رواية ليلة في منزل طير جارح الفصل الثالث 3 بقلم ياسمين عادل

رواية ليلة في منزل طير جارح الفصل الثالث 3 بقلم ياسمين عادل

رواية ليلة في منزل طير جارح الفصل الثالث 3 هى رواية من كتابة سوما العربي رواية ليلة في منزل طير جارح الفصل الثالث 3 صدر لاول مرة على موقع التواصل الاجتماعى فيسبوك رواية ليلة في منزل طير جارح الفصل الثالث 3 حقق تفاعل كبير على الفيسبوك لذلك سنعرض لكم رواية ليلة في منزل طير جارح الفصل الثالث 3

رواية ليلة في منزل طير جارح بقلم ياسمين عادل

رواية ليلة في منزل طير جارح الفصل الثالث 3

"نحنُ البشر كومة من الأسرار تسير على الأرض؛ ولن يُفشى السرّ إلا إن أراد صاحبهِ البوح به." 
_____________________________________
لم يفهم تحديدًا ما سبب وقوفها بجمودٍ هكذا بعدما كانت على عجالة للدخول إلى المركز، فـ ظل مراقبًا لها ولم يحيد عيناه عنها حتى رآها تعود بإتجاهه ركضًا، فـ استنبط إنها رأت شيئًا تسبب في عودتها إدراجها بهلعٍ، فأمر السائق بسرعة :
- أفتح الـ lock بتاع الأبواب.
ألغى السائق خاصية الأمان لقفل الأبواب، فـ فتحت الباب الخلفي بسرعة وركبت السيارة وهي تقول :
- أمشي بسرعة من هنا والنبي.
أشار "هاشم" لسائقهِ الذي سرعان ما لبّى رغبتها، وأثناء ذلك استطاع "هاشم" أن يلمح "حمدي" من مسافة بعيدة إلى حدٍ ما، فـ تفهم سبب ذعرها المفاجئ وتراجعها عن تنفيذ ما أتت لأجله، على ما يبدو أن الأمر جلل، وإلا ما عادت إليهِ بذلك الشكل، يكاد يسمع صوت أنفاسها اللاهثة المتلاحقة، فتضاعفت رغبته الفضولية في معرفة الشأن الخطير بينها وبين عائلتها. لم يتحدث إليها ولم يعقب على ما رآه، فقط تركها تستعيد اتزانها وحالتها الطبيعية، وهي صامتة تمامًا لم تصدر أي صوت، حتى تفاجئت بنفسها بين حصونهِ من جديد، تحاوطها أسوار قصرهِ المنيعة. أطرقت "رحيل" رأسها في خيبة، بعدما عادت دون أن تحقق شيئًا يُذكر، ولأنها عادت إلى هنا مجددًا، ليس لها أحد تذهب إليه، ولا منزل تلتجئ له. أشار "هاشم" للسائق فـ تفهم الأخير وغادر السيارة ليترك لهما مساحة من الخصوصية، فـ تصنّع "هاشم" وكأنه لا يعلم سبب عودتها، وسألها مباشرةً :
- إيه اللي رجعك مرة واحدة كده؟.
لم تدسّ الأمر عنه وصارحته بالحقيقة :
- شوفت عمي حمدي هناك، معرفش إيه اللي وداه المركز؟.. تفتكر حاجه تخصني؟.
تلوت شفتي "هاشم" وهو يجيب :
- معتقدش، هو مش محتاج يروح القسم يدور عليكي أو يبلغ إنك مختفية، أكيد فاهم إنك هربانة.
نظرت "رحيل" من حولها بتحرجٍ وهي تهتف :
- أروح فين دلوقتي!؟.. لازم ألاقي لوكاندة ولا بنسيون أقعد فيه يومين لحد ما الأمور تظبط معايا.
- بنسـيون إيـه ؟.
ترجل "هاشم" عن سيارتهِ ثم فتح بابها الخلفي وهو يقول :
- ياستي اعتبري هنا بنسيون 5 نجوم.
