رواية اصرة العزايزة هارون وليلة الفصل الـ 22 و 23 بقلم نهال مصطفي
رواية اصرة العزايزة هارون وليلة الفصل الـ 22 و 23 هى رواية من كتابة نهال مصطفي رواية اصرة العزايزة هارون وليلة الفصل الـ 22 و 23 صدر لاول مرة على موقع التواصل الاجتماعى فيسبوك رواية اصرة العزايزة هارون وليلة الفصل الـ 22 و 23 حقق تفاعل كبير على الفيسبوك لذلك سنعرض لكم رواية اصرة العزايزة هارون وليلة الفصل الـ 22 و 23
رواية اصرة العزايزة هارون وليلة الفصل الـ 22 و 23
💫 الآصرة الثانية والعشرون 💫
قد يحدث ويتركك الجميع بدون سابق إنذار ..
وتتقبل الأمر بقلب مؤمن يؤكد لك لو كان خيرًا لبقى ..
وقد تُغادرك كل الأشياء التي أحببتها..
فتصبر وتحتسب وتعلق خيبتك على شماعة النصيب ..
وتستمر الحياة و لا تبالي ولن تلتفت للخلف كأن ما تسرب من حياتك مجرد حبات رملية لا أكثر ؛ ولكن عندما حلت الطعنة الكبرى منك ، أنتَ الذي انحصرت معالم الحياة برُمتها بكونه هنا معي !! و من حينها و أنا فارغ تمامًا فارغٌ وأكثر وحشةً من باب بيتٍ مهجور يخشى العنكبوت أن يسكنـه …
كنت راضيـة بكافة الهزائم وشتى الخسائر إلا أنت .. يا ليتك بقيت وبقي ما بيننا لآخر العُمر …
ولكن لم يتبقى لي منك إلا الحسرة والكثير من الشوق ..
#نهال_مصطفى .
••••••••••••
((كُل إنسان مرسوم على وجهه حِملُه))
وقِيل:
أن الغربةُ لا تقتصر على الفراق؛ بل تجدُ نفسَك غريبًّا بتغيُّرِ النفوسِ عليك، وبجَفوةِ الكلامِ بعد لِينِه، وبالتجهُّم بعدَ البشاشة .. بهتت ملامح ليلة التي تراقب ذلك الشخص الثائر بوجهها والذي لم تتوقع هذا التصرف منه أبدًا لتقول بأعين دامعة:
-أنا عملت أيه ؟!
أصابت الرعشات جسدها الذي يصارع المرض ويحارب تخلصه من الأدوية السامة التي تقتل كل خليه بـه لتكرر سؤالها بصورة أكثر خوفًا عندما تعرقلت بنظراته التي تأكلها :
-ماتبصليش كده !! أنا معملتش حاجة والله ، آكيد أنت فاهم غلط ..
تدخلت أحلام بينهما :
-حصل أيه يا هارون يا ولدي ، مالك بيها !
ما زال محافظًا على هيئته الثائرة التي لم تلتفت لحالة الذعر التي بدأت تركض على ملامحها :
-بدأنا في الكِدب ؛ يعني متعرفيش عملتي ايه ؟!! عملتي اللي چيتي عشانهُ !!
ثم نظر لأحلام التي تربت على كتفه وأكمل بحرقة على خداعـه بها :
-الاستاذة سربت خبر اللي حُصل لرقية في الجرانين و البچاحة كاتبـة اسمها على الخبر !!
نزلت الصاعقة على رأسها محاولة استيعاب ما قاله وما اتهمها به وهي لم تقترف ذنبًا ، اقتربت منه بصوت متحشرج وهي تجلي حلقها :
-أنا مش فاهمة أي حاجة !! خبر أيه وأنا هعمل كده ليـه أصلًا !!
ثم تمسكت برأسهـا التي ضربها الصداع بقوة وأغرورقت عينيها بالعبرات :
-أنا معملتش حاجة والله !!أنا مش بكذب عليك ..
وقف كالثور الطائح بكل ما يقابله جاهرًا بصوت ارتعدت له الجدران وهو يفتح هاتفه ليوريها المقال :
-واسم ليلة سامح الجوهري اللي مغرق المقالات !!! الحركات دي تعمليها على حد غيري ولحدت إهنه يا بت الناس مالكيش عيش في بيتي ..وشوفي وكل عيشك بعيد عنينا.
تدخلت صفية التي تعول فوق رأسها :
-وه يا بتي نمدولك يدنا ونفتحولك بيتنا وأنت تفضحينا .. ديه آخر الزمان !!
فأكملت زينة التي تعشق موالد اللطم :
-قولت لك دي كهينة يا عمة محدش صدقني !!أهي چابت وحطت على روسنـا .
ثم نظرت لهارون الذي رق قلبـه وأكملت :
-هارون دي لازمًا نتاويها في الچبل ، دي خاينة .. ملهاش عيش في دوارنا .
جرى صدى صوت اسمها بمسامع أحلام التي ردت اسم الجوهري كثيرًا وظلت تتأمل بربط الصلة بينها وبين " رفعت الجوهري " غاصت في دوامة فكرها ،جاء هيثم راكضًا بعد ما اطلع على الحدث وما وقع عليهما ليقف بصف ليلة التي أحس بأن هناك شيء مبهم ورائه ، جاء راكضًا من الخلف ممسكًا بكتف أخيه :
-هارون ما يمكن حركة من بتوع شريف أبو العلا .. نجس ويعملها .
ولكن ليلة التي غرس الخوف أنيابه بين خلاياها العصبية وهي تخر دموع عينيها لتقف مدافعة عن نفسها بنبرتها المهزوزة وهي تعطي له هاتفه بعد إطلاعها على المقال :
-أنا لو عايزة أعمل كده وأشهر بيكم في الجرايد زي مابتقول ، مش هعمل كده وأنا قاعدة لسه في بيتك !! وبعدين هعمل كده ازاي وأنا اللي اترجيتك عشان تقف مع المسكينة دي !!معقولة هقوم افضحها !!
ثم تلعثمت قطرات الدمع التي رسيت على حواف ثغرها وهي تلوح بكفها المرتعش وأكملت :
-لو هعمل كده مش هكتب اسمي على المقال !! وانا لو كنت عايزة اشهر بيك زي ما بتقول كنت سربت خبر أنكم بتاجروا في الآثار للدنيا كلها، لكن أنا طلعت هبلة وكنت هودي نفسي في داهية عشانك ..
ثم كفكفت عبراتها بهستيريا وهي لا ترى إلا ضباب أمامهـا :
-ومتقلقش يا هارون بيـه أنا ماشية ، ومش هتشوف وشي تاني ..
ثم ترجته بعينيها المحمرة وقالت بهمس يخاطب عينيه وحده :
-بس أنا والله معملتش كده .. ومش أنا اللي أخون ناس أكلت في بيتهم عيش وملح .
تشبثت أحلام بكفها وكأن قلبها أوحى لها بأنها عثرت عما تبحث عنه طوال الأعوام الماضية لتهون العيش على زوجها الذي كان يحمل وزرها عمرًا .. وواجهت هارون :
-ليلة مش هتمشي يا هارون ، وهي ضيفة خليفة العزايزي ، لما يرجع أبقا يحكم بنفسه ..
نبتت زهور الرقة بقلبه ولكن حشتها خناجر تمرده التي لا تود أن تشفق عليها خوفًا من عاقبة قلبه وراء انسياقه لحديثها يكفي أنها شجعته يقف بوجـه أعرافهم لأول مرة بحياته .. تزحزحت عينيها عنه وهي تتطلع لأحلام بخزى :
-أنا ماشية يا طنت .. ملهوش لزوم .
تدخلت زينة بحنق وهي تربت على كتف هارون بشماتة :
-عين العقل يا عمدة ، من يوم ما چات وأنا أقول لك البت دي مفيش من تحت راسها عمار .. وو
حدجها هارون بحدة :
-مش عاوز أسمع ولا كلمة ..اكتمي يا زينة .
فعارضه هيثم :
-هارون، ما ينفعش .. دي ضيفة يا أخي ؟؟
صرخ بوجه أخيه وهو يتحاشى النظر إليهـا :
-هيثم ، كلمتي اتقالت ومحدش هيكسرها ، تقعدش في بيتي ساعة زيادة ..
كيف يكون المرء سببًا في إنقاذِ أحدِهم من ضياعِ النفسِ، وكلالةِ الروحِ وتقديم وسام العيش وفجأة يجعله يتجرع السُم بدون رحمة ليقضي على كل ما قدمه ، كيف !!
دب خنجر إهانته لها بصميم قلبها فقسمه لنصفين ، حُجبت الرؤية أمامها فلا ترى إلا أمواج متحركة وصوت صاخب يضرب برأسها ، اختل اتزانها وضعفت قواها ومع أول خطوة لها لتغادر موطن ذُلها من أمامه تراقصت جفونها السابحة في بِركة الدمع لتسقط متغيبة عن وعيها فكانت يديه أول الأيدي التي تلقتها قبل أن يرتطم جسدها بالأرض .. ألتهمها ذراعه من خصرها تحت صراخ أصوات النسوة حوله فحملها بدون تفكيـر وركض بها نحو غرفة أحلام بقلب يلهج خوفًا ، لحقت بهِ هيام التي جاءت على أصواتهم المرتفعة ثم هيثم ثم لحقت بهم أحلام التي تسير بخطوات عرجاء .. ولت زينة لعمتها بغل :
-شايفة الكهن يا عمتي !! هي اتعودت على اللفح ولا ايه حكايتها دِّي !! شوفتي ولدك اتلقاها كييف على قلبه هو مش لساته كارشها !!
صرخت صفية بوجهها :
-خفي نغج يا زينة ، راسي فيها اللي مكفيها بعد اللي عملتو البت دي !! خلت سيرتنا على كل لسان … وياعالم مخبية أيه تاني؟!
ضربت زينة على فخذها بغيظ :
-وربنا المعبود البت دي قدمها نحس و چاية وناوية على خراب وابقي قولي زينة قالتها ياعمة ….
صاحت صفية بغلب :
-يكش تموت وتچيبلنـا نصيـبة هي التانية قوليلو يمشيها ونخلصوا …
وصل هارون لسريـر " أحلام " وهو يصرخ بهيثم أن يهاتف الطبيب على الفور ، انحنى ليضعها بمكانها وهو يلهث من شدة الخوف عما أصابها ويعاتب نفسه عن انفعاله بوجهها وإهانته .. انسحب ذراعها من حول رقبته ببطء وكل جزء بها ثابت إلا انهيار وادٍ العين المنجرف على خديها، وقعت عيناه على رقة ملامحها النائمة فنهشت قلبـه ندمًا وعتبًا ، جلست هيام بالناحية الآخرى وهي تتحسس وجهها وكفوفها لتقول :
-هارون دي چسمها متلچ !!
شد الغطاء فوقها فساعدته هيام ، ثم أمرها :
-هاتي غطى تاني من الدِلاب عندك ..
جاء هيثم راكضًا وهو يقول :
-عمار قال ادوها من الدوا اللي كتبه لحدت ما يچي ..
ألقى هارون نظرة شفقة على ملاكه النائم الذي استقوى عليه اليوم وهذا آخر ما كان يتوقعه أن يصدر منه لها ، في معجم الصمت كل نظرة نحو الألم تعادل صرخة ، جهر بوجه هيثم آمرًا :
-كلم أخوك هاشم واعرف لي مين ورا الخبر ديه يا هيثم ..
وبخه بضيق :
-ما كان من اللول ، ولا هي جعجعة وخلاص !!
انضمت أحلام لموقفهم لتُطيل النظر بعيني هارون التي تُبحر ندمًا وتقول بيقين وهي تربت على كتفه :
-البت غلبانة ومتعملهاش يا ولدي !! اسمع من أحلام .
اكتفى بقوله :
-خلي بالك منيها يا أحلام لحدت ما الداكتور يچي ..
ثم هرب من سطو نظرات أحلام التي تفضح أسراره المدفونة قبل أن يعرفها هو عن نفسـه ، تابعه هيثم وهو يوصي هيام :
-لما تفوق كلميني …
فنظر لأحلام بحنق :
-بذمتك قده البت الغلبانة دي عشان يخش فيها زي القطر إكده .. قده يا أحلام وقد هباته وچُعارته !!!
ردت أحلام مغلوبة على أمرها :
-ساعة شيطان يا حبيبي ، روح استعچل الداكتور البت حالها يقطع القلب ..
ولن أجنِ بحياتي ذنبًا إلا أنَّي ذو سُلطان
وأنَّكَ لي دُونَ الأنام مُحرمًا !
إعذرن ذلي وزلاتي فالخطأ في عرفي لا يرحمُ ..
بحزن لا يشبه الغيـم ، يحترف فيه البكاء بدون دمع وهو يعض على قلبه ندمًا إثر تهوره واندفاعه بوجهها دون تيقنه ، ربما لأن الصدمة لم تمهله فرصة للتفكير ، أو ربما كان عقله يحتج له كي يتخلص من وجودها قبل تورطه فيها وفي عينيها ، خرج لحديقة منزله وهو يتشاجـر مع طوب الأرض ويركله هنا وهناك ويقبض على جمر الذنب كمن بقلبه النار وبفمه الوقود وهو يحترق بينهما …..
•••••••••
فرغ هِلال من إجراءات عقد قرآنه بواسطة شيخه الأكبر ومُعلمه ، تكفل كبير المشايخ بوكالة العروس ليجوزها له في ظل وجود الحكومة التي شلت كلمة المجلس ، وفي ظل هروب بكر الذي لم يعثروا عليه حتى الآن .. فجميع السُبل هيئت العروسين لبعضهما ..
أصرت رقية أن تعود لمنزلهـا رافضـة أمر الذهاب مع هلال وأهله ، فأطاع أمرها بهدوء في ظل المجلس بعد ما أكد على أخوته بألا يخبرون أهل بيته الآن .. وصل الجميـع لبيت أبيها وتحرر هلال من قيد التطلع لها بحرية فالآن أصبحت زوجته وملكه ولا تخص أحد غيره ..
جلست رقية على الأريكة وهي تتحاشى النظر نهائيًا لهلال الذي لم يخجل لإطالة النظر إليهـا .. اقتربت خالتها منها وهي تحدثها بحنو :
-يابتي الله يهديكي ، قومي روحي مع چوزك ، هتقعدي لروحك إهنه كيف !!
فأكملت هاجر :
-حبيبتي ، قومي نروحوا بيتنا وأنت هتقعدي في أوضتي متخافيش وكُلها يومين وهنرجعوا أسيوط ، لكن قُعادك لروحك إهنه غلط عليكي ..
أصرت على موقفها والدمع يتقطر من مُقلتيها :
-أنا مش هسيب بيت أبوي يا هاجر .. وو
ثم رفعت جفونها لهلال الواقف كالحصن المنيع بوجهها وأكملت بارتباك :
-ووافقت على چوازي بس لغاية الغُمة دي ما تنزاح ، أنا مش هقدر أقف بطولي وو بس لكل شيء له آخر ..
عقد ذراعيه وراء ظهره بهدوء متقبلًا تلميحاتها الثقيلة بسعة صدر وقال بنبرة حازمة :
-هاجر خدي خالتك أم بدر وأطلعوا هاتوا حاجات رقية من فوق ..
وقفت رقية بوجهه لتعارضه بنبرة مدبوحة تحمل التمرد والترمد في جمر الحزن :
-أنا مش هروح لحتـة قُلت ..
رفع حاجبه بتريث ليحدثها بالعربية واللغة المقربة لقلبه كأنه يعلن بكناية ما عن درجة قربها له :
-حسنًا ؛ سنبقى هنـا .
ثم نظر لهاجر وخالتها بنظرة ثاقبة وهو يمد لها مفتاح السيارة :
-هاجر خدي أم بدر وخلي حد يوصلكم للبيت.
