رواية اصرة العزايزة هارون وليلة الفصل الـ 18 و 19 بقلم نهال مصطفي
رواية اصرة العزايزة هارون وليلة الفصل الـ 18 و 19 هى رواية من كتابة نهال مصطفي رواية اصرة العزايزة هارون وليلة الفصل الـ 18 و 19 صدر لاول مرة على موقع التواصل الاجتماعى فيسبوك رواية اصرة العزايزة هارون وليلة الفصل الـ 18 و 19 حقق تفاعل كبير على الفيسبوك لذلك سنعرض لكم رواية اصرة العزايزة هارون وليلة الفصل الـ 18 و 19
رواية اصرة العزايزة هارون وليلة الفصل الـ 18 و 19
"سبحان بارئ الحب! ما في الوجود كله أعجب منه! أنفعُ شيءٍ وأضرُّه، وأبردُ شيءٍ وأحرُّه، وأحلى شيءٍ وأمرُّه، وأهيجُ شيءٍ وأقرُّه"
—حمزة أبو زهرة.
•••••••••••••••••
"تودُّ لو أنّ كل أيامك تمضي وهي فارغةٌ تمامًا من أي حزن ، فارغةٌ من الناس، المسؤوليات، الضوضاء، فارغةٌ من كل شيء، حتى منكَ إن أمكن.. ولكن كيف وسمي الزمان بالعصر ؛ لأنه لا يترك شخصًا إلا بعد عصره تمامًا فلم يبقى منك إلا جثة "
انصهر جليد ليلة أمس المُحمل بثلجية الأقدار التي لم ترحم الضعفاء اللذين لا مأوى لهم بهذه الحياة .. فر هاشم لملاذه مأمن قلبه بعيدًا عن أسلاك أعرافهم الشائكة التي تخنق روحه بعد إعلان تمرده ..
وصل لأعتاب منزل حبيبته مع دقات الساعة الخامسة فجرًا .. ظل يجوب ذهابًا وإيابا حول باب البيت إثر نسيان رغد هاتفها على الوضع الصامت كعادتها .. تردد كثيرا قبل أن يدق الجرس فحبذا الوقوف إلي أن تستيقظ فتاته التي لم تتأخر في النوم عن الساعة السابعة صباحا .. في تلك الأثناء لمحته السيدة "سامية" من أعلى إثر قيامها لصلاة الفجر وارتشاف مشروبها الصباحي بالشرفة أمام البحر .. تركت ما بيدها ثم هبطت بهدوء وفتحت الباب وهي تُهاتفه بصوتها الهادئ :
-هاشم حبيبي واقف ليه .. فين مفاتيحك ..؟!
دار هاشم ليراها خلف القضبان الحديد الفاصل بينهم وهي تخرج من الباب الخشبي للبيت وقال :
-محبتش ازعجكم .. ونسيت مفاتيحي في قنا ..
هرولت سامية لفتح الباب له وهي ترحب به على أرض الواقع .. حيث عانقته بحنان أم آمنت له ابنتها الوحيدة فاستقبل ترحيبها بقبلة رأسها وسألها :
-عاملة ايه يا حبيبتي ..؟
ردت باختصار :
-تعالى جوه الجو هنا برد ..
تابع هاشم خُطاها وهو يحمل على عاتقه هم العزايزة الذي فر هاربا منه بعد ما أرسل رسالة إعتذار لأخيه عما قال ، لمست أقدامه أعتاب البيت الدافئ وهو يغلق الباب خلفه فاستئذانها :
-هسيبك تكملي نوم وهطلع لرغد ..
أوقفته معارضة ذهابه :
-استني يا هاشم عايزاك .. وفرصة رغد بنتي نايمة نتكلم على راحتنـا ...
حك ذقنه عالما بنوايا تلك النبرة وقال مجبرا :
-اتفضلي ..
عقدت سامية ذراعيها أمام صدرها وهي تحمل بعينيها سيل العتاب ونفاذ الصبر :
-وبعدين يا هاشم ؟ الوضع ده طول أوي وأنا بصراحة مش عاجبني ..
