجالسة فوقه مما أشعل أحساسًا بالرغبة المُلحة بداخلها لفتح أي حوار معه ، ما أن ولى ظهره مُغادرًا استأذنت من أحلام على الفور وتبعت خُطاه ركضًا وهي تُنادي عليه :
-ممكن دقيقة !
توقف فلم تنتظر ليدور لعندها بل وثبت لتكون أمامها متطلعة بملامحه المُنكمشة ، فتأرجحت عينيها بحيرة لا تعلم من أين ستبدأ .. حتى تفوهت بدون نية بالسؤال:
-أحنا هنبتدي شُغل من أمتى !!
-حبكت دِلوق !
هزت كتفيها بتوجس:
-أنتَ كده معطلني على فكرة .. وشايفة المفروض تنجز يعني ، سامعة إنك هتخطب وأكيد مش هتكون فاضي لي .. هتكون مشغول مع خطيبتك الأيام الجاية .
عقد حاجبيه ممتعضًا وتأفف :
-العشية هفوت عليكي ونشوفوا موضوعك ..خلينا نخلصوا .
-وليه مش دلوقتي !! يعني نكسب وقت ليه نستنى بالليل ..
زفر بضيق:
-وراي شُغل .
تساءلت على سجيتها :
-والشغل ده فين !!
تلقت تلك النظرة الاعتراضية التي أدركت بها حماقتها وقالت موضحة:
-يعني زي ما حضرتك خايف على شغلك أنا من حقي أخاف على شغلي ..
ثم دنت منه خطوة وأكملت بنفس النبرة المهزوزة :
-قصدي يعني لو شغلك ده هيفيدني في حاجة ممكن أجي معاك ومنضيعش وقت .. ايه رايك ؟!
حافظ على ثباته وبدون تسلحه بأي معالم توحي بمشاعره الداخلية قال بهدوء:
-خشي أقعدي چار أحلام .
فتحت ثغرها متأوهة وكمن عثر على جوابه للتو ، فأكملت باندفاعية وبحديث لا تُدرك خارطته ، بل كانت رغبة مُلحة في الحديث معه لا أكثر .
-اااه ، أنا فهمت .. شكلك كده مش عارف تساعدني أزاي وهتطلع بؤ في الأخر ومش هلقى عندك معلومة ولا غيره .. ما تخليك صريح معايا وبدل المرجحة دي فهمني وأنا هتحترمك والله .. لكن مش كده !!! اعترف اعترف يلا .
-ده حتى عيقولوا ؛ زينة المرء منطقه !!
جحظت عيناه من هول وقاحتها معـه ، فكيف تجرؤ وتتحدث مع كبير قبيلة مثله وبمكانتـه بهذا الأسلوب ، أيعاقبها مثلما يُعاقب كل من يتجاوز الحد معه أم يتفهم عفويتها و تلقائيتها الزائدة ويمنحها صك الغفران لكونها إمرأة تجهله ، تأفف بغضب وهو يوبخها فأكمل :
-وانتي معندكيش فِلتّر !! يعني الكلام ما عيعديش من إهنه_مُشيرًا بسبابته نحو رأسها_يعني أقلها ياخدله وش نضافة قبل ما تُطلقيه علينا يا بت الناس !!
تأهب أن يرحل كي لا ينفعل عليها أكثر ولكنها أدركت خطأها الفادح ولحقت بتلك الخطوة التي قطعها مُتشبثـه برسغها :
-استنى ، بليز استنى .. أكيد مش قصدي ممكن متزعلش وتتعصب عليـا ، مش قصدي خلاص والله .. أنا أسفة .. هقفل بؤي خالص .
أسلوبها الطفولي جعل ساعة قلبه تقف عند تلك البراءة التي لم يراها على إمراة من قبل ، توقف على شفا جفونها المتفتحة كزهور الربيع تتوسلـه ، دق ناقوس الشعر برأسه وهو يهمس لقلبه :
"عيناكِ كنجمتان تسبحان في خواء أفلاكٍ
بين جفون شواطِئها
حيث يغرق فيهما المرء قرونًا
ولا يود أن يُفارقها ."
عاد له رُشد بعد ما تأمل عينيها المتلون بزُرقة السماء فوقه رافعًا حاجبه متعمدًا أن يثير غضبها قائلًا :
-ربنا يشفيكي ..
-يعني أيه ربنا يشفيني !! أنا مش عيانة على فكرة .!
على الجهـة الأخرى جاءت زينة وبيدها كأس من العصير الذي اعدته لهارون بنفسها ، فسقطت عينيها على تلك الفتاة التي تقف بقربه يتعمقان النظر ببعضهما أن رآهم شاعرًا لكتب دواوينه من نسل تلك النظرات المبهمة والمتأرجحة بينهما ، فصاحت زينة والغيرة تأكل بقلبها:
-تعالى الحقيني يا عمة ! دي مكلبشة في يده كيف الجرادة ...
••••••••
~قسم الشرطة.
-كل حتة يعدوا منها ولاد العزايزي يتحط فيها كمين يا محسن ، والله لاحبسكم واحد واحد .
كان يجوب خطاوي مكتبه بعشوائية وهو يتوهج نارًا من تصرف هارون الآخير معه ، فألقى قذيفة أوامره على مسامع معاونه حتى أردف بخزي :
-شريف بيه !! لو متعرفش هاشم العزايزي رجع النهاردة .. ولو كان هارون دماغه داهية ، فهاشم ده دماغه سم ، موجب مع رجالة الداخلية قبل الجيش ، وحبايبه كتير ، منظنش إننا هناخد منهم حق ولا باطل .
نهره شريف برفض قاطع :
-يعني ايه يا محسن !! أنتَ عايزني اسيب حقي !! اخلى واحد زي هارون العزايزي يعلم عليا !! دانا افرغ مسدسي في راسـه وافضها شُغلانة .
وثب محسن كي يرشده :
-اهدى يا شريف .. أهدى وكبر دماغك منهم وبلاش تضيع مستقبلك عشان ، صدقني العزايزة دول لا قانون ولا حد يقدر يفرض نفسه عليهم .. نابهم سم .
هتف شريف متوعدًا وينتوي الشر :
-وانا وراهم والزمن طويـل يا محسن ......
••••••••
~اسكندريـة ..
قيـل :
أن الحياة عندما تكشف أقنعة الناس تكشفها بقسوة ، لدرجة أنك تحتاج وقتاً طويلاً لتستوعب بشاعة الوجه الحقيقي الذي تقاسمت معه ذكرياتك بشتى أنواعها ...
فالحياة مفاجئات ، قد تأتيك من البعيد ، وقد تأتي من أقرب الناس إليك ..
. فهناك خذلان لا يغفر ، وفي النهاية :
"ليس هناك أناس يتغيرون ، بل هناك أقنعة تسقط من فوق وجوههم المزيفـة .
فارقت ناديـة فراش الزوجية الذي يجمعها بـ رُشدي أبو العلا ، ابن عمها وأبو شريف وزوجها السري منذ عامين .. نهضت وهي تجُر ذيل روبها الحريري الذي ارتدته بملل وعقدت حزامه حول خصرها ونظرت لذلك الرجل الذي اتخذها زوجة ثانية له وقالت :
-تقدر تبات هنا ده لو عرفت تهرب من أميرة ، "ليلة" مش جاية اليومين دول .
اعتدل الآخير من نومته وهو يلجأ لسيجارته ويشعلها قائلًا :
-وبعدين ، إحنا مش هنخلص من موضوع البنت دي ، وبعدين أيه العوج اللي هي فيه مع شريف .
قهقهت نادية بإغواء وهي تتمايل صوبه وتقول :
-متقلقش ، سيبها على راحتها تعمل اللي عايزاه وفي الأخر كلامي اللي هيمشي..
ثم تبدلت نبرتها وأكملت بصوت متخابث:
-رشدي ، قول لابنك يعقل .. مش عايزين نخسر كُل حاجة .. كفاية الضربة اللي ادهانا سامح ..
ضرب رشدي على بطنه العارية بإعجاب :
-فلوس ومشاريع بالملايين كُلها في حساب واسم ليلة ، اللي هي مش بنته .. أنتِ ازاي مخدتيش بالك من كل ده !! ازاي يا نادية .
اتكأت على ظهر وسادتها وقالت بغلٍ:
-كان مفهمني إنه معندهوش غير مرتبه آخر كُل شهر ، طلع عامل بيزنس ومشتري أسهم في أكبر الشركات لا وكلهم باسم ليلة ، اللي هي مش بنته ..
