رواية اصرة العزايزة هارون وليلة الفصل الـ 6 و 7 بقلم نهال مصطفي
رواية اصرة العزايزة هارون وليلة الفصل الـ 6 و 7 هى رواية من كتابة نهال مصطفي رواية اصرة العزايزة هارون وليلة الفصل الـ 6 و 7 صدر لاول مرة على موقع التواصل الاجتماعى فيسبوك رواية اصرة العزايزة هارون وليلة الفصل الـ 6 و 7 حقق تفاعل كبير على الفيسبوك لذلك سنعرض لكم رواية اصرة العزايزة هارون وليلة الفصل الـ 6 و 7
رواية اصرة العزايزة هارون وليلة الفصل الـ 6 و 7
🥀الآصـــرة الســادســة🥀
كفى ووفى نزار عندما اختصـر جميلتـه بـ :
<-كم هو رائع أن تصبـح إمراة ” قضيـة ” !! >
هل تعلم أن للقلب قوانينه الخاصة التى لا تُناسب أراء العرف والقانون ، ومن نسل اللقاء الأول خُلقت قضيتـه معها ، وبدأت أول مرحلة لكونه متهمًا لدى سُلطان الهوى و الذي أصدر أمرًا بضبط وإحضار قلوبهم التائهة في خضم الحياة ودروبها ليجمعهما تحت غيمة القدر الذي انتظرهما أربعة وثلاثين عامًا .. فما هي القضية بعد !!
وكيف سيتعامل مع قضيته رجل القانون وحامي ومحامي أعرافهم !!
وما سيكون حكم سُلطان القلب يا ترى ؟!
#نهال_مصطفى .
••••••••
” قضيـة أنتِ ”
ما أن تأكد هارون من هوية أخيه وتلك الفتاة التي ساقها القدر لطريقه دون إرادة منه .. واليوم باتت فوق ظهر حصانه فدوى غضبه برأسه فجعله يستقل سيارته كالمجنون وينطلق إليهم وهي يتشاجر مع الهواء الذي يتنفسه … كانوا على مسافة لا بأس بها قطعها منحدرًا من أعلى بسيارته الهمر في أقل من دقيقتين .. وعلى الجهة الأخرى ؛ نصحها هيثم الذي يصدر ظهره للجهة المُقبل منها أخيه بنبرة الخوف التي تتسابق بحلقه:
-كفايانا ..تعالي نعاودوا قبل هارون ما ياخد باله مننا .
شعور الحرية بسط ذراعيها بالهواء كالعصفور المتحرر للتو وهي تستمتع بالنسيم البارد الذي يداعب ملامحها .. تنعم بأول لحظات الحرية بدون أوامر أمها الصارمة .. تحكمات شريف المقيدة لحريتها دائمًا .. ملأت صدرها من نسمات الحرية التي لم تتنفسها منذ أربع سنوات .. رفعت جفونها إثر جملة هيثم التي عكرت صفوها وقبل أن تنطق ببنت شفة عقدت حاجبيها بفضول:
-في عربية جاية علينا من هناك..!
ترنح هيثم فوق حصانه ليديره للجهة التي تٌشير إليها ومن أن لمح سيارة أتيه ناحيتهم و بتلك السرعة التي جعلت عجلات سيارته تتعارك مع حبات الرمل المتطايرة حولها .. فهتف مشدوهًا :
– ياوقعة سودة !!ده هارون .
خطى حصانها خطوة وهي تتمتم بحماقة :
-أحيــه !! اتأفشنا ؟!
-على قولتك أحيه !بالإذن أنا يا ليلة نتقابلوا على سفرة الحمام ده لو لينا عُمر .
كرر كلمتها بنفس النبرة وهو يأخذ وضع الانطلاق والهرب ..فألتفتت إليه بدهشة :
-أنت هتروح فين ؟!
-مش هقدر أواجه هارون وأنا جعان .
شد لجام حصانه وفي لمح البصر ذاب من حولها كذوبان فص الملح بالماء .. وحلت محل أقدام فرسه عجلات سيارة هارون التي صنعت نقشًا دائريًا حولها وهي تتفقد المكان بكل صوب وحدب وخلوه بعد تخلي هيثم عنها فلم يبقى أمامها غيره .. ثار غيم عند رؤية صاحبه .. تمسكت بكل قوتها وهي تهتف له أن يهدأ وتترجاه أن يُكف غضبًا .. تصارع كي لا تسقط من فوقه تشبثت كفوفها باللجام وهو يثور هنا وهناك مصدرا صهيلًا مزعجًا .. هبط مندفعا من سيارته متناسياً أمر بابها المفتوح وأقبل بإقدام نحوه وهو يصيح باسمه محاولا لمس وجهه :
-غيم غيم اهدا .. خلاص .
تمسك برابطة عنقه بقوة وأخذ يمسح على رأسه كي يكف عن جنونه ونوبة الفزع التي أصابته .. بدت بوادر الطاعة من الحصان فهبطت ليلة بسرعة من فوق ظهره بمهارة وقالت ساخرة قبل أن ينفجر بوجهها :
-سبحان الله .. مش بس أنا اللي كل ما أشوفك بتعصب .. واضح حتى حصانك مش طايقك وأنت محتجزه بالقوة .
كانت جبهته مسنودة على جبهة حصانه الذي يداعبه براحة كفه ويتنفس معه ويشعره بوجوده كي يهدأ .. اتسعت عينها وهي تحاول فهم ذلك السر والرباط القوي بينه وبين حصانه كاثنان رفاق يتقاسمان الهم معًا .. كان ساكتاً صامتاً لا أحد يعلم من بداخله غير ذلك الحيوان الأليف الذي هدأ تماما وانصاغ لشكواه .. رفع هارون رأسه عن فرسه سحبه خلفه بهدوء وقيده بمؤخرة سيارته .. تابعت خُطاه بعد ما تناولت فاتح شهية للكلام معه وأتبعت بسخرية :
-واضح كمان أن الندالة وراثة في عيلتكو !!
ثم غمغمت بصوت مسموع مبطن بالسخط :
-هيثم الندل سابني وهرب !!
ثم أشاحت بمقلتيها التي تقصده بالحديث وأكملت بنفور وهي تٌرجع خصلة شعرها المتطايرة للوراء:
-مش هيجيبه من بره يعني !!أخوه سبق وعملها وسلمني تسليم أهالي في القسم .
نفر أنفاسه بغضبٍ محاولًا كتم مشاعره الثائرة وهو يكور يده على جمر التوعد لهثيم .. فقال من وراء فكيه المنطبقين:
-انت ايه اللي جابك !!
ردت بتلقائية :
-جيت مع هيثم .
قاطعها بتلك النبرة الغاضبة التي جعلتها تتراجع خطوة للوراء وهتف مستخدمًا مهارته القانونية ودقة تعبيراته :
-بقول ايه اللي جابك مش مين الزفت اللي جابك !!
لوحت بكفها وهي تنظر على يمينها ويسارها وتفحص المكان حولها متجاهلة سؤاله هي تخطو بعبث أمامه :
-أنا اروح أزاي من هنا ؟!
-استنى هنا !
مسكها من مرفقها ولفها كالحلزون حوله فاتخذت من سيارته مسندا لظهرها شاهقة :
-أنت مجنون!! ..سيب إيدي .
-شهادة لله أنا ماشوفتش أجن منك !!
كان يطوف الغم والسخط بملامحه ، فأتبع موبخًا وهو يسبح بفضاء عينيها المتأرجحة ،فحانت منها التفاتة سريعة الى عيناه وهو يقول :
-وبعدين قوليلي ، انت كيف تأمني على روحك تركبي مع راجل غريب وتجي معاه لإهنه !
امتصت غضبه هازئة :
-هو ده مش أخوك !!
دمدم مغلولًا من حماقتها:
-أخويا دا رجل ولا رجل كنبة !! أنتِ أي حد اكده يقول لك تعالي تقومي شبطانة و رايحة معاه ؟!!
قال جملته الاخيرة وهو يلوح بكفه بوجهها ،لمعت بعينيها عبرات الأوامر التي هربت منها بالاسكندرية،الجميع يطعن بصحة تصرفاتها دوما محل عتاب لكل من حولها .. نفس النبرة المُلامة اغتصبت خلايا مخها .. فقالت مدافعة عن نفسها :
-انا مش عيلة صُغيره عشان تكلمني بالطريقة دي ولا أروح مع أيه حد كده !!
ثانيا ده أخوك، وأنا سبق وركبت معاك ولقيتك محترم ومتربي ، قولت أكيد أخوك متربي زيك!
تلقى جملتها بهزئ :
-مين قالك ان هيثم متربي !
أجابت بفطرتها القاتلة لكل ثعابين المكر بروحها :
-أحساسي ، وأنا بصدقه في كل حاجة .
ارتاد فكره ساحات الحيرة حول تلك الطفلة البريئة صاحبة الجسد الأنثوي المتكامل والتي لا يلفح قلبها دخان غدر البشر فهي ما زالت بعقل طفلة لم تتجاوز السبع سنوات .. هتف معارضًا وهو يشير بسبابته صوب رأسها :
-وعقلك اللي ربنا خلقه ضيف شرف !! ولا مش موجود من أصلو ؟!
-اقولك حاجة ، أنت كمان شكلك مش متربي .. !!
-نعم !!
قطع خطوة لعندها فتراجعت لتصطدم بسيارته بخوف مبررة كي تنفذ نفسها من شره بهذا الخلاء :
-مش متربي ازاي تتعامل مع بنات الناس .
فرت من أمامه كفرار غزالة من بطش حيوان شرس كضحية له ولكن سرعان ما أفشل مخططها وهو يلحق بها ؛ جاهرا:
– جبل وصحرا ..هتهربي فيهم تروحي فين ؟! أنتِ قاصدة تجننيني ؟!
ما يحرض أسهم غضبه نحوها سوى حماقتها التي جننته أكثر من تصرفات أخيه العبثية .. وقفت أمامه تتأمل ملامحه عن قُرب وهي تٌقايض القدر الذي جمعها به ،فاشتعلت بشهوة إطالة النظر بعيونه البندقية التي تتطابق تمامًا مع لون عينيها الذي تبغضه معترضة ؛ لٍمَ لم تخلق عينيها بلون عيني أبيها الخضراء !!..
لذلك دوما ما كانت تلجأ للعدسات اللاصقة كي تحقق أمنيتها الزائفة كي تصبغ صفة نسب واحدة بينها وبين أبيها .. ولكن من تلك اللحظة وبالأخص عندما ألتقت بتلك الأعين البنية اقتنعت بجمال عينيها الذي وصفه لها أبيها مرارًا وتكرارًا ..تحمحمت بخفوت مستردة وعيها الذي شرد معه :
-طيب ممكن متزعقش .. عشان الصوت العالي بيتعبني .
-يبقي تعقلي وتقولي كلام يدخل الراس !
أدرك أنه تمادي في معاملته الجافة .. فزفر ذرات غضبه وقال :
-مين سمح لك تقربي من غيم !
ردت بلا مبالاة وهي تهز كتفيها :
-أنا سمحت لنفسي عادي ..
-يا صبر الصبر !!
ابتلع جمر غضبه وجزعه الذي لم يعتاد كتمانه وقال بحنق وهو ينفر بقوة:
-أيه جابك ..؟!
-هثيم !
فانفجرت ضاحكة إثر نظرته التي كانت ستبتلعها بداخله ، فجاءت ضحكتها كالغيم المُمطر على أرض قالحة ..سرعان ما داوت الأمر بخفة روحها ، قائلة :
-بهزر والله ، أنت أصلك بتحقق معايا كإني متهمة عندك ، هو ده كرم الضيافة عندكم !! نتكلم بجد خلاص .
سرت قشعريره إعجاب خفيفة تجتاح جسده ولكنه سرعان ما دفنها برمال الصحراء تحت قدميه وقال :
-ياريت .. عشان أنا خُلقي جايب أخره ..