تعمد أن يطيل الحكي مستنكرا فهمه لمغزى كلماتها :
-أي وضع بالظبط ؟!
-أنت ورغد ؟! اسمعني .. أنت لما جيت وطلبت أيدها مني أنا كنت رافضة بسبب ظروفك ولما لقيت بنتي متمسكة بيك مرضتي أقف في طريق سعادتها ووافقت على إنه وضع مؤقت وو...
يبدو أن الجميع قد تآمر عليه ولابد من المواجهة .. قاطعها وهو يقول :
-وحصل وبنتك اتعلمها أحلى فرح في مرسى علم .. ومش ناقصها حاجة .. هي اشتكت لك ؟
-أنت عارف أن رغد عمرها ما هتشتكي لي منك لأنك للأسف اختيارها ؟؟!
ثم دنت نحوه خطوة واحتدت نبرتها صوتها :
-ومن حيث إنه ناقصها فهو ناقصها كتير يا هاشم .. ناقصها تبقى أم .. ناقصها تتعرف على عيلتك وتبقى واحدة منكم .. ناقصها وجود جوزها جمبها كل يوم ..
ثم ابتلعت بقية الكلام المعلق بحلقها وبدلت نبرة العتاب لنبرة الخوف :
-تقدر تقول لي لقدر الله لو جرالك حاجة في شغلك اللي كلنا عارفين مخاطره .. المسكينة اللي فوق دي هتعمل ايه ولا هتروح فين ؟!
ثم تمسكت بيده عندما رأته يتحاشى النظر إليها وأتبعت بقلة حيلة :
-حبيبي أنت ابني ولو مكنتش دخلت قلبي عمري ما كنت هوافق عليك .. بس أنا أم من حقها تطمن على بنتها ياهاشم .. حط نفسك مكاني لدقيقة واحدة..
سحب كفه من يدها وأخذ يمسح على وجهه ولأول مرة يقابله موقف كهذا يشعره بعجز وكأن ناقوس الحرب بدأت أجراسه وعليه بالاستعداد :
-بصي يا طنط .. أنا هربان من البلد بمشاكل مش ممكن تتخيليها .. فمن فضلك اديني فرصة شهرين بس والاجازة الجاية كل ده هيتحل وهعمل لك اللي عايزاه ..
كررت جملته الأخيرة وكأنها تأخذ ميثاق عليه :
-شهرين يا هاشم ؟!
-هاشم العزايزي لما يقول كلمة لازم يكون أدها .. وكل التأخير ده بسبب ظروف في العيلة متلخبطة لكن صدقيني كل اللي عايزاه هيحصل .. حضرتك معاكِ حق ..
ربتت على كتفه بحنان وأمل أن يصدق بقوله تلك المرة وقالت :
-متزعلش مني ياحبيبي .. ومهما كانت المشاكل فأنت أدها يا هاشم أنا واثقة فيك يابني ..
ثم ابتسمت بوجهه :
-يلا أطلع لمراتك صحيها هتفرح أوي برجوعك ، أنا عمري ماشوفت رغد مبسوطة من وقت وفاة باباها غير وأنتَ معاها ، بتحبك أوي على فكرة شيلها في عينك يا هاشم ..
أومأ بالموافقة وانسحب بهدوء من أمامها على عكس الطوفان الذي يحمله بداخله فأوقفته لتلطف الأجواء بينهم لأنهم أدركت مدى قسوتها بالحديث معه وهي تقول بمكر:
-وقول لرغد تخف فرط حركة .. الحاجات اللي بتتكسر دي لسه عليها أقساط ..
مال ثغره بابتسامة مجاملة وقال :
-أنا هاخد مراتي تكسر براحتها في بيتها أحنا مش علينا أقساط ولا حاجة ..
بادلته بضحكة خفيفة :
-ربنا يسعدكم يا حبيبي وأشوف ولادكم قريب يارب ....
•••••••••••
~بالمشفى ....