ثم رمق رقية بتلك النظرة الحاسمة :
-على أي حال ؛ أنا لا أفارق زوجتي ..
تأرجحت عيني هاجر التي تكتم الضحك الغير مناسب للوقف وهي تهمس لنفسها سرًا من وراء أناملها الموضوعة على شِدقها :
-فينك يا صفيـة تشوفي الهنا اللي أنا فيه …
انفجرت رقية بوجهه بارتباك واضح :
-كييف يعني !! أنا وأنت نقعدوا بروحنا !! مستحيل ..
ثم تلعثمت الكلمات بحلقها :
-شيخ هلال ؛ لازمًا تعرف أن الوضع ديه مؤقت ،فبلاش تعيش في الدور ..
ثم نظرت لهاجـر وقالت بضيق وهي تزيح عبرات حزنها :
-هاچر خدي أخوكي وروحي أنا اللي فيّ مكفيني والله ما قادرة أناهد قباله ..
كادت هاجر أن تتحدث فابتلعت كلمتها إثر نظرة أخيها الحادة وهو يرفع سبابته لينهي الأمر ويناديها باسمها رافعًا تكليفها بـ لقب الأخت :
-رقية ؛ هناك أمران ليس لهما ثالث ..
ثم تقدم منها خطوة وهو يفترس ملامحها الحزينة والتي يود أن يضمها ليهون عليها عناء ما مرت به :
-أما تيچي معاي على بيتي ، يا أما هاجر وخالتك هيمشوا ومحدش هيقعد معاكي غيري ..
انفجرت بوجهه وهي تتأهب للبكاء معاتبة :
-أنا اتچوزتك عشان الحِمل يخف من فوق قلبي مش تزوده ..
-الحِمل وصاحبته مسئوليتي لا تتدخلين بالأمر ..
اتسع بؤبؤ عيني هاجر التي تراقب أخيها في ثوبه الجديد فأرسلت له نظرة ضاحكة وساخرة على أمره فاستقبلها بنظرة حادة من عينيه أخرستها وملئتها رعبًا لتقول بقلق:
-فضينـا عاد يا رقية متعصبهوش ، يا تيچي ، يا يقعد .. شيخنا خُلق ضيق وما عيحبش المناهدة ..
تدخلت خالتها متوسلة وهي تربت على كتفها :
-أنا حاسة بوچعك يا حبيبتي ، بس الشيخ هلال چوزك وهو الأولى بيكي عن أي حد .. روحي بيت چوزك يا حبيبتي وهدي سرك وريحي قلبي وقلب أمك في تُربتها ..
كلمة " زوجك " التي اندلعت من فم الخالة بعفوية أصابت قلوبهما في مقتل ، كل واحد منهم نظر للآخر بنظرات عجيبة لا يدركها عقل بشري ولكن ثمة لغة القلوب التي تجمع أحبتها بطرق لا يتقبلها عقل ولا منطق ، حرك هلال كتفيه متحمحمًا :
-أنا في العربية .. ساعديها يا هاجر وقفلوا البيت زين …
بعد محاولات عديدة من التوسلات والكثير من البكاء آخيرًا اقنعت هاجر صديقتها بالمجئ معهم للبيت ، لملمت حقيبة ملابسها بفتور وهي تودع أرجاء منزل أبيها الذي لا تطيقه بدون صوت أمهـا وهي تتقطع في صمت وهبطت مع هاجـر لهلال الذي ينتظرهم بالسيارة .. ما أن رأهم من فتحة الباب منع الخفير أن يقترب منهم ونزل بنفسه ليحمل لها الحقيبة ويضعها بمؤخرة السيارة .. ودعت رقية أرجاء بيتهم بأعين محزنـة ، انتظر هلال صعودها لسيارته تحت حقل النظرات المتطايرة .. سألتها هاجر بهدوء وهى تغمز لأخيها الواقف بثبات :
-تحبي تقعدي فين !! أقعدي من قِدام ؛ أصلو الكرسي القدماني بيوچع لي ضهري وو
مدت رقية كفها لتفـتح الباب الخلفي بصمت وتجلس بالخلف بمكانها القديم ، فأشار هلال لأخته أن تدعها على راحتها .. تحمحم بخفوت وهو يستقل السيارة ويطلب من الخفير أن يوصل خالتها لقعر دارها .. ما استقل سيارته وهو يرتل بعض الأدعيـة ثم شغل المسجل الصوتي على سورة " يوسف " بصوت عذب وضبط المرآة الأمامية على صورتها ليطمئن عليها طول طريقهم .. كان الطريق قرابة الربع ساعة بين المنزليـن والتي اغتنم فيها هلال النظرات بعدد ثوانٍ المسافـة الفاصلة .. وفي ظل السكينة والهدوء الذي يُعم طريقهم والخالي من مزاح هاجر الذي لا يتناسب مع الظرف الواقع عليهما فلجأت للصمت مكتفية بمراقبة النظرات .. فجأة فزعن الفتيات إثر صوت قوي تسرب لقلبهن بسبب طفل صغيـر قام بإلقاء حجرًا على سيارة هلال فشُرخ زجاجها ..
صف هلال سيارته بعجل ليرى ماذا حدث فجاة ، نزل للطفل الذي عاتبه قائلًا :
-ليه كده !!
لم يهابه الطفل صاحب العشر سنوات وهو يقول :
-أمي قالت اللي يكسر العرف نكسروله راسه ، وأنت كسرت أعرافنا .. يبقى أنت مالكش عيش وسطينا ..
استعان على صبره فهو يعلم جيدًا ما سيواجهه الأيام المُقبلة وجثا على ركبتيه لمستوى الطفل :
-ألا يُعلمنا رسولنا أن الضرورات تبيح المحظورات ، بمعنى لو كنت تايه في صحرا ومش معاك أي مية تشربها ومفيش قصادك غير كاس خمر وانت هتموت من العطش خلاص مش قادر !! هل لو شربته تبقى أنتَ مذنب !!
اتسعت حدقة عين الطفل محاولًا استيعاب ما يقوله استاذه ، فربت هلال على كتفه وقال :
-كلا ؛ فهو معصوم من الذنب .. لأنه مضطر .. ألا أخبرك بأن ديننا دين يسر ولست دين قوانين بل دين قلوب تنبض بالحياة!!
ثم مسح على رأس الصغير بحنان :
-روح قول لأمك أن لكل قاعدة شواذ .. واحكي لها اللي قولت لك عليها .. وقولها الشيخ هلال مكسرش أعراف ، هو اتچوز العروس اللي تستاهله على سنـة كتاب الله ورسوله… هو معملش حاچة حرام ..
لقد كانت لديه الطريقـة الساحرة لمواساة جميع الجروح بطريقة مُبهرة، كأنه جاء طبيبًا لأجواعها ولست حملًا مضاعف لها .. كانت تتلصص النظر والسمع له بطريقة رفعت من شأنه بعقلها ، بطريقة جعلتها تتساءل عن نوع الخير الذي فعلته بالحياة كي تُرزق برجل حكيم حنون مثله .. ما أن لحظته يقترب منهم قفلت النافذة بسرعة وتكورت ملاصقة بالبـاب لا تراقبه إلا بصمت وأعين يملأها الحيرة ….
•••••••••••
انتهى عمار من فحص ليلة بعد ما أعطاها حقنة مهدئة ، ثم قفل حقيبته ووجه حديثه "لهيام" الواقفة بجوارها وقال بتلك النظرات التي يفيض منها الإعجاب خاصة بعد ما علم بقصتها من "نجاة" وكيف انهار زواجها قبل إتمامه وهو يقول بعتب :
-مش أنا مأكد عليكم بلاش الزعل .. قصرتي معاها ليه !
صوبت "هيام" أنظارها لأخيها الواقف بعيدًا يراقب ليلة النائمة بنظرات غريبة، بللت حلقها بربكة فتدخل هيثم وهو يعفيها من مهمة الرد :
-معلش يا داكتور تقول أيه ، بعيد عنك في تور فلت في البلد وخش فيها من غير أحم ولا دستور !! لكن عندي أنا دي تصحى بس وأنا هخلي بالي منِها زين ..
تكورت يد هارون على جمر غضبه المدفون وغيرته المجهولة من أخيه ليلتفت لسؤال أحلام :
-يعني هي زينة يا ولدي ، طمني عليها ، دي فجاة طبت من طولها وزي ما أنت شايف ..
لملم عمار عدته وهو يقول :
-المشكلة يا خالة أن محذرهم الصبح من أي انفعال او ضغط نفسي هي مش متحملة ، لكن شكلها اتعرضت لصدمة قوية متحملتهاش فقدت وعييها .. عمومًا هي ساعة بالكتير وهتفوق ..
قاطعه هيثم وهو يرمق أخيه بسخط :
-ربنا يجازي اللي كان السبب يا عمار يا خوي ..
تحمحم هارون بنفاذ صبر وهو يبرق لأخيه كي يكف عن عبثـه ، ثم نظر عمار بوجهه المبتسم ليقول "لهيام" موصيًا وليلطف معها الحديث :
-الضيفة مسئوليتك أنتِ عاد ، لو حصلها أي حاچة المرة الچاية هقول لك أنتِ السبب ..
أحمر وجه هيام بارتباك وهي تتحاشى النظر له وتشغل نفسها بأي شيء آخر :
-وانا مالي !! كنت عملتلها ايه وو
قطعه هيثم وهو يرتب على كفته :
-قول وسمع الناس يا داكتور ..
ثم همس له بصوت مسموع :
-حقا اللي يزعلها يبقى معندوش قلب ولا رحمة بعيد عنك .. دي ضيفة والمفروض تتشال فوق الراس .
فاض صبر هارون من عبث أخيه فتدخل برياح غضبه العاتية ليشكر عمار قائلًا :
-تعبينك معانا يا داكتور ..
وثب عمار حاملًا حقيبته وهو ينظر لهارون قائلًا :
-عاوزك برة يا عمدة ..
رافقه هارون الخطى وكل أسئلته دائرة حول ليلة وحالتها الصحية حتى وقف الاثنان على أعتاب الباب وهو يقول :
-أستاذي رد عليّ وقال لي الأدوية دي خطر وكلها أدوية جدول ، وبعد فترة من شربها بتدمر خلايا المخ وتدخل المريض في حالات نفسية صعبة جدًا ..
حلت الصدمة على ملامحه بجبين منكمش وتلهف قلبـه خوفًا عليها وهو يقول بعدم تصديق:
-كيف !! المفروض أمها اللي كانت تديها الأدوية دي !! يعني أيه !!
زفر عمار باختناق :
-ده اللي مجنني فيه حاجة غلط !! والمصيبة أحنا معندناش معلومة هي بتتعاطى الأدوية دي ليها كد أيه !! انسب حل دِلوق انها مترجعش للأدوية دي نهائي .. والدكتور كتبلها شوية أدوية بديلة تخفف أعراض الانسحاب منها.. بس قال إنه لازمًا يشوفها ..
رد متلهفًا :
-فين عنوانه ونروحوله !!
-عنوانه في مصر ، بينزل الصعيد يومين في الأسبوع ، هحجزلك معاه ونشوفه ..
ثم عاد ليؤكد عليه :
-بلاش تتعرض لأي ضغط هي مش متحملة كفاية وچعها اللي عايشاه ..
جاءت زينـة حاملة صنية الشاي والماء وتقول بعتب :
-على فين يا داكتور ، طب والشاي !! يا مُري عندنا بتين أنتَ عاوزهم يبوروا !!
دار لها "عمار" معتذرًا عنه وهو يكتفي بشرب الماء :
-سامحيني لازمًا أعاود العيادة مفيهاش حد ..
ثم تبسم بوجهها :
-ومحدش هيبور يا ستي ، لو أخوات جناب العمدة باروا أومال مين اللي هيتچوز بس !!
ابتسمت زينة بعبط المغرور وهي تقول :
-خطوبتي أنا وحضرة العُمدة قريب ولازمًا تنورنا يا داكتور ، ولا ايه يا هارون !!
رد عمار بامتنان :
-فرحة العمدة فرحتنا كلنا .. بالاذن انا ..
رمق هارون زينة بحدة كي تخفي شعرها الخارج من تحت حجابها بضيق على وجهه وهو يكظم غضبه منها ومن حديثها الزائد عن الحد وبالأخص خبر خطوبتهم الذي لف حبل الغضب حول قلبه ، ودع عمار بعرفان ثم نظر لهيثم المقبل من بعيدًا:
-ما تشوف هلال أخوك فينه مرچعش لدلوك !!
جاءت صفية من المطبخ وهي تقول :
-الوكل جهز ، أنتوا مش ناويين تتغدوا !! من ساعة البت الفقرية دي ما چات وأحنا متچمعناش على غدوة ..
فاتبعت زينة قائلة :
-قدمها شوم يا عمتي .. بومة .
قال هارون بضيق:
-أعملي وكل ليها ياما وخلي أحلام توكلها ..
فتدخل هيثم بحماس كي يزف خبر زواج أخيه ممسكًا بذراع أخيه :
-ألا قوليلي يا صفصف ، أنت طابخة أيه ؟! عاملة حمام !! بط !! كوارع !! لحمة ضاني .. أي وكلة من اللي يرموا العضم دولت !!
وبخته صفية بذهول :
-وأنت مال عضمك مين بعتره ياحزين !!
رد بعفوية :
-عضمي أنا حديد ، لكن عضم الشيخ هلال محتاج ترميم ولا أيه يا عمدة !!
حدجه هارون كي يخرس وألا يكشف سر أخيه فأكمل كلامه بعفوية :
-وهارون كمان محتاچ يترمم !!
فعارضته زينة بوقاحة وهي تقول بدلال :
-طبعًا مش عريس وداخل دنيا چديدة وكله عشاني وو
فقاطعها هيثم بسخرية :
-لا أنتِ مش مهم ، ده كله عشان ليلة اللي كل هبابة تطب منينا دي ، عاوزالها شيال عفي .. وهارون أخوي ما قصرش..
أزعقه هارون بحرقة لتطاوله وعلى الأقرب لأن الجملة لمست موطنًا حساسًا بقلبه :
-ما تحترم نفسك يا زفت ..
انضمت لهم فردوس بقلق :
-البت اللي كيف فرخ الحمام النمساوي عاملة ايه !! البت دي محسودة من يوم ما چات خلي الشيخ هلال يرقيها ..
حك هيثم رأسه :
-يابت الأيه يا دوسة جبتيها كييف دي ؟!! فرخ حمام على أبوه !!
ثم قال بحماس :
-ما ارقيها أنا !! هو هلال هيعمل أيه زيادة عني !!
لوحت له صفية بعتب :
-ولا يرقيها ولا يحزنون تاخد عفاريتها وتحل عنينا إحنا مش ناقصين نصايب ..
فجاءت زينة بغنج لتعاتبـه بعد ما كان متأهبًا للذهاب :
-اهو هارون زين ما عمل طردها وريحنا .. بس مالكش حق يا هارون ، هي كل ما تطب مننا تشيلها على قلبك وقدامي !!طب دانا حتى عغير طب راعي مشاعري .
تدخل هيثم بمزاح :
-تولع البومة ومشاعرها ، راعي فرخ الحمام النمساوي أنقح وأحلى ..
صرخت زينة بوجهه بضيق لتشكو له:
-وسكت هيثم يا هارون ، كُل كلمة اقولها يتمقلد عليها !! قوله إني هبقى مراة الكبير ومقامي من مقامه .. ولا أيه !!
انفجر هارون بوجههم بغضب يتطاير من شدقيه وهو يغادرهم :
-ما تخفوا أنتوا الاتنين وبطلو خوتة !!
هنـا فوجئ بهلال بوجهه يقف على أعتاب البيت ، تراجع عن المغادرة وأحس أن وجوده لابد منه خاصة بوجود هاجر ورقيـة ورائه ، تحدث الاثنان بالأعين حتى أفسح له مجالًا بالدخول .. دلف هلال ثم وقف بساحة البيت منتظرًا دخول أخته وعروسـته ، هرولت صفية نحوه وهي تنفض ملابسه :
-حمدلله على سلامتك يا حبيبي ، جعان أجيب لك تاكل .. تلاقيك اتهديت في الشغل النهاردة..