ترجلت عن السيارة وهي تتحدث إليه على استحياءٍ :
- ميصحش برضو، آ....
لم ينتظرها حتى تتمم كلماتها المعترضة وفرض عليها رأيه بلطافتهِ - المعتادة - :
- لأ يصح عادي جدًا.. شكلك واحدة متعلمة مش زي أغلب الناس اللي عايشين هنا، هتروحي بنسيون فيه ناس أغراب وهتعيشي وسط مجتمع غريب عنك، يعني هنا والبنسيون واحد، الفرق إن احنا جيران وانا أقدر أساعدك تتخطي مشكلتك.. ده لو انتي حابه.
أثار "هاشم" قليل من التحفز بداخلها، فسألته إن كان صادقًا بحقّ فيما يقول :
- فعلًا ممكن تساعدني؟.
لم يتردد في تجديد عرضه عليها مرة أخرى وبطريقة أكثر إلحاحًا :
- طبعًا، بس أعرف إيه طبيعة المشكلة اللي عندك وأكيد هكون معاكي لحد ما تتحل.. خلينا بس نعدي مسألة إنك خلاص هتفضلي مشرفة في بيتي المتواضع وبعدين نتغدا وبعد كده نتكلم في مشكلتك.
دنت منهم "حِراء" بعدما أشار إليها "هاشم"، فأمرها بجدية :
- وصلي الهانم أوضتها ولو محتاجة أي حاجه جهزيها ليها، وبعد كده شوفيها تحب تتغدى إيه وخلي الطباخ يجهز الغدا.
التفت إليها وهو يفسح الطريق أمامها لكي تمر :
- اتفضلي يا هانم.
ابتسمت بوداعةٍ وهي تمرّ من أمامه، حينئذٍ كان يقترب منه أحد رجالهِ المخلصين، والذي كلفه "مراد" للتقصي حول "رحيل" وما هي قصتها كاملة، ليسرد إليه ما توصّل إليه :
- أنا عرفت كل حاجه يا باشا.
سار "هاشم" برفقتهِ حول الحديقة وهو يستمع إليه مصغيًا بتركيز :
- أحكي.
- الست جوزها مات من تلات شهور، مات في الخناقة الكبيرة اللي حصلت بين عيلة الطحان وعيلة الحبشي، ورجع حسين الطحان هجم عليهم من تاني والخناقة وقع فيها ٥ رجالة من عند الحبشي قال يعني بياخدو تار حسن الطحان.
- حسن ده جوز الست مش كده ؟.
- بالظبط كده.. الشرطة فرضت حظر تجول، ومن ساعتها والبلد كلها مستنية رد عيلة الحبشي.
قطب "هاشم" جبينه بفضول أكبر وهو يسأله :
- وإيه دخل رحيل في كل ده؟.
- بعد موت جوزها حماها حبسهم ومنعها هي وأمها يرجعوا القاهرة، وكمان راح باع البيت بتاع ابنه هناك عشان تفضل قاعدة معاهم هنا.. مش كده وبس، عايزها تتجوز ابنه الكبير حسين وتفضل قاعدة هنا في وسطهم، ولحد دلوقتي أمها قاعدة هناك وزي ما تكون مش عارفه تخرج.. أصل الرجالة اللي بيحرسوا البيت زي الرز.
لحظات من الصمت، والتوقف عن السير، حتى عاد "هاشم" يقول له :
- عايزك تركز مع الموضوع ده وأي جديد تعرفني بيه.. ماشي؟.
- اللي تشوفه سعادتك.
على ما يبدو أن الأمر ليس بهذه السهولة التي تخيلها، وأن المواضيع تعقرطت وتدخلت فيها أطراف أخرى، كما تبين له الظلم الفاحش الواقع على "رحيل"، والذي دفع بها للهرب من بين براثنهم، للنجاة بنفسها من تلك الزيجة المكروهة بالنسبة لها، واعتبرتهم أعدائها للحد الذي سمح لها بالتفكير في اللجوء للقانون كي يحميها ووالدتها من بطشهم.