يجلس كل من هارون وهيثم الذي يصارع الغضب دواخلهم وبنهش بقلبهم نهشًا إثر ما وقع على تلك المسكينة وتهتك عرضها .. و بـ الزاوية التي يقف عندها "هلال" الذي يرتجف من هول ما رآه غير مدركًا بشاعة الحدث الذي وقع على تلك الفتاة التي شغلت محور قلبه وللحظة تمناها لنفسـه أن يُشاركها الدرب .. البكاء قد أصاب كل إنش بجسده جعله ينتفض إلا عينيه لم تدمع بقطرة ماء واحدة ربما لأنه لا يود ان يطفئ الدمع ناره التي ستطيح بكل شيء .. وبالنسبة لهاجر التي يعتصر قلبها حزنًا على رفيقتها وصديقتها المقربة وعلى رحيل أمها تلك السيدة الحنونة التي لم تر منها إلا كل الخير .. جاء جابر ليخبر هارون :
-هارون بيه الرجالة راحوا يجيبوا ولد المحروق دهون من بيته .. والست صفاء الحريم كفنوها وباقي الصلاة والدفنة ..
نظر له هيثم بأعينه المحمرة :
-هتدفنها قبل بتها ما تشوفها يا هارون ؟!
غلى الوجع بقلب هارون وقال :
-هي مش مستحملة وجع تاني .. شوفوا حد من محارمها يدفنها وكل رجالة العزايزة يمشوا وراها .. يلا يا جابر وأنا هحصلك ..
ثم دار هارون لأخيه بعتب :
-وحسابك لسه معاي أنت وهلال .. كيف كل ديه يحصل وانا معنديش علم بيه ..
جاء ليبرر له فهنا خرجت الممرضة من غرفة العمليات لتقول بأسف لكل من اجتمع حولها :
-هي كويسة .. الدكتور عملها تنضيف رحم من اللي حُصلها وو -ثم بللت حلقها-ومصمم يبلغ في النقطة ..
زأر هلال متوجعًا لما سمعه وهو يضرب عرض الحائط بقضته المضمومة على جمر الألم فخطف انتباه الجميع له ، اشتد غضب هارون بذكر الممرضة لاسم الشرطة وقال :
-انا هحل الموضوع ..
فتدخلت هاجر الباكية تتوسل لممرضة :
-طمنيني هي كويسة .. يعني ينفع أشوفها ؟
-الدكتور مديها مهدئات وحقنة عشان تنام .. ومتوعاش للحصل فيجيلها انهيار عصبي ..
قفل "هلال" جفونه بعد ما اطمئن على حالة المسكينة حيث صرخ بهيثم ليمنحه مفتاح سيارته بدون جدال وخرج ركضا من المشفى وهو يحمل على عاتقه جحيم الغضب من بكر منتويًا قتله .. نهر هارون أخيه معتقدًا أن انفعال هلال إثر تعصبه من الناحية الدينية فقط ولست للأمر أبعاد أخرى :
-هيثم روح ورا أخوك متسبهوش ..
ثم نظر لهاجر التي استقبلت اعتراضه على وجودها بالنفي :
-مش هقدر أمشي واسيبها يا هارون لا ...
زفر بضيق وهو يخرج هاتفه :
-وماينفعش تفضلي إهنه بروحك .. هكلم أمك او نغم تجي لك وهسيب حد من الرجالة تحت لو عوزتي حاجة ..
-بلاش أمك كلم نغم ، وانت رايح فين ؟!
-رايح أشوف حل للمصايب دي كلها ياهاچر ..
لا شيء يهون فـ مع مرور الزمن يتحول الألم إلى حزن عميق ، ويتحول ذاك الحزن إلى صمت مريب ، ويتحول الصمت إلى وحدة هائلة وشاسعة كالمحيطات المظلمة التي حاولت كثيرًا الفرار منها ولكنك لن تنجو أبدًا .