ثم نظرت له والحقد يتطاير من أعينها:
-أنتَ متخيل ، البنت الغبية دي بيدخل في حسابها كل شهر ملايين .. والمصيبة ولا حاسة بقيمتهم ، ده لو قابلها حد محتاج قرشين ممكن تديله كل الفلوس اللي معاها وهي مبسوطة ..
انتبه رُشدي لها بمكر :
-سيبي شريف عليا ، وأنتِ اسحبي منها على أد ما تقدري واتحججي بالمركز والمستشفى ، البنت دي لو معرفناش نسيطر عليها ؛ هنخسر كُلنا ..
ثم قبـل كفها وأكمل بتخابث:
-حبيبتي كل الفلوس دي من حقك أنتِ ، حق انه وهمك إنك مش بتخلفي ودبسك في بنت مش بنته عشان يداري على عيوبه هو .. أنتِ صح والفلوس دي حقك وبس ..
عشش الحديث برأسها وأخذت تُقلبه على مراجل من النار حتى تفوهت بعجز :
-أنا بس لو أعرف رفعت الجوهري جابلنا البنت دي منين ومين أهلها !! الاتنين ماتوا قبل ما يقولوا السر يا رشدي .....
يبدو أن الحُب جمد قلب نزار ومنحه القوة الكافية لكي يطلق وصفه الشعري على حبيبته عندما أقر معترفًا :
"-إن كان كُل إمراة أحببتها صارت هي القانون."
سبغ عليها وصف القانون كناية عن إنه لا يتبع غيرها بعمره هي جهته ووجهته وخارطة دربه .. أمـا عن هارون ؛ هل سيتبع نهج نزار ويسلك دوربها مُتبعًا قانون قلبه الذي دق بالحب لأول مرة ، وسيضرب الأعراف بسيف هذا القانون لأجلها !! أم سيضرب ذلك السيف قلبه ويبتر آخر أمانيـه ورجاءه ليحيـا بهذا العشق المحكوم عليه بالموت قبل أن يولد !!
#نهال_مصطفى 🍒
••••••••••••••••
هُناك ضربـة واحدة تأتيك بربيع عمـرك تجعلك بروح شيخًا بائسًا منتظر الموت وأنت بالصِغر ، تُضيف عشرات السنوات لعمرك العشريني؛ تتورم عينيك كما تورم قلبك وفاض ألمًا ، ينعقد حزنها بتجاعيد عينيها المنكمشة ، و بضبابـة سوداء تحتهما .. يحفر الدمع وديانًا على معالم وجهها المتشققة .. تجلس " نغـم " بساقيها المضمومة لصدرها تاركة جسدها فريسها للحزن .. اليـوم اغتالت كُل أحلامها التي تجمعها مع الرجل الذي لم تكتب إلا اسمه بدفترها وحروف اسمه المتفرقة التي كانت تحفرها على الورق ..
يدها التي اعتادت أن تنقش حروفه على كُل مكان .. حيث كانت الهاء هدوء روحها عند رؤيته .. والألف الأمان الذي لم تشعر به إلا معه .. والراء رائحة عطره التي تجذبها من ياقة قلبها ولو عن بُعد أميال .. والواو ذلك الوعد الذي أخذته على عينيه أن لا يكون إلا لغيرها .. والنون تلك التي يبدأ بـ اسمها وينتهي باسمه ليكون بدايتها ونهايتها .. كُل الادلة كانت توحي بإنك لي بأننا خُلقنا لبعضٍ ؛ ماذا حدث ؟! من لعب بعداد الأقدار لتختار واحدة غيري وغير قلبي الذي أحبك !! بربك أخبرني كيف سأتحمل رؤيتك مع إمراة لم تكن أنا ..
تذكرت تلك السنوات الماضية التي كان يُرافقها فيها للجامعة ، كانت فتاة بأول سنتها الدراسية وكان هو ينهى دراسته العُليا بالجامعة ومُعيدًا بها ، ظلت تتذكر تفاصيل عامين لم يفترقا فيها أبدًا ، كان يُعاملها كأخت له ولكن قلبها المُغرم كان له رؤية ثانيـة ..
كفكفت عِبراتها بأناملها المرتعشة وأخرجت صورته الصغيرة من دفترها السري ، تلك الصورة التي اختلستها قبل ستة أعوام من ملف تقديمه بالجامعـة .. تأملت ملامحه الشبابيـة بعمر العشرين وهي تُعاتب القدر الذي فرقهما :
-يعني خلاص !! كُل أحلامي معك كانت أحلام وبس !! طب قول لي أعمل ايه في قلبي اللي حَبك يا وِلد خالتي !! دا أنا حتى تربية يدك وعارفة اللي يضايقك قبل اللي يسعدك !! هعيش وأشوفك في الكوشة مع واحدة تانية ! طب ليه حبيتك من اللول وأنتَ مش من نصيبي !!!! أهون عليّ الموت ولا أشوف اليوم ديه يا هارون ..
•••••••••••
حل الليـل وعّم الهدوء على أرجاء البلدة رغـم صخب قلوبهـا .. تجلس رُقيـة مع أمها أمام التلفاز في ساعة صفـا يتناولون بعض المقرمشات التي أحضرتها معها من أسيوط فلاحظت الأم شرود ابنتها وصمتها الطويـل وعلى ملامحها انكماشة غضب .. فتدخلت صفاء متسائلة بفضول :
-ايه اللي شاغل بالك يا بت بطني .. ؟!
توقفت حبة الفول السوداني على ثغرها المزموم وطالعت أمها متحيرة :
-ولا حاچة ياما ، بس بفكِر في وِلد خليفة العزايزي ، أنتِ عارفة هيثم مش إكده !
أشادت صفاء بشهامة هيثم :
-طبعًا ؛ وهو فيه فـ مرجلة وجدعنة هيثم ، مش بيعدي أسبوع غير لما يفوت عليّ ويشوفني عاوزة حاچة ولا لا ..
ثم أكملت مدح بأولاد الخليفة :
-شهادة لله أحلام وصفية مربيين أربع رچالة كيف الورد .. يا ريت كل العزايزة زيهم .
اعتدلت رقية في جلستها لتبدأ بفتح الحوار مع أمهـا :
-تعرفي هِلال !! أنا أول مرة شوفته الصبح .
ضاقت عيني صفاء باستنكار :
-معرفش غير هيثم و هارون ، هما اللي على طول في البلد وأخوهم الظابط ديه مش عيجي من أصلو ؛و هِلال ديه أمام الجامع بستنى خُطبته من الچِمعـة للچِمعة …
أرجعت خصلة ناعمة من شعرها وراء أذنها وهي تقول بإنزعاج منه :
-شخص غريب قوي يا ماا ، تصوري مكنش راضي يركبني عَربيته عشان مبخرها !!والله في حاچة في عقله .
ثم ختمت جُملتهـا بضحكة ساخرة وأكملت :
-وطول الطريق هو وهاجر ناقر ونقير .. كله حرام وغلط وممنوع ؛ هو مين فهمه أن الدين بالعسر ديه !! حقيقي الله يعينه على راسه الجابسة دي …
لم توافقها صفاء الرأي :
-بس الحق هو مُحترم ، ومحدش قال في حقـه كلمة ، هيثم أخوه مجلع هبابة ؛ لكن الباقيين محدش بيقول عليهم كلمة مش زينـة يابتي ..
ثم غمغمت بحسـرة :
-لولا الملامة كان نفسي ربنا يرزقك بواحد منيهم ، بس أنتِ خابرة أكمنك وحيـدة اتكتب عليكِ قدر تاني .
حكمت رُقية رأيها:
-وانا مش هتجوز بكر ياما ؛ شالله أفضل چارك بايرة ولا يجمعني ببكر ديه فرشة واحدة …
هنـا صدح صوت قدرها المعاكس للهوى ، نادراً ما يأتي مُصاحب للقلب ، صوت طرق عنيف على الباب قطع حديث الأم وابنتهـا ، شدت رُقية الوشاح المُعلق برقبتها وغطت رأسها بفزع :
-مين چايلنـا السـاعة دي ياما !! خير يا رب .. خليكِ ياما هفتح أنا .
ارتدت نعالها البلاستيكي بسرعة وهرولت نحو الباب لعدم صبر الطارق:
-چايـة ؛ قولت چاية هو مفيش صبر !!
فتحت الباب الخشبي وتوارت من الخلف فظهر عزرائيل قلبها الذي لا يأتي بموعد وهو يغازلها قائلًا :
-شوفتي الدار نور كيف برجعتك ، ما كفياكي علام وأقعدي چار أمك .