حك هيثم ذقنه الخفيفة بتوجس :
-العركة شكلها هتدور ما هي بالدور يا ولاد خليفة ولا ايه !! هارون أنا تعبت ..
لكزه هارون بجمود :
-فكرني احش لك لسانك دهوت !!
-وانا كنت عملت ايه !
حدجه بحزم :
-أبعد عن الاستاذة ياهيثم وشيلها من راسك !!
وبخه هيثم :
-سايبلك البت أمانة تخلص عليها يا هارون كدك دي بالذمة !! يخربيتك !! ده انا هتنقط منك وو
فتقدمت زينة بعفوية لتقطع حديث الأخوة :
-خليت لك الأوضة تبرق من الحلاوة .. مش هيدب فيها مقشة شهر بحاله .
عقد ذراعيه أمام بطنه وهو يرفع رأسه بشموخ :
-لدينا ضيفة جديدة ..
هزت صفية رأسها ببلاهه :
-وماله فوق راسي يا ولدي بس هي مين !!
رفع هلال أعينه صوب الباب الذي ظهرت منه هاجر بصحبة رقية التي تتمسك بيدهـا وتنتفض من هول الموقف، طالعتها صفيـة بذهول وهي تقول بتلقائية :
-وإحنا ناقصين شبهة ياولدي وو
قاطعها هلال بحزم وهو يعلن أمام الجميع وبالأخص "أحلام" و" هيام " الواقفات عن بُعد ليقول :
-الدكتورة رقية أبو الفضل ، مرتي..
دبت زينة على صدرها بأعينها البراقة وهي تدنو من هارون لتعارضه بأعينها ؛ أما عن صفية حلت نازلة الغضب فوق رأسها بعدم فهم :
-وماله تنورنا !! ضيفتك فوق راسنا كُلنا ووو بس ..
فتدخلت زينة مصححة بقهرة :
-ده عيقولك مرته يا عمة !! اتچوزها .. هلال اتچوزها ومن ورانا وكمان چايبها تعيش وسطينا !!!
رمقها هارون بنظرة تحذيرية:
-في وجودي مسمعش نفسك يا زينة انتِ فاهمة!
وضعت كفها على فمها بطاعة:
-حقك عليّ خرست أهو …
تفقدت صفية الوجوه حولها والذي لا يبدو عليهم الصدمة وقالت بعدم تصديق :
-مرتك كيف!!! يعني أيه مرتك .. !!
ثم نظرت لهارون :
-أنتَ كنت عارف ؟
فأفحمها هيثم :
-وأحنا كُنا شاهدين على الچوازة ، ماهو عشان إكده عسألك طابخة أيه عندينا عريس عقبالي يارب وو
صرخت صفية بوجهه :
-اسكت !!! اسكت !! لا في حاچة غلط !!
ثم نظرت لهلال وهي تحت تأثير صدمتها لتصرخ بوجهه :
-وملقتش غير دي يا هلال!! جايب لنا واحدة سـ …
قاطعها هلال ولأول مرة صوته يعلو على صوته أمه ؛ وبالبيت عمومًا :
-كلمة زيادة في حق مرتي مش هعمل اعتبار لمخلـوق خلقه ربنا .. رقية مرتي واللي هيقول كلمة في حقها هيلاقيني قصاده ..
فأتبعت صفية بعناد :
-عتعلي صوتك على أمك يا هلال !! دا أنت عمرك ما عملتهـا .. طب يا انا يا هي في البيت يا هلال وو
أخرسها هارون مناديًا :
-أمـاا
فتدخلت أحلام لتضع لهما حدًا بصفتها سيدة البيت :
-ولا كلمة يا صفية .. أنتِ هتنسي روحك ولا أيه !! البيت له كبير وهو اللي يقول مين يقعد ومين ما يقعدش ..
فتدخل هارون قائلًا :
-والحج خليفة أمر مراة هلال اخت تالتة لينا وفوق راس الكُل …
فوبختهم صفيـة بحرقة و جهل :
-كُلكم اتفقتوا عليّ !! أنا اللي غلطانه دِلوك !! طب يبقى تقعد وأنا اللي ماشية يا هلال .. عشان تبدي أمك على واحدة اتكشفت على راجل غيرك وخد غرضه منيها وو…
غلت دماء الغضب بهارون الذي لم يتقبل حرفًا على زوجة أخيه مناديًا بصوته المريب :
-صفيـة خلصنا !!
هنا لم تتحمـل رقية كلمة زيادة ، فتركت يـد هاجر عنوة وتأهبت للفرار من سجن النظرات التي تعصر قلبها والكلمات التي تقتلها ألف مرة .. لم يمنحها هلال الفرصة للمغادرة بل قطع المسافة إليها ركضًا لتغلف يده خصرها على أعتاب الباب ويوقفها جبرًا :
-أنتِ مش هتروحي لمكان..
صرخت متألمة ببكاء محاولة فك ذراعه من حولها :
-سيبني .. أنا مكنتش عاوزة اتوجع تاني كفاية اللي أنا فيه .. سيبني الله يرضى عنك روحني .
تحول في حضرتها من الشيخ الهاديء المسالم لـ حارس شخصي على قصر حبيبته ، لهثت الكلمات بفاهه وهو يقول لها بحذر بصوت لايسمعه غيرها وهو يخر بدمعة من طرف عينه :
-دي حربنا أنا وأنتِ .. ماينفعش تهمليها وتداري ورا الحيطان ، أنتِ معملتيش حاچة تخافي منيها ..
ثم انحنى ليحملها بين يديـه رغمًا عنها ويحدجها بنظرة حادة ألا تُجادله ليخترق صفوف الجميـع غير مهتمّا بأحد مدافعًا عن زوجته التي باتت أمانته من هذه اللحظـة متجاهلًا النظرات والأفواه الملتوية متجهًا إلى غرفته تائهًا في صحاري ملامحها التي ظل حائرًا يتساءل كيف يمكنه نبت الزهور من بينهمـا .. يبدو أن نور وجهه المشاع خدرها جعلها تنسى كيف يكون الكلام .. فجاة أصبحت بين يديه معلقة بنجوم عينيه التي تُربكها كثيرًا وهي لا تدري أي مرسى رسى بها هنا !!
أكمل هلال طريقه دون أن يلتفت تاركًا الساحـة لأخيه الذي يشتد عضده به في مواجهة التيـار ، ولقد كان وجهه بمحله وهو يقف بوجه امه محذرًا :
-رقية من الليلة بتك التالتة ، وأي كلمة تزعلها محدش هيزعل غيرك ياما ..
صرخت صفية بوجهه:
-لا انت عمدة على الكل لكن مش هتمشي كلامك عليّ !! لا انا مش هقبل بالبت دي في بيتي يا هارون، يجي أبوك ويشوف صرفة !
ثم أخذت تندب على وجهها وتلطم الخدود:
-يافضيحتك يا صفية اللي ما ليها آخر !! يا حزنك يا صفية !! الواد اتچوز بواحدة فضيحتها على كل لسان !! طب كيف اتچوزها كيف كسروا العرف كيف !! ياشماتة ام صديق والبلد فيكِ يا صفية !!
نظر هارون لزينة وأكمل :
-خدي عمتك اوضتها وعقليها يا زينة …
-تعالى يا مقصوفة الرقبة كله منك ..
فجرت صفية غضبها بوجه "هاجر" وهي تمد يدها لتنالها انتقامًا فاحتمت بكتف أخيها :
-الحقني يا هارون دي هتموتني ..
فتدخل هيثم الذي يراقب أخيه بذهول حتى وصل غرفته ليقول بعتب :
-فضينا ياما ، البت ملهاش ذنب وغلبانة .
-كلنا غلابة على باب الله !! وأحنا كمان ملناش ذنب نشيلو عارها !! يا مرك يا صفية !! يا حزنك !! طب أودي وشي من الناس فين !!
دار هارون لأخته هاجر قائلًا :
-خشي أوضة أحلام ، شوفي أدوية الاستاذة واديهالها بانتظام يا هاجر ..
ثم رمق أمه بحدة :
-واللي يفكر يزعلك قوليلي بس ..
أخذت زينة عمتها التي لم تكف عن الصراخ والنواح والتعداد الذي لم يفارقها :
-ربيتي ياخايبة للغايبة ..
همست زينة بقهر لعمتها :
-دانا روقت لها الأوضة بنفسي ياعمتي !! شوفتي الحزن ، كانت يدي اتقطعت ولا روقتها لواحدة خاطية زي دي !! ولدك شكله كان ناويها ..ياحزنك يا عمة !! أوعاكي تسكتي !! دي وصمة عار..
دنت أحلام من هارون الذي يسب نفسه سرًا وتهامست معه مردفة :
-هارون ؛ أي أصول الچوازة دي ؟! هلال عمل إكده عشان يستر على البت !!
زفر هارون بتعب :
-عمري ما كُنت هوافقه لو ديه هدفه ، لكنه رايدها يا أحلام وشوفت ده بعيني ..
تنهدت بارتياح :
-ريحت قلبي يا ولدي !! طالما رايدها واختياره يبقى الله يهنيـه بيها ويجعلهاله الأولى والآخيرة .. أمها تربعن وقيموا فرحهم زي ما ربنا قال .
هنا قطعه صوت رنين هاشم الذي لم يمهله الرد على أحلام ؛ اكتفى بهز رأسه وهو يغادر مستئذنًا :
-راچع لك يا أحلام !!
ركض للخارج وهو يرد على أخيه بلهفة :
-هاه يا هاشم وصلت لحاچة ؟!
كان يقود سيارته مرتديًا نظارته الطبيـة عائدًا لرغده ، فقال :
-زي ما اتوقعت يا هارون .. ملعوب من شريف أبو العلا وهو اللي سرب الخبر !!
لطخت معالمه بحمرة الغضب وهو يجز على فكيه وهو يحمل هَم ليلتـه التي إهانتها :
-ااه يا وِلد الـ**** .. ورب الكعبة ما هعديهالك وهتشوف ..
ثم أتبع قائًلا ليخبره :
-صوح هلال أخوك اتچوز يا هاشم ..
فرمل هاشم سيارته مفزوعًا بسخرية:
-هلال!! أنتَ عتتكلم چد !! اتچوز ميتى وكيف !! ليه ملهوش أهل !
ثم أطلق ضحكة ساخرة :
-ومين سعيدة الحظ!!
أطلق هارون زفير اختناقه :
-رقية .. رقية أبو الفضل ..
حلت النازلة على رأس هاشم الذي كل ما يشغله بالأمر كيف كُسر العرف ليطمئن على مستقبله :
-ايه؟!!!! والمچلس !! كيف يا هارون !
-ما خابرش يا هاشم ، تحس ربك قفل كل الخشوم محدش كان قادر ينطق ، بس اظن المجلس وافق عشان وجود الحكومة في الموضوع ؛ لموا الدنيا وياعالم ! متأكد أنهم مش هيسكتوا …
رد هاشم ساخرًا :
-ولا يسكتو ، المهم أن هلال كسـر العُرف .. يعني !!
أنهى هاشم المكالمة مع هارون ليتحمس ويرسل رسالة صوتية لزوجته قائلًا بفرحة لا توصل :
-رغود ، أحلى فستان عندك ألبسيه وهسهرك سهرة مش هتنسيها طول عمرك ….
••••••••••••
~بغرفة هلال ..
"هناك أشخاص خُلقت الطرقات لتكون بجوارهم بيوتا دافئة "
ارتمت رقية بجسدها الضعيف على الأرض دافنة وجهها بمعصمها وهي تنوح بصوت مكتوم تارة ومسموع طورا .. أخذ يراقب كيف ينتفض خصرها من قسوة الألم كيف تنتفض كالطير المذبوح منتصف غرفته ؟! نزع جلبابه الذي يقيد حركته ورماه على طرف السرير وجلس بجوارها محاولاً لمس كفتها ولكنه تراجع كي لا يخيفها منه .. يكفي قدرا تجاوزه لرغبتها أمام أهله وخطفها عنوة من بين أعينهم .. مسح على رأسها بحنان وهو يقول :
-البكاء ليس حلا ..
لم تجيبه بل تركت الساحة للبكاء كي تفجر كل عبراتها المكتومة خلال اليوم .. أتبع قائلا :
-رقية وعد اللي حصل تحت مش هيتكرر ومحدش هيقدر يجـرحك بكلمة وو
اعتدلت في جلستها بوجهها وهي تكفكفت عبراتها وتسأله :
-أنت اتجوزتني ليه ؟!
-وهو الشخص بيتجوز ليه يا رقية ؟!
ارتعد صوتها من قسوة البكاء :
-سؤالي واضح اتجوزتني أنا بالذات ليه يا شيخ هلال ؟! صعبت عليك ؟! شفقة ؟! قلت تأخد الأجر وتتجوزها ؟! ولا لقيتني مكسورة وضعيفة وماليش حد قولت أعطف عليها ؟!
طيف ابتسامة خفيفة ارتسم على محياه وهو يقول :
-إذا عقلك هيأ لكِ كل هذه الأسباب .. فهذا معناه إنك لم تعرفين هلال بعد ؟!
ردت ساخرة :
-صدقني ملهاش مبرر تاني .. غير أنك اتجوزتني شفقة صعبت عليك وو
ثم كفكفت سيول عبراتها :
-بس أنت مش مجبر .. وأنا هعفيك من كل ديه ؟! روحني بيت أبوي .. روحني وسيبني وأنا لي رب كريم ..
-أنا لم يجبرني أحد عليك ؟!
هزت رأسها بحزن وخيم :
-الزمن اللي أجبرك .. اسمعني ...
قطعها بحدة :
-اسمعيني أنتِ .. وهاجي معاكي بما يرضي الله .. أنت من اليوم مراتي ومسئولة مني .. مهما كانت الأسباب اللي هيئتنا للحظة دي فـ دي مايمنعش أنك قدام ربنا في حمايتي ليوم الدين .. قولي كيف ما بدالك هعديه عشان أنا شاركي لأبعد حد يابت الناس ..
ثم سألها ملاطفا :
-وبعدين طالما مش موافقة وجوة راسك كل السود ديه من ناحيتي .. قبلتي ليه ؟!
صرخت بوجه بصوت مكتوم مدافعة عن نفسها :
- أنا لما قبلت طلبك ده عشان خوفت يدبسوني في بكر والحكومة متعرفش تعمل حاجة .. قبلت عشان قولت مفيش واحد بتاع ربنا هيظلمني .. قبلت ووو
ثم لمعت العبرات بعينيها بعجز وهي تراقبه بارتباك :
-ماعارفاش .. لساني بدل ما يقول لا قال ااه ...
اتسعت ابتسامته وهو يراقب اضطراب ملامحها في دروب الحزن والشكوى :
-كلها تساهيل ربك وكله بإذنه وحده ...
هزت رأسها بالنفي غير متقبلة ذلك الوضع الذي ورطته فيه وقالت :
-كل كلام أمك عندها حق فيه .. أنا منفعكش .. انت تستاهل واحدة أحسن مني ..
ثم أحكمت أمرها واتبعت :
-أنا موافقة أقعد إهنه لغاية ما يقبضوا على اللي اسمه بكر .. وبعدين طلقني وسيبني لحالي أنا هعرف أدبر أموري ..وأنت اتجوز اللي هتختارهالك أمك وارضيها ..