••••••••••
وصل هاشم لغرفة رغد النائمة بعمق حيث حرص على فتح الباب بهدوء كي لا يقلق نومها .. نزع جاكته الشتوي ببطء وتركه على أحد الاريكة ثم اقترب من الكمود الذي يحمل الأباجورة المستنيرة ذات الضوء الخافت .. وبجوارها هاتفها وزجاجة أقراص منع الحمل التي مسكها وتأمل تفاصيلها بعناية ثم دخل المرحاض ليفرغ به محتوى العبوة منساقا وراء قلبه ثم ألقى العبوة فارغة بسلة القمامة الصغيرة .. فعاد إليها وجلس بجوارها بهدوء وأخذ يتأمل تلك الملامح التي آسرته وجعلت منه شخصا متمردا على أعرافه وأهله وقبيلته متسائلا : ماذا فعلتِ بذاك القلب ليعصى الجميع ويهواكِ ؟! ثم تنهد بحرقة :
-خلصت يا هاشم .. مفيش نار من غير دخان وانت لازم تحمل دخان النار اللي أنت قٍيدها دي ..
مدد بجوارها ولم تخلٌ يده من بعض اللمسات الخفيفة على شعرها ووجهها ثم كفها المتكور الذي يعلن تمسكه بحياة لا تخلو منه .. مال بشدقه ليقبل تلك الأنامل الناعمة ثم انتقلت كفوفه لخصلات شعرها هامسًا:
-وحشتيني ....
تراقصت جفونها النائمة غير مدركة بأن ما تراه حقيقة .. فقد وثبت من نومتها مفزوعة وهي تضيء الأنوار كي تتأكد مما تراه متمتمة بصوتها المفعم بالنوم :
-هاشم !! حبيبي أنت جيت أمتى ؟!
لم تمهله الجواب بل ارتمت بين ذراعيه لتتأكد أنه لست بحلم وأن وجوده أصدق وأهم حقيقة بحياتها :
-أيه المفاجأة الحلوة دي .. أنت كويس حمدلله على سلامتك ؟!
ألتف ذراعيه حول خصرها الأشبه بعود الريحان ودس أنفاسه بخصلات شعرها الغجري وكأنه يستمد منه الحياة وقال :
-الدنيا ضاقت عليا ومفيش غير حضنك اللي هيسيعني يا رغد ..
-يا نور عيون رغد .. أنت عارف أن حضني دايما مستنيك ولو حابب نسيب الدنيا كلها ونبعد عن كل الناس دي أنا موافقة المهم نكون سوا ..
ثم فارقت حضنه متخذه من ركبته المثنية متكأ لها لتتامل تفاصيل وجهه عن قرب .. فأخذت تتفحص ملامحه وتمرر أناملها فوقهم وهي تسأله بأسف :
-كل دي هموم على وشك .. حصل أيه مش هتحكي لي ؟!
ظل يراقبها بتلك الأعين التي تفيض من الهموم ثم أمسك بكفها الذي يحتضن معالم وجهه ليقبله قبلة طويلة وقال :
-أنا رميت الحبوب اللي هنا !
بدت الدهشة على ملامحها :
-ده ليه ؟!
مسح ابهامه على وجنتها وهو يقول بحزن :
-الصبح جاني خبر نقلي لسينا .. وحابب اسيب لك حتة مني عشان لو جرالي حــ
كتمت أنفاسه التي تبخ نارا على قلبها كي لا يردف بالمزيد وبرقت العبرات بمقلتيها وهي تترجاه :
-هاشم .. مفيش الكلام ده .. أنا مقدرش أعيش من غيرك أصلا أنت بتقول أيه ؟؟!
ثم حفر الخبر وادٍ من الحزن على وجنتها وهي تلهث من البكاء :
-انا مش عايزة حاجة غيرك أصلا .. ولو هخلف يبقى نربيه سوا .. أنا مش هجيب طفل ونتيتم أنا وهو مرتين .. هاشم بليز ما تقولش كده أنت متخيل أنت بتقول ايه أصلًا ؟!
قالت جملتها وهي تميل برأسها على صدره تملأ فراغات يده باصبعها واتبعت :
-هاشم ماتسيبك من الشغل ده وأحنا معانا اللي يكفينا .. كل حاجة ممكن تتعوض بس أنت لا ..