تأففت بامتعاض :
-عايز أيه الساعة دي يا بكر !! أنت چاي لاتنين ولايه بعد العشية تعمل أيه ..؟!
تمسك بشاله الصوف المُلقى على كتفيـه وقـال هائمًا:
-چاي أخبر مراة عمي وأقولهـا أنا وأمي چايين بكرة العشية نُطلبـوا القُرب …
-أنتَ غاوي تهزيق !! يعني متكيفتش الصبح راچع تكمـل قلة قيمة اخر اليوم ..
ثم احتدت نظراتها التحذيرية:
-ومن غير يمين يا بكر ؛ لو چبت أمك وچيت لهطردكم قصاد الخلق ولا هيهمني حد .. سامع ؛ وأنتَ خابر رقية بت أبو الفضل لما تهدد عتنفذ ..
ختمت جُملتها وهي تقفل الباب بوجهه مستغفرة ربها ثم صاحت :
-تلقيح الجتت ده مش هنخلصو منيـه !!!
ركل بكر البـاب بقدمه معنفًا :
-أنت ليّ بالشرع والقانون ومحدش هيقدر يأخدك مني .. سامعة يا رقية بالذوق بالعافية مش هتچوز غيرك ويا أنا يا أنتي .. وبكرة چايين ووريني هترفضيني كييف …
صرخت له وهي ترتمي بحزن بحضن أمها :
-موتي أهون يا بكر …
••••••••••••
~ببيت خليـفة العزايـزي .
اجتمعن نسوة البيت كلهن بغُرفة الجهاز الخاصـة بهيـام .. شرعت صفية بفرز ملابسها لترى ما ينقصهـا مع نجـاة التي كانت تساعدها بالأمر ، فرغت من عـد العباءات قائلة :
-٥٥ عباءية يا عمتي !!
تنهدت صفية بضيقٍ :
-قليـلين يا نجاة يا بتي لو كانت تطاوعني بس وتندلى نشتروا ، أقلها ٦٠ عباية حماتها هتاكل وشنا .. والبشاكير طلعوا كام ؟!
-٧٠ بشكير بالتمام والكمال .. والمفارش ٥٠ ، شوفي الناقص نندلى نجيبوه الصبح ..
زفرت صفية بحنق :
-دي بت صديق داخلة بـ١٠٠ بشكير ، وأنا بتي مش أقل من حد .. اكتبي يا نجاة يابتي عندك ..
تدخلت ليلـة التي تستمع لحوارهم بذهول :
-هي الأعداد دي بجد !! هي هتتجوز ولا هتفتح محل .
أيدتها هيام :
-قوليلهم ؛ أهو حتى ضيفتنا مش عاجبها الكلام ، ياما زانين كبري مُخك عاد ..
فتدخلت هاجر بحديثهم ساخرة :
-وتبقى أقل من بت صديق !! لا مرضهاش لاختي .. اكتبي يا نجاة ناقص ٣٠ بشكير الصبح يتجابوا ..
وبختها هيام :
-حتى أنتِ هتعومي على عومهم .. ما تقولي حاچة يا ليـلة ..
تأرجحت عيني ليلة بدهشة :
-بصراحة مش عارفـة ، أنا ومامي كُنا بنشتري الحاجات ونوديها الشقـة على طول ، يعني على أد مساحة الدولاب والناقص بس .. لكن مش بالأعداد دي ..
ثم أكملت :
-مامي بتقول أن مش لازم نشتري كتير لان الموضة بتتغيـر ولازم نجدد كُل فترة .
فتدخلت هاچر بفضولها :
-هو أنتِ مخطوبة !!
انكمش وجهها بامتعاض عندما تذكرت تلك النقطة السوداء بحياتها :
-كُنت ..
ثم اتسعت ابتسامتها بتهيدة الحُرية :
-بس خلاص فركشت الحمد لله ..
شهقت هاجر بفضـول :
-لالا دا أنتِ تحكي لي ، سبتوا بعض ليه !
غمغمت بانشكاح :
-البركة فـ أخوكي .. هو السبب .
تدخلت زينـة في حوارهم لتأخذ الصورة من اهتمامهم المبالغ فيه لليلة وأنها فجأة الكُل يُعاملها كصاحبة مكان ، تمسكت بقطعة من ملابس النوم الخاصة بالعروس وهي تفرزها بغنج :
-سيبك من العِيبي والمفارش يا عمـة ؛ وركزي على الهشتكة والدلع هو ديه اللي بيمشي الجوازة مش البشاكير ..
ثم فتحت قطعة حريرية أخرى باللون الأصفر وأكملت :
-أهي حتة من دي هتدوخة وتوقع الراچل من طوله ..
ثم نظرت بغل لليلة التي تعاملها بقسوة والغيرة تلتهب بصدرها منها وأتبعت بدلال :
-ده أنا چايبة شوية حاچات لهارون على عجب العين والقلب ، لما يشوفهم عليّ هيتخوت ..
قطعتها صفية مدافعة عن ابنها :
-خوتة لما تخوتك بعد الشر على ولدي ، شالله أنتِ يا بت صالح ..
عّم ضحك النسوة بالمكـان حتى وبختها أحلام :
-يابت خليكي تقيلـة هبابة ، الرچل ما عيحبش البت الواقعة ..
-عحبه يا عمتي ، عحبه وريداه ومش عاوزه غير من الدنِيا ..
وثبت زينة من مكانها باندفاع وهي تضع تلك القطعة على جسدها وتتدلل أمامهم على أطراف أقدامها ؛ وفي تلك اللحظة جاء هارون الواقف أمام البـاب الموارب ليستمع لها وهي تقول بمياعة :
-يعني بذمتك يا عمة لما ألبس لهارون حتة من دول وارقص له إكده هيضل فيه عقل !! إكده يبقى خدت العقل والقلب لحسابي ..
ثم تنهدت بتمنى :
-ميتى بس يا هارون نتجمعوا تحت سقف واحد .. وأنا هوريك العجب والدلع .
أردفت ليلة على سجيتها ولا تعى أن سبب تلك الجملة شرارة الغيرة بقلبها وقالت ببراءة :
-مش المفروض الحاجات دي سيكريت وعيب نتكلم فيها قدام حد كده !! دي أسرار بينك وبين شريك حياتك وبس .
أحمر وجه ليلة خجلًا من جُرأة زينة الزائدة فلاحظت هاجر كسوفها فبدالتها الابتسامة الهادئة التي تعتذر لها عما بدّ من زينة وأنها لم تتغير أبدًا، وضعت زينة كفيها بخصرها :
-نعم يادلاعدي ، ليه هو مش هيبقى چوزي وحلالي !! ولا هو اللي عقوله ما ينفعش وأمشي اتشعبط في يده قصاد العالم هو اللي ينفع !
نهرتها صفية معنفة كي تصمت وتتراجع عن أوهامها السخيفة التي أقنعتها بصعوبة أن تتناسها ؛ فانفجرت زينة مغلولة :
-سيبيني أفضفض يا عمة دانا مقهورة وعلى آخري من كُهن البنات ديه …
بنظرات مغلفة بالحماقة تراقبهم ليلة كشخص أطرش في زفة عرس لا يدرك صخب ما حوله ؛هنا اقتحمهم صوت حمحمة هارون الذي توقد غضبًا من تعبيرات زينة التي لم ترق له ، طرق على البـاب هاتفًا :
-يا ساتر ..
ندات أحلام عليه :
-تعالى يا حبيبي ؛ مفيش حد ..
فتح هارون الباب الموارب وطل منه وهو يرمق زينة بنظرة حادة مردفًا بعدها وهو يستشط غضبًا :
-خفي حديت ماسخ وبطلي قِلة حيـا …
لم يمهلها الفـرصة للدفاع عن نفسها ثم أشار لليلة الجالسة بجوار أختـه بإيجاز :
-تعالى عاوزك ……
انتابت زينة عاصفـة شديدة من الانفعال والغضب وقفت بمنتصف الغُرفة بأعين متسعة تتنقل يمينًا ويسـارًا تحول ضيقها من ليلة لغضب يأكل كل شيء ولا ينطفئ أبدًا .. بطرف عينيـه ألقى نظرة أخيرة وهو يفحصها من رأسها للكاحل وكأنه يواجه قلبـه بتلك الحقيقة المُرة التي يسلكها بكامل إرادته ، يواجه قلبـه بإنه يومًا ما سيكون معهـا تحت سقفٍ واحد كما سردت لهم ، ولكن ما أشعل غضبـه وأخجله أكثر كيف تتكلم عن حياتهم المُستقبلية الخاصة على الملأ ليكون حديث النسوة والألسـن .. ولى ظهره وغادر بدون كلمة إضافيـة فلحقـت به ليلة بدهشة تملأها .. حملت هاتفها وتابعت خُطاه كالقطـة الهاربة من وادي الذئاب .. ولت زينة لعمتها بكل غضبها :
-شايفة الهم اللي أنا فيه ياعمتي !! يعني يوم ما يقول يا جواز تيچي دي وتفقع مرارتي.