ثم وثبت من أمامه محذرة وهي تشير بسابتها ما بين ماء عينيها المنهمر :
-ولحد ديه ما يحصل أنا زيي زي هاجر أختك .. وأنا واثقة أنك هتخاف علي قدها ..وهتراعي ربنا فيّ .. صوح !؟
وقف على مضض وهو يدنو منها خطوة ليقول :
-أنت أمانتي قدام ربنا .. ويمين عليّ ما ملزمة لي بحاجة قدام ووحده الشاهد .. انا مش جاي ازود وجعك يابت الحلال ..اطمني ..وواثقي فيّ ..
تدلت جفونها بالأرض وهي ترتعد وتتراجع خطوة للوراء وتقوم بصوت خائف :
-وديني أزور أمي .. أنا محتاجة لها قوي ..قلبي بيتقطع وهي مش معاي ..
-هوديكي مكان ما أنتِ عاوزة بس بطلي بكى عاد .. كنت فاكرك اقوي من إكده .
طرقت هاجر الباب وهي تحمل مائدة الطعام على يدها وبعد ما سمح لها هلال بالدخول هللت قائلة :
-أحلام كانت عاوزة تجيبلك الوكل بنفسها لولا رجليها واچعينها.. يلا عشان تاكلي ...
ارتدى ثوب العزة وقال بتأدب وهو يغادر الغرفة كي لا يخجلها منه :
-عليكٍ بها يا هاجر .. أن أكلت كل طعامها سأكفأكما معا ..
داعبته هاجر ممازحة :
-ولو مرضيتش !! أكله أنا ؟!
حدج أخته بنظرته المعتادة وقال برزانة :
-إن أبت سأطعمها بيدي .. بالإذن .....
•••••••••••
~اسكندريـة ..
أعباق من بقايا لفافات التبـغ المتكتلة بالمطفأة التي حرقتها نادية بمفردها ، واحدة وراء الأخرى وهي تتساءل ألف سؤال بين كل واحدة وتاليتها.. حتى ثنت بقلب المطفأة أخر واحدة بيدها وقالت بصوت مشحون :
-ازاي !! ازاي تكون رايحة تعمل لقاء صحفي وتصور شوية صور هوب تلاقي نفسها وقعت وسط أهلها وناسها اللي عشت أدور عليهم سنين !! ازاي يا رشيدي ..
ثم قعدت على طرف المنضدة وأكملت بغل :
-ولا الراجل ده باين عليه مش سهل ، بيتكلم وهو واثق من نفسه وعارف بيقول أيه كويس!! طيب هما معقولة يكونوا عرفوا بنتهم وبيستغفلوني !!
ثم ضربت الأرض بساقها :
-هتجنن يا رشيدي ! دماغي بتضرب أخماس في أسداس مش متخيلة اني كل اللي خططت له هيروح كده !!
وضع رشدي ساق فوق الأخرى وهو يقول بتفكير :
-مش المشكلة !! المشكلة لو حد شاف الأدوية اللي بتاخدها !! دي هتبقى مصيبة بجد !!
تأرجحت عينيها بقلق :
-مظنش .. لالا ، مش للدرجة دي ، دول أغبية والأدوية بتاعتنا مش أي حد يعرفها حتى لو كان دكتور ..
فكر رشدي قليلًا وأتبع :
-يبقى الحل في أيدك ، ليلة ترجع من هناك وهجهزلك الورق وتمضيها بأي طريقه على أملاكها ويبقى خدنا اللي عايزينه وهي بالسلامة كارت محروق بالنسبة لنا ..
هزت رأسها غير مقتنعة بانفعال :
-الموضوع أكبر من كده !! أنا لازم أروح لهـا .. لو مجتش أنا هروح لها يا رشدي ….
•••••••••••
~مساءً ..
-مين يا فردوس !! ماهي ناقصة نصايب !!
أردفت زينة جملتها الأخيرة وهي تدنو من باب القصر متأهبة للمغادرة بعد ما تأكدت من نوم عمتها ، فأعطت لها فردوس الظرف وهي تقول بجهل:
-مخابراش يا ستِ زينة، واحد من رچالة المچلس چيه وقال ديه لچناب العُمدة ..
أخذت زينة منها الظرف وهي تفتحه كأنها أصبحت سيدة لهذا البيت وتقول بسخط:
-وريني !! واحدة داخلة البيت بجُرسة والتانية طالعة بفَضيحه !! ناقص أيه تاني!!
سلطت كل من فردوس وزينة أعينهم بالمظروف لتدب زينة على صدرها صارخة :
-يا مُري !!! دولت شالوا هلال من المچلس …
ثم طبقته كما كان وقالت بحذر :
-خشي وديه لهارون ، ومتچيبلوش سيـرة إني فتحته…
لم يغادر هارون البيت طوال اليوم حتى يطمئن على وضع " ليلة " التي ظلمـها وكان سببًا في حالتها الأخيرة، وأنه تسرع في حكمه عليـها ، كان يجلس بالحديقة ينفث دخان غضبه وتلك أول مرة يدخن بهذه الشراهة ، فجاءت له أحلام وهي تربت على كتفه فساعدها في الجلوس بجواره وهي تقول :
-سرحان في ايه !! اللي واخد عقلك ؟
خجل أن ينظر لأحلام وهو يقول :
-البت طلع ملهاش ذنب ؛ كله من تحت رأس الزفت اللي اسمه شريف أبو العلا ..
رمقته أحلام بنظرات فاحصة :
-نظرة أحلام في اللي قدامها متخيبش واصل .. قلت لك متعملهاش ..
زفر هارون بضيق وهو يشكو لها :
-مطربقة فوق نافوخي من كل ناحية والله يا أحلام ..
ربتت على ركبته بحنانٍ :
-أنتَ قدها وقدود يا حبيبي .. إلا قول لي يا هارون.. وأنت عتقول اسم ليلة .. اسمها ايه تاني !!
رمقها باهتمام :
-اسمها ليلة سامح .. الجوهري ؛ بس ليه !!
تمددت ملامح أحلام بشكِ :
-ماعارفاش حسيت الاسم مش غريب عليّ ، شكلي سامعاه في حتة و
فأسرع هارون معترفًا على سجيته :
-كانت عتقول أن چدها كان لواء إهنه واسمه رفعت الجوهري ، آكيد تعرفيه وأبوي يعرفوا كمان ..
تفرغ فاه أحلام التي تحولت شكوكها ليقين وهي تكرر سؤالها بذهول :
-قولت مين !! رفعت الجوهري يبقى چدها !!! أنت متوكد يا هارون !!
قطعت حديثهم مجيء هيـام الراكضة وهي تخبره :
-هارون .. ليلة فاقت ومصرة أنها تمشي ..
مجرد ما سمع إنها استردت وعيها ركض ملهوفًا نحوها ليكفر عن سوء ظنـه بهـا .. والذنب الذي اقترفه ..
كانت " ليلة" بغُرفتها تلملم أشياءها بعبث وهي تتحرك هنا وهناك وتهذي مع نفسها ، كان هيثم يتبع خُطاها محاولًا الاعتذار عما فعله أخيه بدلا منه :
-يابت الناس اهدي هتروحي فين الساعة دي !!
فأتبعت هاجر التي لم تترك رقية إلا بعد ما غاصت في سباتها ، وقالت بعتب:
-هارون لو عرف أني ..
صرخت بوجهها :
-متقوليش اسم أخوكي ده قدامي عشان بيعصبني ، ماشي !!
ثم دخلت الحمام وأحضرت بعد مستحقات التجميل ورمتهم بالشنطة فأتبع هيثم :
-طب هتروحي فين الساعة دي بس وأنت عيانة !! وبعدين ما انا قلت لك مين ورا اللي حُصل ؟!
تدخلت هاجر بجهل منه عما فعله شريف :
-مين يا هيثم !! في أيه معرفهوش ؟!
تجاهل سؤالها :
-اركني أنتِ دِلوق !!
تناولت حذائها من الأرض ورمته هو الآخر بجوف الشنطة :
-هروح في أي داهية يا هيثم، بس مش هقعد دقيقة واحدة في البيت ده .. وده مش هيفرق معايا ولا هيصلح اللي عمله أخوك في حقي .
توقفت هاجر بوجهها مقترحة:
-طب ما الصباح رباح يا ستي ..
فأتبع هيثم وهو يخرج صندلها من الحقيبة ويرميه في الأرض قائلًا بمزاح:
-ياستي هي تجي واحدة وتمشي واحدة!! داحنا بنجمعوكم بالعافية ..
نظرت له بسخط وضعف يصعقها :
-هيثم بلاش تهرج عشان ده مش وقت تهريج وانا اصلا مش فاهمة حاجة ..
ثم انفجرت صارخة بوجهه عندما رأته يخرج ما بها :
-انت بتعمل ايه أنت كمان !! سيب حاجاتي !
في تلك اللحظة وصل هارون مطلقًا حمحمته المرتفعة قبل الدخول ، ما سمعت صوته فرت للتحامى بالحمام بعجل واضطراب شديد يملأها حتى أتاها صوته قائلًا بشموخ :
-خفي چنان يا استاذة مفيش مشي من إهنه ..
خرجت من الحمام وبيدها الفرشاة والمعجون وهي تتجاهل وجوده تمامًا وتسأل هيثم بتيـه :
-هيثم شوفت الشاحن بتاعي كان هنـا .. ؟!
أحسوا أخوته بإحراجه وتعمدها تجاهل وجوده حتى أتبعت وهي تدور بالغرفة بعشوائية :
-كده ناقص أيه كمان !! أنا تهت .. انا نسيت !! يووه !! أحيه عليا !!
دمدم هارون بجزع وهو يضم يديه أمام بطنه :
-يا صبر الصبر ..
ثم جهر :
-ما خلاص يا استاذة سوء فهم وراح لحاله ..
حانت منها نظرة خافتة وسرعان ما ذابت في صحن غضبها منه وهي تقول :
-هاجر ، ماشوفتيش اللاب توب بتاعي !!
ثم ضربت على رأسها بغباء:
-أحيه !! وأنتِ هتعرفي ازاي بس !! راح فين ده كمان ووو
كانت تدور كالنحلة بمنتصف الغرفـة حتى أمسك بمعصمها ودارها إليه ليجبرها أن تستمع لحديثه التي تعمدت تجاهله هنا وصلت أحلام لتقف على الباب وتتأمل الاثنان بفيض من النظرات المختلفة :
-هو أنا مش عكلمك !!
شدت ذراعها من قبضته وقالت معاندة :
-ومش واضح إني مش عايزة أكلمك !!
حك أنفه بارتباك لإحراجه أمام أخوته وقال بثقل وغرور :
-حقك عليّ ..
ثم صمت لبرهة وأتبع مبررًا :
-سوء فهم حُصل وراح لحاله …
سبحت عينيها في بركة الدمع وهي تتذكر إهانته لها بالصباح :
-والله!! كتر خيرك .. وفر اعتذارك لنفسك .
ثم ضربت الأرض بقدميها من شدة التوتر والارتباك الذي حل بها وهي تصيح :
-الموبايل بتاعي فين !! يووه وده وقته !!
ثم تدخل هيثم قائلًا :
-أهو هارون بنفسه جيـه عشان يتأسفلك ، روقي عاد.. ويلا نتعشوا.
ردت بملل :
-والله !! تعب نفسه .. وهيثم بس عشان أنت موترني وأخوك ده كمان موترني وحاجتي كلها ضايعة وده موترني !! وانا كده هعيط ..
ثم نظرت له :
-ملهوش لزوم يا عمدة كمان اعتذارك ، كده كده ماشية ، سوري تقلت عليك ..
استغفر ربه في سره ثم قال :
-مفيش مشي وخلصنـا .. ميبقاش قلبك أسود عاد !!
تجاهلت وجوده مما أشعل النار بقلبـه ليناديها بصوت المرعد الذي جعلها تقف مكانها ولأول مرة يخرج منطوق اسمها صحيحًا :
-ليـلة !!
تسارعت ضربات قلبها المضطرب ثم لملمت شتاتها لتعود له صراخه بوجهه :
-متزعلقيش !! واتكلم طبيعي زي الناس الطبيعية.. ووو وبعدين أنا مش لعبة في ايدك تقولي امشي واعقدي وو
أسبل عينيه في حضرتها كي يطمئنها ليقول بشموخ :
-أنا العمدة إهنه وكلمتي تمشي على الكل ..
عارضته :
-بس أنا لا ..
-طول ما أنتِ في بيتي يبقى كلمتي تمشي عليكِ !
زفرت بضيق :
-هيرجع تاني يقولي بيتي .. ارتاح كده هسيبهولك وأمشي ..
شد ياقته محاولًا قتل غروره وقال بأسفٍ :
-متزعليش وكبري مخك عاد وو
فتدخلت هاجر لتُلطف الأجواء:
-افرحي يا ستي ، حضرة العمدة بنفسه چاي يراضيكي ، فكي عاد وأنتِ عيانة مش ناقصة ..
نظرت له بعتب :
-هو أكتر واحد عارف إني تعبانة ومع ذلك محترمش تعبي وجيه وطردني قدامهم كلهم .. واتهمني بالكذب … وو
وقف أمامها ليمنع خُطاها ببنيته القوية ؛ لقد كان لا يملك ثقافة الاعتذار فأكتفي بقوله :
-ما خلاص !!
كادت أن ترتطم بجسده الصخري لولا أنه تراجعت خطوة للخلف وهي تشكو له منه :
-لو سمحت متكلمنيش ولا توجه لي أي كلام ؛ كفاية أوي اللي قولته الصبح وو
فتدخلت أحلام وهي تربت على كتفها :
-خلاص يا ليـلة يا حبيبتي .. عشان خاطري أنا أنسي وأهو قالك سوء تفاهم وو
قاطعتها :
-خاطرك فوق راسي يا طنط بس أنا طولت عليكم ولازم أمشي وو
فتدخل هيثم :
-طب صوري حلقتك التانية وأمشي ، حرام تعاودي وأنتِ مقضتيش مصلحتك ..
ردت بخزى وهي تتجاهل وجوده:
-خلاص يا هيثـم مش فارقـة ، مفيش نصيب.
حاولت هيام إقناعها :
-ياستي الدكتور قال ممنوع تروحي في حتة ، أقعدي عاد وو
أصرت على رأيها :
-هيحصل ايه يعني !! انا همشي وخلاص ..
لقد فاض صبر هارون من مقاوحتها وقال باندفاع:
-ماتخفي مُحن وقصري .. قولت حقك عليّ عاوزة أيه تاني !!
شهقت بوجهه وهي تشهد الجميع عليه :
-شايفين!! حتى الاعتذار مش من قلبه ولا حاسس بالندم !! وبيعاملني كإني شغالة عنده !!
ارتسمت الضحكة على ثغر أحلام تراقب لمعة الانجذاب لبعضهما البعض متلألئة لتتمتم في سرها " يارب اللي في بالي ومتكسرش قلوبهم يارب " ثم جهرت متوسلة لها :
-أقعدي ولما يجي الحج خليفـة هنشكوله من ولده ..كل كبير له الأكبر منيه .
فأتبع هيثم :
-وأنا شاهد معاكي !!
فاكملت هاجـر مقترحة:
-خلصي شغلك وعاودي ياستي ..
فتدخلت هيام:
-ولو كان على هارون مش هيچي چارك ، أصلا هو ماعيقدش في البيت .. بس بلاش تمشي وأنتِ مضايقة دي عيبة في حقنا ..
راقبت الأعين الحنونة التي تحيط بها لتقتل شبح فكرة رحيلـها و تبقى بمكان ألفة روحها لتوافق على مضض ، ثم رفعت سبابتها بوجه هارون لتلقي عريضة شروطها :
-اسمعني ؛ أنا هقعد هنا يومين اتنين بس ، هتقول لهيثم على المكان اللي هنصور فيه .. لسانك ميجيش على لساني نهائيًا .. تشوفني متقوليش حتى صباح الخير ، لا تكلمني ولا لك كلام معايا .. عشان أنا مستحيل هكلمك بعد اللي حصل منك .. ولو فكرت تكلمني أنا هسيبك وأمشي ومش هرد عليك ..