ضم حبيبته لقلبه كي يروي عطش الأيام منها وقال :
-المحامي خلص شرا البيت وكله باسمك والنهاردة في مبلغ محترم هيكون في حسابك تصرفي منه ..
صرخت بوجهه كي يكف عن تلك السخافات :
-هاشم اسكت ..ممكن كفاية بقا ؟! أنت جاي تقول كلام زي دا ليه ؟! أقول لك روح امشي ولما ترجع هاشم اللي حياته كلها هزار وضحك تعالي ..
ثم تشبثت بيده على الفور :
-لا خلاص ما تمشيش .. بس ماتقولش كده تاني عشان خاطري .. أنت جاي تديني أحلى هدية منك وتقول لي أمشي أنا ؟! لا يا هاشم لا مش هسمح لك تروح في أي حتة أنت فاهم ؟
كسر حاجز ذلك البؤس بيهما وهو يقول ممازحا كي يشتت همومه وهو يشير نحو قلبها :
-في كل الحالات أنا ضامن اني هفضل معشش هنا حتى ولو روحت فين ؟
قبضت على ياقة قميصه بتمرد :
-ومين قال لك إني هسمح لك تروح أي حتة ؟! أنت جار قلبي الشقي واللي مغلبني في عيشتي بس مقدرش استغنى عنه .. وانسى كده كل الجنان اللي قولته ده عشان مش هيحصل ..
ثم مسحت عبراتها ونهضت من جواره وهي ترفع حمالة "بيجامتها"القطيفة المتدلية وتبحث بالدرج عن تلك الأقراص :
-هاشم أنت رميتهم بجد ، يخرب عقلك؟!
ثم وقفت متمردة وهي تشير بكفها لتضع حدًا له :
-طيب لو سمحت بقا متجيش جمب مني لحد ما أجيب غيرهم .. هنزل اجهز لنا فطار .
وثب متمردا على طلبها :
-مش بمزاجك …
-مزاجي أيه بس يا هاشم ؟! مفيش بيبي هيجي إلا وسط أهلك والدنيا كلها حلوة غير كده أنا مش موافقة .. وو
قيل بأن جرعات الخمر محرمة .. فما حكم السكير من نظرات عينيكِ .. جذبها من خصرها لتقفز بداخل حضنه وتحت سطوته وهو يتنفس الحب من قربها ليقول :
-اتفقنا ..
نظرت للوضع الحالك بينهم ونظراته التي لا توحي بأي اتفاق وتجاوزه الحد لنيل مطمعه من هواها المحلل للشرع والقانون للعالم كله إلا في عرفهم الظالم .. تملصت من قبضته بدلال :
-هاشم ؟! اتفقنا على أيه بالظبط ؟!
تغلغلت جذور حبه بأزقة تُربتها حيث لا مفر منه أبدا وهو يقول تحت سطو مشاعره :
-إنك تقولي قرارات وأنا منفذهاش !
صعقت من هول تمرده وهي تعارضه :
-هاشم ....!
تردد اسمه بأذنيه وهو كله أحضان مصغية ليقول :
-وحشتيني ..............
"أنا أؤمِن بأن المشاعر كل مازاد صِدقها صعب الحديث عنها لذا هنـا سيتوقف كُل شيء ويدع المحب يعيش في كنفه الحب وحبيبهم أسمى وأرقى المشاعر بهذه الحيـاة "
•••••••••
وصل هلال لبيت ذاك الحقير بكر وأخذ يدق الباب بقوة وهو يجهـر بعنفوان لا يرسو حد احترام حُرمة بيته ، فتحت أمه الباب وهي توبخه بأسلوب متدني:
-وه وه وه!! البيوت ليها حُرمة يا شيخ ولا الدقن دي ذوقه !!!
صرخ هيثم من وراء أخيه :
-ولدك فينو ؟!
-ولدي مش إهنـه ؟
فتفوه هلال بغضب يحرق كل ما يقابـله :
-وفي أي داهية نلاقوه ؟
ثم رفع سبابته وبنظرته المخيفة :
-قولي لولدك تارك مع هلال العزايزي ، واللي خلق الخلق ما في حد هيرحمه من تحت يدي ..