شرعت بسرد اتفاقها المزيف مع هيثم والذي عقدته معه حيث استردت شخصيتها الثرثارة التي اكتشفتها معه :
-بصراحة أنا كنت جاية عشان نخلص الحساب اللي ما بينا .. وقابلت هيثم أخوك بالصدفة طبعا .. وهو اللي جابني وعزمني على حمام محشي .. وأنا بموت في الحمام المحشي أصلا .. قال لي مامتك بتعمله حلو أوي ، أنت أيه رأيك مامتك بتعمله حلو فعلاً ولا هيثم بيشتغلني !!
بومة تُغرد فوق مسامعه جعلت رأسه كقنبلة موقوتة موشكة على الانفجار .. تمسك برأسه ليدور نصف دائرة حول نفسه ثم عاد لعندها هاتفًا بجزع :
-يا صبر الصبر !!أنتِ ضاربة على الصبح ؟!
ردت بعفوية بحتة :
-فول وفلافل .
-إكمنِ راسك عمرانة !
تمتمت بإعراض :
-ممكن متغيرش الموضوع ؟!
رد متعجبًا وهو يسب هيثم وحياته كلها بسره :
-أنا !!
فأتبع مسايسا وهو يتكئ على مقدمة سيارته بملل :
-متأسف مش هغير الموضوع اتفضلي كملي .._ثم غمغم بتوعد_أما وريتك يا زفت !
دنت منه خطوة وقالت بهدوء:
-لما فكرت طول الليل عرفت أني ليا حق عندك .. وأنت ليك حق عندي .
رد بفظاظة :
-أنا ماليش حقوق عند حد ، عشان بخلصها أول بأول .
ردت بثقة :
-لا طبعا ليك .. تمن تصليح عربيتي يا حضرة .. أنت هتبكشش عليا ولا ايه !
أحس أن الحوار سيطول .. فلجأ للفافة التبغ كي تهون عليه مرارة ما سقط بقعره ..رمى السيجارة بفمه وهم بإشعالها وهو يقول :
-ياستي وأنا مسامح ، بجملة الخساير .. مش عايز حاجة .
-لا طبعا حقك لازم تاخده و
ثم سحبت السيجارة المشتعلة من فمه وألقتها بالأرض :
-وبعدين ميصحش تدخن كده وأنا بكلمك .
رد بجمود لتطاولها واقترافها لذلك الفعل الذي لا يجرؤ عليه أحد ، متقبلا بلاءه الذي حل فوق رأسه بسبب أخيه :
-ده ليه ؟!
بدون منطق أردفت :
-عشان أنا عايزة كده .
رفع حاجبه الأيمن :
-لا ياشيخة ؟!
ثم وقفت أمامه متحجة بحقها عنده والذي لا يُعنيها ربما كان مقصدها أن الكلام معه يطول لا أكثر :
-و .. حقي بقا، أنت هتيجي معايا دلوقتي وتحكي لشريف على كل اللي حصل وتبرأني قدامه .. وكده تبقى الحقوق رجعت لصحابها ومش هتشوف وشي تاني .. قلت ايه ؟!
لم تمهله الفرصة ليتحدث بل أكملت :
-لو أنت مسامح في حقك المادي ، أنا مش هتنازل عن حقي المعنوي يا عمدة .
-إكده هيرجع لك يعني؟!
ردت بعفويتها الفطرية :
-ومين قال لك إني عايزة ارجع له.. أنا بس عايزة أبقي أنا اللي سيباه مش هو اللي سايبني .
حك ذقنه وهو يفحصها باستهزاء من رأسها للكاحل .. حتى تفوه بنبرة هادئة عكس العواصف التي تسكنه ، أشار صوب سيارته :
-شايفة العربية دي ؟!
ردت مستهزئة :
-مش عمية أكيد !
-اركبي فيها ..
نبثت بتوجس خشية من أن يطاوعها وينفذ أمرها الذي اختلقته بدون أي رغبة منها بحدوثه :
-هنروح لشريف ؟!
رد بنبرته الحازمة :
-هتروحي مندرة خليفة العزايزي تاخدي واجبك وترجعي على بلدكم طوالي .. مفهوم .
كادت أن تعارضه ولكنه ألجمها محذرا:
-ولحد ما نوصل مش عايز اسمع النفس .. هاه !!النفس .
•••••••••
-بزياداك يا هثيم ؟! رايح جاي قصادي زي خيال المآتة .. خبر ايه مالك !!
أردفت أحلام جملتها بضيق إثر فرط حركة هيثم الذي يدور حولها كالدبور ..رسى تحت أقدامها وقال بقلق :
-هارون ولد صفية مش هيحلني يا أحلام !!
ثم أكمل وهو يحك بجدار عنقه :
-وأنا كمان استندلت مع البت وخدت توبي في سناني وجريت !! معرفش عملت إكده كيف !! بس هارون تفتكري عمل أيه في البت ، هو مرجعش بيها ليه !!دي مش قده يا أحلام ؟!
وبخته أحلام الجالسة تحت ظل الشجرة وقالت :
-يعني ورطتها وخلعت !! بصراحة حلال فيك اللي هيعملوا هارون .. أنا مش هدافع عنك النوبة دي .
تمتم متوسلا:
-أحلام دانا هيثم حبيبك !! حد بيرفع لك السكر غيري ؟! ده فيه اختراع جامد نازل السوق قلت لازمًا تدوقيه قبل أي حد .
لوحت بكفها خافية عشقها للحلويات التي دوما ما يستجدي بها رضاها .. وقالت :
-هارون محلفني ماكلش حاجة مسكرة ؟! وبَعد عني عايزة اسمع خطبة الشيخ هلال !
-أنتِ مش جدعة يا أحلام !!
ثم وثب متذكرا:
-الصلاة !! أنا هروح ادس بالجامع ولو هارون جيه وسأل عليا قولي إنك مشوفتنيش .
-مش هكدب لا .. ما أنت زي القرد أهو قصادي .
جاءت زينة حاملة ثلاثة أكواب من الشاي على مائدة معدنية وهي تتدلل بخطاها كعادتها والفرحة ترفرف بقلبها :
-أحلى كوبايتين شاي يا أحلام .. _ثم مدت لها مسبحتها الخشبية_وسبحتك لقيتها جوه ، خدي سبحي وادعي لي ربنا يحقق المراد .
أخذ هيثم كوب الشاي وارتشف منه رشفة فانكمشت ملامحه :
-ألف مرة نقولو يا زينة أنت ما عتعرفيش تعملي شاي .. شاي ديه ولا تكفير ذنوب !!
سحبت منه الكوب الزجاجي بامتعاض :
-طب والله ما أنت شارب !!
ثم ولت لأحلام وهي تشكو منه :
-قوليلو يحترمني شويه يا أحلام !! أنا هبقي مراة أخوه بردك ؟!
ارتسمت ضحكة ساخرة على محياه متعجبا :
-أنا مش خابر فين عقل هارون وهو هيقع الوقعة المهببة دي !!
تفوهت بغل :
-شاهدة يا أحلام !!أول ما يجي هارون هقوله يربيك ..
تمايلت أحلام ضاحكة :
-وهارون مش محتاج توصية !! ده هيعلق رأسه على بوابة النجع .
جلس بقربها متفاخرا بافعاله :
-حلاوتي وانا منكد على حريم أخوي !
ضربت الغير برأسها :
-حريم مين يا هيثم ؟! أخوك يعرف حريم غيري !!
ضحكت أحلام على جنونها وتمايلت لتبوح بالسر الذي أمنها عليه هيثم :
-الواطي ورط البت مع هارون وخلع ..
-بت مين ؟! يا وقعة سودة !! البت البحراوية اللي كانت هنا مع هارون لحالهم ؟؟!
ثم نهضت لتقف فوق رأسه وتلكزه بكتفه :
-كلم أخوك شوفه فين !! قوله تعالى دلوق صفية عمتي بتموت يلحقها ..اخلص يا هيثم .
جاءت صفية حاملة المبخرة وهي تقرأ المعوذات .. فانكمشت ملامحها إثر كلمة زينة الأخيرة :
-موته في قلبك يا بت صالح .. بتفولي علي وعايزة تموتيني وانا اللي مجوزاكي الواد !! طب قابليني لو شوفي طيفه .
دارت نحوها زينة حاملة قربان اعتذارها :
-ورب الكعبة مااقصد يا صفصف .. يرضيكي هارون مع البت البحراوية لحالهم في الجبل !! لازم حاجة تجيبه على ملا وشه !
وضعت صفية المبخرة على الطاولة وهي توبخها :
-تقومي تموتيني !!
جثت زينة على ركبتها :
-ينقطع لساني!! بس أحب على يدك كلميه يجي البت دي من ساعة ما شوفتها وأنا مش بالعاها .. بت مايعة وسهتانة إكده
وبختها أحلام وهي ترتشف كوب الشاي بتخابث :
-يمكن عشان أحلى منك .. البت كيف حتة الملبن .
-دي حتي معصعصة وكلها تركيب .
صفق هيثم بمرح :
-حلاوتك يا حُلم وأنتِ ماشية معاي على الخط .. بقول أنا أخوي هارون هيتورط .
ثم وبخ زينة قائلا :
-يابت خفي صفار هتموتي يخربيتك !!
على الجهة الأخرى ، فرغ هارون من ربط فرسه بمكانه متجاهلا تلك التي ترافقه كظله .. نهض من جلسته متأففا وسار بخطواته الواسعة وهو يتوعد لهيثم جهرا :
-طيب يا زفت ..
ودعت ليلة غيم بعجل كي تلحق بصاحب الخطوة الواسعة :
-باي باي يا غيم !! قبل ما أمشي هاجي أودعك .
توقف أثر جملتها التأملية وبنظرة اعتراضية مع رفعة حاجبه الأيسر .. أقبلت نحوه ركضا فتحاشى النظر لها وأكمل بحزم :
-متقربيش من غيم .. أنت فاهمة ؟!
تمتمت مدافعة عن نفسها :
-مادام مشي معايا وحبني .. أنا وهو بقينا صحاب ، خليك في حالك أنتَ بس .
قهقه ساخرا :
-انت ماشية تصاحبي خلق الله إكده !! لا عاتقة بشر ولا بهايم !
غمغمت بخفوت ولكنه وصل مسامعها :
-وبأمانة نفسي اتعامل مع بشر .. أنا من وقت ما جيت هنا مش بتعامل غير مع بهايم على قولك .
اكتفي بارسال نظرة نارية لعندها جعلتها تركض أمامه كالغزالة الهاربة من صيادها بخوف وابتلعت كل الكلمات المتجمعة بحلقها ، أكمل سيره بالحديقة الخلفية حتى لمح تجمعهم .. غير مسار سيره التي اتبعته بدقة وبخطوات أشبه بالركض حتى ذاع صوته معنفا :
-وكمان قاعد تتساير إهنه .. وحياة أمك ما هحلك يا ولد صفية .
قفز هيثم من مكانه محتميا بظهر أحلام الجالسة :
-ولد حلال لسه كنا جايبين في سيرتك .. تعالى يا عريس شوف عروستك ، يا زين ما اخترت والله .
اقترب منه ورياح غضبه تهب هنا وهناك :
-ورب الكعبة لأربيك من اول وجديد .. صبرك عليّ ياهيثم .
فاقتربت منه ليلة وهي تحفر سبابتها بكتفه :
-على فكرة أنت طلعت ندل أنت كمان !! وأنا غلطانة إني وثقت فيك .. كده سبتني وهربت !
تمايل معتذرا :
-على عيني والله !! وبعدين أنت مجرتيش وراي ليه !!
تأرجحت عينيها المهزوزة ناحية هارون :
-وأنا ههرب ليه !! هيخوفني مثلًا !
توسطت له أحلام :
-صل على النبي يا هارون واقعد ريح رجلك .. هتعمل عقلك بعقله!!
أشار بسبابته متوعدا :
-اللي عملته مش هيعدي وأنا هخليك تقول حقي برقبتي !
تدخلت صفية وهي تربت على كتفه :
-حقك عليّ يا حبيبي .. أقعد أما ابخرك .. روحي يابت يا زينة هاتي جلابيته البيضة عشان يلحق الصلاة .
جلس هارون على مضض متجاهلا همسات ليلة مع أخيه الغير مفهومة .. نال كوب الشاي وما ارتشف رشفة رجعه مكانه نافرا :
-حتى الشاي ما يتشربش !
جهر هيثم ممازحا:
-كل المؤشرات عتقولك أهرب من الوقعة دي ياخوي !!