ثم نظرت لهيثم :
-موافق يا هيثم !!
غلت نيران الغيرة بصدره وهو يزفر حرائقه الداخلية لأول مرة أحد يتأمر عليه ، لاحظت أحلام لوحدها دخان غيرة وليس غضب لتراقبه وهو يقول بأسلوبه الاستفزازي متأهبًا للرحيل متقبلًا شروطها :
-طب أهدي وقولي هديت ..
فتدخل هيثم لاعبًا بالنار بوجه أخيه بفظاظة :
-هي مش قالت لك كلامك معاي وبس يا حضرة العمدة !!
كتمن الكل الضحك على المأزق الذي وضع به هارون وهو يشد قامته أمامهم ليردف بتحدٍ متقبلًا لعبتها الطريفة :
-خليه هو يقول لك هتصوري فين بالمرة …..
قد يحدث و يعف المرء قلبه عن داء الحُب ويحشو قلبه بذخائر الحياة ومتاعبهـا كي لا يلتفت له أبدًا ولا يدع له منفذًا ليتسرب داخل جسده ؛ولكنـه شعور مكار كأنه جاء من نسل الثعالب قد يتسلل إليك نظرة نظرة ؛ بل قطرة قطرة .. حتى يملأ خزان قلبك كله وفجأة وبدون أي رغبة منك ينقلب صدرك لسِربَ عصافير تُحلق في مُدن الحُب وتظل تتساءل دومًا ؛ أي ريح عاتية أتت بك لهنـا ؟!
والحقيقة أن سفن الحُب تسير بما لا يشتهي المرء منـا !! ألا أخبرك بأنه شعور مخادع !!
#نهال_مصطفى .
#آصرة_العزايزة.
#من_يعيد_لي_قلبي .ج١
••••••••••••
قيل :
«تشعر أحيانًا أنّ كل ما تحتاجه هو أن تنظر الى كل شيء بالقياس الربّاني، في الخير الذي يصيبك، في الأذى، في الانتظار والانكسار والفشل؛ هذا هو الشيء الوحيد القادر على أن ينتشلك، أن يرمّمك، أن يجعلك أدنى للصواب وأنأى عن الخطأ.»
-أول مرة أشوفك بتضحك كده من قلبك يا هاشم !! حصل أيه وأنا معرفهوش ؟
كانت رغد تعانقـه على شط البحـر ويتبادلان الرقص على كلمات الأغنية الأجنبية التي يستمع لهـا الثنائي ، ضم خصرها إليه أكثر ليعلن امتلاكها له ولقلبه مدى الحياة و جاوبها وهو يغوص في لمعة هذه الأعين التي جعلته يتمرد على الأعراف ويظفر بها قائلًا :
-لأني قررت هروح سفرية سينا وهرجع أجازة وهجيب أخواتي واتقدم لك !
قفلت جفونها باستغراب :
-هاشم ، حبيبي أحنا أصلًا متجوزين !!
أجابها بلكنته الصعيدية :
-طب وأيه يعني ، نتچوزوا من أول وچديد ونعملوا أكبر فرح في مندرة الحچ خليفـة ، وفستان چديد وو
ثم ضمها بغتة لترتمي بحضنه شاهقة وأكمل :
-وكله يبقى چديد في چديد ..
رسى كفها على سفينة قلبـه النابضة ببحر الحب الذي يملأه لتخاطب عينيه :
-للدرجة دي بتحبني يا هاشم .. !!
-وأنتِ لسه چاية تسألي !! رغد أنا شفتك مرتين صدفة شقلبتي كياني !! فاكرة ؟
تدللت عليه بغنج :
-لا مش فاكرة …
همس بأذانهـا وهو يتمايل معها على لحن الغناء :
-فستانك الأبيض ولفة الشال البدوي والكحل اللي عمري ما شوفت واحدة عاملاه .. قولت بس هدفع نص عمري واتچوز البت دي !!
ثم غاص في تفاصيل شعرها وأكمل بنفس النظرة :
-والنص التاني عشان أعيشه معاها !!
ثم استرد نبرته الأجشه ونصب قامته قائلًا :
-ألا فين الغترة والكحل !! من يوم ما اتجوزنا ماشوفتش يعني !! ولا دول كانوا لأجل صيد الحوت وخلاص جات رجلي وادبست ..
عاتبته بلطف :
-هاشم حبيبي ، أنت بتجي كام ساعة وتمشي ومش بلحق أعمل أيه ولا ايه ، لأجل بس الكام يوم دول أنتَ راضي عني وو
ثم شهقت برقة :
-يعني أنت حبيت العترة والكحل وأنا لا !! يعني خدت بالظاهر مش بالجوهر !!
أطلق هاشم ضحكته الهادئة وهو يقول بحب :
-أنا واحد بتاع مظاهر ياستي نقطة ضعفي الست الحلوة ، وأول ما عيني شافت الجمال البدوي وقعت ومحدش سمى عليا .. نسيت أنا مين وفين كل اللي شغلني أن الحلوة دي تكون في حضني آخر الليل !!
لجأت لوصف حالته باللهجة البدوية وهي تقول بخفة :
- «الشوش ماشوش والخزق مبوش»
ثم داعبت وجنته بلطفٍ :
-يابني يابني مش معقولة كده !! أنت خدت قلة الأدب دي كلها لوحدك..
أشاد معجبًا بلهجتها التي نادرًا ما تستخدمها ليقول مغرمًا بلهجته الصعيدي :
-ياوعدي، اشچيني بالبدوي اللي طير عقلي مني .. بس يعني أيه ؟! ترجمي اللي قولتيه حالًا .
طوقت عنقه بكفيها تاركة خصرها المنحوت فريسة لحبه وقالت :
-يعني اللي يشوفك يتخدع فيك كده ويقول عليك راجل زي الكتاب ماقال ، وميعرفوش أن تحت السواهي دواهي …يجوا يسألوني أنا بقا ..
ضاقت عينيه وهو يحاول تذكر المثل :
-كل ده شرح المشمش في الممشوش !! عظيم كملي ؛ قوليلي وبيقولوا أيه كمان عندكم !!
استقرت على شطي عينيه المدججة بحُبه الفائض لتقول بنبرة يخالطها الحزن :
- بيقولوا «اللي زلمتها مطاوعها بتدير القمر بأصبعها»
ثم تنهدت بأسف :
-وأنا ملكت الدنيا كلها بيك ، وجودك عوضني عن أهلي .. وعن صحابي وعن الدنيا كلها ، أنا اكتفيت بيك يا هاشم ونفسي حبنا يفضل مكمل لآخر عمري ..
أمسك بكفها ليقبله وقال مستفسرًا :
-سامية سابت ليه البدو وجات تعيش هنا !!
-حياتهم صعبـة ، مستحملتش تعيش هناك خاصة أنها غريبة ، وجينا عشنا هنا جمب خالو .. ومستنية اليوم اللي نعرفهم أني اتجوزت أعظم راجل في الدنيا ..
ثم اغرورقت عينيها بخوف من الغد وهي تغلغل أصابعها بفراغات يده وتترجاه بعينيها المحمرة :
-أنا وأنتَ هنا وربنا وحده شاهد علينا ، عايزة أقولك إني والله حبيتك وعمري ما اتخيلت إني هحب راجل زي حبي ليك .. ممكن توعدني أنك مش هتسيبني مهما حصل ؛ عاقبني براحتك بس بلاش تحرمني منك يا هاشم .. أنا ممكن أموت فيها .
فاضت الأعين بالأسرار ولكن الألسن مازالت صماء ، طالعها بكل لهفته ليقول :
-بكرة لما تعرفي أنا حاربت أيه عشانك ساعتها هتعرفي حبي أد أيه !!
ألقت حمولها بين يديه وهو تحضنه لتدفن صوت بكاءها بكتفه فتلاطمت صوت الأمواج وكأنها تصرخ شاهدة على حبهما .. فسألته بخفوت لتلطف الجو وتشتت حزنها :
-صفية هتحبني زي بنتها ولا هتعمل عليا شغل الحموات وتطلع عيني !!
انحني ليحمل بين يديه متجهًا نحو سيارته المصفوفة وقال بمزاحٍ :
-لا طبعا دي هتطلع عينك وعيني وعين سامية !! بس متقلقيش أحلام هتحبك قوي ..
-وأنت بتحب مين أكتر ، أحلام ولا صفية ؟!
عقد ملامحه وهو يواصل سيره مفكرًا :
-سؤال تعلبي !! بس هقول لك ، دايما مقتنع أن الأم هي اللي ربت مش اللي ولدت .. أحلام علمتنا كيف نحبوا ، كيف نسمعوا صوت قلوبنا ، أحلام وهي أحلام فعلًا كل كلامها يفصلك عن الواقع كأنك في حلم جميل مش عاوزاه يخلص ..
ثم دللها براحتي يده كمن يلاعب طفلة صغيرة وأكمل :
-لكن صفيـة دي معندهاش فلتر اللي في قلبها على لسانها .. عصبية شويتين بس قلبها طيب ومفيش أطيب منه ، بس أحنا تملي بنميل للقلوب الحنينة ..
-يعني كفة أحلام هي اللي كسبت قلبك ؟!
ارتسم ابتسامة واسعة على محياه وهو يفتح باب السيارة ويجلسها برفق ثم شد حزام الأمان فوقها وضبط المقعد لتمدد قليلا وتراجع ليجلس على طرف مقعدها وساق تلامس الإطار وآخرى بالأرض متأهبًا لاغتنام غزالته الشاردة وهو يقول بصوت خافت رافضًا اعترافه صراحة بحبه لأحلام أكثر من أمه :
-مفيش غير كفتك الكسبانة في قلبـي ..
قال جملتـه وهو يكسو عنقها الريمي بهمس القُبل ونال وجهها الذي يضوي كنجم الثريا بفتيل الحب والتي فاضت من قلبـه لتروي أراضيها .. لم تتمرد كعادتها لم تحتج بالبحر والصحاري خشية من أن يراهم أحد ، أكتفت بإغلاق عينيـه وهي تقبض على ملابسه بأصابعـه مانعة هبوط دمعهـا الذي أوشك أن يودعـه .. ابتعد عنها بعد ما روي جزره القاحلة وسألها :
-نروح البيت ولا نتعشى في أي مكان !!
تراقصت جفونها بتردد وهي تراقبه ملامحها الساطعة بعشقها وتقول بهمس شفتيها :
-نروح بيتنا .. الوقت اتأخر ..
••••••••••••
~العزايزة ..
كانت تجلس في منتصف فراش " أحلام " عاقدة ساقيـها بعد ما اقترحت عليها السيدة العجوز أن تقوم بتسريح شعرها وتصنع لها ضفيـرة قبل أن تنام .. فوافقت بسعادة وكانت هذه أول سيدة تلامس شعرها بعد مربيتها الشخصيـة ، عقدت أحلام شعرها بضفيرة زادت من براءتها وبرزت زهو ملامحها أكثر ، ثم زينتها بالطوق الذي يتناسب مع لون بيجامتها الفضفاضة ذات أكمام طويلـة من خامة القطيفة باللون الزيتي .. قفزت ليلة لتطالع صوتها بالمرآة منبرة :
-واو تجنن يا أحلام !!
ثم عادت لها بامتنان لتقبلها برأسها وتضمها بحب :
-حقيقي أنتِ أجمل وأحن ست شوفتها بحياتي ..
إمراة خُلقت بغريزة الأمومة دونما تبقى أم ، فباتت مشاعرها الفائضة من نصيب كل من يقترب من جنتها .. ربتت أحلام على ذراعها بحب حتى جلست ليلة بجوارها فأخذت تتأمل ملامحها ونقاء بشرتها ، عينيها ذات الرسمة المميزة التي تميز نساءهم ، أخذت تمرر يدها المنكمشة فوق تضاريس وجهها و تقارن بينها وبين ملامح عمتها ( مُهرة ) وصديقة أحلام المقربة وابنة عمها والتي توفت منذ عشرة أعوام .. وهي تتساءل بعتب:
-أنا كيف مخدتش بالي !!
ابتسمت ليلة مجاملة بعد فهم:
-نعم يا طنت!! بتقولي ايه !!
غيرت أحلام مجرى شرودها وقالت مؤكدة :
-يعني الواد اللي مع الحچ خليفة قالك باقي لهم ساعة ويچوا إهنه ..
-مش سمعتي بنفسك وكمان هيثم راح يستناهم على المحطة وو
ثم قفزت فكرة برأسها :
-أفتكر مفيش حد صاحي غير أنا وأنت الساعة دي ، أيه رأيك أقوم أعملنا كوبيتين شاي وندردش سوا لحد عمو الحج ما يرجع ..
راقت لها الفكرة وهي تقول بهمس :
-طب أمشي على طراطيف صوابعك عشان محدش يحس بيكي وحطي لي ملعقة سكر في الشاي بس أوعي هارون يوعالك ..
أومأت بحماس وهي تقفز من مكانها حيث راقت لها الفكرة ولم تتزحزح خطوة ففوجئت بصوت طرق الباب وصوت حمحمة هارون مستئذنا للدخول ، نظرت لأحلام بعتب :
-بيجي على السيرة ؛ يالهوي عليه بجد …!!
شدتها أحلام عنوة لتجلس بجوارها وتنادي عليه :
-تعالى يا حبيبي !!
فتح الباب ووجهه بالأرض متلفحًا بعباءته الصعيدية فوق ملابسه الرياضية ، تعمدت ليلة ألا تطالعه أبدًا واحتجت بانشغالها بالهاتف وهي لا تعلم عما تفتش ولكنه الوسيلة الوحيدة التي تجذب انتباهها عنه .. أردف هارون بعد ما ألقى نظرته عليها وعلى تسريحتها الطفولية بإعجاب ليقول :
-چيت افكرك بدواكي يا أحلام ، خديته ؟!
انكمشت ملامح أحلام وهي تقول على سجيتها :
-خدته كله يا حبيبي متقلقش .. وو
احتدت نبرته وهو يحاور أحلام بعينيه لتتفهم مقصده وإنه لا يقصدها بل يقصد طائره العنيد الذي يتجاهل النظر إليـه :
-دواكي اللي قبل النوم يا أحلام خدتيه !!
أدركت أحلام مقصده وعلمت بإنه يقصد" ليلة " فرفعت سبابتها بالنفي لتقول بتوجس :
-لا لسه يا حبيبي !!
زمجرت رياح غضبه بصوته المرعد وهو يأكلها بعينيه :
-يعني ايه لسه !!!متهزريش يا أحلام الچلع ديه ميرضنيش وو
دب الخوف بقلبها كي لا يفجر غضبه بوجهها ؛ بتلقائية إثر فزعها من نبرته القوية تركت الهاتف من يديها وهرولت نحو الأقراص التي وصفها لها الطبيب المعالج بواسطة عمار وبدون ما تنظر له وصلت للكمود الآخر و تناولت أقراصها بيدها المرتجفـة ثم جففت فمها من أثر الماء دون التطلع نحوه ولكنها اكتفت بشكر أحلام :
-مرسي يا أحلام فكرتيني بالدواء بتاعي .. هااا قوليلي بقا فين الدوا بتاعك أنتِ كمان عشان تاخديه ، عشان محدش يتعصب عليكي كل شوية .
ضحكت أحلام بدون صوت وهي تلقي نظرتها الماكرة على هارون وتقول بخبث :
-ليلة كانت هتعملنا كوبايتين شاي ، أيه رأيك تخليهم تلاتة وتقعد تتساير معانا ..
هبت ليلة معترضة وهي تتحاشى النظر إليه :
-أحلام من فضلك انا قولت لك هعمـل كوبايتين شاي ، أنا وأنت بس ؛ ولو حد تالت هيقعد معانا ، سوري أنا هرجع أوضتي و
قطع هارون نبرتها وهو يقول بشموخ :
-مش عاوز يا أحلام چيت بس أقول لك تصبحي على خير و ..