صاحت السيدة بوجهه :
-وأنت مالك بولدي، ولدي طول عمره في حاله وملهوش صالح بـحد وو
قاطعها هِلال معنفًا صارخًا بضجر :
-اللي عندي قولته ، الباقي بعمر ولدك ساعات لحد ما يقع في يدي ..
فدار هلال وجهه مغادرًا ليعود لاهانة تلك السيدة القبيحة :
-طبعا الحجة مكنتش فاضية تربي ، كان كل اللي شاغلها كيف تخاويه ، وأنا هحش لك رقبته مش هربيهولك .. هيثم العزايزي هيقطع خبره من على وش الأرض.
تقاذف الرعب بعيني السيدة:
-بكر عمل ايه فهمني ، وإلا هصرخ والم عليكم الخلق ..
كاد هيثم ان يفصح لها عن جريمـة ابنها ولكن اتاه صوت هلال المُرعد كي لا ينطق ببنت شفة تخوض في عرض تلك المسكينـة التي لم تقترف ذنبًا .. رمقها هيثم بنظرات الخسة ثم رحل مهرولًا لأخيـه ليشق الأرض بحثًا عن الجاني …
•••••••••
~مجلـس شيوخ العزايـزة …
احتشد الرجال وأعيان القبيـلة بما فيهم الحج خليفـة ليشهد على من قام بخداعه وخداع ابنته منتظرًا محاكمتـه .. تجمهروا أهل ضيا بالمجلس الذي أخذوه ليلة أمس بعد اطلاعهم على الفيديو الذي قدمه " هِلال " .. وقف" ضيا" مُكمل الأيدي بواسطة رجلين أصحاب البنية القوية ليقول جاهرًا :
-افترى ، أخواتها هما اللي لفقولي الموضوع ديه كله !
فعارضه الشيخ :
-وذهابك لذاك المكان المشبـوه ؟! ألم يكن بكيفك ؟! تعلم عقوبة الزواج الحلال من فتاة لا تربطك بها صلة الدم !! فما رأيك بإرتكابك فاحشة كهذه !! حرام شرعًا ، ومجرمة عرفًا ؟!
فأكمل الأخر :
-سميت عزايزة لأن دمائهم عزيزة ولا يجوز اختلاطها بالغيـر ، وأنت فعلتها بالحرام تحت وطأة السُكر والخمر ، ولم يعد لديك حُجة تشفع لك ..
فواصل الأول :
-وأضف لذلك نوايا زواجك التي لا تبنى على المودة والرحمـة بل جاءت للانتقام والذل وهتك العرض ..
صاح ضيا :
-كدابيين انا معملتش حاجة ..
وقف الحج خليفة مستندًا على عكـازه مغادرًا ابنته التي تتشبث بذراعه منتظرة مصيرها ، واخذ يرمقه باشمئزاز :
-لولا المچلس له حكمـه كنت قتلتك بيدي الاتنين يا خسيس ..
انفجر ضيـا بوجهه :
-أنا معملتش حاچة ولادك هما اللي اتكاتروا عليّ !!
ثم نظر لهيام ليستجدي عطفها :
-قولي حاچة ياهيام ، قولي انهم كدابيين ..
جهر كبير المشايخ ليقول حكمه :
-حان وقت نيل عقابك يا ضيـا ..
ثم نظر الشيخ العجوز لهيـام ونطق بحكمه :
-تُطلق هيام خليفة العزايزي بقوة القانون خاصة أنه لم يكن زواجه بها زواجًا كاملًا .. ارمى اليمين على زوجتـك ووقع على ورق انفصالكم …
لقد انزاحت غُمة قلبها وهي تشكر ربها بفرحة لا توصف ، منتظرة باقية الحكم على ذاك المجرم الذي لم يدع شيئًا محرمًا إلا وفعله ، فأكمل الشيخ محتجًا بتطبيق أحكام الشريعة الاسلامية التي سقطت من بين أدراج القانون الحاكم الممتلئ بالفجوات وبتنا نحصد عواقبها :
-ويطبق حكم الشريعة الاسلامية لعقوبة الزنـا … وهي الرجم حتى الموت للزوج المحصن ، إما الطرد من القبيلة وعدم عودته لها مرة ثانية مع غرامة ٢٠ فدان من حق المجلس لمخالفة أحكامه وأعرافه ..