***************************************
كانت تجلس على سطح المنزل، عيناها تراقب قرص الشمس وهو يغيب عن السماء، قبيل أن تنسدل ستائر الليل فتغطي بسوادها كل الأرجاء. تحس في قلبها غصةٍ موحشة، وتتآكل بداخلها بخوف على ابنتها التي لم تعلم عنها شيئًا منذ الأمس، حتى لم تأخذ هاتفها معها كي تطمئن عليها.
أثار انتباهها صوت وقع أقدام على الأرض، فـ التفتت رأسها لترى "منال" تخطو نحوها، تلك السيدة زوجة "حسين" الأولى والتي ساعدتها في تهريب "رحيل" من أجل الخلاص من هذا الزواج. نهضت "جليلة" من مكانها تستقبل "منال" وهي تسألها :
- في جديد تحت يابنتي؟.
- لأ يا خالتي.. خلصت الغدا وقولت أطلع اطمن منك.. عرفتي حاجه عن رحيل؟.
تنهدت "جليلة" بتثاقلٍ وهي تشيح برأسها لليسار :
- لأ.. قلبي واكلني عليها أوي يا منال، لو كانت راحت المركز كان زمانا عرفنا حاجه عنها.
ذمّت "منال" على شفتيها بحنقٍ وهي تقول :
- أمممم.. وبعدين؟ هنعرف إزاي ؟.
- مش عارفه.
ثم التفتت إليها وربتت على كتفها بإمتنان وهي تقول :
- نسيت اشكرك على وقفتك معانا.. لولاكي مكنتش عرفت أخرج رحيل من هنا.
ابتسمت "منال" على مضضٍ وقد بينت الحقيقة وراء سعيها لتهريب "رحيل" :
- على إيه ياخالتي ما المصلحة واحدة.. رحيل تبقى سلفتي آه.. إنما ضرتي لأ معلش يعني، كفايه عليا التانية مش هيجيبلي التالتة كمان!.
زفرت "جليلة" وهي تكتم امتعاضها داخلها، ثم أردفت بـ :
- متقلقيش مش هيحصل، بنتي مش عايزة جواز تاني خلاص.
شبكت "منال" يداها بتهكمٍ وهي تقول :
- ياريت.. يلا انا هنزل عشان أحط الغدا، أبقي انزلي كلي معانا بقى يا خالتي.
غادرت "منال" حتى اختفت من أمامها، فـ عادت "جليلة" تنظر للشمس أمامها وهي تهمس بـ :
- أعوذ بالله، مبقاش إلا انتي كمان اللي هتكلمي يا منال!.. ده جوزك مصحيكي على علقة ومنيمك على علقة!، يارب ألطف ببنتي يارب.
*************************************
كانت تتطلع إليه وهو يتحدث في هاتفهِ، مدققة في كل تفاصيلهِ بفضول كبير، منتظرة أن ينتهي من تلك المحادثة لكي يتفرغ لسماعها. هو واحد من ذوى الصيت الواسع في البلدة كلها، على الرغم من إنه لا يتواجد هنا كثيرًا، إلا إنه سيرة بالكاد يعلمها الجميع. لم تتخيل قطّ إنه شاب يافع في ريعان عمره، ظنتّهُ عجوزًا كبيرًا أو رجلًا تخطى أعتاب الخمسين من العمر؛  لكنه بالكاد لم يصل حتى لنهاية الثلاثينات. راقي.. وسيم.. لبق.. مهذب.. لا ينطلي عليها الآن كل السمات التي سمعت بها من قبل عنه، ولم تصدق أن ذلك الرجل هو الذي شاعت سيرته بكل سوء في منزلهم. 
أخفضت بصرها عنه وتنحنحت وهي تهمس :
- منك لله يا عمي.. حتى الراجل الغريب شوهت صورته قدامنا كلنا!. 