فقطعته بتمتمة :
-أحسن بردو ..
فتساءل متعمدًا إثارة استفزازها :
-بس أنتِ متوكدة أنها هتعرف تعمل لك الشاي بتاعك !! ولا هو إهدار موارد وربنا يعوض علينا ..
نظرت له باندفاع رافعة سبابتها بوجهه :
-على فكرة الشاي بتاعي حلو جدًا ولو دوقته مرة مش هتعرف تشرب غيره بعد كدع وو
ثم جلى حلقها متذكرة خصامه فنظرت لأحلام وهي تلوح بكفها وتتناول هاتفها :
-نسيت مش بكلمك !! طنت أحلام أنا ماشية .
منعتها أحلام:
-رايحة فين أنتِ هتباتي چاري الليلة ..
رفع حاجبه مستغربًا من لطف أحلام الزائد معها ، فأردفت ليلة بعفويـة :
-وعمو الحچ !! أنتِ نسيتي .. ؟!
-لا النهاردة ليـلة البت صفيـة ، خليكي واخدة بحسي أوضتك سقعة عليكي ..
قبلت على مضض وهي تقول لها بحماس وتغمر بطرف عينها متذكرة اتفاقهم :
-هروح أعمل لك الشاي ..
ثم دارت كالفراشة بخفة تحت أنظاره التي تحرق كل إنشٍ بها .. ألقت نحوه نظرة خاطفة ثم فرت من سطوه ، غادرت الغرفة بهدوئها الاعتيادي فأشارت أحلام لهارون أن يجلس بقربها ، تحمحم مستردًا جاهه وقوته :
-شكلك سهرانة !!
-ما أنت عارف عيني ما عتغمضش وأبوك مش فالبيت ..
جلس هارون بقربها يتساءل بمزاح :
-والله يا أحلام أبوي محظوظ بيكي ، ما تقوليلي ألقى واحدة زيك فين ؟!
-مسيرك هتلاقيها ؛ بس مش زينة ..
مسحت على رأسه وهي تتأمل ملامحه وقالت :
-أنتَ لساتك مُصر عليها يا هارون !!
-ليه عتقولي إكده !!
-حساك مش مبسوط ولا دي فرحة عريس ، وبعدين زينة مش علامك ولا تفكيرك ، ما تفكر تاني وتفكك من الچوازة دي ومن نغچ أمك .. قلبي مش مرتاحلها والله ..
رد بيأس :
-يا أحلام مافارقاش .. زينة ولا غيرها أهي چوازة والسـلام ..
سألته مشفقة على حاله :
-طب وقلبك ياحبيبي ، ماهو كمان له عليك حق .. اختارله اللي تونسه بقية عمره ..
رد بتلك النبرة التي يملأها الخزى :
-يعني بذمتك ٣٥ سنة فاتوا من العُمر ولسه هدور أحب واتحب ، يا أحلام خلينا نچيبوا عيلين في الدنيـا يسندونا لما نكبروا وخلاص ..
عارضته بإصرار :
-لا يا هارون متقولش إكده يا ولدي !! ومين قال لك الحب بيدوروا عليه !! الحب عارف صُحابه وعيچيلهم لحد عنديهم ، عيجيلك من غير اذن ، أنا مش عاوزاك تعيش عيشة أبوك وأمك .. أمك كانت لأبوك مكنة تخلف له عيال وبس .. لكنه كان يجي في حضني وينسى الدِنيا كلها ..
ثم وضعت كفها على قلبه اليأس من الحياة :
-أوعاك يا هارون تتچوز واحدة عشان الخِلفة .. اتچوز اللي تلاقي روحك معاها حتى ولو مش هتخلف لك يا ولدي .. لو لي غلاوة عندِك فكر في موضوع زينة دي تاني وو
قاطعها باستسلام :
-محدش هيقدر يكسـر كلمة للحچ خليفة ، النصيب غلاب خلاص .. وو
جاءت ليلة حاملة بيدها ثلاثـة أكواب من الشـاي ووضعتهم على طرف الكمود لتستمع لحديث أحلام مع هارون وهي تنصحه :
-الچواز ياحبيبي اللي وصانا بيه ربنا هو ما كَفا وما عَفا وما وفَا وما رَق بهِ القَلبُ واكتَفى ..
اتسعت الأعين نحو مدرسة الحُب التي تُنير دروب قلوبهم الحائرة لتقول ليلة بإعجاب شديد وهي تعبر عن حالتها :
-الله .. حلوة أوي .. أنا قشعرت بجد ..
فما جذب انتباهه ملامحها التي أشرقت فجأة وهي تمدح حديث أحلام ولا يعلم أن قلبـه حركة بوصلة مشاعره نحو من ترافقه وتؤنسه سنوات عمره .. فتنهد بصوت منخفض والتفت لأحلام التي تشكو منه إليها بكناية :
-يرضيكي يا بتي واحد يتچوز واحدة مش رايدها قلبه !! ده ربنا خلق حواء لآدم عشان تونسه في الچنة مش عشان يخلفوا !!
عاتب أحلام همسًا وهو يحك ذقنه :
-بقيتي تطلعي أسرارنا بره يا أحلام !!
رد ليلة بعفوية وهي تقاوم بألا تنظر له :
-لا طبعًا ، كده بيظلم نفسه وبيظلم الشخص اللي معاه .. حرام عليه بجد .
فـ رد متعمدًا إثارة غضبها :
-مش يمكن لما اتچوزها قلبي يحبها ؟!
فسألته أحلام على الفور :
-ولو محبتهاش !! أيه الحل ..
رد ببرود :
-اتچوز التانية والتالتة والرابعـة لغاية …
فقاطعته ليلة بضيق :
-لغاية ما يجننوك إن شاء الله ..
بلل شفته التي جفت من سخريتها فردت أحلام مسرعة لتؤيدها :
-بتتكلم صُح على فكرة ..
أخذت ليلة كوب الشاي الخاص بها ودارت حول السرير لتجلس في الجهة الآخرى وهي تقول :
-أحلام أنا عملت ٣ شاي عشان لو حابة تعزمي على ضيوفك .. كوبايتك اللي على اليمين ..
نظرت أحلام لهارون الذي يستشيط غضبًا من تجاهلها وقال بفظاظة :
-تشكري يا أحلام ؛ بس يارب يكيفني ..
صعدت فوق الفراش لتعقد قدميها وتجلس بقرب أحلام وهي تتأفف بضيق وترتشف كوبها وتتمتم في سرها بكلمات غير مفهومة ، مد ذراعه ليعطي أحلام كوبها ثم أخذ كوبه ليرتشف منه رشفـة خفيفة وبتلقائية تلصصت النظر لعنده لتعرف رده بفضول ، فـ بدّ الإعجاب على ملامحه وهو يرفع كلا حاجبيه مستلذًا بمذاقه وما أن جاء ليطالعها فصرفت نظرها عنه بسرعة وترتشف رشفة أخرى ، أشادت أحلام بمذاق شايها :
-أحلى كوباية شاي اشربها في حياتي .. تسلـم يدك يا بتي ..
ثم نظرت لهارون بخبث لتسأله :
-ماتقول رأيك يا هارون !!
رد بجمود :
-عادي .. أهو شاي ..
حملقت ليلة بأحلام التي طايبت خاطرها بنظرة ثم قالت محاولة تهدئة نفسها :
-مش هتعصبني لا ..
ساد الصمت لدقائق قليـلة حتى ارتشف هارون كاسته لأخرها ، ارتسمت الضحكة بتلقائية على وجهها وهي تلحظه يضع الكوب من يده ، فقالت بتمرد :
-أنتِ تعرفي يا أحلام أن الأسطورة بتقول ..بس الأول هحكي لك القصة ..
قاطعها بنظرة ثاقبة ممزوجـة بابتسامة خفيفة تُحس ولا تُرى ، فتجاهلت وجوده تمامًا ودارت نحو أحلام وهي تروي لها تفاصيل الأسطورة وتقول :
-قبل اكتشاف الشاي ، كان زمان في أمير صيني بطنـه كانت بتوجعه وصداع مستمر مش مبطل ، لدرجة أن باباه الملك جابله كل الأطباء على مستوى العالم محدش عرف يعالجـه ، فأخرج فرمان وقال الطبيبة اللي هتقدر تعالج ابني هتكون هي زوجته والملكة المستقبلية للحكم .. والطبيب اللي هيقدر يعالجـه هيمسك منصب كبير في الدولة .. المهم بقا جات طبيبة عربية اسمها صوفيـا .. وقالت أنها مستعدة تعالج الملك ..
ثم ترنحت في جلستها بدلال انثوي غير مبتذل أمامه وأكملت بنفس الشغف :
-طبعا الملك كان قلقان وحس بالخيانة .. وبعد ما أخد العهد عليها أن حياتها قصاد فشلها .. دخلت الطبيبة وعملت مشروب الشاي للأمير وشربه والغريب انه حاله اتحسن بعد كام ساعة مع أول كاس .. واتعافي الأمير وحب اوي الشاي ده. وأمر بزراعته في كل البلد واتجوز من الطبيبة صوفيا واتعملهم أكبر فرح فالمملكة ..
ثم لوحت بكفوفها بطريقة روي الحكايات وأتبعت :
-ومن هنا جات الأسطورة تقول ؛ أن كوباية الشاي هي رمز الجواز ، فـ أي شاب يعجبـه شاي حبيبته أعرفي أنها إشارة أنهم هيتجوزوا ويكونوا لبعض .
تمتم هارون بهُزئ:
-حتى الشاي صعبتوه علينا !!!
ثم رمقت هارون المستمتع بحوارها مع أحلام وقالت :
-والحمد لله طبيعي الشاي بتاعي مش يعجبه ولا حاجة .. بس شاي زينة آكيد بيعجبه !!
ثم نظرت له بخبث بريئ:
-مش كده !!
راقت له لعبتها الجنونية ليقول متعمدًا استفزازها :
-اومال !! مفيش أحلى من شاي البت زينة ، دي كفاية نفسها فيه .. يخربيتها معرفش عتعملوا كيف ! -ثم دندن سرًا وهو يحك ذقنه -مايتشربش ، آكيد برجليها ..
أول مرة نظرت له أحلام كوب هارون الذي ارتشفه لآخره لتقول بخبث :
-وأنا أقول الحچ خليفة مكنش يشرب غير من يدي الشاي ليه !!
تعلقت ليلة في قشـة صدق اسطورتها:
-شوفتي .. يعني الأسطورة مكذبتش !! عشان أنتي مراته وحبيبته الشاي بتاعك بيطلع مميز بالنسبة له ما يعرفش يشربه من حد غيرك ..هو وسام الحُب ما بينكم عشان لونه أحمر بلون قلوبنا اللي بنحب بيها .
طالعته أحلام بإعجاب وهي تقول:
-عتقول كلام حِلو قـوي يا هارون .. اسمع واتعلم
رد ساخرًا :
-ماهو ديه اللي فالحة فيه ، الحواديت وكلام ميسواش تلاتة تعريفة ..
زفرت ليلة بضيق وبدون أي نية منها تمتمت جملته بعفوية وهي تنشغل بهاتفها :
-يا صبر الصـبر ..
اندهشت أحلام :
-ايه !! هو علمهالك !! ألحق يا هارون ..
ولت نحوه بصدمـة غير مصدقة ما قالته لترتطم بملامحه الفظة بداء الغرور وهو يقول :
-سيبيها تاكل عيش يا أحلام …
-مستفز …
~بالخارج ..
لقـد عاد هلال بصُحبـة رقية من المدافن بعد إصرارها بزيارة أمها في الليـل ، فلبى طلبها وأخذها ومرت أصعب لحظات عليها وهي تراقب أحبتها يحضنهم التراب بدل من ذراعيها ، لم يخلٌ لقاءهم بنصائحه وبمحاولات تهدئتها وحثها على الإيمان خيره وشره وهذا هو أمر الله .. دلف الاثنان من سيارته ، فـ كانت خطواتها ثقيـلة وبطيئة تتبع مسار سيره بهدوء ..
لاحظ هلال إشعال نور غرفة أحلام وصدى صوت منها ينبعث ، فتطلع نحوها قائلًا بنبرة حنـونة :
-أحلام لساتها منمتش ، تيچي تسلمي عليهـا ..
رفعت جفونها عن الأرض لتُرمقه بحزن وخيم وبتردد :
-مش چادرة .. أي حاچة ..
ابتسم بخفوت وهو يتبع السير نحو الغرفة :
-لقاءها لم يرهقك بشيء ..
وصل هلال لأعتاب الغرفة فوجد ثرثرة أصواتهم عاليـة والخلافات والكثير من ضحك أحلام التي لم يراها بهذه البشاشة منذ زمن ، ألقى تحيته :
-السلام عليكـم ورحمة الله ..
توجهت النظرات ناحية هلال الذي يقف على الباب وخلفه فتـاة في ثوبها الأسود ، امتدت أعين ليلة بفضول تتساءل عن هويتها الحقيقة ، ولكن قطع هلال فضولها قائلًا :
-رقية چاية تسلم عليكِ يا أحلام ..
رفعت أحلام الغطاء من عنها وهو تقوم لترحب بضيفتها :
-يا مرحب يابتي .. نورتي بيتك .
ثم ضمتها بحضنه بحنان أم وهي تربت على كتفها :
-تعالى في حضني ، أمك راحت لكن ربنا رزقك بأمين غيرها ، أنا وعمتك صفية ، ولو مشالتكيش الأرض أشيلك چوة عيني يا حبيبتي ..
انفجرت رقية في البكاء مع أول ضمة ، فكان المشهد مثير لألف فضول يطغوا على جيش الكبرياء ، مالت نحو هارون متناسية خصامهما لتسأله بلعفك :
-هي مين دي ؟! هاه ؟! مين؟!
وشوش لها بصوت يحترم فيه حزن زوجة أخيه وأخيه ليُجيبها :
-مراة هلال !!
تثاوبت ليلة إثر بدء مفعول الدواء :
-أحيه !! هو اتجوز امتى ؟!
رد بتلقائية والبسمة لا تفارقه :
-الصبح !!
عقدت حاجبيها بذهول :
-الصبح !! أنتوا كلكم مجانين كده !! قصدي ازاي يعني الصبح انا متعزمتش على الفرح !! وو
قاطعها مستفزًا وهو يغمز لها :
-متزعليش ، هابقى أعزمك أنا على فرحي ..
سكب دلو مثلج فوق رأسها جعلت ملامحها تتجمد لتتراجع للوراء وتتشبث بالغطاء وهي تراقبه بسخط :
-أحيه !! أنا مش بكلمك أصلا !! لو سمحت متكلمنيش تاني واحترم اتفاقنا الله !! ولا هو اتفاق عيال يعني!!
لم يعلم سبب تسرب الضحكات لروحه وهو يستلذ بالنظر إليها ، تجاهل سجيتها ووثب بجوار أخيـه ليتهامس معه :
-عاوزك ..
فأوقفهما حديث أحلام وهي تخبره :
-هلال ، سيبها نايمة في حضني الليلة دي ، البت يا حبة عيني تقطع القلب !
رد بثبات وبدون أي ملامح وهو يقول :
-حضن زوجها أولى بها وبحزنها يا أحلام .. ولا أيه !!
فرت الضحكة المكتومة من على وجه هارون لترسو على وجنة" ليلة " التي تمدد ثغرها ثملًا بالضحكة ، كل منهما أرسل نظرة سريعة للأخر ، فوشوش له هارون بنفاذ صبر :
-عقولك عاوزك ..
-صبرًا ..
تأفف :
-ديه ياصبر الصبر ..
ثم ربت على كتف رقية التي تجهش بصدر أحلام قائلًا :
-رقية .. هيا على غرفتنا ..
ابتعدت عن أحلام وهي تكفكف عبرات ، فمسحت العجوز على رأسها :
-حبيبتي هوني على روحك ، اطلعي افرطي جسمك والصبح تعالي أقعدي معاي .