جهر ضيا الذي يود الفرار من قدره :
-ظلم ، ظُلم وديني ما هرحمكم ياولاد خليفة … ماشي يا هيام ..
حدجه الشيخ آمرًا :
-ارمى يمين الطلاق على زوجتك.. فلا يُشرفنا نسبك لاحدى بناتنا …..
••••••••••••••
~ظُهرًا ….
تقف فردوس بصُحبة صفية بالمطبخ تُعد وجبة الغداء معهـا وهي تلقى على مسامعهـا الأخبار المتداولة بالبلدة باهتمام :
-ياست صفية قولي الحمد لله ، قضا أخف من قضا ..
قالت فردوس جملتها وهو تحاول أن تُطيب خاطر صفية التي ستطلق ابنتها وتعول همها ، فدمدمت :
-وهو في زي اللي حصلنا !! البت ترجع بفستانها يا فردوس ، ده العار هيطولنا ويطول عيال عيالنا !!
مالت فردوس على مسامعها :
-طب اسمعي اللي حُصل عرفت من سعيد وِلد أخوي لانه شغال مع هارون زي ماانت خابرة .. رقية بت صفاء ، اللي أبوها كان إمام المسجد ومات ..
التفتت لها صفية باهتمام :
-ايوة صفاء وبتها ماهما جم الحنة بس ملمحتشهم في الدخلة !! البت كيف البدر يافردوس ، صفاء بت حلال وعرفت تربي … صُوح دي قالوا أمها عيانة والوِلد واقفين معاها ؛ فكرتيني ..
لطمت فردوس على خدها بحزن :
-اسكتي يا ست صفية على اللي حُصـل ؛ البت راحت تجيب حاجات لأمها ، طب عليها ولد الحرام بكر ولد فياض وعمل الحرام مع البت ، والبلد مقلوبة على اللي حصل ، وشكل أمها متحملتش اللي جرى لبتها ماتت يا حبة عيني !!
ندبت صفية على صـدرها بفزع :
-يا مراري صفاء ماتت ؟! ياحبيبتي !! يا الجُرس والفضايح .. دِلوق السيرة هتبقى على كل لسان بتها جابت العار وو
فأتبعت فردوس :
-وأم بكر دايرة على نساوين البلد تقولهم البت هي اللي غوت الواد واستغلت غياب أمها ومحدش عارف فين الصدق !
-سترك على الولايا يارب !! البت دي ياريتها ماتت ولا حصلها إكده ، موتها أشرفلها .. وانا اللي فاكرة الوِلد معاها في المشتشفى !! احفظنا واحفظ ولايانا يارب ، رني لي على هاجر تبعد عنيها إحنا مش ناقصيين شبهه .. وهي ربنا يتولاها بعيد عننا ..
~بغُرفة أحلام ..
شدت "ليـلة" الستائر وفتحت النوافذ بناءً عن طلب أحلام التي رافقت ليلتهـا ، ففتحت جميع النوافذ المُطلة على حديقة البيت ودارت لهـا :
-تمام كدا !!
أشارت لها أحلام بترجي :
-آخر طلب عارفة إني تعبتك ، رني لي على هاشم قلبي واكلني عليـه .. طمنيني ..
تقبلت ليـلة طلبها بسعة صدر :
-طبعا يا طنت بس أنا مش معايـا رقمه عشان أكلمه ..
أخرجت أحلام من درج الكمود هاتفها القديم الذي أوشك أن ينفذ شاحن بطاريته ، ومدت لها :
-هتلاقيه متسجل عندك ، رني لي عليه عاوزة اسمع صـوته ..