رد بحدة :
-مسمعش حسك ..
شرعت صفية أن تقوم بتبخير ابنها فتزحزحت أنظار زينة عن تلك الفتاة التي ملأت قلبها بالغيرة وتغنجت لتأخذ المبخرة من عمتها وهي تطيل النظر بعيني ليلة المتعجبة من نظراتها اليها :
-عنك أنتِ يا عمتي !!
أخذت البخور وشرعت أن تلفه فوق رأس هارون الجالس ينفث دخان غضبه متعمدة مداعبة كتفيه بدلال وكإنها تعلن صك ملكيتها له وهي تقول بحقد موجه لتلك التي تجهل كل تصرفاتها :
-رقيتك واسترقيتك من كل عين شافتك ومصلتش على النبي يا هارون يا بن صفية ..
تحمحمت ليلة بخفوت وهي تهمس لهيثم الواقف بجوارها :
-هي بتعمله كده ليه !!
دمدم متهامسًا معها :
-باين له محسود !!
حركت كتفيها مستنكرة :
-هيتحسد على ايه يعني مش فاهمة ..
اختنق من رائحة الدخان :
-فُضينا يا زينة !
مالت زينة لمستوى مسامعه بنبرة صوتها التي تعمدت أن تصل لمسامع ليلة :
-تؤمر بحاجة ياسيد الناس .. اشر بس وزينة تنفذ ..
هبت عواصف الغيرة بصدر صفية وهي تتهامس مع أحلام وتستمع لهمها ليلة التي كتمت ضحكها مع هيثم :
-اهو ده دلع الفقارة اللي يقفع المرارة يا أحلام !!
فأتبعت وهي تكز على فكيها :
-أنا جيباها تكيدني ولا ايه !!
تحمحم هارون وهو يعتدل في جلسته :
-تشكري يا زينة .. الجلابية يااما قبل هلال ما يقيم الصلاة .
لبت زينة طلبه على الفور :
-غمض عينك وفتحها تلاقي الجلابية عندك .. حمامة .
نظرت أحلام لـ ليلة التي تقف ورائها :
-واقفة ليه يابتي أقعدي .. هشيع لك على هيام ونجاة يقعدوا معاكي وهتحبيهم قوي .
تدخل هارون في حوارهم بجفاء :
-ضيفتنا تاخد واجبها وزيادة يا صفية وبعدها خلوا جابر يوصلها لمكان ما تحب .. و يابخت من زار وخفف .
تدخل هيثم مدافعا عن ليلته :
-كيف ده !! دي قاعدة معانا أسبوع ؟!
-مين سمح لها بإكده ؟!
-أنا !! وخدت إذن ابوي ومعندهوش مانع !!
رد بفظاظة :
-إذا كنت أنت أصلا هتروح تشوف لك حتة تنام فيها !!
تدخلت أحلام بعتب وهي تتشبث بيد ليلة :
-عيب عليك يا هارون .. البت تتشال جوه عنينا وفوق الراس .. وبعدين دي ضيفتي أنا مش ضيفة حد تاني !
رمق تلك التي أحمر الاحراج بملامحها وضاق الحزن بصدرها وأتبع :
-وبعدين نلاقوها فضحانا على التلفزيون ..واللي ما يشتري يجي يتفرج .
كانت كلماته أشواك تتناثر على مسامعها فغمغمت ملتمسة له العذر :
-لالا .. حضرة العمدة معاه حق .. هيثم ممكن ترجعني الاوتيل ؟!
تدخلت أحلام معترضة :
-كيف يابتي !! وبيتنا مفتوح لك .
جثت لمستواها :
-معلش يا طنت .. هابقى اجي ازورك اكيد .. أنا حبيتك أوي بس لازم امشي.
تدخل هيثم بشجاعة :
-يبقى محدش يوصلها غيري .. وروح يا هارون يابن صفية ينكد عليك زي ما انت منكد عليا ..
تمتم بحزم وهو يأخذ عباءته المكوية من زينة :
-قولت جابر يوصلها وأنت اسبقني على الصلاة ..
ختم جملته بصوت عربة الشرطة التي يدوي صداها بكل مكان .. نهض هارون من جلسته وهو ينظر نحو الخفير الذي جاء ركضا لعنده .. غطت زينة شعرها على الفور وهتف هارون متحيرا :
-في ايه بره ؟!
-حكومة .. وعايزين هيثم بيه !!
هتف هيثم مذهولا :
-أنت بلغت عني يا هارون !!
رمى العباءة من يده ثم تحرك بعجل ليري ما الأمر لحق به هيثم ثم ليلة التي ركضت خلف فضولها وورائها صفية وزينة ..وصلوا جميعهم للبوابة فإذن بشريف ومعه الضابط محسن .. جاءت نجاة وهيام من الداخل يركضن متوارين خلف الجدار .. تفوهه هارون بنفاذ صبر :
-في ايه تاني يا شريف بيه ..!!
ارتعد قلب ليلة إثر نظرات شريف الحادة فهتف محسن بخجل :
-هارون بيه في بلاغ من نادية هانم أبو العلا وشريف بيه أن هيثم أخوك خاطف الأستاذة ليلة سامح الجوهري .
أقبلت ليلة نحوهم بشجاعة وهي تحتمي بكتف هارون :
-ده جنان !! مين قال الكلام ده ؟! أنا مش مخطوفة وانا هنا ضيفة وبتعامل أحسن معاملة ..
اشتعلت النيران بقلب شريف الذي تطاولت يده اليها محاولا الإمساك بها :
-ليلة اتحركي فدامي .
فوجد ذراع هارون حصنا منيعًا أمامه يعيق تنفيذ بلطجته فـ انتابتها عاصفة من الخوف رجت قلبها تحديدًا وهي تصرخ مستغيثة :
-انت اتجننت ؟!!
دفعها هارون للوراء برفق ووقف وجهًا لوجه أمام شريف مُدافعًا عنها :
-سمعت !! قالت لك ضيفة هنا واللي أنت بتعمله ده هو اللي يعارضه القانون .
وبخه شريف بغضب يتقاذف من مُقلتيه :
-وأنتَ مالك يا جدع أنتَ ، خطيبتي وجاي أخدها !!
صرخت ليلة المحتمية بصفية وهيثم :
-وأنا مش هروح معاك في حتة .
و ازدردت ريقها برعب :
-أنت ملكش دعوة بيا خلاص بعد النهاردة ..
كاد أن يدفع هارون ويتهجم على تمردها ولكنه فوجئ برد ذلك الرجل الذي غلت بعروقه الشهامة ممسكًا بياقة بذلته الميري ، محذرًا :
-خطوة كمان مش هعمل حساب للدبورة اللي على كتافك .. خليك محترم ولم رجالتك وامشي من إهنه ..
تدخل محسن كي يُلطف الأجواء:
-هارون بيه ممكن نحلها ودي !! شريف بيه من حقه ياخد خطيبته .
قطم الكلام معه بحزم :
-كانت خطيبته وفضوها سيرة مش مرته يعني !! ومفيش نص في القانون يشير بأن المفسوخ يتهجم على بيوت الناس بالقوى عشان ياخد واحدة مش عايزاه .
ثم نظر لشريف الذي يشتغل شعر رأسه غضبًا وجهر بكل قوته :
-يالا يا ليلة وبلاش فضايح وإلا …
قاطعه هارون بشموخ :
-وإلا !!! وإلا ايه ؟! دي اللي عايز اسمعها عشان أعرف هتعمل أيه في واحدة ضيفة هارون العزايزي وفي بيته وفي حمايته !!
فتقدم هيثم من وراءه مدافعًا :
-هي مش قالتلك محدش خاطفها !! ما تزوق عجلك من هنا وتورينا جمال خطوتك !! ولا هو تلقيح جتت والسلام !
تدخل محسن متهامسًا لرفيقه :
-شريف بيه !! كفاية كده !
صرخ شريف بكل قوته وهي يدفع هيثم عن وجه بعنفوان هيج صراخ النسوة فقبض هارون على دبر كتفه وأوقفه صارخّا وهو يلكمه بوجنته :
-أنت محدش مالي عينك !! بقولك لو قربت منها هكسر رجلك .
نشبت معركة طاحنة بين هارون وشريف الذي تشابك فيها رجال الشرطة والخفر كي يفصلان بين الاثنين ، صوت صاخب من الضجيج والصراخ والجمهرة جعل شريط ماضيها يدور أمامها .. نفس المشهد المهين الذي كان يتكرر أمام عينيها يوميًا ، دوى صوت صراخ أبيها المدافع عنها دومًا :
-بنتي وانا حر يا نادية !! واللي مش عايزاه مش هجبرها عليه !! ومين شريف ده كمان !! الولد المدلع ده اللي شايف نفسه !!
فناطحته نادية مدافعة عن رأيها :
-شريف أنسب حد لليلة ، بيحبها من زمان ومقدر حالتها .
انفجر سامح بوجهها:
-حالة ايه !! أنتِ مصدقة نفسك ؟! سبت لك البنت تربيها عقدتيها في حياتها وكمان طلعتيها مريضة !! أنتِ ازاي بتعالجي الناس وأنتِ اول واحدة عايزة تتعالج .
صرخت معاندة ومدافعة عن آرائها العقيمة :
-دي بنتي وانا عارفة ازاي اربيها واقوي شخصيتها عشان تطلع واحدة مسئولة !! كفاية دلعك اللي بوظها وأدينا كلنا بندفع الثمن ..
رفع سبابته محذرًا كي يختم الحوار الثائر بينهما :
-ليلة خط أحمر يا نادية !! نظرياتك العقيمة دي طبقيها على المرضى بتوعك مش في بيتي .. وبنتي مش هتتجوز غير الشخص اللي تحبه ويحبها ، غير كده أنا اللي هقف لها ، أنتِ فاهمة!!!!
استردت وعيها وهي ترى ضباب سيارة الشرطة تتقهقر وتغادر منزلهم ، فحلت برأسها تلك النوبة النفسية التي تُلازمها عند كل صدمة عصبية لا تتحملها ، امتزج الماضي بالحاضر ، تداخل بآذانها صوت أبيها المدافع عنها وذلك الرجل الغريب الذي أنقذها من بطش الطامع بأموالها قبل أنانيته وملكه لها الذي غرسته عمته برأسه .. انسابت ساقيها وتراقصت جفونها لا تسمع إلا همهمات بشرية حتى خرت مغشيًا عليها بالأرض .. دار الجميع حولها يتهاتف بفزع ، تقدمت نجاة الدارسة لقسم التمريض لتفحصها فغمغمت ملهوفة :
-دي قاطعة النفس !!
ندبت زينة على وجنتها :
-ماتت !!
دفعها هيثـم وجثى على ركبته وهي يربت على وجنتها برفق وقال:
-دي ما بتنطقش !! اتصرفي يا نجاة .
ضربت صفية على صدرها بشفقة :
-يابتي !! لسه في عز شبابها ..
جاءت نجاة مقترحة وهي ترفع تلك المغشية عليها من كتفيها :
-ساعدني يا هيثم ندخلوها جوه وارمح هات الدكتور اللي في الوحدة ….
ألم حارق يتوهج دخانه من عينيه وهو يُراقبها مرمية بالأرض لا حول لها ولا قوة ، بدون أي إرادة منه أوقف أخيه عن حملها وقال بهدوء تام :
-روح هات الدكتور ..
ثم انحنى متحاشيًا التطلع لملامحها النائمة ، تغلل ذراعه تحت ساقيها والأخر تحت كتفيها وحملها بدون أي مجهود يذكر ، توهجت النيران بقلب زينة وهي تراقبـه بسخط :
-ضهرك يوجعك يا هارون .. على مهلك..
ركض بها للداخل فاتبعه الجميع ما عدا زينة التي وقفت توبخ هيثم :
-أهو كله من تحت راسك!! افرض ماتت دلوق هندخلوا في سين وجيم !!
رمقها هيثم مستنكرًا وهو يهم لاحضار الطبيب :
-ان شاء الله أنتِ يابعيدة وهي لا ..
أشاحت له بسخط :
-بعد الشر عليّ ،وأنا لسه في عز شبابي ..