حدجتها أحلام بنبرة لا تقبل كلمـة زائدة :
-ما تقعدي وتتهتي إكده !! ضيفته وبيناتهم شُغل راسك مسوحاكي ليـه !! يا تساعدينا بِسكات يا تتكلي على بيتكم مش ناقصين خوتة ..
تمتمت بضيق وهي تشد وشاح رأسها :
-تُشكري يا أحلام ، أنا ماشية بدل حرقة الدم دي ..
هـنا مالت صفية على آذان فردوس الجالسة بجوارها :
-فردوس عينك متندلاش من عليهم ، يلا قُومي شوفيهم هيروحوا فين …
وفي نفس اللحظة التي تتأهب فيها فردوس للمغادرة لمراقبة ليلة وهارون ، جاءها نداء هاجر التي رن هاتفها :
-خُديني معاكي يا فـردوس …
~بالحديقـة الخليفـة .
-هفضل أجري وراك كده زي الطفلة !!
أردفت بحنق إثر خطواته السريعة وكلماته الشحيحة معها وهي لا تفهم لِم جاء بها لهنا ، رد باختصار وهو يواصل سيره :
-قربنـا نوصلـوا ..
تابعت نفس خطواته ركضًا على مضضٍ وهي تتمتم سرًا وتذم في جفاءه ولم تكُف عن اتهامه بقلة ذوقه ؛ وصل الثنائي لغُرفة خشبيـة أشبه بالكوخ يحاوطه سورًا خشبيًا ويبعد قليـلًا عن منزلهم .. فتح الباب الصغير ثم قطع درجتين من السُلم الخشبي ليقف أمام البـاب الرئيسي للبيت الصغير .. أخرج مفتاح من جيبـه وهي تقف خلفه تتفقد المكان بعيونها المُتحيـرة ؛ فتح الباب ثم امتدت يده لاشعال الأنواع ، دلف للداخل متمهلًا وهي يزيح الباب فصدر منه صوت صريره ، اتبعت خُطاه متسائلة :
-أحنا هنـا هنعمل أيه .. ؟!
ما دلفت أكثر وفعت جفـونها لتتفقد المكـان ففوجئت بمكتبـة ضخمة تشغل جانبين من الغرفة ومنضدة متوسطة الحجم بمنتصفها ، وفراش صغير في أحد الزوايـا وبجواره كمود وبأبأجورة صغيرة ذات طراز قديم .. وعلى يسارها وبطول الحائط طاولة مستطيلة تسد فارغ المكان عليـها معدات القهـوة والشاي .. تفوهت بإعجاب :
-المكان في راحة نفسيـة متتوصفش ، الله بجـد !
أشعل كافـة الأنوار وونظر لها ليشرح لها تفاصيل المكتبة :
-دي المكتبة بتاعتي فيها أغلب الكُتب اللي هتحتاجيها القسم ديه خاص بالقانون ، واللي جنبه بالدين .. أما ده كله عن التاريخ من يوم نشأة الأرض لحد اليوم ..وفي قسم للجغرافيا .
تقاسم الانبهار معالم وجهها وهي تمرر اناملها على مُجلدات الكُتب وسألته بتلقائية مشيرة للطاولة التي تتوسط الغرفة :
-وده مكتبك ، كُنت بتذاكر هنـا ..
انكمش حاجبيـه باندهاش ؛ فأجاب مسايسًا :
-أيوة كُنت عذاكر إهنـه من ثانوي ..
دارت نصف دورة بالمكان ثم أردفت بسؤالها الأكثر حماقة عن الذي يسبقه :
-جينا هنـا ليه بقا … ؟!
غمغم بتكبد وهو يستعين بالصبر كي يمنحه صبرًا عن صبره ليتحملها وقال :
-يا صبـر الصـبر ..
-أي قولت حاجة مش لازم أقولها !!
تأفف بضيقٍ :
-أقعدي إهنه واقري وشوفي الموضوع اللي يعجبك وذاكريه واتكلمي عنه .. خلينا نخلصوا من الحدوتة دي .
عاتبـه باستهزاء :
-وأنا سايبة مكتبة الاسكندرية وكل الدنيا دي عشان أجي عندك هنا أقرا !! مين قال لك إني بحب القراءة أصلاً ..
رفع حاجبه كحركته الاعتراضيـة المعتـادة متلقيًا سُخريتها بسعة صدر :
-والله هو ده اللي عندي ، واللي أقدر اساعدك بيه !
-والحل ؟!
رد بسخافة :
-اتعبي روحك هبابة وأقري .. واتعلمي لك كلمتين ينفعوكي بدل ما أنت على الله إكده ..
-طيب ساعدني .
-لا …
غرست سبابتها بعضلة ذراعه مندهشـة بوقاحته وتلميحاته السخيفة :
-أنا ليلة الجوهري ؛ أنتَ ازاي تكلمني كده ؟!! انا مش بشحت منك .
-كانت ليـلة منيلة على راس اللي چابوني يوم ما شوفتك ..
صرخت بوجهه مفرغة آخر ذرة من صبرها :
-افهمني أنا لا عايزة اقرا كتب ولا حاجة ؛ كُل اللي عايزاه مكان مميـز محدش يعرفه هنا نصوره واحكي قصته للناس وبس شكرًا زي فكرة الدحيح أو الخيميائي وبدل ما هو برنامج على اليوتيوب يكون على التليفزيون والكُل يستفاد ، أنا مش جاية اذاكر وامتحن عند سيادتك..
ثم دنت منه خطوة إضافة وهي تُشير له بسبابتها التي يُزينها خاتم رقيق وأكملت :
-ولآخر مرة أنا هسمح لك تكلمني بالطريقة السخيفة دي .. أنا مش خطيبتك اللي اسمها ايه دي ومش هقبل أي إهانة منك .
ثم أشاحت بيعينها بعيدًا عنه وغمغمت :
-أنا مش عارفة هي فرحانة بيك على أيه أصلًا .. دي واخدة أكبر مقلب في حياتها !!
-عـتفهـم ..وعندِها نظر.
قال جُملتـه بعد ما هضم غضبه منها بتلك الابتسامة التي لا تتناسب مع الموقف ولكن هناك شيء ما رضى به غروره عندما أشعل نيران الغضب برأسها ؛ لوحت بيدها وهي تستعد لفرز الكُتب وتمتمت :
-أنا من ساعة ما جيت هنـا ماقابلتش حد بيفهم غير طنت أحلام ، والباقي كله كله غريب ..
ثم دارت لعنده كإنها تذكرت شيء ما وشرعت أن تشكو منه :
-دي حتى مامتك ، كل شوية تبص لي بصات غريبة وتتضحك لي ، ومرة تمسك شعري ومرة تقولي عينيكي حلوين ، وبعدين هي مضايقة ليه استر دراعاتي ولا لا !! أنا حُرة .. وأخوك ده أبو دقن كل ما يشوفني يبص الناحية التانية ويستغفر ربنا !! هو جاي يتوب عندي !!
ثم نزعت شالها الصوف بغل ووضعت على ظهر المقعد وأكملت :
-الغلط عندكم وجايين تدبسوني فيه .. هي ناقصـة جنان !! عيلة غريبة وكلها غلط في غلط ..
تمتم لنفسه سراً وهو يحك ذقنه :
-أنتِ وقعتي مع صفية !!
تجاهل كُل ثرثرتها و رد بنفس النبرة الباردة التي يملكها والتي لا تتزايد إلا بوجودها :
-أقري على مهلـك وأنا هروح أقعد مع الرچالة برة .. ولو عوزتي حاچة رني .
ثم تحمحم ململمًا شتات أمره الذي تبعثر على يدها وبثرثرتها بوجهه التي لم يضع لها حدًا بل كانت ترضي غرور ما بداخلـه ، ما كاد أن يخطو خطوة ثم أوقفته منادية :
-استنى هنا ..
تقدمت خطوة لعنده بفتور :
-هـ رن ازاي وأنا مش معايا رقمك !!