نزلت أنظارها عنه قليلًا، فوقعت على شيئًا ملفت للنظر، كان يرتدي خاتم بنقشة غريبة، يحمل فصّ أسود كبير وعلى حوافهِ ثعبان من الفضة، مع التدقيق في شكلهِ يوحي بمغزى مريب ومُقلق، لا يليق أبدًا بشخصيته الودودة اللطيفة التي هو عليها، شكله غريب وكأن له قصة معينة، ولم تنتبه لنفسها وهي تحدق في خاتمه إلا وهو يبتر شرودها مشيرًا بيدهٍ في الهواء :
- رحيل هانم؟.. سمعاني؟. 
انتبهت للتو إنها علقت بعيناها على خاتمه، وسرعان ما عادت لأدراكها وهي تجيب :
- أيوة.. معاك. 
قطب جبينه وقد استرعى انتباهه نظراتها الغريبة له، فسألها :
- بتبصيلي كده ليه!. 
كانت تلقائية للحد الذي لم يتخيله في جوابها :
- بتفرج عليك. 
انطلقت ضحكة من بين شفاهه حتى التمعت عيناه لمعةٍ غريبة، فعادت تصحح كلمتها فورًا :
- مش قصدي.. يعني أقصد إن كان ليك صورة تانية خالص في دماغي. 
شبك أصابعهِ معًا وهو يسألها بفضول :
- إزاي مش فاهم!. 
فسّرت له نبذة عن الصورة التي تخيلته بها :
- يعني افتكرتك أكبر وأوحش من كده.. عمي كارهك من زمان أوي، وكل ما تيجي سيرتك كأن شيطان مسكه.. متخيلتش إن اللي مضايقة بالشكل ده واحد جدع زيك.
تناولت مسامع "مراد" تلك العبارة المدهشة، فأراد أن يشارك برأيه في تلك المحادثة التي طالت أكثر من اللازم :
- شكلك كده غاوية أحكام مسبقة.
ثم وجه حديثه لـ "هاشم" وهو يقول :
- يلا نتغدا لأني محتاج أنزل القاهرة بعد ساعة من دلوقتي.
أومأ "هاشم" رأسه وهو يستعد للنهوض :
- اتفضلي ياهانم.
نهضت "رحيل" عن مكانها وهي تسأله بتوجسٍ :
- هو قصده إيه؟.
ابتسم "هاشم" وهو يجيب بنفس هدوءه :
- متشغليش بالك، المهم كملي، إحنا وقفنا على إن جوزك الله يرحمه دخل في الخناقة بهدف إنه يهدي الدنيا ويوصلوا لحل، وبعدين؟.
كانت نبرتها حزينة بشكلٍ واضح، وهي تتحدث عن زوجها الفقيد الذي لم تهنأ بزواجها منه سوى أقل من عام واحد :
- حسن مش بتاع مشاكل ولا خِناقات زي أخوه، بس منه لله حسين هو اللي جرجره في الخناقة دي لحد ما راح.. احنا كنا جايين زيارة كام يوم وهنرجع القاهرة تاني، مكنتش اعرف إنها زيارة بلا رجعة.
تحشرج صوتها مع الكلمة الأخيرة، كأن بادرة بكاء في طريقها إليها، فتوقف "هاشم" عن السير وأخرج من جيبه منديل ورقي ليناولها إياه ونظراته إليها كلها شفقة، ثم حاول أن يواسيها في مصابها الحزين :
- البقاء لله، ربنا يرحمه.
مسحت "رحيل" عيناها التي احمرت على الفور، واستشعرت توهج بشرتها وسخونة شديدة تخرج من صدرها وكأنها براكين تنبعث من بين ضلوعها، فتركت نفسها تسترسل في سرد قصتها الحزينة عليه، بصوتٍ باكي منفعل وكأنها تنفث عن طاقة الغضب الهائلة المكتومة بداخلها :
- وعمي مش مكفيه إنهم خدوا جوزي من حضني، كمان عايز يحرمني من أبسط حقوقي، مش عايز يديني ورثي من جوزي.. وانا محلتيش حاجه أعيش منها أنا وأمي، وعايز يجوزني حسين بالعافية، وكمان راح باع بيتنا اللي في القاهرة بالتوكيل اللي معاه من حسن الله يرحمه عشان يجبرني انا وأمي نعيش هنا معاه وتحت عينه.. أنا مش عارفه هعمل إيه لو القانون مجابليش حقي منه!.. حتى الإيراد اللي كنا بناخده كل شهر من الدكاكين والمحلات منعه عننا.