ثم دارت متوعدة وهي تضرب على فخذيها بغيرة :
-ابتدينا في كهن النسوان بتاع بحري ….
بس على مين ،دانا زينة !!!!
🥀 الآصــرة السابعــة🥀
“كل ما أعرفهُ:
-أنّ الحُب عندما يمتزج بـقلب المرء ويجري بهِ مجرى الدم يكون كانتشار لرذاذٍ ذهبي اقتحم العالم فجأة ، كأنها حبات عظيمة من النجوم رُشت بفضاء الليل لتونسه وحشيته وتُنير عتمته .. وتحوله من مكانٍ تملأه الكآبة لأكثر مكانًا تغمره البهجة والأحلام ..
وحين يفارقـه ؛ كما لو أن هناك طفلًا نفخ في عين الشمس فأطفأ شمعتها وروحها وبريقها بدون سابق إنذار …
وكلاهما شعوران لا يمكن إخفاءهما مهما حاولنـا ذلك ”
فلقد لخصها نزار قائلًا :
-فلا الليـل يخفي -لو أراد -نجومه
ولا البحر يخفي -لو أراد -المراكبا
#نهال_مصطفى .
••••••••
”أنا الشخص المتردد جدًا ، الشخص الذي يصل إلى عتبة الباب المقصود ثم يستدير ويعود بخُطى ثابتة، لأنه شعر بأن لا الوقت مناسب ولا الباب يستحق الطرق بصرف النظر عما أهدر من الوقت كي أكون هنا ”
لقد تصالحت مع حظها الشحيح مع الحياة ، مع تلك الأبواب الموصدة التي تُقفل بوجهها بعد سكة سفر طويلـة ، مع وحدتها وضعفهـا ، تقبلت بكُل قلبها وصف أمها لها _أنتِ فاشلة يا ليلة_ أمها لم تكذب أبدًا “هي فاشلة” ، منذ تلك السنة السوداء التي رسبت بها إثر مرضها الشديد ، إثر رفض القنوات الفضائية لها دومًا لأنها فقدت سلاح قوتها و سندها ، ترك خطيبها لها واتهامهُ بأنها مزاجية غير مسؤولة .. حتمًا أنهم يرون بها ما لا تراه هي بنفسها ..هي بالحق فاشلة بنظر الجميع ؛ اتستسلم لتقيماتهم أم تُغير تلك المرآة المزيفة التي تنظر بها دائمًا !!
ترقـد بفراش الأغراب متغيبـة لا حول لها ولا قوة ؛ ولم يكف هاتفها عن الرنين .. جفون مُغلقة لا ترى إلا قطعة سوداء من القماش لا تختلف كثيرًا عن حظها الفقير .. فرغ الطبيب من فحصها وعلق بيدها تلك المحاليـل الطبية .. فتقدمت نجاة لعنده وهي تفتش بحقيبتها بناءً على طلب الطبيب إذا كانت تتناول أي أدوية ، مدت له بعض زجاجات المهدئات بخيبة أمل :
-لقيت الأدوية دي .
فحصهم عمار فتحققت ظنونه :
-زي ما توقعت ، نوبة عصبيـة ..وواضح أنها بتعاني من حالة نفسية مش مستقرة .
ثم رماهم فوق الكمود المجاور لمهدها وقال :
-نجاة خليكِ جارها ، أنا عطيتها حقنة مهدئة ساعتين وهتفوق ..وتصحى تاخد علاجها .. ولو حصل أي حاجة كلميني ..
شدت هيام الغطاء فوق تلك النائمة والتي لا تشعـر بشيء ثم دار لها عمار والتي خطفت رقتها أنظاره منذ أن جاء ، فقال قاصدًا فتح أي حوار معها كي يسمع صوتها :
-ومش هوصيكي عاد ، توكلوها زين .
تمتمت هيام دون النظر إليه :
-طبعا هنوكلوها ..
ثم ولت ظهرها إثر نداء أمها الجالسة بجوار أحلام :
-يعني هتـرد زينة يا عمار يا ولدي !!
اتسعت ابتسامته وهو يلملم عدته مودعًا تلك الفتاة التي لم يراها من قبل والتي تخلو يدها من أي محبس خِطبة وذلك لأنها تعاني من حساسية الذهب ، مستخدمًا لهجته الصعيدية التي لا يمكن التجرد من عباءتها مهما تغرب المرء عنها :
-هترد كيف الحُصان يا عمتي .. اطمني .
ساعدت نجاة عمار الذي عاد من غُربته الطويلة بعد دارسته للطب بأحد الدول الأوروبية والذي يحمل نسل العزايزة ، لقد جاء قبل شهر وتعين بالوحدة الطبية الخاصة بالنجع والتي ترافقه نجاة كمساعدته الأولى .. رافقته نجاة لباب الغُرفة المُطلة على الحديقة و التي كان أمامها هيثم واقفًا فأقبل نحوه بقلق :
-طمني يا عمار … ؟! هتبقى زينة !
هز عمار رأسه بالإيجاب :
-أنا عرفت نجاة تعمل أيه .. ساعتين إكده وهتفوق .
كان يجلس بعيـدًا عنهم ، على مقعد الطاولة البلاستيكية المجاور لغُرفة الضيوف التي ترقد بهِا ليـلة ، رغم هدوئه المعتاد وعدم شغل رأسه بالأمر إلا أن مسامعه كانت تمتد لحديث عمار بتركيـزٍ شديد ، انتظر حتى فرغ من كلامه فوثب قائمًا متحمحمًا وبدون ما يصاب بلعنة الفضول للسؤال عنها يبدو أنه سمع ما يرضيه ، قال ممتنًا :
-تعبناك يا عمـار وفوتنا عليك ضُهر الجِمعة ..
رد الأخير بعرفان :
-مفيش تعب يا عُمدة ، ديه واجب.
مد هارون يده ليُصافحه ؛ وأردف داعيًا :
-نورتنا يا داكتور عمار ،خلينا نشـوفك في فرح هيام أختي يوم الخميس الجاي .
أحس قلبه بهوية الفتاة الذي يُدعى على حفل زفافه حتى جاءت نجاة لتقطع حبال الشك باليقين ؛ موضحة :
-هيام اللي شوفتها جوه يا داكتور عمار ..
تركت له الصدمة والحلم الذي انتهى قبل أن يبدأ وأتبعت موضحة لهارون وهيثم :
-أصلو الداكتور عمار غايب عن إهنـه له عشر سنين ولساته بيتعرف على العزايزية من أول وجديـد .. يعني اللي سابهم صغار رجع لقاهم عرايس .
إعتاد على عدم لمسه لشيء أبدي ، منذ تلك الفتاة التي أحبته وفارقها إثر أعرافهم المُظلمة ، وأمه التي تأمل أن يعود من غُربته فيجدها تنتظره ، وأخته الوحيدة التي تزوجت وتركته بمفرده ، ظن أنه للتو عثر على من ستشاركه قلبه وحياته وفراشـه الموحش ولكنه تقبل الأمر معتادًا على الوداع ؛ ابتلع غصة آماله المتحطمـة بابتسامة مؤسفة وطأطأ رأسـه مستئذنًا :
-بالإذن أنا يا عُمدة ، وأي حاجـة جديدة بلغني رقمي مع نجاة ….
بعد ما انصرف عمار وعلى كتفيه أحجار الخيبة وهنـا لقد عاد الحج خليفة متعكزًا على ابنه “الشيخ هلال” الذي رمق أخيه بنظرات ساخطة وأردف معاتبًا :
-إكده يا هارون !! يعني الفاسق ديه _مُشيرًا لهيثم_ ومفيش منه رجا وأنا رميت طوبته !! أنتَ بردك تفوتك ضُهر الچِمعة !!
ثم نظر واعظًا :
-دي الصلاة عماد الدين والقلب .
تدخل هيثم مدافعًا :
-كُنت في جِهاد و عمل خيري أنا كَمّان !! احكي له يا هارون أنا عملت أيه !!
-لا ونعم الجِهاد !! ما بلاش إنتَ !!
ثم حك هارون ذقنه القصيرة وقال متوعدًا :
-سيبهولي يا هِلال وأنا هعرفه كيف يكون جهاد الصوح !!
ثم وضع كفه على كتف هيثم المترقب مصيره وقال آمرًا بعنفوان :
-قصاد أبوك أهو ، أحضرنا يا حج خليفة الله يرضى عنك .. الأوضة دي لو شُوفتك معتب من قصادها هكسرلك رِجلين الاتنين ، البت المذيعة دي لو قربت منها ولا حدتتها يا هيثم هقطع خبرك عن النجع كله .. تنسى أن فيه ضيفة إهنه من أصلو !!
وبخه هيثم معترضًا :
-يعني ايه !! انا اللي جايبها وماينفعش انجس معاها وأسيبها لروحها !!
بنبرته المبطنة بالسخرية:
-لا ونعم الشهامة اللي خلتك تسيبها في عرض الجبل وتهرب زي الأرنب ! _ثم تهامس معه محذرًا بنبرة لا يفهمها سواهم _ اظبط روحك معاي .
مازحه قائلًا :
-ما سمعتش عن المثل اللي يقولك الجري نص الجدعنة !! ما تحضرنا يا حج خليفة !!
تعكز أبيه على رسغ هلال وقال :
-نفذ كلام اخوك بالحرف يا وِلد ، عليك بيه يا هارون يا ولدي .._ثم نظر لهلال_دخلني لجوه يا هلال ما جادرش .
انتظر هيثم حتى انصرف أبيه ودار طالبًا العفو من أخيه الثائر والمقيم الحد عليه :
-افهم بس ، ليه يعني ولا احدتتها ولا أهوب من جارها !!
رد الأخير بثقة :
-لإني خابرك زين رطاط و ماشي تحب على روحك ، ومش هورطك واسلمك للموت بيدي وترجع تقول لي رايدها يا خوي .. وهي حُب عمري هي كّمان .
تنهد هيثم بارتياح واردف :
-انا اتورطت واللي حُصل حُصل ..انت مش واعي للبت !! دي تتأكل وكل يا هِرن ياخوي .
-ورب الكعبة هقتلك بيدي !! .
ثم عض على شفته باغتياظ وبنبرة لا تقبل الجدال بحاجبيه المنكمشين :
-تطلع من إهنه على المِحجـر متفارقهمش غير لما يحملوا آخر عربية ، وتنزل تشق على الأرض والمحاصيل وتكلم التُجار يجيوا يحملوا الغلة .. ولو خلصت كل ديه قبل ما يحل الليل والنجع يتقفل تفضل تلف لحد ما راسك توجعك وترجع تتخمد طوالي .. مفهوم !! ومن طلعة الشمس هتلف نفس اللفة من اللول لحد ما البت دي ترجع بلدهم .
تفوه معارضًا :
-هارون متهزِرش !! أقولك طاه جوزني وارتاح من همي ، ستر الولاية مطلوب ، أنا مش ههدا غير لما اتجوز .
حدجه بغل :
-وبردك مش هتتربى ، ديل الـ*** عمره ما هيتعدل .
توسل له ممازحًا :
-طب جربني !! ولو متربتش جوزني تاني لحد ما نقفلوا الشـرع يمكن ربك يتوب عليّ في الرابعة ..
ثم مال نحوه بغمزة خفيفة وهمس له :
-هخليك عـم من أول سبوع اسمع مني ..
-أنت لو ما انشكت من وشي هرنك عقلة تخليك تقعد جار صفية عمرك كله لا هتنفع في جواز ولا غيره .. انقلع من قصادي يا هيثم مش طايقك ، ولا طايق مجايبك الكحلة ..
انفجر ضاحكًا وقال بسخريـة :
-انا مجايبي كحلة !! دي كيف القشطة ، اسم الله على مجايبك ، زينة يا هارون !! طب أيه اللي عجبك فيها !! اكمنها فرعة هبابة يعني !!
كاد أن ينزع حذائه مغلوبًا على أمره :
-بالمركوب فوق راسك ، عشانك شكلك اتدبيت على الآخير ..
استحلفه ضاحكًا محاولًا أن ينصحه :
-أمركم شورى بينكم بصوت الشيخ هلال ، هدي روحك !! بقلبلك نور يكش تفوق !! أنتَ بس لو ركزت هبابة مع القشطة اللي جوه دي هتعرف أنا هتكلم عن أيه !!