سحب الهاتف من يدهـا وكتب رقـمه لم تمهلة الفرصة ليكتب الاسم فشدته منه وضغطت على زر اتصال ، رن هاتفه بجيبه ثم قالت بنبرة حاسمة :
-سجله ..
رد بلا مبالاة :
-ربنا يسهل ..
-ياربي !! وانا بشحت منك .. اتفضل سجله ووريني هتسجله أيه ، معلش أصل الحاجات دي تهمني .
على مضض لبى طلبهـا وأخرج هاتفـه وشرع بتسجيله ، فوجئ بها تغرس أعينها بشاشة الهاتف لترى ما الاسم الذي سيسجلها به ، غمغم متحيرًا حول تسميته على هاتفها مكتفيًا باسم " الاستاذة " .. خيم الاعتراض على ملامحها رافضة الاسم وهي تعبث بهاتفها لتسجل اسمه :
-الإعلامية ليلة الجوهري … سجله كده ، إيه استاذة دي إحنا مش في فصـل !.
طاوعها بنفس الابتسامة التي لم تفارقه منذ إن ظلل عليهم سقف واحد متناسيًا امر السقف البغيض الذي سيجمعه بزينـه ، امتدت أنظاره لشاشتها فوجدها أيضًا متحيرة في التسمية ، دنى منها خطوة وملامحه المشدوهة أدرف مثلها :
-العُمدة هارون العزايزي .. سجليـه .
بعدت شاشة هاتفها عنه كي لا يراه وقالت بعتب :
-متبصش في تليفوني ، وبعدين ايه الاسم ده كُله انا هطلع لك بطاقة .. هو كفاية " العمدة "
-هو حلال ليكِ وحرام عليّ!!
أيدها موافقًا ومعاملًا بالمثل مغيرًا الاسم ومكتفيًا بلقبها:
-الاستاذة ..
خطت اناملها بعناد :
-العُمدة ….
غادر المكان وهو يضرب كف على الأخر حتى لمحت عيناه فردوس التي تتجسس عليهما حيث صاح غضبانًا وموبخًا :
-مش كبرنا على دق العصافير ديه يا فردوس !!
احتجت بوجه آذانها الحديدية التي تسمع خطوة النملة وقالت :
-عتقول أيه يا هارون بيه ، مش سامعاك السمع بعافية ..
زفر ممتعضًا :
-روحي نامي يا فردوس وقولي لصفية نامي واتغطي زين …
••••••••••
تجوب " هاجر " ذهابًا وإيابا تحت الشجرة وهي تتحدث مع رُقية المنهارة من البكاء ، حاولت ان تهون على رفيقتها :
-طب هدي روحك وانا هقول لهارون يوقفه عند حده ، هو فاكرها سايبة ملهاش حاكم ولا رابط ..
جففت رقية عِبراتها مستأذنه إثر نداء أمها :
-هشوف أمي يا هاچر وأرجع أكلمك ..
-هاجر ..
دارت هاجر ملبية نداء أخيها هلال الذي يترقبها من بعيد بأعين متوترة .. حائرة بين ضميره وبين ربه .. نظرت لها والضيق يتلبس بملامحها :
-خير يا حبيبي ؟!
حك ذقنه كعادته عندما يرتبك بالأمر وقال بإذلال:
-أريد الاعتراف بشيء ..
حانت منها نظرة متعجبة :
-ليّ أنا .. أنت متوكد ؟! فوق أنا هاجر ماعيتبلش على لسانها فولة ؟!
رد بأسف :
-أعلم وهذه مصيبة أخرى .. ولكن لابد من الاعتراف ..
-طب قول .. تحب أحلف لك ماقولش لحد ؟!
رد ساخرا :
-على كل حال ستتحدثين .. لا داعي من القسم ..
ضحكت بفخر والفضول يتقاذف بمقلتيها :
-اعترف يلا سامعاك ..
-بخصوص الأخت رُقية .. أريد تقديم اعتذاري لها ..
أصدرت ايماءة طويلة وبأعينها المتخابثة تلاعبت على أوتاره المرتبكة :
-الأخت رقية .. قولت لي .. وياترى اعتذر عن أيه ولا أيه دي أنت خليت رقبتي كد السمسمة .
عاد لفرك ذقنه وهو يقول بخجل :
-لانني كذبت .. وطلبت منها تُغير مكانها بسبب صورتها المنعكسة بالمرآة ولست بسبب العجلة ..
أحمر وجهه من شد الخجل وعيناه لم تتزحزح عن الأرض :
-تعلمين لا يحق إطالة النظر بإمراة أجنبية ..
-إمراة أجنبية جميلة .. ورقية سبحان من صورها يا مولانا .. صُح !!ولا ليك راي تاني ؟
كانت جملتها تلعب على أوتاره المتذبذبة متعمدة مداعبته مثلما اعتادت فعل هذا مع هاشم وهيثم ويبدو أنها وجدت طرف الخيط الذي ستجر به قلب أخيها هلال .. برقت عيناه بدهشة لوقاحتها فلم يتقبل جرأتها أو على الأغلب لم يتقبل أنها يصير مفضوحا أمامها لهذا الحد :
-تأدبي يا هاجر .. عيب .
كتمت الضحك براحة كفها :
-تأدبت .. والمطلوب ؟!
-اعتذري للأخت رقية وقول لها بأنني لست معقد أو متشدد بالدين لأنها اتهمتني بالتطرف ..بالكاد لم تنم الليلة من قسوتي معها.
-لا ملهاش حق الصراحة .. وهي فعلا مش هتنام الليلة بسبب البئف بكر .. هي مش فاكراك أصلا ونسيت مصايبك اطمن ..
عاد للهجته الصعيدية التي لا يتجرد منها المرء مهما ذهب :
-قصدك أيه يعني ؟؟
-ياخي خلي البساط أحمدي .. وفكك أكده رقية دي جامدة معاك بس لكن هي أغلب من الغلب ومش هتسيب بكر ولد عمها اللي مطفحها الدم وهتزكر معاك يا أبو أكذوبة ..
-هاجر .. تأدبي..
أدخلت يدها بمعصمه كعريس وعروسة وسار الاثنان معا بحديقة منزلهم وهي تروي له قصة رقية :
-والله زي ما عقولك .. هحكي لك ... أصلو بكر ده عيل غتت ولازق لها بغيرة وهي مش عايزاه ..ما تساعدي يا هلال نوقفوه عند حده البت ملهاش حد ..
سحب ذراعه منها مستردا هيبته متجاهلا أمرها ومخالفا فضوله بأكذوبة جديدة :
-صديقتك لاتهمني ، كُل راعٍ مسؤول عن رعيته .. اذهبي لأخيكِ العمدة ليحل لها الأمر .
-ماشي ياهلال .. أنا هروح لهيثم وهو هيساعدها خليك أنت على إكده .. ومش هعتذرلها ..
انضم لهم هثيم الذي كان ينهي علاقته مع رحاب وهو يسبها علنا وقال :
-أنا سمعت اسمي .. مين عيقول هيثم ..
لم يكمل جملته فقاطعه صوت رنين هاتفه باسم رحاب الذي غير مجرى الحديث قائلا وهو يرفض اتصالها :
-ماشوفتش في رطك .. زن زن متفضيها سيرة عاد يا رحاب..
استغفر هلال ربه ثم رفع يده واعظا :
-ياخي ياخي لديك أخوات بنات .. تأدب لوجه الله كي لا يتوه قلبك وسط الزحام ..
كاد أن يجيبه فقطعه جرس هاتفه مرة أخرى فسبها قائلا بانفعال ورافضا حكمة أخيه :
-أحب على رأسك لو شوفتي يوم تايه في الزحام .. سيبني واعتقني لوجه الله عشان أنا أصلا طفشان منك .
ثم لوح بيده :
-أقولك أنا رايح أقعد جار هاشم وهارون .. متجيش ورانا .. أحنا شِلة الأُنس مش طالبة حكم ومواعظ ..
~بغرفة هيام ..
بأقذر أنواع الشتائم التي ذكر فيها أخيها وأبيها معًا وهو يلعنهم بالهاتف مما جعلها تنفجر بوجهه مرة أخري :
-اقطم يا ضيا .. علشان انت زوذتها على الأخير وأنا هروح أقول لأخوي هارون وهو يتصرف معاك ومع قلة ادبك ..
-فكرك هخاف يعني بالمدعوك هارون .. لما أرن عليكي الف مرة وماعترديش .. ايه بمزاجك أنا ..ديه تسميه أيه ..