لم يطيق "هاشم" سماع ظلم آخر، فتلونت بشرتهِ بحُمرة مكتومة، ومنع نفسه بصعوبة لئلا ينجرف بمشاعرهِ المنفعلة وراء الغضب الذي تشكل داخله، ولم يدخر وسعهُ في عرض خدماته عليها لأنقاذها من ذلك الظلم البيّن :
- قوليلي إزاي أقدر أساعدك.. أنا ممكن أتدخل بنفسي واجيبلك حقك لحد عندك لو عايزة، أديني انتي بس أشارة وشوفي بنفسك.
سكت صوت بكاءها فجأة، وبرقت عيناها المغلفة بلمعان الدموع وهي تسأله :
- فعلًا تقدر ؟؟.. إزاي ؟.
لمست الصدق في صوته ونظرته وحتى إيماءات جسدهِ المتفاعلة معها :
- دي بتاعتي أنا ملكيش دعوة إزاي، لكن كل حاجه ليها عواقب.
مسحت وجهها الغارق في الدموع، وتحفزت أكثر لمعرفة الخطة التي يفكر فيها :
- يعني إيه ؟.
صارحها في النهاية بالنتيجة الحتمية التي سيؤدي لها تدخله هو تحديدًا في الأمر :
- يعني هتنسي أهلك دول خالص.. ولا هيعرفوكي ولا تعرفيهم، اللي هعمله مش هيخليهم يغفروا ليكي أي حاجه، لكن اللي أقدر أضمنه ليكي إن محدش هيقدر يتعرضلك بعد كده منهم.
كان عرضهِ يستحق التفكير بحق، فهي بأشد حاجه للخلاص من هذا الظلام الذي وقعت فيه، بعدما شاء القدر أن يسلبها زوجها، أمانها الوحيد الذي كانت تلتجئ إليه، الوحيد الذي لم يحمل أية صفات أو خِصال من دماء آل الطحان. تلجلج عقلها ما بين التفكير في الموافقة من عدمها، حتى رأى هو ذلك الشتات البيّن في عيناها ، فخلّصها من ذلك التشتت بلباقته ليقول :
- طيب ممكن تفكري براحتك وقوليلي رأيك بعدين، أنا تحت أمرك في أي حاجه.
أومأت رأسها بالموافقة وهي تمر من أمامهِ، بعدما بات عقلها حبيس التفكير في العرض المغري خاصتهِ، أيعقل إنه يستطيع تخليصها مما وقعت فيه؟.. هل هو صادق لهذه الدرجة التي ستُخلصها منهم جميعًا؟!.. وما هو شكل العواقب التي ستتبع فكرته الجريئة تلك؟.. بالطبع ستخسر عائلتها بالكامل؛ ولكن ما الذي ستخسره أيضًا في رحلتها للبحث عن حقٍ ضاع بين غياهب الظُلم البيّن؟. 
**************************************
اجتمعت العائلة كلها على المائدة، يتناولون أشكال وألوان من أطيب الأطعمة الساخنة، فيما عدا تلك البدينة التي ملأ السُم صدرها، وأرادت أن تبصقهُ في وجه أي أحد للتخلص من حالتها العصبية تلك. تناقلت نظراتها بين أبنائها "حسين" و "علي"، ثم على بناتها "تيسير" و "هاجر". تلوت شفتاها بحنق وأشاحت بصرها عن الجميع وهي تردف ساخرة :
- بيت فيه رجالة يسدو عين الشمس مش عارفين نوصل لحتة بت مفعوصة لا راحت ولا جت، ليها يومين غايبة عن البيت وكلنا حاطين ايدينا على خدنا!.