ثم غمغم على عجل كي يهرب من بطش نظرات أخيه الثاقبة :
-هنفذ كل أوامرك بالحرف ! ولو افتكرت اي تعليمات جديدة رن على الحُمار ينفذها ..
ما كاد أن يخطو خطوتين فدمدم :
-طب فكر تاني !! زينة يا هارون !!!
-غور يا بن ال***** .. ابو تربيتك الـ**** ..
••••••••
مر ساعات اليـوم بدون أي جديد يذكر ، قضت هيام ونجاة نهارها فوق رأس ليلة النائمة لرعاياتها .. عادت صفية للبيت مع أحلام لترى نواقص جهاز ابنتها التي سينتقل لبيتها الجديد بعد يوميـن .. وعادت زينة لمنزلها لتستعـد وتجهز نفسها لكونها عروس جديدة لفتى أحلامها الذي لم تتمنى غيـره من وقت ما رأت ضياء الشمس حتى لهذه اللحظة ، أما عن هارون الذي لم يشغل رأسـه وفكره إلا مهام العزايزة وأعمالهـم .. خرج كي لا يمر من أمامه طيف الفتاة التي تشعل عود من الكبريت برأسه لا يزيده إلا غضبًا …
“بأحد الملاهي الليلية المشبوهة ”
يجلس ضيـا زوج هيام برفقة معتـز ابن عمه وصديقـه وأكبر عدو لهارون العامل المشترك اللذان اجتمعا عليه ، لا يبغض أحد مثلما يبغضه .. في تلك الغيمة المنعقدة من الدخان المتصاعد الذي ينفخونه ممزوجًا ببعض المواد المُخدرة والتي تُعد محرمات بعُرف العزايـزة قبل الدين والقانون .. نفث معتز دخان شـره وانتقامه وقال متوعدًا :
-عايزين نخلصوا من حكم خليفة وعياله ، إحنا مش عبيد عندِهم ! جبروتهم لازمًا له حد .
قهقهه ضيا ساخرًا :
-ولو خلصنـا منيـهم ، فكرك مجلس العزايزة اللي ما عيرحمش هنفلتوا من يده !! قدرنا إكده .. بس خليفة وعياله مش قدرنا ومش مجبرين نرضوا بيه .
فعارضـه معتز بحسم وقلب يعتصر على فارق حبيبته التي رفض هارون نسبها قطعًا :
-بس لازمًا يتغير ومش هيتغير غير لما الحكم يطلع من بيناتهم .. هارون واعر وأوعر من أبوه ، واللي جاي سواد فوق روسنا كلنا .. هو شغال يتمسكن لحد ما هيتمكن ..
ثم شد معتز من يده خرطوم الشيشة وشد نفس طويل منها واتبع بنفس النبرة بحقدٍ :
-و أنت مين كدك ، نشنت وغرفت من قلب بيتهم ، وريحت راسك ، الدور والباقي عليّ ، وما ليك عليّ حلفان تاري مع هارون العزايزي ما هيخلص ولو فيها موتي !
قهقه ضيا بضحكة الثعلب الماكر :
-يتلقـوا وعدهم مني .. راس خليفة وعياله مش هيرفعوهـا تاني بينات الخلق .
-انتَ ناوي على ايه يا ضيا!
زفر دخان شروره وقال:
-خليفة وعياله يهملوا الحُكم والعُمدية ، واللي جاي على كيفي أنا وبس .. كلها أيام والضحك هيبقى على الدقون .
~عودة لمنزل خليفـة العزايـزي .
“كُل الأماكن خطرة ، فـ لا تأمن مكانًا يعطيك أُلفته من أول مرة .”
وشوش بأذن حِصانه الذي أغرقه بنظرات العتاب طويلًا حتى أردف هذه الجمـلة بتلك الثقافة اللغوية التي أحبها وتعلمها من دراسة القانون أولًا ثم من حُب أخيه لها ، همس له وكأنه أراد أن يذكره بالعهد الناشب بينهما .. ثار الحِصان رافعًا ذراعيه بالهواء لبرهة محدثًا صوتًا نافيًا أم معتذرًا !! يعارضه أم يصدقه القول .. تصرف غريب من ” غيم ” الذي اعتاد أن ينفذ تعليمات صاحبـه بدون تمرد ، ماذا حدث له تلك المرة ؟! ما الذي يتنبأ غيم بحدوثه لصاحبه الوحيد مُستقبلًا !!
حدق النظر بعيني حِصانه بعتب:
-بتقاوحني يا غيم عشانها !!
ثم شُقت ابتسامـة خفيفة على ثغره وهو يداعب شعره :
-أوعاك يكون هيثم عضك !! بقيت زيه أي بت حلوة تريل عليها زي الأهبل ..
نفس الصوت الاعتراضي والغضب ثار به ” غيم “كي يضع حدًا لتمادي صاحبه الذي انفجر ضاحكًا :
-وه وه !! أيه في حديتي مش عاجبك يا عم غيم !! لا أنا إكده هبتدي أقلق عليك !! هي قلبتك عليّ !! دي يومها مقندل معاي .
ثم أقام عليه الحد :
-أقول لك !! كنت ناوي امشيك هبابة ، بس قفلتني .. خليك إكده مكانك لحد ما انسى خيانتك .. أنا ماشي .
~بغُرفـة الضيوف .
توسلت نجاة لليلة أن تتناول آخر لقمة من طعامها ولكنها أبت بضعف وهي تتنفس بصوت مبطن بالتأوه :
-مش قادرة بجـد ، كفاية عشان خاطري ، تسلم أيدك .
رمقتها نجاة بعدم اقتناع :
-وفين الوكل اللي كلتيه !!! دي أحلام موصياني تخلصي الصحن كله .. هعاودلها الوكيل زي ماهو كيف !
ابتسمت ليلة بإحراج :
-أنا زي الفـل والله ..
ثم التفتت لتبحث عن أشيائها :
-فين شنطتي وموبايلي ، آكيد مامي قلقانة عليـا !!
ثم اعتدلت لتلمس أقدامها الحافيـة الأرض الرُخامية وقالت :
-لازم أمشي .. ممكن بس حد يجي يوصلني!!
جاءت هيام حاملة بيدها دورق الميـاه ، فلم يروق لها حديث ليلة :
-يادي العيبة !! عاوزة تروحي وأنتِ لساتك عيانة !! محدش هيوافق لك بالجنان ديه .
ترجتها ليلة بضعفٍ:
-كفاية مشاكل كده لحد كده .. أنا لازم أمشي .
وقفت نجاة أمامها :
-طب وقفي وخدي نايبك صبر ، الصباح رباح .. خليكِ إهنه الليلة دي والصُبح ربك يحلها .
بوادر الاقتناع خيمت ملامحها ولكنها تذكرت تحذيرات أمها فوثبت متحيرة وهي تفتش بحقيبتها :
-أنا مين جابني هنا !! أنا فاكرة أن شريف كان بيتخانق وصوت عالي .. بعدها مش فاكرة حاجة.
تدخلت هيام وشدت الحقيبة من يدها :
-اولًا محدش هيسمح لك تمشي دِلوق ..
غمغمت بتوجس :
-كفاية مشاكل وعشان هارون أخوكي ، ده طردني قدام الكل ، لالا انا مستحيل أقعد هنـا مش ناقصة إهانة منه ..
امتزج صوت ضحك كُل من نجاة وهيام ، فأكملت الأخيرة مدافعة عن أخيها :
-هارون !! ده مفيش في بياض وحلاوته قلبه ، ده هو اللي قَلِك على يده وجابك لحد إهنه .. يهينك كيف لالا أنتِ ظالمة هارون !!
شهقة طويلة اختتمت بكلمتها الاعتراضية المعتادة :
-أحيــه !!
ثم تقاسمت معالم التوتر والارتباك والصدمة ملامحها وأحمر خجلًا وهي تتحرك بفوضوية بجميع أنحاء الغرفة ، خطوات عبثية غير محسوبة :
-يعني ايه هو اللي قَلِك وجابك هنا، هو اللي شالني !! فهمت صح ، أيووهّ !! لا أحيــه !! هو الباب منين !!
خطت أقدامها بصخبٍ وهي تسحب البـاب الجرار الموجود بعرض الحائط والمُطل على حديقـة بيتهم ، ما كادت أن تلتف لنداء نجاة وهيام ففوجئت به أمامها ، بنفس النبرة التي لا تختلف عن سابقتها مردفة بعفوية تامة وأعين جاحظة بصدمة :
-أحيـــه !! هو أنتَ !!!
-ياصـبر الصبـر !!
رغم جمال وعفوية الكلمة من شِدقها لكنه تمتم جملته وهو يزفر بضيق ويقفل جفونه إثر سماعه تلك الكلمة التي حذرها منها كثيرًا والتي تثير غضبًا مبهمًا برأسه ، أطرقت وجهها بخجـل وهي تتراجع للخلف لتحتمي منه بظهر هيام يبدو أنها أدركت خطأها للتو .. رفعت نجاة حاجبها بتعجب :
-شوفتي عفريت أياك !! ده هارون وِلد حلال زين إنك جيت .
مازالت عينيها ثابتة جاحظة نحوه لا تتحرك عكس شفتيها المرتعشة ، فأكملت هيام كي تورطها أكثر :
-يرضيك يا هارون ، ضيفيتنا عايزة تروح دِلوق ..
عقد حاجبيـه متسائلًا باستغراب:
-ده ليه !!
تدخلت مدافعة عن قرارها بنبرتها المهزوزة :
-هقعد ليه !! أنا خلاص خدت واجبي وكرم الضيافة وتعبتكم وألف شكر يا حضرة العُمدة .. مش ده كلامك ..
ثم امتدت بنظرها للخارج وكأنها تبحث عن شخص ما لا تعرفه :
-ممكن تنادي حد يرجعني الأوتيل ..
تحمحم بهدوء بعد ما ألقى عليها نظرة واحدة والأخرى كانت طائفة بالمكان :
-خفي مُحن وخُشي نامي ….
قال جُملته الأخيرة وتركها في هول صدمتهـا محاولة استيعاب إهانته ، اكتفى بنظرة سريعة لأخته ترجمة معناها على الفور وهي تكتم الضحك :
-هخليني جارها متعتلش هم .
ثم دارت لتلك الصامتة التي مازالت تحت سطو صدمتها ؛ فقالت :
-سمعتي بودنك أهو ، قال لك خشي نامي وعيننا حرس عليكِ كمان !!
غمغمت بسهوٍ :
-ده بيقول لي خفي محن !! هو على طول كده ولا قلة الذوق دي معايا أنا وبس ؟!
لم تتوقف هيام عن الضحك ثم أجابتها قائلة :
-هو على طول إكده ، متتوقعيش ردوده ، ياستي عوقنا يلا نناموا والصباح رباح .. بكرة هعرفك على هاجر وهتتعرفي على هاشم ..
فانضمت نجاة لحوارهم :
-أنا هروح أجيب مازن ولدي ، واجي أنام جاركم.
فقبلت على مضضٍ:
-تمام ، بس لازم أكلم مامي الأول .
~بغُرفة الحج خليفـة ..
رفعت صفيـة الوعاء الممتلئ بالماء والملح بعد ما غسلت أقدام زوجها جيدًا وجففتهمـا بالمنشفة ثم أقبلت إليه وهي تخبره :
-اتفقت مع صالح العشية هنروحوا نُطلبوا يد زينة لهارون ، ويد نغم لهاشـم .. البت نغم يتيمة وتستاهل كل خير ، ايه قولك يا حج خليفة .
يتكئ على عكازه الخشبي كي ينهض متجهًا لمرقده :
-القول قولهم ، شوفي رأي هاشـم اللول ياام هارون ، لازمًا الواد يختار بنفسه ..
شخللت بأساورها الذهبية التي تملأ معصميها وهي تساعده في رفع الغطاء لتفسح له مجالًا للنوم :
-هاشم واثق في ذوق أمه ومش هيكسر لي كلمـة ، متعتلش هم أنت يا حج .
ثم تنهدت بارتياح وهي ترسم مستقبل أولادها :
-اخيرا يا حج هيريحوا قلبي ، واطمن عليهم ، والسنة اللي وراها نفرحوا بهلال وهيثم .. ونختموا بهاجر أخر العنقود .