قال جملته وهو يجلس على بأحد المقاهي الليلية بعد ما شد نفسا طويلا من لفافة تبغه المحشية مما جعلته يثرثر بدون وعي مما جعلها تتساءل :
-ضيا أنت مبلبع أيه ؟!
-مبلبع المُر اللي هطفحهولك لو متعدلتيش معاي يا هيام .
قالت بغل وهي تتوعد له وتضرب على فخذها :
-تصدق أنا غلطانة إني هاودتك طول المدة دي ؟! ورب الكعبة لأوريك يا ضيا .
*********
~في العاشـرة مساءً .
تجمع الأخوة مع بعضهم حول بؤرة النيران المشتعلة للتدفأة ، أرسل هارون لهاشم أخيه صورة لأحد التماثيـل الفرعونية التي عثروا عليا العُمال بالمحجر وقال له :
-عايزين نصرفوا دي يا هاشم .. العيال وهما عيكحتوا لقيوها
فتح الصورة المُرسلة له وكبـر الصورة وتأمل تفاصيل القطعة الأثرية :
-جات في وقتها، كُنت محتاج فلوس اليومين دول ..
-خيـر !! محتاچ كام ويكونوا عندك الصبح .
تأمل رأس التمثال بحرافيـة وقال دون النظر إليه :
-قَصادي بيت في مرسى علم عايز أجيبـه ، واهو فلوسه ادبرت ..
-ابعتها لحبايبك وشوف الدِنيا ، هي عندك في العربية قوم شوفها .. والله فكرتني عايز اشيلها من الشنطة ..
قفل هاتفه ورماه بجوار هيثم ومد يده فوق النيران للتدفأة :
-عال ، عال … الصبح نشوفها .
تدخل هارون مُتسائلًا :
-وايه أخبار الشغل ؟!
-والله يا هارون ما عارف أقول لك أيه ، بس ربك يسترها ، ولاد الـ*** مزودينها وكل يوم يهجموا على كمين وفي حركة تنقلات جديدة وشامم ريحة سينا عتناديني .
-طب ما تقولش إكده قصاد صفية ولا أحلام هينصبولك الصوان .
-أقولهم اي !! دي مش هطلعني من قنا لو عرفت..
مال ليشعل لفافة تبغه من النيران المتقدة فتدخل هيثم متسائلًا بفضول حول ليلة :
-عامل أيه مع الكراميلا !!
رد هارون عليه بسخرية :
-هتجيب لي السُكر ..
فتدخل هاشم متسائلًا :
-أيه حكايتها البت دي يا هارون .. قلبي مش مطمن عليها وشامم ريحة تشبه ريحة سينا !!
قهقهه هيثم ممازحًا :
-دي ريحة المـ.وت .. تصدق يا هاشم وأنا كمان ما مطمن ، حاسس في حاچة كبيرة من تحت راسها ايه هي مش عارف .. بس البت حِلوة .
تبادل الثلاثـة الضـحك فجـاء صوت رنيـن هاتف هاشم بمكالمة من رغد المسجلة عنده باسم " البكباشي " ، وقع الاسم تحت أنظار هيثم وقال ساخرًا :
-قابل يا عم البكباشي بيتصل ، شكل سينا چات على السيرة ..
خطف هاشم هاتفه من جانب هيثم باهتمام ولهفة وعلى محياه تلك الابتسامة التي لا تُفارقه لمجرد رؤيته لاسمها يسطع بشاشته ، رد متحاميًا بنبرته الرسمية المستخدمة للعمل :
-معالي الباشـا ، اتفضل .
جلست أمام التسريحة وهي تضع القليل من الحُمرة على وجهها وتحدثه بتلك النبرة التي تتراقص حافية على عرش قلبه فتُشعله بالحب أكثر :
-وحشتني أوي ..
مازال محافظًا على نبرته الجادة بإصرار :
-لا اله الا الله؛ وإحنا لحقنـا يا فندم !!
-ومكنتش هكلمك ، بس قول لي أعمل أيه في قلبي !!
رمق أخوته الجالس معهم بحذر ومازالت ملامحه منكمشة بجدية مزيفة :
-العمل عمل ربنـا يافندم ؛ اللي معاليـك تأمر بيه يتنفذ .
راقت لها اللعبة لتتمادى بالأمر وهي تتدلل عليه ؛ طالبة :
-صالحني حالًا ..
-دِلوق يا فندم !! ماينفعش نهائي.. الأمن مش مستتب .
-طيب قول لي بحبك يا رغود ..
تحمحم وهو بقمة الثبات الانفعالي وكأنه يحارب لوحده جيش من الأسود بداخله :
-كُلنا بنحب مصر يا فنـدم ..
انفجرت بتلك الضحكة التي رجت قلبـه بجوار أخوته فتحمحم متجمهرًا مع صوت سعال قوي أي شيء يخفي ورائه مصيبته ؛ فارقت مقعدها بغنج وبنفس النبرة الهادئة :
-كُنت طالبـة أوردر جديد ولسه واصل حالًا ، وحابة أخد رأيك .. عشان لو في حاجة مش أد كده ارجعها .
عقد حاجبيه متسائلًا :
-هو ينفع الكلام ده يا فندم !! لما أرجع واعاين المكان بنفسي قبل أي قرار ..
-طيب ما تيجي يلا ..
-لو مصر أمرت أحنا حاضرين يا فندم .
اتكأت على وسادتها القطنية وهي تحاوره بدلع :
-يعني مبعتش الصور ومش هتقول رأيك ..؟!
سعل مرة أخرى وقال :
-لا طبعا ابعت لي يافندم كل التقارير المشتبه فيهم وانا هفرزها بمنتهى الدقة ..ولو في أمر يتطلب تدخلي من الصبح هكون عند معاليك ..
ثم رد على ضحكتها العالية بنبرة خافتة :
-دا أحنا دايمًا في الخـدمة يا فندم ..
كان هيثم يتابع كل كلماته بمكر حتى فاض به الأمر متسائلًا بخبث ومستغلًا انشغال هارون بمكالمة هاتفية :
-وعلى اكده حلو البكباشي ديه !!
-خليك في حالك يا بئف أنت !!
رماه هاشم بقطعة من الفحم المنطفئ هاربًا من نظرات هيثم الكاشفة له ومازالت رغد على الهاتف تتابع حديثهم بضحكٍ ؛ فوثبت هاشم جاهرًا :
-تصبح على خير يا هارون ..
صاح هيثم طالبًا بمكـر :
-طب قوله هيثم باعت لك السلامات وحيلوة وطول وعرض وبدقن وشعر مسبسب ..
تمتم لرغد الواقعة من الضحك بهمس :
-عيل مترباش سيبك منه ، خليكي معايا ، أنا متربي .
••••••••••
مع دقات الساعة الثانيـة بعد منتصف الليـل ، ظل منتظرًا منها مُكالمة واحدة لتخبـره بأي شيء حتى ولو ستثرثر على مسامعـه وتقفل مرة أخرى؛ قطع حبال فكره المتواصل وهو يقطع تلك المسافة بينه وبينها حتى لغرفته ، امتد نظره لعندها من النافذه فوجدتها كطالب يحاول لم المنهج قبل الاختبار بساعتين ، كُتب متراكمة على جانبيها ، ترتدي نظارات طبية وتتصفح الحاسوب بدمدمة غير مفهومة ممسكة بقلم بيدها وتكتب كلمات يجهلها .. يُطيل النظر لها ولا يدري بأنه يسلك ذلك الدرب الذي يُشبـه الجرح ..
تسلل بهدوء ليطرق بابهـا الموارب بخِفة اكتفت برفع جفونها المنكسـرة لعِنده ثم عادت مرة آخرى لتمارس شغلها الذي لم تخرج منه بمعلومة واحدة .. نزع عن كتفيه عباءته البنية المُلقاة على أكتافه فظهر أمامها ولأول مرة مرتديًا " بچِامته" الرياضية السوداء ؛ اكتفت بنظرة مسددة أسهم تشتتها على ظهره ذو الأكتاف العريضة وسرعان ما أغمضت جفونها لتنهي تلك اللعبة السخيفة وتركز بعملها .. وقف ليُعد فنجانين من القهوة بسكوت لا يقطعه إلا النظرات المختلسـة ..
انتهى من إعداد القهوة ثم وضع فنجان بجوارها وشرع في ارتشاف الأخر وهو يسألها بهـدوء :
-وصلتي لأيه !
رمت القلم من يدها بملل :
-لـ ولا حاجة طبعًا !!
ارتشف رشفـة أخرى من فنجان قهوته :
-ولا حاچة ولا حاچة !!