أومأت بخفوت ثم نظرت لهلال تعلن رحيلها .. سار خلفها وهو بتبع خطواتها ، فأتبعهم هارون الذي يراقب أخيه كي يودع ظهر زوجته بالنظرات مع كل خطوة تخطيها ، وقف أمام أحد درجات السُلم كي يحرسها بأنظاره ويطمئن أنها وصلت لغرفتـهما .. ضيف الحب أن حلَ لابد من أنه يرسم بيده الضحك على جميع الوجوه حتى وأن اقتحم موطن عزاء ، حك هارون ذقنه ليخفي ضحكته قائلًا :
-يا صبر الصبر !!
أما عن ليـلة التي استقبلت أحلام بفضولها :
-أحلام ، احكي لي كل حاجة ، أنا مش فاهمة حاجـة .. !!
عاد هلال لأخيـه ليرى ما الأمر الذي يحتاجه به ، أخذ الأخوة يتحاوران حول موضوع المجلس وخبر عزلهم لهلال ، وآيضا جاءت سيرة شريف أبو العلا الذي بات ثأره مع هلال وهارون الاثنان معًا .. مرت قرابة النصف ساعة على حديثهم حتى نهض هلال قائلًا :
-كل شيء سيبقى على ما يرام !!
غادر أخيـه ليصعد لغرفته التي زُينت بزهرة الحُب وأصبح بها من يؤنس لياليه ، وآيضا تحرك هارون عائدًا نحو غرفة أحلام ليخبرها بأنه سينتظر أبيه بالخارج ثم ينام ، ولكن لفت انتباهه غرق " ليلة " في النوم العميق على فخذها ، فنادته طالبة :
-تعالى ساعدني يا هارون نعدلوها .. كانت بتحدتني وفجاة لقيتها نامت ..
وضح لها هارون الأمر قائلًا :
-العلاچ لازمًا ينومها ؛ ديه زين أنها قادرة تكلمنا وتتحرك .. وو
حاولت أحلام أن ترفع رأس ليلة ولكن لضعفها وكبر سنها عجزت عن فعل ذلك .. مال هارون ليزيح خصلات الشعر المبعثرة عن ملامحها ويضع كفه تحت كتفيها ويحركها فوقه ليريح رأسها على الوسادة ، فأشفقت أحلام عليها وهي تشد الغطاء فوقها وتقول بحزن :
-بت زي توب القماش الأبيض ، مفيهاش ذرة خبث ولا مكر ، قلبها بفتة بيضة ..
ظل يتأمل ملامحها الهادئة وهي تنام بهدوء ليقول :
-والله ما عارف يا أحلام ! البت دي وراها سر غريب ولازمًا أعرفه !!
تسرب القلق لعقل أحلام :
-كييف يا هارون !!
شد عباءته فوق كتفيه وقال بتردد :
-ليها فترة عتاخد علاچ غلط ، والفكرة أن أمها اللي مديها العلاچ دي !! علاچ يموتها ما ينفعاش !! كيف أمها دكتورة وتغلط الغلط ديه !!
ندبت أحلام على صدرها ثم نظرت لوجهها الملائكي وأخذت تمسح على شعرها:
-يا ضنايا يا بتي !! اسم الله عليكِ ..
ثم رنت جملته الأخيرة بآذانها متذكرة الطبيبة التي ذهب لها زوجها :
-أمها داكتورة !!
همس لأحلام بحذر :
-أحلام أوعاكي تجيبي لها سيرة لغاية ما أتاگد .. خلي بالك منيها وأنا هفوت عليـك الصبح ..
~بغُرفة هلال ..
لقد فرغ هلال من تأدية صلاة قيام الليـل بعد ما أقنع رقية أن تصلي معـه .. ألقى التحية على يمينـه ثم واصل ذكر الله ثم الصلاة على الحبيب ، حتى دار لينظر إليها فوجدها ما زالت ساجدة وتبكي بصوتٍ مكتوم .. تمزق قلبه حزنًا على حالتهـا خاصة إنه لن يود فرض نفسه عليها ، ففارق سجادة الصلاة وشغل سورة "مريم" على جهازه ، ثم عاد لها وجثى على ركبتيه قائلًا :
-للعلم بكاءك يعذبني ويعذب أمك .. ألا تشفقن علينـا !!
رفعت وجهها عن سجادة الصلاة وكفكفت دموعها وهي تدكر للتو أنهما بغرفة واحدة معًا .. زاد توترها وهي تنكمش حول نفسها لتقول له :
-أنا عاوزة أروح أنام في أوضة هاجر ..
حاورها بالفصحى لغة القلوب لانه دومًا ما يرى أن الحديث العامي لا يليق بالأحبة :
-وغرفتك ! ألا تُعجبك ؟!
حكت كفوفها ببعضهما :
-وأنتَ ؟!
أشار نحو تخته وقال :
-ستنامين هنا ، ولا تحملين همي .. سأدبر أمري ..
أبت بحرج وتوتر ملحوظ :
-كيف !! لا أنا قصدي مش هينفع نباتو في الأوضة لوحدينا وو ..
أمسك بكفها كي يمنع ذهابها وهو يقول :
-لِمَ تصعبين الأمر عليكِ ، لابد أن تعتادي هذه غُرفتنا ..
طالعته بخوف من عقاب الله وهي تسأله :
-شيخ هلال ؛ أنت متأكد أن چوازتنا صحيح أنا حاسة بالحرمانية ؟!
مسح على لحيته وأحمر وجهه وهو يتطلع لها بنظرته التي تربكـها كثيرًا وقال :
-حاسة !! والدين بالأدلة القاطعة وأراء الفقهاء وليس بأحاسسنا !!
ثم دنى منها خطوة وهو يتجرأ ليحوط ذراعيها بكفوفه ويقول متسائلًا :
-تقصدين العدة !!
رفعت جفونها له لترى عيني مقمرتين تفحصها بـ مشاعر غريبة ، أومأت بالإيجاب وهي تلقي نظـرة على موضع يديـه ليقول بحكمة :
-حسب رأي الشافعية والحنفيـة ؛ لا عدة عليكِ .. ولا يوجد أي صلة تربطـك بهذا الحقيـر لأنك الأطباء دبروا الأمر ..
ثم تعلق بأهدابها المبللة وأتبع :
-وحسب آراء المالكية والحنابلة ؛ تقع علي من في حالتك العدة وهي ثلاثة قروء ..
ثم أطال النظر بعينيها وهو يتبع :
-ورأي ثالث ؛ تبرئ المرأة بحيضة واحدة ..
ثم أمسك بذقنها ليرفع وجهها إليه وأكمل بصوته المُريح للنفس :
-زواجنـا صحيح وقائم على الإشهار والشهود وبالسنة النبوية ، وأنا لم ألزمك بشق تمرة من واجبك كزوجة ، نحن اتفقنـا إنك هنا مثل هاجر ..-ليكمل ملاطفًا- بل تزيدين درجة أو درجتين ، كوني أمينة للسر ولا تُخبريها ..
شبح ابتسامة خفيفة ركض على ملامحها يوحي بأمانها له ولكن بلغ التوتر ذروته بقلبها وهي تحت رحمته ونور عينيه وفي ظل الإضاءة الخافتة لتقول بصوت متهدج :
-بس أنا مش هقدر أنام معاك في أوضة واحدة ..
عض على شفته السُفلية محترمًا رغبتهـا وهو يسحبها من كفها لتخته ويجلسها برفق:
-تمام ، نامي بمكانك .. وأنا سأرحل .. هياا ..
لبت طلبه بطاعة وهي لا تعلم أين ذهبت رقية المتمردة التي كانت تناطحه دومًا ، مددت على جنبها غير مكترثة لوقوفه ، شد الغطاء فوقها وهو يقول ناصحًا:
-على جانبك الأيمن كما أوصانا النبي ..
رق قلبه بجرس السلام النفسي الذي حل فوقهما وهي تعتدل على جانبها الأيمن .. وتقفل جفونها سريعًا .. شد اللحاف حد ذقنه وقال :
-تصبحين على الخير كله ..
ثم تناول منبهه الرقمي ، وعباءته الثقيلة ومسبحته تاركًا محموله يدوي صوت القران ثم قال لها :
-هنام في البلكونة ولو حبيتي تطمني أكتر قومي أقفليها من چوة .. لكن أوصيكي خيرًا ؛ ألا تفوتني صلاة الفجر أن دق الجرس أخبريني..
فزغت من مكانها رافضة فكرة نومه في هذه الأجواء الباردة ، قرأ الرفض بعينيها فاستقبلها بابتسامة رضا :
-كي تكونين بحريتك …
أومأت متقبـلة الأمر لتنهض من فراشها وتتبع خُطاه ، ثم وقفت على أعتاب الشرفة وهو يضع كرسين مقابل بعضهما البعض ، فشدت جرار الشُرفة وأحكمت غلق الباب عليه بقلب يرفض تصرفها قطعًا وعقلًا يؤيدها ويُحييها كي تكون بأمان أكثر ..
•••••••••••••
بعد ما جاء الحج خليفة واطمئن قلـب أحلام بإنه وصل سالمًا غانمًا لبيتـه وبدون خوض في أي تفاصيل طلبت منه أن يصعد كي يستريح بغُرفته ليرتاح من مشقة السفر ..وسيؤجلان حديثهما للغد..
ثم عادت لغرفتها لتلقي نظرة على كاسة الشاي التي ارتشفها هارون فوجـدتها قد جفت تمامًا عن باقية الأكواب وكأن لعنة الاساطير أصابت قلبـه ، ففرغت السائل بقلبـه لـ يلين و امتصت جفاءه بدلًا عنه .. قفلت نور الأباجورة ونامت بجوار ليلة التي تتأملها بعيون أم مشفقة على حالتـها وهي تمسح على شعرها وتدعو لها من كل قلبـها …
انفلق الصبـاح وغازلت أشعة الشمس جفون هلال النائم بالشرفة والذي ولأول مرة يضيع صلاة الفجـر ، فزع من نومه كالملدوغ وهو يلتفت حوله كمن فقد عقله ، محاولًا استيعاب حقيقة استيقاظ بعد صلاة الفجر ، طالع قرص الشمس بالسماء وهو يردد بندمٍ :
-يالله !!
ثم التفت للوراء وحاول فتح الباب ، فوجده مقفـولًا ، ظل يهذي بالاستغفار وهو لا يعرف كيف يتصرف في تلك الورطة وخاصة غضبه الشديد الذي عشش في قلبه إثر تضيعه لصلاة الفجر فلا تلومن قلبًا تعلق قلبه بالمساجد أن أضاع فرضًا كأنه ضيع عامًا من عمره بالهواء عبثًا ، نزع عباءته الثقيلة ووضعها على سور الشرفة و التي كانت تدفئه وشرع بطقوس التيمم ليلحق صلاة الضحى ويكفر عن غفوته ،ولسوء حظه لمحه هيثم من أسفل ليمازحه :
-وعلى إكده نومة البلكونة مريحة يا هِلو !!
عض هلال على شفته السفلية متمالكًا غضبـه :
-أخفض صوتك يا أحمق..
عانده هيثم ممسكًا بأذنه :
-عتقول أيه مش سامعك ،أنت عتوشوش روحك عليِّ صوتك وخلي اللي مشافش يسمع .
توعد له :
-بس انزلك يا هيثم الـ ..
داهمه ساخرًا :
-ما تنزل ولا مقفول عليك ..!! ياعيني عليك ؟! شكلك إكده مصلتش الفچر ! واعرة قوي دي يا شيخنا ..
ثم قوس يده على جانب فمه وأكمل :
-ألحق اتاوى قبل صفية ما توعاك ..
جاءت صفية من الداخله لتلوم هيثم قائلة :
-عتكلم مين على الصبح .. ؟!
طالع أخيه صارخًا بصوت مرتفع ليوعيه ولكنه جاء ليفضحه أكثر :
-صفية چات ، عقولك صفية چات !! ادارى ..
ثم ركض نحو أمه ممازحًا ليشغلها عن أمر أخيه :
-صباحك مصفي يا صفصف .. لساتك زعلانة !!.
-الود ودي أسيبهالكم وأهج ومحدش يعرف لي طريق .. أبوك بس يصحى ولازمًا يشوف حل فالچوازة دي !! ويا أنا يا هي ..
-مين ؟! چوازة هِلال أخوي !! قولي حاچة غير إكده ياما ، معندناش طلاچ هو أنا اللي هفكرك .. هلال لبس …
-ماهو لازمًا يكون فيه حل !! البت دي متقعدش في بيتي دِلوق حريم النجع ياكلو في سيرتنا زي اللبانة ..
~بالداخل ..
كانت ليلة خارجة من المطبخ وبيدها مائدة الشاي والكيك بناءً على رغبة أحلام ، حيث أنها كانت تسير ببطء كي لا تقع الصنية من يدها حتى وقف هارون أمامها بجسده الصخري يمنع خُطاها .. قطعت خطوة نحو اليمين فقطع مثلها .. ثم آخرى نحو اليسار فوجدته أمامها ، وقفت بمكانها متأففة :
-عديني لو سمحت !!
تفقد المائدة التي تحملها ثم تناول قطعة من الكيك فعارضته :
-ايه ده !! بتاخد من حاجتي ليه وعلى أدي أنا وأحلام وبس ! اف ؟
-صباح الخير يا أهل الخير ..
أبت أن ترد عليه تحيـة الصباح وامتد نظرها لبعيد خاصة نحو هيثم الذي يقترب منهم ، فتجاهلت وجود هارون تمامًا لتخطو نحو هيثم مرحبة :
-صباح الخير يا هيثم .. !! لو لسه مفطرتش تعالى أفطر معايا أنا وأحلام .. أنا جايبة كيك كتير !
اندفع هيثم مهللًا بها :
-صباح اللي يغني مواويل على عيون ست الحلوين ..
شد هارون عباءته المُلقاه على كتفه متحمحًا بضيق :
-ما تصطبح !!
-مالك يا عمدة !! مضايق ليه ..
تدخلت ليلة متعمدة تجاهلها :
-هيثم سيبك منه ؛ وتعالى اشرب معانا الشاي قبل ما يبرد ..
هب بوجهها :
-ايه سيبك منه ! عيل صغير أنا علعب معاكم !!
ثم هب بوجه هيثم والغيرة تلتهم ملامحه :
-عندك مقابلة في البنك اللي هتشتغل فيه بكرة ، وتنزل دِلوق تشرف على مصنع السكر ، مش فاضيين أحنا للچلع ديه !
تدخل هيثم ملاطفًا :
-مالك يا هِرن !! دي ليلة مش قصدها حاچة ، ولا ايه يا ليلة ؛ ما تقوليلو ..
نظرت لهيثم بملامحها المنكمشة :
-مش بكلمه ..
حك هيثم رأسه مصدرًا إيماءة قوية ويتذكر اتفاقهما بالأمس ، فقال :
-معلش يا عمدة ، عندي أشغال آخرى لازمًا أخلصها ، تقضي ليلة مُصلحتها ومرمطني كيف ما تحب .. رقبتي ليك !
فتحمست ليلة بفرحة متجاهلة زمجرة غضبه التي لا تخفى عن الأعمى :
-بجد يا هيثم !! هنروح فين ؟
تأرجحت عيني هيثم بحيرة وهو يطالع أخيه كي يلحقه من ذلك المأزق :
-مش عارف بس آكيد هعرف ..
جاءت زينـة من الخلف ركضًا وهي تصبح على فردوس لتهلل وتلوح بيديها :
-يا صباح النور على البنور ، صباحك هنا وزهور يا عمدة ..
مال هيثم على مسامع ليلة قائلًا بمزاح :
-أهي أم قويق چات !!
ثم جهر :
-أيه النور ديه يا زينة ، دخلتك ولا زينة العيد ، أؤمرينا ياما أنتَ هتنطيلنا كل صبح إهنه !! إكده كتير وهنتكهربو من كتر الأنوار !!