ثم مددت بجوار زوجها معبرة عن سعادتها :
-كلهم كوم وفرحتي بهارون كوم تاني .. هارون يا كبد أمه مفرحش ومشفش يوم حلو .. جيه آوانه انه يرتاح مع البت اللي قلبه اختارها ..
تمتم الحج خليفة بيقين :
-قدمي المشيئة ياام هارون ، يكش نفرحوا بيهم كلهم في شهر واحد ، ده يوم المُنى .
عارضته بحزم :
-شهر كيف !! أحنا ناقصين قر ونِقم يا حج خليفة !!
••••••••
~القســم .
-وشرف أمي يا محسن ما هعديهاله ..
رفع شريف قربة الثلـج من فوق عينه المزرقة التي كانت أحدثت كدمة إثر لكمة هارون عندما تجاوز حدوده بمنزله ، فعاتبه النقيب محسن :
-شريف بيه ، معاليك غلطت ، مكنش له لزوم العنف .. وأهو واقفين مش عارفين ناخدو موقف .
ضرب شريف على سطح المكتب بغل:
-انا هعمله محضر دلوقتي ، والله ما هعديهاله يا محسن ده اتجنن يمد ايده عليا !! .
عارضه محسن بعتب:
-للاسف ، القانون في صفه ، أنت اللي اتهجمت على البنت وكنت هتاخدها بالقوة ..وهو كان بيدافع عن ضيفة في بيته وقالت لك أنها مش مخطوفة .
-أنت عايزني اسيبها في بيته يا محسن !! ليلة دي عيلة مجنونة ودماغها على ادها وبتتعالج ماينفعش تتساب ، دي واحدة عيانة .
بنبرته المعنفة أردف جملته الأخيرة التي تحوى الإهانات لخطيبته السابقة بشكل غير لائق جعل محسن يستصغره كثيرًا ، فأتبع شريف متوعدًا :
-حسابك تقل معايا ياابن العزايزي ، أنا هعرفك مين هو شريف أبو العلا .
ثم خبط على مكتبه بغضب يتطاير :
-انا مش هسيبه يا محسن ولو هقعد في بيتنا بعدها .
••••••••
~في الخامسـة فجرًا .
لا تشعر بالحياة الحقيقية فـ صورتها النقية إلا مع نسمات كُل صباح بعد ليلة شتوية باردة ، تلك اللحظة الفاصلة بين الليل والنهار وهي الفجر ، الناس نيام ، هدوء عجيب يُغلف القلب .. الأنفاس صافية العقل متيقظ .. جميعها تفاصيل نادرة وتائهة في خضم الحيـاة الطاحنـة .. فتحت جفونها فتعثر بهيام النائمة على الأريكة بجوارها .. وبالغرفة المجاورها لها ترقد نجاة مع طفلها .. أخذت تتنفس بارتياح وهي تتأمل السقف وتتمنى أن لا تُفارق هذا المكان البعيد عن دوشة المدن ودوشة الحياة عمومًا ..
عبث بهاتفها ففتحت تلك الرسالة النصية المُرسلة من أمها :
-ليلة ؛ أنا مش موافقة على الجنان ده .. اتفضلي ارجعي وألا هجي لك أخدك من عندك بنفسي ..
زفرت بملل ورمت الهاتف من يدها وفارقت مرقدها بتلك الأقدام الناعمة ذات اللون الوردي تخطو على طراطيف أصابعها بعد ما تناولت شالًا من الصوف ووضعته على كتفيها ، فتحت الباب بحذر شديد كي لا تُزعج هيام النائمـة .. فتحة صغيرة من الباب المتحرك كانت كافية أن تمر منها .. لمست أقدامها الحافية الخضرة تحتها وداعب الندى وجنتيها .. تنفست بارتياح وهي تفرد ذراعيها تحت السماء وكأنها طير حر يستمتع بحريته التي لا يُقيدها أحد..
”الأيام التي يطمسها الضباب ما هي الا خطوات لبدء تشكيل انسانٍ ما .. لتهيأهُ لمواجهة ظروف ما !! ”
مع مطلع الفجر وبعد عودته من الصلاة مع الشيخ هِلال وأبيه .. فارق النوم عينه وعاد ليجلس تحت ظل شجرته التي دومًا ما تجمعـه مع هيثم وصوت عوده .. ولكن اليوم كان بيده كتاب ” البداية والنهاية ” لـ ابن كثير .. تعمق بين طيات الكتاب متبعًا عشقه للكُتب التاريخية التي يكتسب منها حكمته في الحُكم ، شيء ما متعطش بداخله حول التاريخ فيرويه بالكُتب ..
قفل الكتاب واستند على جذع الشجرة خلفـه وما يشغل عقله الشغل لا شيء غيره .. جاءت من خلفـه بخطواتها المتشردة ، التي لا تدرك غايتها بل أصيبت بلعنة فضولها للسير من ذلك الطريق فاتبعت أحساسها ككل مرة ترافقه .. لمحت كتفـه المتواري خلف الشجرة من بعيد تمتمت لنفسها _أحيه !_ .. وسرعان ما دارت للجهة الأخرى وركضت عكسًا ، ما لبثت خطوتين ثم توقفت تلوم نفسها بحماقة وهي تقوي نفسها :
-أهدي !! اهدي وبطلي غلبة ، مش لازم يحس إنك هبلة ..
ملأت رئتها بالهواء ثم دارت صوبه وأكملت سيرها بتلك الخطوات المترددة حتى وصلت لعنده ، وجدت جفونه منغلقة ورأسه مستندة على الجذع خلفه وبيده سواك صغير .. إطالت النظر بملامحه ببلاهة ، بدون استيعاب بأنها تتغلغل بالبحر وهي لا تجيد العوم .. انه طريق موحي بغرق ما .. النظر إليه كان كافيًا بإخماد ثورةً أفكارها ومخاوفها منه ، تحدق النظر به وكأنه طريقها الوحيد للنجاة من هذا العالم .. فركت كفيها ببعضهما ثم تمتمت بتوجس :
-صباح الخيـر !!
فتح جفونه معتدلًا بجلسته وهو يرتب شاله :
-فايقة بدري يعني !! منمتيش زين اياك !
ردت بارتباك بينّ ، وفتحت نشرة الأخبار خاصتها فوق آذانه :
-لا نمت .. نمت كويس جدًا ، بس ممكن عشان مغيرة مكاني .. صحيت بدري ، وكمان شكل الخُضرة والندى والجو .. كل الأجواء دي أنا بحبها وبحب أصحى بدري عشان ألحقها .. خاصة في الشتا .
ثم بللت حلقها وأتبعت وهي تنتقل لتجلس بجواره :
-أنتَ بقا شكلك منمتش وقاعد هنا في الجو ده !! أنا أخدت بالي إنك مريح شوية !! أنت تعبان ولا منمتش من امبارح !! ولا مابتنمش زينا ولا ايه !!
لعن حظه سرًا لبدء ثرثرتها التي كانت تنقصـه ، ولكنه قدر حالتها المرضية وقال مغيرًا مجرى الحديث:
-عاملة ايه دِلوك !!
-بقيت أحسن الحمد لله .
ثم ملأت رئتها من روعة المكان وأكملت بامتنان :
-بجد مرسي ، انا مش عارفة اشكرك ازاي ..
-تشكريني على أيه !!
ردت بحماس:
-البنات قالولي إنك شلتني وجبتني للأوضة ، وكمان عشان وقفت قُصاد شريف وحميتني منه ..
كادت أن تواصل ولكنه قاطعها بنبرته الجافة :
-أي حد مُطرحي كان هيعمل اللي أنا عملته .
قفل مداخل الحديث بوجهها ، أخذت تتجول بأنظارها يمينًا ويسارًا وكأنها تُفتش عن موضوع جديد حتى اتسعت ابتسامته وهي تراقب قطرات الندى فوق الزهور حولهم ، فلجأت لعالم الأساطير الذي تهواه :
-أنت عارف …
فألتفت لها باهتمـام مما جعلها ترتبك فـ تنظر بعيدا عن مرمى أعينه وأكملت :
-في أسطورة بتقول ؛ أن قطرات الندى دي اللي فوق الورد ، جوابات حُب من النجوم .. وفي حد تاني قال أنها قُبلات مُرسلة …. أنا بقا شايفاها غير كده خالص ..
ثم عقدت ساقيها وولت وجهتها لعنده ، كان يستمع لها بتعابير وجهه المتصلبـة التي لا تعى ما تلك الخُرافات التي ترويها على رجل يافع ،عاقل، واقعي مثله لا يُغريه الخيال مثلها ، بللت حلقها ومازالت محتفظة بتلك الابتسامة الزاهية وأكملت بنبرة متأثرة :
-شيفاها دموع ، وحزن .. وعجز ، هما الاتنين واقعين في غرام بعض بس محدش عارف يوصل للتاني .
شُلت مدارك عقله التي لا تعي من الثقافات إلا التاريخ والحروب ، انعقدت ملامحه مستفهمـة :
-هما مين عدم اللامؤاخذة!!
أجابته بثقة عارمة وهي تلوح بكفها :
-الورد والنجوم ..
تأكد من داخله أنها حقًا فاقدة للأهلية حسب وصفه القانوني ، فتأوه مؤيدًا متبعًا قول _أن ليس على المريض حرجًا_ودمدم باستهزاء :
-اااه ، النجوم والورد .. صلاة النبي أحسن !!
لم تلحظ سُخريته واستهتاره بحديثها ، فأتبعت بنفس الشغف :
-ودي فيها حكمة لقلوب البشر .. وأن مش كل القلوب العاشقـة بتتجمع في قلوب مصيرها زي النجوم والورد اكتفوا من الحُب أنهم يراقبوا بعض من بعيد لبعيد فاقدين الأمل في القُرب ، بس عمرهم ما فقدوا الأمل في الحب ، بس لما بيجي عليهم ليل بيفضحهم عشان يعيطوا ويعرفهم حقيقة عجزهم .. ودي الدموع اللي بنشوفها على خدود الورد ..
ثم تنهدت بحماس :
-الطبيعة بتحكي أسرارنا بس البني آدم عامل نفسه مش واخد باله ، عشان كده هتلاقي الكُل تايه ..
لم تمهله فُرصة للرد بل أكملت :
-انا متعلقة جدًا بالطبيعة وبحب اسمع لها وتسمع لي .. أنا وهي صُحاب جدًا ..
-حتى دي معتقتيهاش !!!
رفع حاجبه متأكدًا بوصفه لها من قبل وقال متبعًا لفضوله :
-والأساطير دي أنتِ مخترعاها من راسك ولا في الكُتب !! مصيبة لتكون في الكتب !!
ردت بثقة لا يمكن أن تهتز :
-الأغلبية من تأليفي طبعًا ، أنا كل كلام الكتب بنتقده ، مش بيعجبني .. جرب تسيب قلبك للطبيعة وهي هتدلك على الحياة الحقيقية .
-ياحلاوة !!!
لم تمهله الفرصة لاستكمال حديثه بل امتد ذراعها بفضول نحو الكتاب المجاور له وأخذت تُقلب صفحاته بـ غرابة :
-ايه الكتاب ده!!! ااه نسيت ، هيثم صحيح قال لي إنك بتحب كُتب التاريخ والقانون .. بس أنا حسيته بيلمعك قدامي مش أكتر ..
-عيلمعني !!!
ثم عض على شفتيه متوعدًا له وأكمل :
-وهيثم الأرعن ديه يجيب فـ سيرتي معاكي ليه من أصلو !!
كان كل تركيزها بالكتاب الذي تقلبه بيدها وقالت بعفوية :
-لا أنا اللي كنت بجيب فـ سيرتك مش هو ..
لا يعلم أن يشفق على سجيتها أم يغضب أم يضحك ويتجاوز الأمر ، اكتفى بضرب كف على كف بخفة مبتلعًا تلقائيتها بابتسامة لطيفة وقال :
-وتجيبي في سيرتي ليه !!