أيده قائلة :
-ولا أي حاجة ، هارون بيـه أنا أخدت الكلية فـ٥ سنين عشان كنت بكسل أقرا الكُتب واذاكر.
-مالك فخورة بروحك ليه !!
-لا ده اسمه تصالح مع النفس ..
ثم ظلت تعبث بالكتب وتشير عليهم بحيرة :
-انا قريت ده ، وده .. عناوين طبعًا ، وجوجل مقالش أي حاجة وأنا بجد هعيط ..
ثم سندت وجنتها فوق قبضة يدها وتأفف باختناق:
-انا مش عايزة أفشل المرة دي ، عشان لو فشلت مامي هتجبرني اتجوز شريف ؛ وأنا مش عايزة اتجوزه وعايزة انجح ، شوف لي حل بقى ..
فرغ من تناول فنجانه ثم وضعه جنبًا ولملم الكُتب المبعثـرة من أمامها ورصهم بمكانهم حتى دارت نحوه متسائلة :
-أنت بتعمل كده ليه !!
أجابها وهو يتجول بالغـرفة التي قلبتها رأسًا عن عقب :
-معابد دندرة .. طالما جيتي قِنا يبقى لازم أول حاجة تتكلمي عنيها .
تركت فنجان القهوة من يدها ووثبت حاملة على وجهها علامات الاستفهام :
-وأنتَ سايبني ٤ ساعات طالع عيني وفي الأخر عندك الحل أهو !! طيب وليه التعب من الأول ؟!
وضع الكتاب الذي يحمله بالرف وقال بثباته المعهود :
-قلت اسيبك تعتمدي على نفسك هبابة ، لكن شكلي كنت غلطان ..
-أنتَ بتعاملني كده ليه !! أنا هنا في بيتك ولا في إصلاحيـة للتأهيل النفسي؟! حد قال لك إني جايه اتعالج !
كان مشغولاً بالبحث عن كتاب المعالم الأثرية الخاصة بقـنا ؛ فـ رد دون أن يلتفت لها :
-محدش قال لي شُفت بنفسي ..
-والله !! أنتَ كده جامد يعني ؟!
سحب الكتاب من الرف العلوي ووضعـه على المنضدة الدائريـة مكتفيًا بتلك النظرة الخبيثة من طرف عينيـه مما أشعل غضبها أكثر ، شدت المقعد لتفسح لها مكانًا تقف فيه وأكملت :
-من وقت ما جيت وأنا بحاول أجمع فيك صفة واحدة تخليني أغير رأيي عنك ؛ صراحة مش لاقية ، كل كلامك شخط ونطر وبتعاملني ولا كإني شغالة عندك ، مفيش ذوقيات خالص كده !! كل حاجة فيك غريبة ومش مفهومة ، ولا حاجة فيك آدمية وحلوة .
اكتفى بإرسال نظرة اعتراضية جعلها تبتلع كل إهانتها وهي تشد المقعد وتجلس فوقه بتوجس وترتشف بيدها المرتعشة آخر رشفة من فنجانها وتقول وهي تحت وطأة ذعره منه وقالت لتُلطف الأجواء :
-بس بتعمل قهوة حلوة .. عجبتني .
ألطف ما في خضم الحوار أن نتنقل بين المواضيع فجأة بطريقة أكثر لطفًا ، ذلك يلفت القلب بشكل أدق، وتركيز أكثف، وصورة شاعرية تُزين الكلمات والشخص نفسه ، شبح ابتسامة طفيفة رُسمت على محيـاه اربكتها وجعلتها تنظر هنا وهناك ثم تعاود النظر له ، قطع صمت النظرات بحمحمة عاليـة وهو يفتـح الكتاب الذي بيده قائلًا :
-الصبح هاخدك ونروحوا المعبد .. لازم تعرفي كُل المعلومات عنه ، المساحة مين بناه النقوش الاثرية اللي جواه ..
ثم أشار بيده ممارسًا مهنته الجامعية كمدرس مساعد بالكلية و التي تخلى عنها :
-تعرفي أن المعبد ده كانوا يتنبأوا فيه عن فكرة الكهربا عن طريق استخدام أشعة الشمس عموية وبزوايا معينة من خلالها المكان بيفضل منور طول اليوم من غير أي مصدر ضوء صناعي .. و
قاطعته بتركيز شديـد وهي تسحب الحاسوب لعندها :
-استنى هدور على حاجة مهمة ، خليك أنتَ في الكتاب اللي معاك ؛ وأنا هدور على جوجل براحتي ….
ثم مدت له ورقة وقلم :
-اكتب هنا كُل المعلومات المهمة .. وانا كمان هعمل زيك .
سحب منها الورقة بصمت وعاد لتنفيذ ما اقترحته وهي أيضًا شرعت في البحث عما دار برأسها سكوت رهيب كل منهما منغمسًا بعمله لا يقطعه إلا صوت همهماتها التي قطعتها عندما تذكرت أقراصها المهدئه فنهضت على الفور أخذت جرعتها من الدواء وعادت مرة آخرى لمكانها ..
مرت قرابـة السـاعتين فرفع جفونه لعندها وجدها غارقـة بالنـوم ، ذراعيها المثنية فوق الطاولة ورأسها التي تتوسطهما .. جفونها النائمة والتي تشبه جناحين مضمونين لفراشة سُكرت من رحيق زهرة الياسمين .. تلك الخصلة العنيدة التي تنتصف ملامحها فلم تسمح له بتأمل ملامحها بدقة .. فارق مقعده وأشعل المدفأة النارية بالمكان ثم تعمد أن يترك باب الغُرفة مفتوحًا .. عاد مرة آخرى لعندها حاملًا عباءته التي ألقاها فوق ظهرها المائل ثم عاد بهدوء ليواصل عمله الذي كلفته به ..
ما فرغ من قراءة أول سطر وجدتها فقدت قدرتها على الثبات وأوشكت ان تسقط من فوق المقعد .. نهض بلهفة محاولًا إفاقتها بحرص دون أي يلمسها فقال بتردد حول اسمها :
-يا ليلــى .. قومي .. هتتكفي على بوزك يا بت الناس ..
كانت بعالم آخر تحت تأثير أدويتها المهدئـة ، زفر بضيق محاولًا افاقتها من جديد لكن بدون جدوى ؛ لم يجد أمامـه حلًا سوى حملها ووضعها على فراشه الصغير .. رفع عباءته من عليها ومسكها بيده كي لا ينفـرد بلمس جسدها مباشـرة .. تسلل ذراعه المُغطى كُليًا بالقماش لتحت رُكبتيها وبذراعـه الأخر المُغطى التف حول ظهرها وحملها بحرص شديد منه وهو يسب نفسه سرًا :
-طلعتِلي منين أنتِ بس !! استغفر الله العظيم من كل ذنب ..
تعلقت تلك النائمة بعنقـه كما اعتادت على حمل أبيها لهـا وهي تغمغم بكلمات غير مفهومـة حاول أن يُترجمها ولكنه فشل ، انحنى بحذر وهو يضعها بفراشـه حتى سمعها تهذي :
-بابي أنتَ جيت ، أنا مستنياك ليا كتيـر ..
امتزجت انفاسـه الغاضبة بأنفاسها النائمة إثر المسافـة القصيرة التي بينهم والتي يكاد ألا تُذكر .
تراقصت أمام عينيه الحائرة روعة الحياة
اختصرت جمال الكون في نظرة لها عن قُرب
لمح ظل أجنحة أحلامه تُرفرف على وجهها مما جعله يتساءل ؛ عما جاء بهم لهـنا ، ربما أنهم أجتمعوا على فُتات خُبز الحب الذي سيجمعهما مستقبلًا !! داعبت رائحة عطرها قلبـه فروضتـه على مشاعر جديدة لم تزوره من قبل ، فدق ناقوس قلبه متلهفًا لمُضغه فـ دبت بكيانه فطرته الذكورية التي خُلق عليها ودومًا ما تعمد قتلها بالتجاهل !! أغرق في بحور الدهشة وهو يلقى نظرة على ساقيها المثنية فضاع بصره بين الجمال والبراءة !! سحب ذراعيه ببطء من تحتهما وكفكفت يداه جبهته المتصببة بعرقٍ لا يعلم مصدره .. شد فوقها الغطاء ودار وجهه سريعًا وهو ينفض غبار تلك الهواجس التي انتابته فجأة ويشمر أكمامه متأهبًا للوضوء الذي يخمد تلك الثورة التي اندلعت ببدنه ولا يدرك سببها !! ظل يهلل بتسبيحات صاحب الحوت وهو يفتح باب الحمام الصغير ليستعد لقيام لصلاة الفجر ، وربما كان يستعد لتقديم تكفيـره عن ذنبه الذي اقترفه للتو :
-سبحان الله وبحمده ، لا حول ولا قوة إلا بالله .. استغفر الله العظيم الأعظم واتوب إليه …
فرغ هارون من أداء صلاته متحاشيًا النظر لها تمـامًا ، لف نفسه بعباءته الثقيلة وحمل المقعد الخشبي والكتاب الذي يقرأه وغادر الغُرفة كي لا تخونه عينيه بالنظر لواحدة آمنت على نفسها معه .. جلس بمحاذاة البـاب وهو يتعمق بالكتاب أكثر وأكثر وكل ما يزوره طيفها يقتله بالاستغفار متبعًا نصيحة هلال أخيـه ، ذكر الله يغسل القلب والعقل ..