تأفف "حمدي" بإنزعاجٍ جعله يترك اللحم من يده ويتفرغ للنظر المحتقن إليها :
- مش هتهنى على اللقمة ولا إيه؟؟.. ما قولتلك لو راحت آخر بلاد المسلمين مسيرها ترجع، ملهاش غيرنا، أنا قفلت عليها هي وأمها الدنيا كلها، سيبيني أطفح اللقمة بقى.
تلوت شفتي "تيسير" وهي تردد بحنقٍ :
- متشغليش بالك ياست الكل، هتيجي على حجرنا يعني هتيجي على حجرنا، هي ليها حد هي وأمها غيرنا؟!. 
ابتلع "حسين" الطعام الذي يلوكهُ بين أسنانهِ، ثم نظر بإتجاه والدتهِ التي كانت تنظر إليه ليطمئنها بحقيقة نواياه الخبيثة التي يضمرها لتلك الضعيفة :
- متخافيش ياما، اللي عايزينه هو بس اللي هيحصل، ولما تقع تحت إيدي هخلص منها القديم والجديد، هعرفها إزاي تهرب من بيت عمها بنت الـ **** دي.. هعرفها كمان إن حسين مش طيب زي حسن ومش هتقدر تركبه.
توقفت "هدير" عن تناول الطعام، ونظرات الحسرة في عينيها تتوزع ما بين زوجها وأمه، يكاد قلبها ينفطر من شدة حزنها، كلما تخيلت إنه قد يتزوج عليها تتضاعف مشاعر القهر المكتومة بين ضلوعها التي لم تعد تسع حتى أنفاسها فضاقت عليها. نهضت عن مجلسها وكادت تغادر لولا صوته الجهوري الذي ناداها بحزمٍ :
- رايحة فين ياهدير؟؟ من أمتى بتقومي من عـ الأكل قبلي؟!.. شكلك خرفتي ولا إيه؟.
تحرجت من إهانته لها وسط أهله وأمام زوجته الأولى، فـ أخفضت نظراتها عنه وهي تقول :
- تعبانه شويه و.....
قاطعها بصرامةٍ أكبر وهو يزعق فيها بأعلى صوته :
- تعبانه ولا ميتة.. أترزعي مكانك وآخر مرة تعمليها، فاهماني؟.
أومأت رأسها بخنوعٍ، وعادت تجلس مكانها بإنكسارٍ لا تقوَ على رفع عينيها أمام أحد، بينما كانت "منال" تتناول بشراهةٍ وكأنها لا تهتم بما يجري، هي في الأساس تعلم أن ما يتحدثون عنه لن يحدث، وإنها قادرة على فعل أي شئ يتوجب عليها للحفاظ على بيتها وزواجها، هذا الأمر الذي جعل "حسين" يفهم إنها راضية تمامًا عن زواجه الثالث.
نظرت "سعاد" إلى ولدها "علي"، ذلك الشاب الصغير الذي تشبه كثيرًا بصفات "حسن"، ودود وهادئ، مرح وليّن، ويحب إبنة عمهِ "رحيل" كثيرًا، السبب الذي جعله لا يتدخل ضمن حوارهم المرفوض بالنسبة له؛ لهذا حدجتهُ "سعاد" بغيظٍ مكتوم، وهتفت بإنفعال :
- طول عمري عارفه إن تربية عمكم ليكم وسفركم معاه مصر هتفسدكم، أنت وأخوك طلعتوا شبه المرحوم وبنته، وأخرتها محدش فيكوا نصفني.
ابتسم "علي" دون أن يتمادى في ابتسامتهِ لئلا يثير مشاعرها الغضبانة، ثم قال بهدوءهِ المعتاد :
- ما حسين معاكي أهو ياما وقايم بالواجب وزيادة، وبعدين قولتلك قبل كده أنا مش موافق على اللي حاصل، عشان كده مش هتدخل فيه.