قفلت الكتاب بعفوية وغيرت جلستها لتجيو على رُكبتيها :
-كُنت بقوله أد ايه حياتي باظت بسبب أخوك ، حتى فكرة البرنامج وأملي الوحيد أخوك ضيعه ، فهو اقترح عليا فكرة ، وبصراحة عجبتني .. ولما فكرت قولت أيه المشكلة لو نعمل معاهدة سلام سوا ..
اتكئ على جذع الشجر وثني ركبته التي سند عليه مرفقه وقال ساخـرًا :
-طلعتي عتفكري زينا !! وياترى طلع أيه في راسك!
تحمحمت بحماس وشعور من الألفة غلف قلبها كأنها مع شخصٍ تعرفه من زمن آخر :
-اسمع يا سيدي .. أنا خلاص غيرت فكرة البرنامج بتاعي ومش هفضحكم ومش هفضح الناس عشان حرام ..
-يكملك بعقلك ياشيخة ..
فأتبعت بنفس اللهفة :
-جات لي فكرة برنامج جديد ؛ حكاوي ليلة .. البرنامج ده هيحكي قصص متنوعة ، أول فكرة جات في دماغي الأماكن .. كل مكان له قصته وحكايته ..
رد بجمود :
-وأنا مالي بالحديت ديه !!
-هقولك أهو .. مش اللي بيبوظ حاجة بيصلحها !! وأنت بوظت برنامجي بسبب غبائي ، ما علينا .. المهم هيثم قال لي عليك بتحب التاريخ و آكيد عندك أفكار كتير ممكن تساعديني بيها لحد ما أعمل تقرير إعلامي محترم اقنع بيه صاحب القناة .. حتى فكرة موضوعين بس اقنعه بيهم .
شبح ضحكة ساخرة رُسمت على محياه:
-وحد قال لك إني فاضي للحكاوي دي!!
تمتمت بتأمل :
-هتفضي نفسك، دول هما يومين بس يا كابتين ومش هتشوف وشي تاني غير على التلفزيون باذن الله .. وتبقى عملت معايا حركة جدعنة تمحي كُل استندالك معايا اليومين اللي فاتوا .
وجد في حديثها مُتعة راقت لقلبه ؛ فغمغم بجدية :
-وأنا هستفيد أيه من المشوار الهابط ديه اللي يخليني ااخر مصالحي يومين !
أصدرت صوت إيماءة عالية وهي تُفكـر :
-فلوس يعني !! خلاص هديك ألفين جنيه على كُل فكرة ومكان تقول لي عليه هنا ..
-تصدقي فكرة وأنا في عرض أي قرش اليومين دول .
هبت فرحة لا تُصدق مسامعها :
-يعني وافقت بجد !!
لأول مرة ينفجر ضاحكًا عند سماعه لعرضها المُغري ، شيء ما بداخله أجبره أن يقبل حديثها العبثي رغم عدم اقتناعه به لكنه وافق على عكس رغبته ، صوت ضحكته الأجهر لفت انتباه قلبها لتبتلع ما تبقى بفمها من كلمات ، تلك أول مرة ترى وجهه خاليًا من معالم السخرية ، عادت لتجلس بهدوء بجواره مسهوبة بجمال ضحكته وتفاحة آدم التي تتوسط حنجرته تتراقص فتزيده وسامة لا يقاومها قلب الأنثى ؛ حيث نظر إليها رافعًا حاجبه متقبلًا طلبها :
-اتفقنــا ، وأنا اشتريت .
تأرجحت عينيها فوق سُحب الحيرة المُضللة عليهم ؛ متسائلة بحماقـة :
-اشتريت ايه !! أنا مش معايا حاجة ابيعها !!
وقف هارون عاجزًا أمام ضباب غبائها الذي قيد لسانه وشل مدارك عقله مكتفيًا بضرب كف فوق الآخر متأففًا :
-يا صبر الصبـر !!!
وقفت مثله فلم يمنحها فرصة للجدال فقال نادمًا على قبوله لطلبها متأهبًا للرحيـل :
-أنا عارف جبت وجع الراس لروحي !!
اوقفته صارخة :
-وانا عملت ايه طيب !! انا ساكته اهو مفتحتش بؤي من الصبح !!
رد بنفاذ صبر :
-قفلتينى ، كل ما اقول اهي عاقلة .. تلغي الفكرة من نفوخي .
•••••••••
-الأيام بتربي الواحد عَلى الهادي يا رؤوف .
مع دقات العاشـرة صباحًا لمست عجلات سيارة رؤوف بوابات محافظة مركز نجع حمادي .. أردف هاشم الجالس بجواره جملته الأخيرة بعد ما أرسل رسالة نصيبة لرغد التي لم تُفارقه للحظة طول رحلته .. قفال الهاتف ليلتفت لحديث رؤوف :
-بقا هاشم اللي مقضي حياته بالطول والعرض عيقول إكده !! أومال إحنا نقول ايه !
ضحكة حزينة خيمت فوق ملامحه وأتبع :
-أحنا الموت محاصرنا يا رؤوف .. على كد ما تقدر اتبسط اليومين اللي انت عايشهم .
ثم فتح ” تابلوه” السيارة وفرغ لفافة تبغ بيده وأشعلها فأكمل متعجبًا :
-أنتَ من دور هارون أخوي ولساتك متجوزتش ليه !! ولا تكنش لعنة في جيلكم .
التوى ثغر رؤوف الذي يظلل عليه شاربه الأسود كسواد أيامه وقال مشيرًا لقلبه :
-اللعنة اللي بجد ده ، ده ياهاشم .
عقد هاشم ملامحه بصدمة :
-رؤوف لساتك رايد نجاة بت خالك !!
شبح ابتسامة مؤسفة :
-ولا عمري هريد غيرها ، أنا لفيت مصر بضواحيها عيني مشفتش ست في جمالها يا هاشم ..
-دا أنت واقع !! طب والعمل ؟! هتسيب العمر يسرقك إكده !! لا أنت طايل لا جنة ولا نار!
دار بمقود سيارته أقصى اليسار وأتبع :
-وهي واقفة في النص ، بين ولدها وقلبها.. لو اتجوزتها ناس جوزها هياخدو ولدها مش هتشوفوا تاني .. وأنا مش هيهون عليّ أشوفها متعذبة ومش قادر اهون عليها .. هفضل شايل ذنبها وذنب ولدها لآخر عمري .
تأرجحت عيني هاشم مقترحًا :
-منا عندي فكرة ، طالما أنتوا الاتنين رايدين بعض ما تتجوزها في السـر وبعيد عن العزايزة وعيش بدل ما أنت موقف حياتك على سراب .
هتف رؤوف برفض قاطع :
-مش رؤوف العزايزي اللي يعمل حاجة في السر .. أي حاجة في السـر عمرها قصير ولازمًا هتتكشف يا هاشم، ووقتها هتبقي خسرت نفسك واللي حوليك وهخسرها هي بقية حياتي ، حتى الأمل اللي متعلق بيـه هيموت .. بس آكيد في حل ..
تحمحم هاشم وكأن الحديث كشاف إنارة ضرب بقلبه ليُريه مصيره مستقبلًا ، فأتبع رؤوف قائلًا :
-هتحدت مع هارون وأشوف رأيه ، يمكن ألاقي عنده الحل .
••••••••
~المحطـة .
يقف هِلال على رصيف محطة القطار المقبل من أسيـوط منتظرًا أخته بعد إلحاح طويل من صفية إثر انشغال هيثم بالمهام التي كلفه بها هارون .. يرتدي بنطالًا جينز باللون الأسود ويعلوه قميصًا باللون الرملي مع بشرته التي تشع نورًا وإيمانًا والتي ورثها من أمه ولحيته القصيرة التي تطفو عليه الهيبـة والوقار .. نظر بساعته وهو يطالع القِطار القادم من بعيد ، فتنهد بارتياح بعد تأخره لساعة عن موعده .. هنا وصلت رسالة من هاجر تبلغه برقم العربـة الجالسة بها ..
دقائق محدودة توقف فيها القطار وتوافد النزلاء والرُكاب .. الجميع يصطدم ببعضه من شـدة الازدحام .. صعد العربة ليحمل الحقيبة عن أخته وبدون سلام مسك كفها وسحبها خلفه وهو يحاوط عليها من اصطدام المارة كألا يلمسها أحد .. هبط الاثنان من القطار فسحبته لمكان أقل ضجيجًا على الرصيف وعانقته بلهفة معبرة عنّ شوفها:
-وحشتني يا هلال !! أيـه الحلاوة دي ، صحتك رادة على وكل صفية !
لم يرق له الحال بل ابعدها عن حضنه وهي يتفقد أعين المارة حولهم معاتبًا :
-كيف تحضنيني قصاد الخلق والناس عيونهم مفنجلة عليكِ !!
لم يخلٌ وجهها من البشاشة :
-وفيها ايه يعني مش أخوي وأحضنك واحبك على كيفي !! حدش له حاجة عندينا .
كاد أن يتمسك بمرفقها مستردًا لهجته :
-لنا بيت يا أوختاه ..
-وحشتني قوي أختاه منك ..
لم تتحرك خطوة ، فتوقفت وهي تجوب المكان بأعينها باحثة عن شخص ما :
-استنى يا هِلال .. رقية راحت فين عشان نوصلوها في طريقنا !!
-منّ رُقية !!
ردت بعفوية وهي تمتد بنظرها هنا وهناك :
-رقية بت عمي أبو الفضل الله يرحمه ، ماهي معاي بالكلية .. ملقيتش حجز في الكرسي اللي جاري ..
حدجها معارضًا :
-ومين هيوصلها !! أنا مبخر العربية ومش هركب فيها حريم يا هاجر .
تجاهلته هاجر وهي تبحث عن رُقيـة هنا وهناك وتحاول التواصل معها بالهاتف ، متغاضية عن رفض أخيها القاطع ؛ فأشرت إليها بعفوية :
-اهي رُقية جات أهي خلاص .
على سهوة منه وبدون أي نية لرؤيتها انحرفت عيناه لتلك الفتاة التي تقترب منهم مرتدية فستانًا باللون الأبيض وفوقه خمارًا حديثًا باللون ” الكشمير ” الهادي وتجُر حقيبتها ورائها .. تسمرت عيناها وكأنه يُراقب بدرًا في ليلة تمامـه .. فتهامس له القلب بتلك الكلمات التي قرأها لأبو قاسم شباني :
-كلّلَتْ حُسْنَها صباحُ الورودِ
ورَأينا الجفونَ تَبْسِمُ أو تَحْلُمُ
بالنُّورِ، بالهوى، بِالنّشيدِ
ولكن سرعان ما عاد له رُشده ودار الجهة الأخرى وهو يستغفـر بلسانٍ لاهث ، يذكر الله بسره وبقلبه وبلسانه المعتذر عما بدى منه بنظرته الأولى التي لم ينتويها أبدًا .. اقتربت منهم رُقية متسائلة :
-هيثم لسه مجاش !!
أشاحت هاجر نظرة نحو أخيه الواقف بظهره :
-جيه هلال يا ستي .. حظنا هنركبوا معاه .. عارفة هيثم وخوته ، هِلال عاد عكسه تمامًا .. هتقولي الاتنين مش أخوات ..
تأرجحت عينيها بفضول أن تُطالع ذلك الرجل الباخن ذو الأكتاف العريضة الواقف مصدرًا ظهره لهما غارقًا في حلقة من الذكر عما اقترفه من خطأ في حق قلبه .. ربتت هاجر على كتفه :
-حبيبي يا خوي ، يلا بينا !
غمغم شاردًا بين ذنبه وكيف سيُكفر عنه :
-لأين !!
-البيت !! هتوصل رقية الأول وبعديها نروحوا ..
عقدت رقية حاجبيها بدهشة ثم تدخلت مقترحة بإحراج :
-أنا ممكن أخد عربية للنجع وأكلم حد يتلقاني على الطريق !
عاتبته هاجر بنبرتها الحادة كي يتحرك :
-ودي تيجي كيف !!! هِلال !! يرضيك تركب عربية مع راجل غريب؟!
تحمحم بخفوت ثم قال مجلجلًا :
-حالًا سأحضر لكما عربة أجرة ..
لكزته هاجر بكتفه :
-هلال!!! مش وقته وحياة أبوك !!
فتفوه من خلف فكيه المنطبقين:
-مش هركب إمراة أجنبية عربيتي يا هاجر .