مع تفتح قرص الشمس تفتحت جفونها لتجد نفسـها بفراشه وبغرفته ، وثبت تتفقد المكان الخالي منه بعيونها الحائرة حول من جاء بها لهنا .. تفقد ساقيها فمازالت مرتدية حذائها الرياضي .. لململت شعرها المتدلى وفارقت السرير وهي تجوب بتوتر بالغرفة حتى امتدت خطواتها للباب الموارب ولم تتوقع وجوده أمامه ، ما خطت خطوة فـ ثارت شاهقة :
-أحيــه!! أنتَ لسه هنا !!
لقد غلبه النوم لساعة قبل شروق الشمس ، استرد وعيه على الفور متمتمًا :
-يا فتاح يا عليم ، يا رزاق يا كريم..
بررت قائلة :
-دي أنا متتخضش .. صباح الخير .
رتب عباءته ووثب قائمًا فرفعت جفونها لمستوى الطول الفارق بينهما ، ألقى نظرة بساعة يده :
-زين إنك صحتيني .. يلا جهزي نفسك عشان نخلصوا مشوارك ، وراي شغل بعد الضهر ..
أومأت بطاعة :
-أنا جاهزة ، هغسل وشي بس ونخرج ..
ما كادت أن تخطو خطوة فتراجعت بامتنان :
-هارون بيه ، من كل قلبي شُكرًا ليك بجد .. أنا تعبتك معايا .
تحمحم منزعجًا دون النظر لها متلبسًا بثوب هارون العزايزي :
-على الله يطمر بس .. هغير وادور العربية واستناكي ..
ضربت الأرض بنفاذ صبر :
-ياربي منه !! قلة الذوق بتجري في دمه……
•••••••••
~بالمطبخ ..
-بقول لك قفشني يا ست صفية وقال لي مش كبرنا على دق العصافير ديه يا فردوس ..
أردفت فردوس جملتها وهي تعد في زيارة بيت صالح وتشكو من هارون لأمه التي ضربت كف على الأخر :
-قلبي متوغوش يا فردوس ، أنا شغالة انوم في زينة ، بس قلبي مش مطمن ؛ البت نغشة وحلوة وتزغلل العين ومتجلعة .. وتوقع أجدعها شنب ..
-بس هارون عاقل يا ست صفية ..
-بس الشيطان شاطر يا فردوس .. بقولك ايه ؛ قراية فاتحته على زينـة الليلة ، خلي قلبي يطمن والبت دي ترچع بلدهم ..
~بالسيـارة..
فارق هارون منزلهم بسيارته السوداء حيث كانت تجلس بجواره وأول شيءٍ فعلته تناول قرص مهدئ حسب تعليمات أمها ، نظر لها من طرف عينه معارضًا :
-ما كفاياكي بلبعة ، عتبلبعي أيه على الصبح .
ردت بتصالح مع نفسها :
-ده علاج ، ولازم يتاخد بمواعيـد..
-ياستي سيبيها على الله ، الدوا ده بيمرض أكتر ما بيعالج .. أنتِ زي الفل .
خفق قلبها لشعاع الأمل الذي بثه بقلبه إثر جملته العادية ؛ ظلت عينياها تتأرجح متحيرة حوله حتى قطع حبل نظراتها قائلًا :
-الورقة دي احفظي اللي فيها لحد ما نوصلوا .. كتبت لك كل حاجة چواها .
تفحصت الورقـة بسخط وهي تتطلع عما بها وقالت باستنكار :
-ايه الكلام بتاع مدرسين التاريخ ده !! مين قال لك أنا هقول كده !!
ثم اعتدلت في جلستها لتدور بجسدها كله نحوه وأكملت متجاهلة نظرته الغاضبه :
-اسمع الجديد اللي عندي .. لما بحثت إمبارح عنه ، طلع مشهور بإنه إله الجمال والحُب والأمومة ..
ثم ثنت تلك الورقة التي بيدها لنصفين وأتبعت بحماس :
-ومن أشهر الأساطير حولين المكان ده إنه لو واحدة مثلًا مش حلوة وعايزة جوزها يشوفها حلوة كانت تروح المعبد وبتقدم قرابين لإله الجمال ويجي الكاهن يحط على وشها زي حجاب كده وبيتقري عليها تعويذة تحت ضوء الشمس ، تعرف بيحصل أيه !
ألتوى ثغره ساخرًا ومستهزءًا بخرافاتها:
-ايه بيلاقيها زبيدة ثروت !!
-بصرف النظر عن انك بتتريق بس فعلًا جوزها بيشوفها حلوة وعلاقتهم بتستمر .. وحاجة كمان .. لو واحدة مش بتخلف وعايزة تبقى أم بتعمل نفس الطقوس قُدام إله الامومة وفعلًا كانت بتخلف على طول .
دار بمقود السيارة أقصي اليمين وهو يردف بسخرية :
-ياستي وحدي الله وبطلي تخاريف…
-اسمها اساطير ، وانت حر تصدقها ولا لا …
امتدت أنظاره للأمام فانكمشت ملامح وجهه قائلًا:
-طب اربطي الحزام ، في كمين ..
هدأ من سرعة السيارة تدريجيًا وهو يدخل على اللجنة التي قطعت طريقه .. صف سيارته فتأرجحت عيني ليلة بخوف:
-ده شريف !! ربنا يستر ..
-ولا يهزك .. أجمدي أنتِ مع هارون العزايزي..
قال جملته وهو يفتح نافذة السيارة حيث طلب منه الضابط المساعد:
-رخصك ..
مد له هارون البطاقات وقال بفضول :
-أول مرة يبقى في كمين إهنه !! في ايه ؟!
رد الضابط وهو يعطي له البطاقات :
-تعليمات يا عمدة ..
جاء شريف من الأمام وهو ينزع نظارته عندما لمحه ، وما كان يتأهب هارون للذهاب فأوقفه نداء شريف على العسكري :
-فتشوا العربية ..
ثم أشار له بنظرات انتقاميـة :
-انزل وافتح الشنطة ..
غمغم هارون بضيق:
-أهي كملت .. كانت ناقصاك .
رمقته ليلة بخوف وهو يمنحها مفتاح سيارته حيث شرع العساكر بتفتيش العربة وقال لها :
-الشنطة فيها آثار وشريف مش هيعديها .. تاخدي المفاتيح وترجعي البيت ، هتعرفي .
وضعت كفيها على فمها وبأعينها المبرقة :
-أحيه !! أنت تاجر آثار .. والله كنت حاسة .
طل شريف من النافذة وهو يكشف القطعة الأثرية أمامـه وقال بشماته :
-وريني المرة دي هتطلع منها ازاي يا هارون بيه .. انزل لي ..
حدج ليلة بنظرة لا تقبل الجدال:
-سمعتي قولت ايه !! يلا انزلي .
هبطت من السيارة معه وركضت نحو شريف الذي يتوقد غضبًا فتدخل هارون بمنتهى الهدوء:
-سيبها تروح وأحنا هنحلوا مشاكلنا في القسـم ..
رمقها شريف بلوم :
-هو ده اللي انتِ ماشية معاه !!
ألقت نظرت عتاب لهارون وهي تقول بثبات محتفظة بجميله معها :
-على فكرة الآثار دي بتاعتنا إحنا الاتنين ..
ثم نظرت لهارون بحسمٍ:
-أنا هاجي معاك ..
خرج عن هدوئه
-ياستي هي رحلة.!!
جهر شريف بصوته المُرعد:
-ليلة اسمعي الكلام وأمشي .
لم تنصت له بل نظرت للضابط الأخر كي يضع الحديد بيدها متعمدة إثاره غيرة شريف ببسالة :
-أنا مش هسيبك تروح معاه لوحدك …..
يتبع