ثم برر مسرعًا :
-قصدي ادي فرصة للراجل طب يتوحشك ..
تغنجت زينة وهي تقترب من هارون متعمدة غيظ ليلة :
-أومال لو قولتلك أننا طول الليل مكالمات !! هتقول ايه ؟
رد هيثم بثقة وهو يطالع أخيه :
-هقول هارون أخوي من زمان وميعملهاش .. رغي التليفونات عيكهرب يده ..
-المرة هيكهرب قلبه ، طب حتى قوله يا هارون ..
رد هارون بضيق وهو يتأهب للذهاب :
-أقول حاچة محصلتش !!
بلعت ليلة طُعم كيد زينة ، فشدت وتر الغيرة وهي تنادي هيثم :
-هيثم انا هفطر مع أحلام ، واجهز نخرج سوا .. هكلمك ..
هتف هيثم بسعادة ليثير غضب أخيه أكثر :
-على رنات يا لوليتا ..
برق له أخيه بغضب وهو يبتعد عن زينة ليلحق بـ ليلة التي طيرت برجًا من عقله:
-هصبح على أحلام ..
فجاءت صفية من الخارج لتقول بضيق :
-وانت يا كبيرنا !! ناوي تچيب شبكة الغلبانة دي ميتى؟! البت خللت چارك !!
وقفت ليلة على أعتاب غرفة أحلام وقلبها ينتظر رده ، لا تعلم لماذا وربما فضول منها ، فـ رمى نظرة لعندها وهو يرد على أمه بملل وألف صوت يصدح بقلبه رافضًا :
-خديها وروحوا هاتو الشبكة النهاردة وهعدي على الچواهرجي أحاسبه ..
في غِصة النظرات دموع خفية لا يعلم حقيقتها إلا القلوب وأعين من أحبوا بصدق .. انتفض قلبها مثلما انتفض كفها الذي يحرك مقبض الباب وهي تتطلع له وكأنها تتوسله أن يراجع نفسه في قراره ، أن يأخذ بنصيحة أحلام .. أن يتوقف عن فعله مهما كانت العاقبة !! هللت زينة بالزغاريد ولم تراعٍ حزن أحد ، ففزعت رقية من نومهـا وأول ما بحثت عنه هو ذلك الرجل الذي قفلت عليـه باب الشرفة بالليل ، هرولت مفزوعـة من مرقدها لتفتح له الباب وهي تعتذر بجملة الاعتذارات :
-راحت عليّ نومة ، معرفش كيف ، والله فضلت صاحية للفچر مستنياه عشان أصحيك بس غصب عني نمت ، أنا مش عارفة أقولك أيه ، والله …
قاطعها برفع كف يده أن تكُف عن الاعتذارات ودلف الغرفة بمعالم وجهه التي تكظم الغضب ، فتح الخزانة ليتأهب لنزوله المعهد الأزهري يلقي محاضراته الأسبوعية في الفقـه .. تابعت خُطاه معتذرة وهي تترقرق بالدمع :
-حقـك عليّ ..
دار لها بغضب دفين وهو يراجع نفسه بحزن :
-رقيـة ، ليس لكِ ذنب ، هذا ذنبي ..
فأكمل مبررًا:
-ربما هذه عاقبة رفع صوتي على صفية .. سأحل أمرها الآن ..
أحست بالذنب أكثر وأنه وقف بوجه أمها لأجلها ، فانفجرت بالبكاء وهي تعتذر بشكل هستيري :
-أنا أسفة مكنتش عاوزة كل ديه يحصل ، خربطت لك حياتك ، ودنيتك .. وأنتَ مالكش ذنب .. هلال حقك عليّ ، كفاية وسيبني أمشي أنا عايشة غريبة إهنه .. سيبني وليّ رب يتولاني ..
فجر غضبه وهو يضرب باب الخزانه بيده البيضاء التي لُطخت بحُمرة الغضب وهو يزأر بوجهها ويأخذ نفسه بصعوبة لينجي عاقبة ضياع للفجـر لأخر اليوم :
-رقية .. يكفي ..
عاندته باكية وصدرها يعلو ويهبط وهي تتراجع للوراء :
-أنا ماليش عيش في البيت ده ولا معاك ، أنتَ مُصر تشيل حِمل مش حِملك ليه !!
أغرورقت عينيه بدمع الحزن عليها ليقول :
-أنتِ حِملي يا رقيـة ..
هزت رأسها رافضـة قراره :
-لا يا هلال .. أنا غلطت لما وافقت ، غلطت .. أنا واحدة مش هتفيدك بالعكس هضرك .. أنا معنديش حاچة أديهالك .. وأنت مش مُجبر تقضي عمرك مع واحدة زيي ..
رفع كفيه كي تهدئ وهو يترجاها :
-الكلام ديه مش وقته يا رقية ، من فضلك أهدي .. وأنا يا ستي راضي ومرحب شايلة همي ليـه !! رقية أنتِ أعقل من إكده .. قومي هنصـلو ركعتين لله وهتهدي ..
هزت رأسهـا رافضة :
-انزل شوف مصالحـك وهملني ، أنا زينة ..
احتدت نبرته قليلًا :
-رقية ، أمرنا منتهي وسواء أبيتِ أم شئت أنتِ الآن زوجتي وملك يدي ، فلا تعاندين ..
نبتت بذور رقية القديمـة بها وهي تستقبل جملته التي حركت كل ساكن بها ، فاكتفت بهز رأسهـا بالموافقة وتجاهلت وجوده وعصبيته واندست تحت لحافها وهي تعاود كُرة البكاء من جديد ، تبكي على أمها وحالها ومر أيامها التي عاشتها .. استعان هلال بالاستغفار كعادته وشغل سورة " البقرة " بصوت عالٍ وهو يراقبـها بصبر يطاهي ثقل الجِبال فرق كتفيه ، ليضرب كف على الآخر وكل ما فعله أنه أرسل رسالة لزميل له يبلغـه عن اعتذاره اليوم وتغيبه عن المعهد كي لا يتركها بمفردها في هذه الحالة …
•••••••••••
~بغُرفة هاجر ..
والتي استيقظت على صوت رنين هاتفها المتكرر لتجد اسم " شريف " الذي حسم مصير لعبتـه خاصة بعد عِلمه بنسب ليـلة للعزايزة ، فأراد أن يصنع جاسوسًا له منهما .. ردت هاجر بصوت مفعم بالنوم ويملأه الضيق :
-أيوة !!
-دكتورة رقية صحيتك ؟!
ردت باختناق :
-أنتَ شايف أيه !!
شد شريف مقعده الجلدي ليجلس فوقه وهو يقول :
-شايف أن حظي حلو أوي عشان اسمع الصوت الجامد ده وهو لسه صاحي من النوم !!
انتفضت هاجر من فراشها وهي توبخه :
-انت اتچننت ولا ايه !! شكل قعادك مع المبرشمين والشمامين لحس نافوخك زيهم .
استخدم نبرته الملونة بدهاء الثعالب :
-طيب اعتبريني مش في وعيي وعذري معايا وتسمحي لي أقول لك أنك مفارقتيش خيالي من إمبارح ؟! وأنك أجمـل واحدة أنا قابلتها ومنعت نفسي طول الليل أكلمك بالعافية . و
نهرته هاجر بحدة :
-و أنك محتاچ تفوق عشان تعرف أنتَ عتكلم مين !! أنا هاچر العزايزي بت في ضهرها أربع رچالة يسدوا عين الشمس لو مش ماليين عينك ، أنا هخليهم يقلعوهالك عشان ما تشوفش تاني ويبقى عذرك معاك صوح ..تمشي براحتك تخبط في بنات الناس ..
ثم قفلت المكالمة بوجهه وهي تسبه بسرها :
-عاوزة مني أيه الچدع ديه يا ربي !!! هي ناقصاه !! طب والله لأقول لهارون خليه يعلموا الأدب ..
•••••••••••••
~بغرفة أحلام..
مد لها هارون القرص العلاجي الذي من المفترض أن تأخذه بعد الأكل وناولها كأس الماء تحت عيني ليلة التي تتحدث بالهاتف مع أحدى رفيقاتها ، وما أن رأت اهتمام هارون بأدوية أحلام تحركت بخفة وتناولت قرصها الصباحي بهدوء كي لا تدخل بشجار آخر معه ، فأرسل لها نظرة خبيثة دون أن تلحظها ووجه حديثه لأحلام :
-نمتي زين ؟!!
لتردف على سجيتها :
-نمت يا حبيبي ، خدت البت السكر دي في حضني ونمت ومدرتش بالدنيـا ، نومها كيف الملايكة ؛ طول الليل نايمة على جنب واحد ما اتحركت يا ضنايا .. و
رمقها بنظرة مبطنة بالإعجاب :
-لأجل بس لسانها عاوز يتقص ..
لكزته أحلام معاتبة:
-متقولش إكده، دي سكر ولسانها عينقط سكر ..
ثم وشوشت له وهو تلقي نظرة على ليلة الواقفة على أعتاب الشرفة :
-عاوزاك تحكي لي علّى حوار أمها ديه ، بس لما تمشي ..
حدج أحلام بنظرة حادة متفهمًا مقصدها ثم لاحظ ليلة بأنها عادت لتأخذ نوع آخر من الدواء نسيته بعد ما انهت مكالمتها ، لينهض مفتعلًا أي حوار معها :
-ربنا يشفيكي …
تركت الأبريق من يدها بغيظ وهي تعاتبه بجزعٍ :
-ملاحظة أنك كُل مرة تبص لي كده وتقول ربنا يشفيكي وتمشي !! ممكن أفهم فـ أيه مش عاجبك فيـا ؟!
تحمحم بخفوت قاصدًا الإطمئنان على حالها :
-أنتِ زينـة ؟!
ردت بعفويتها المعهودة :
-لا انا مش زينة أنا ليلة !!
كز على فكيه بنفاذ صبر :
-يا صبـر الصـبر ..
ولى وجهه متأهبًا للرحيل فمنعته بثرثرتها :
-استنى استنى مش هسيبك غير لمـا افهم ! كل مرة تقول ربنا يشفيكي وتمشي ؟! شايفني مجنونة بشد في شعري !! ما تقولي حاجة يا أحلام !!
زفر بامتعاضٍ يطوى خلفه غضبه منها ومن تجاهلها له ؛ ليوضح :
-قصدي أسالك أنتِ زينة .. مليحة .. عتشكي من عييا !
تفهمت آخيرًا :
-اااه ، تقصد أنتِ كويسة !! اه يا سيدي كويسة وزي القـردة أهو قُدامك ! مش شوية دوخة كلنا عارفين سببهم اللي هتعمل عليهم حوار ، ولا عايز تراضي ضميرك وخلاص !!
ضرب كف عـ الآخر مغيرًا مجرى الحديث لينفي اهتمامه بحالتها الصحية نهائيًا وهو يتأمل خُضرة عينيها التي تتماشى مع منامتها :
-طالمـا أنتِ سليمـة .. ما تشوفي شيخ يرقيكي .. ولا أنا الـ جالي عمى ألوان ! ولا أنتِ أيه حكايتك يابت الناس ؟!
-شيخ !!
لوحت بكفها مستفهمة :
-استنى بس .. بالراحة عليـا ، عشان أنا مش فاهمة أي حاجة !
زفر بضيق وهو يتحرك مودعًا أحلام ، فلحقت بخطواته ركضًا وهي تقف أمامه عاقدة ذراعيها أمام صدرها :
-استنى هنا ، وبلاش اسلوبك الاستفزازي ده !!
رد على مضض يغلف به لذته في الحديث معها وقال متأففًا وهو يتعجب من ضحكة أحلام التي تشاهدهم بأعين لامعة :
-يا صبر الصبـر .. ماشي قبـل ما اتخوت على يدك ..
ضربت الأرض بقدميها وهي تعبر عن جزعها منه بنفس طريقته :
-كده بقا أنا الـ هتخوت على يـدك ! لما تقول جملة كملها للآخر !! ولا أنت مش عندك كلام وبتحاول تنكشني وخلاص !! كده مش هصالحك على فكرة ؛ فمتحاولش.
ثم بللت حلقها وأتبعت بسرعة وهي تشير بسبابتها ساخطة من نظراته الممتلئة انبهارًا بخفة روحها :
-أنتَ متعمد تجنني صح !! ده مش أسلوب .. اتفضل اشرح لي حالًا أيه مضايقك مني !فيـا أيه مش عاجبـك أنتَ بالذات ؟! ولا هو جر شكل وخلاص ! غريبة كل حاجة اعملها بتنتقدها !!
رد موضحًا حديثه الذي يخفي ورائه مواويل من الغزل قاصدًا استفزازها :
-ياستي مستغرب على حالك ! كل يوم عينك بـ لون شكل ، اسيبك لونهم زُرق ألقاهم تاني يوم خُضر … ما هو يا أما أنتِ عيانة ، يا ملبوسـة ؟! ما تثبتي على لون .
ردت بقنوط ممزوجًا بالسُخرية وهي تمسك رأسها منه :
-يعني مش ماشية معاك أنهم لينسيز مثلًا !! أنت جاي من أي عصر !!!
رد متفاخرًا وكأنه يذكر قلبه الذي رق لها بأعرافهم التي لا ترحم :
-أنا مخابرش غير عصر واحد وبس ، عصر العزايزة !
بثت شكواها لأحلام :
-شايفة طريقته يا أحلام !!
تدخلت أحلام الغارق بالضحك :
-ما تستهدوا بالله !! أنتوا مش عيال للمناقرة دي !! صل على النبي يا هارون ..
لوحت ليلة بكفها وهي تقعد بجوار أحلام لتشكو لها :
-أحلام قوليلو ميكلمنيش تاني ، أنا غلطانة إني رديت عليه أصلًا ..
ثم فتحت حِدقة عينيها وسألتها :
-لون عيني مش حِلو !!
-قمر واللي يقول غير إكده ما يوعى يشوفهم ..
تمتمت بخوف يحرك نبرتها :
-كلك ذوق يا أحلام وكلامك انتِ اللي قمر ، مش عارفة شكلك نسيتي تعلميه الآدامية في الكلام بدل ما هو ممم زي ما أنت شايفة مش محتاجة أقول لك …
ثم التفت لرنين هاتفها لتقول بعجلٍ:
-ده آكيد هيثم ..
فرغ دخان غضبه وغيرته بتنهيدة قوية وهو يتلصص السمع لمكالمتهم التي لم تخلٌ من الضحك حتى بلغت الغيرة أقصاها وهو يقول لأحلام بجزعٍ :
-خليها تخف مسخرة مع الزفت هيثم !!
•••••••••
خرجت " نجاة " من بيت أهل زوجها وهي تقفـل الباب ورائها مستعدة لذهابها للعمل بالوحدة الصحية ، ففوجئت برؤوف ينتظرها أمام البوابة بدون خوف ، فزعت من رؤيته وهي تتفقد المكان حولهـم خشية من أن يراهم أحد وتتراجاه :
-رؤوف ؛ أمشي من إهنه !! أنتَ أيه اللي چابك !! يا نهار مش فايت ؟
عقد ذراعيه أمام صدره وهو يقول :
-چاي أتقدم لك يا نجاة ، وأشوف صرفة معاهم ..
لطمت على وجهها وهي تترجاه :
-رؤوف بطل چنان ، أنا مش عاوزة اتچوزك ولا نيلة ، سيبني سيبني أربي ولدي من غير مشاكل .. أنا مش حِمل إنه يبعد عني ..
أمسك بمعصمها وهو يجذبها نحوه حاسمًا أمره بخصوصهم :
-نچاة خُلصت .. أنا مش هتچوز غيرك ولو السما انطبقت على الأرض ….
باغته طلق عيار ناري مر بجوارهم وصوت يصرخ من أعلى ويقول ……
يتبع