قرصته بخفاء كي يتراجع عما يقوله ووضعت الحقيبة بيده ثم شدت حقيبة رُقية كي تُجمل الموقف الذي وضعها فيه أخيه وقالت بابتسامة اعتذار :
-يلا عاد اتأخرنا .. خد شيل دول ..
زفر على مضض وهو يحمل الحقائب دون ان يلتفت للوراء على عكس مزاح وخفة هيثم المتواصلة معهمن ، كان النقيض تماما بهلال الذي جر الحقائف وأخذ يغمغم بأذكاره كي يشغل قلبه عن ذلك الآثم الذي سيقترفـه .. وصل لسيارته السوداء التي يفوح منها رائحة الطيب والمسك .. وضع الحقائب بالخلف وما زالت رأسه بالأرض لم تتزحزح إنشًا .. فتح باب سيارته وجلس بمقعد السيارة ، جلست هاجر التي تكتم الضحك بجواره واتخذت رُقية من المقعد الخلفي لسيارته مجلسًا .. وهو يشغل سيارته الفخمة أخذ يردد بصوت مسموع :
-الله اكبر الله اكبر .. سبحان الله سبحان الله ..
“سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ”
بسم الله توكلنا على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله.
كانت رُقية من حين لأخر تخطف نظرة إلى المرآة التي ينعكس فيهـا صورته ، شاب مُلتحي ، ذو وسامة تسحر أي فتاة تراه ، ملتزم متشدد لم يرفع عينيها إليها أبدًا .. أخذ الفضول يتأكل برأسها حول شخصيته وشخصية هيثم الذي يصنع الضحك ومعهم وصوت الغناء واللهو لا يُفارق سيارته ، والحلوى والمشروبات التي يستقبلهن بها .. تناقض عجيب ولذيذ يفوز به صاحب الأكثر هدوئًا والأكثر رزانة .. تحمحمت هاجر بجواره لتقطع الصمت السائد بينهم :
-هِلو ، عطشانة ..
رد باختصار :
-ابقي اشربي ببيتكم !!
-ليه هو حرام اشرب في الشارع ؟!
ود بنبرة تحمل السُخرية خالية من أي جدية وهو يمازحها بوقار :
-لعل وعسى يراك شابًا فُيفتنه شربك للماء !!
ردت بنفس نبرته الساخرة :
-وهو مستنيني أشرب ميه عشان يتفتن !! انزل هات لنا عصير وفطور .
-صفية عاملة وليمة لمين !!!
تلقى مداعبة أخته ببسمة خفيفة شقت النور بسواد لحياته لاحظتها رُقية فأشعل نوعًا آخر من الفضول حوله .. تحمحمت بخفوت وعزمت الأمر على ألا تُطالعه مرة ثانية ، على أن تتمادي وتتجاوز حدودها في مراقبته وهذا لا يتناسب مع نشأتها الأزهرية وختمها للقرآن الكريم تامة ، استغفرت الله بسرها ثم عادت لتناظر الطريق من النافذة .. كانت عيناه كل ما تُراقب الطريق من المرآة الأمامية يتعثر بملامحها الشاردة .. تكرر الأمر مرة واثنان وفي الثالثة أدرك لعنة ذلك العضو أن اتبع هواه و الذي دعا الرسول لأجله متبريًا من ذنبه قائلًا :
-ربي لا تلمني فيما لا أملك ..
أوقف سيارته فجاة فثارن الفتيات برجفة انتابتهم ، وقالت هاجر بفزع :
-في أيه يا هلال !!
تحمحم بخفوت وبأنظاره المتدليـة أردف بلكنته الفصيحة :
-أخت رُقيـة !! من فضلك انتقلي للمقعد الخلفي لهاجر !
تدخلت هاجر بعد فهم :
-ده ليه يعني !!
تنهد بلفظ الجلالة وقال متحججًا :
-العجلة الناحية دي نايمة !!
هبطت رقية من السيارة وهي تلعن ذلك الحظ الذي جمعها به وبعقده النفسية ، وقبل أن تنتقل للجهة الأخرى فحصت الإطار الذي يحتج به سليمًا لم يمسه خدشًا ، فغمغمت متحيرة :
-ماله ده كمان !!!!!!
تهامس مع أخته في ظل انتظار لعودة رقية التي هبطت لتنتقل للجهة الثانية :
-شايفة أهو بسببك اللعنة حلت على العربية .
مازحته أخته التي اعتادت على الضحك مع هاشم وهيثم والدلال على هارون ، وبخفة ظل دمدمت ساخرة :
-حقك علينا ، أبقى وديها زار .
-كله من الفاسد هيثم !!
برقت عينيه بغضب لا ينتهي ولكنه زفر مُتبعًا نصيحة الرسول صل الله عليه:
-إن غضب أحدكم فليصمت وليستعيذ بالله من الشيطان الرجيم .
•••••••••
~عودة لمنزل العزايزة ..
تقف ليلة تحت ظل الشجرة تتوسل أمها مرارًا وتكرارًا والعبرات تترقرق من مُقلتيها متجاهلة الضجة الكبيرة المُخيمة على المكان وتترجاها :
-مامي افهميني ، أديني اسبوع واحد بس .. والله أسبوع هأخد شوية صور وهرجع ، دي فرصتي الوحيدة ، بليز يا مامي .. سيبيني أجرب وبس المرة دي .
فرغت نادية من ارتداء ثوبها الطبي وقالت :
-انا مش واقفة ضدتك يا ليلة ، أنا اعتراضي على البلطجية اللي أنتِ قاعدة عندهم .
حاولت توضيح الفكرة لأمها :
-والله دول طيبين جدًا ، وأنا لو كنت حاسة بأي مشكلة كنت ههرب ، لكن دول مرحبين بيا وهيساعدوني ، بليز يا مامي .. ممكن تسيبيني المرة دي وبس..
فكرت نادية لبرهة ثم عقدت اتفاقها مع ابنتها بحزم كعادتها وشروطها المعهودة التي تبدأها بـ:
-تمام يا ليلة جربي ، بس لو فشلتي المرة هترجعي وتتجوزي شريف ومش هقبل أي دلع .. اتفقنا .
غمغمت على مضض غير مقتنعة ولكنها قبلت التحدي معها تلك المرة بشغف :
-بجد !! مامي وانا موافقة .. ان شاء الله مش هفشل انا قلبي حاسس إني هنجح وهشرفك وهابقي أشهر مذيعة في الوطن العربي ..
عادت نبرتها بنفس الحدة :
-اتفقنا يا ليلة ، فشلتي هترجعي لشريف ومفيش حلول تانية ..
انتهت مكالمتها مع أمها بارتياح ، أخيرًا انزاحت الغُمة و أمامها سبعة أيام فقط لتتبدل حالها من حال لحال .. اقترب منها هيثم بوجهه المُغازل :
-ما ليكي عليا يمين ، بيتنا عمره ما شاف النور والحلاوة دي غير بوجودك ..
ثم دار حولها بدون ما يمهلها فرصة للرد مُكملًا كلماته المحفوظة :
-يا صباح الخير متأخر ، يا عود والع متبخـر .. سألت عليك القمر قالي طول الليل نايم تشخر .
بضحكتها العالية التي دوت بساحة منزل العزايزة متناسية نفسها وهي تتمايل بدهشة ، كان هارون يبعدهم بمسافة كبيرة ولكن صوت ضحكتها جعلت رأسه تلتفت لعندها بأعينه الجاحظة خاصة عندما رأس أخيه يتساير معها :
-هيثم أنت قديم ولوكل !!! بس فظيع بجد !
شد ياقة جلبابه :
-عجبتك الدخلة !! عندي منها كتير كل يوم هسمعك واحدة !
لم تفرغ من غيبوبتها التي غرقت بها ، فأردفت بتنهيدات الضحك :
-أنتَ ازاي مش مرتبط لحد دلوقتي ، بجد في بنات كتير الجو ده بياكل معاها .
مد ذراعـه مستندًا على جذع الشجرة خلفها لتجد نفسها محاصرة تمامًا بينهمـا وهو يقول :
-وأنا مش عايز غير جوك ، جو اسكندراني على أبوه .
تصلبت تعابير وجهـها وبرقت عينيها عندما وجدته هارون واقفًا خلفه وهي ينفث دخان غضبه ، تناست كيف تكون الكلمات كيف تحذره ، كل ما فعلته التصقت بالشجرة خلفها ؛ فأتبع هيثم يبث شكواه من أخيه :
-هِرن ولد الـ*** قال لي لو قربت منك هيقتلني ، فـ أحنا نتخاصموا قدامه عشان أنا متعودتش أكسر كلمة كبيرنا ..
اتسعت ابتسامته حتى أكمل حديثه بنفس النبرة :
-يخفي هارون من قدامنا أنا كلي بتاعك يا أحلى ليلة في عمري .
غمغمت باسم وهي تراقب الشرار المتقاذف من أعين أخيه ، كادت أن تُخدره :
-هيثـم …
أكمل بحماقة :
-يا أحلى هيثم سمعتها في حياتي ..
أدركت أنه سيتمادى بالأمر فانحنت هاربة من تحت ذراعه الممتد كي تهرب من سطوه ، دار هيثم ليصطدم بأخيه الواقف كالصخرة وهي التي تراقبه بخوف يتقاذف من مُقلتيها ، رفع حاجبه متسائلًا بثقة :
-هِرن أنتَ هنا من ميتى !!
لم يجد ردًا من أخيه الذي طفح كيله من تصرفات أخيه العبثية ، فنظر لليلة معاتبًا :
-وأنتِ سيباني أبعبع زي الأهطل !!
ثم شد ياقة جلبابه متلقيًا عقاب أخيه :
-هِرن أنا مش هتربى غير لما اترن العلقة .. انا قدامك أهو .. اقتل فيّ لحد ما يبانلي صحاب.
انفجرت ليلة ضاحكة وهي تكتم الضحك بكفها فأشاد بإعجاب :
-الصلاة على الصلاة ..
تمالك هارون أعصابه بصعوبة واكتفي بنظرته الحادة وهو يأمره لانه لم يعتاد أن يمد يده على أخيه تحت أي ظرف :
-أنا قُلت ايه !!
ثم زفر بضيق واكتفي برفع حاجبه الأيسر الغاضب:
-حسابي معاك بعدين ، أمشي .
ثم دار لـ ليلة التي لم تتحمل تلك النظر من عينيه وقبل أن يبث ببنت شفة وهي تقف على هبوب خوفها قائلة :
-هيام .. هيام مستنياني في المطبخ .. هروح أشوفها ..
فرت من أمامه كالارنب فزفر دخان غضبه :
-هي ليلة غبرة على هارون واللي جابوا هارون .
ثم دار لهيثم الذي يتغزل بجمال ليـلة وبراءتها جاهرًا وهو يشمر أكمامه :
-هو دبور و زن على خراب عشه !!
~بالمطبخ ..
تغنجت زينـة متفاخرة وهي تضـع يدها بخصرها وتتمايل بين الخدم خاصة بعد انضمام ليلة لهما :
-والله الرك على النيـة ؛ ونيته ومراده واللي معششة جوه قلبه وعينه هي أنا ..
ثم أطالت النظر متعمدة إعلان ملكيتها له أمام ليلة :
-طلع دايب في حُبي وممبينش .. مش سهل هارون بردك .
رمقتها صفيـة بسخط متبعـة غيرة الحموات وهي تقرصها :
-خفي نبـر ، عشان شاريـة رضا الواد عنك بكوباية شاي .. إحنا ما صدقنا .
فتدخلت نجاة غير مصدقة :
-يعني خلاص !! العُقدة اتفكت وهنفرحوا بهارون يا عمتي !! طلع وشك حلو علينا يا ليلة .
مشاعر متشتتة خيمت على قلب ليلة لا تفهمها ولم تعٍ ترجمتها اكتفت بابتسامة هادئة ، كانت صفية مشغولة بقطف الملوخية على السُفرة ، فتنهدت بارتياح :
-العشيـة هنروحوا نتقدموا لزينة .. وربنا يحلها .
هنـا دخلت نغم التي استقبلتها زينة بكيد أنثوي :
-بت حلال يا نغم ، تعالي .. اسمع