ثم ترك ملعقته وصوّب كامل أنظارهِ الحانقة إليها وهو يسألها :
- عايزة تقولي حاجه تاني ياما ولا تسيبيني أكمل أحسن؟.
ألقت "سعاد" لقمة الخبز من يدها ونهضت وهي تقول :
- أخس على خلفتي اللي تعرّ.. اللهي اللي ما يريحني عمره ما يرتاح ولا يتهنى.
تأفف "حمدي" وهو يشمل الجالسين كلهم بنظراتهِ المتبرمة، ثم هتف منزعجًا :
- ما تريحوها لحد ما نعمل اللي احنا عايزينه، مش ناقصين نكد أمكم اللي مش بيخلص ده.
تركت "جليلة" تلصصها عليهم، وراحت تهرع للإختفاء قبيل أن تواجه تلك البغيضة فـ تختلق معها مشكلة أخرى، فهي تهوى المشاجرات والمشاحنات كأنها تجري في عروقها. بدأت "سعاد" تصعد الدرج الخشبي القديم في تؤودةٍ، ومازالت تُتمتم بكلماتها المزعجة، بينما عينا "جليلة" تراقبها من بعيد حتى أختفت، ثم همست بخفوتٍ :
- ربنا ينتقم منك، انتي السبب في كل اللي احنا فيه.
سارت "جليلة" بحذر شديد نحو الباب، فتحته دون أن تصدر أي جلبة من حولها، ثم اخترقت بنظراتها الخارج في استكشاف، لترى أولئك الرجال الذين أستأجرهم "حمدي" لحراسة البيت، منتشرين في كل مكان لئلا يسمحوا بخروج أي مخلوق دون أذنه، وبذلك هي محاصرة بينهم حتى تأتي فرصة تتيح لها التملص من بين مخالبهم والنجاة من هذا المستنقع، لأجل غير مسمى.
*************************************
فُتحت البوابة في تلك الساعة المتأخرة من الليل، وعبرت منها إحدى سياراتهِ العملاقة، حينما كان يقف هو آخر الممر منتظرًا إياها، وعلى محياه تلك الإبتسامة المتحمسة الشغوفة. ترجل السائق وفتح الباب الخلفي، نزلت عن السيارة تلك الفتاة الصغيرة ذات الأربعة أعوام، ونظرت حولها بشدوهٍ إلى أن وقعت أنظارها على والدها الحبيب، فـ انبعجت شفتيها بسعادةٍ وهي تركض نحوه مناديه عليه :
- دادي دادي.
انحنى "هاشم" ليكون في مستوى طولها الصغير، وفتح إليها ذراعيهِ وهو يقول :
- روح قلب دادي.
والتقطها بين أحضانهِ ثم حملها عن الأرض وهو يتابع :
- لو تعرفي انتي وحشتي دادي قد إيه مش هتصدقي.
عانقتهُ بعفوية شديدة متمسكة به گأنها تخشى فقدانهِ، ثم عقبّت على عبارته الأخيرة قائلة بتلقائية مرحة :
- لأ هصدقك، أنت مش بتكدب عليا أبدًا.
ضحك "هاشم" مستمتعًا بوجودها بين أحضانهِ، وبمرحها الذي ينقله لعالم آخر، حينئذٍ كانت عينين فضوليتين تراقب ما يحدث، ولم تستطع مقاومة الإلحاح بالمعرفة الذي سيطر على ذهنها، فسألت "عبير" التي كانت تغير شراشف فراشها بالداخل :
- عبير.. ممكن تيجي ثواني.
أقبلت عليها "عبير" حيث كانت "رحيل" تقف أمام النافذة، فأشارت "رحيل" إلى الأسفل وهي تسألها :
- هي مين البنوتة الصغيرة دي ؟.
ابتسمت "عبير" وقد أشرق وجهها مع رؤية الصغيرة :
- دي ليلى هانم الصغيرة، بنت البيه الكبير.
أرتسمت علامات الدهشة على وجه "رحيل" وهمست بخفوت :
- بنتـه !.

انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لجروب الواتساب اضغط هنا