فتشت ليلة بشاشة هاتفها المتهالك لتبحث عن رقمه حتى عثرت عليه ، نقلت الرقم بسرعة قبل أن يقفل الهاتف بيدها ، ثم ضغطت على اتصال ، دنت من أحلام فاتحة مُكبر الصوت منتظرة رده ولكن للاسف لم تجمع التغطية إثر كونهم بالطابق الأرضي ، تفحصت لليلة الشبكة وقالت باسف :
-أوبس !! الشبكـة مش أحسن حاجة ..
ثم أخذت الهاتف من يدي العجوز التي انشغل قلبها على بُنيها وقالت :
-هجرب اطلع بره يجمع السيجنل بس وهنادي عليكِ ..
خرجت ليلة للشُرفة وهي تعاود الاتصال مرارًا وتكرارًا بهاشم النائم ، كانت رغد حينها فرغت من أخذ حمامها الدافئ وخرجت من باب الحمام وهي تجفف شعرها حتى لاحظت إنارة هاتفـه برقم غير مسجـل ، امتد نظرها للشاشة لتقرا الاسم المُسجل على " التروكولر " فوجدته باسم ليلة الجوهري .. ألقت نظرة على هاشم النائم رغم ثقتها العمياء به إلا أن الفضول والغيرة تآمر على رأسها ، تركت الهاتف من يدها وهي تقول :
-رغد عيب ، ملكيش دعوة !!
ما تركت الهاتف فعاودت ليـلة الاتصال مرة آخرى ، تلك المرة لم تستطع رغد التحكم في غيرة المرأة التي تحرقها ، أخذت الهاتف وعادت للمرحاض مرة آخرى وقفلت الباب بحذرٍ ثم رد بصوت خافت :
-ألو !!
ألقت ليلة نظرة بشاشة الهاتف باندهاش :
-شكلي طلبت رقم غلط ..-ثم رفعت نبرتها -ده رقم هاشم بيه !!
ردت رغد بفضول يقضم قلبها :
-أيوة ، أنتِ مين ؟!
ردت ليلة بسجيتها :
-قوليلو ليلة الجوهري وطنـت ااا !
الثقة التي تتحدث بها ليلة جعلت رغد تقاطعها بصوت مبطن بالغيرة :
-وأنتِ عايزة أيه من جوزي !!
رمشت ليلة عدة مرات إثر سماعها جملة رغد الأخيرة بصدمة لا توصف ، تلعثمت الكلمات في حلقهـا وهي تتساءل بدهشة :
-نعم !! لالا أنا مش عايزة حاجـة شكل الرقم غلط..
جاء صوت رغد الصارم :
-لا مش غلط !! أنتِ تعرفي هاشم منين ؟!!
-هاشم بيه جوزك بجد ووو
فختمت جملتها بشهقة عالية إثر صوت هارون الذي اخترق مسامعها وهي تخبئ الهاتف وراء ظهرها :
-عتعملي أيه عندك !!
ردت عليه وملامح الذعر تسكنها:
-هارون بيه !! ابدا دي دي طنت أحلام كانت حابة تكلم أخوك وطلبت مني أكلمه، بس لما اتصلت ما ردش ، قصدي الرقم طلع غلط .. لا هي الشبكة واقعة متشغلش بالك ..
خمدت مشاعر الغيرة بصدر رغد التي زادت الأمر سوءًا فسرعان ما أنهت المكالمة وحذفت مكالمات ليلة من هاتفه كي لا ينكشف أمر حماقتها ، تفحص هارون علامات الذعر بوجه ليلة وجاء متسائلًا :
-مردش ولا الرقم طلع غلط ولا الشبكة ساقطة؟!وأنا سامعك بتكلمي حد ؟!
ردت بتلقائية وبدون إدراك لما سمعته وعن حقيقة زواج أخيـه :
-كلهم ..كلهم .
-كلهم ازاي يعني ؟! وريني هاشم ماله بيقولك ايه !!
ظن بأن أخيه يمارس عليها طقوس سخافته المعتادة فـ قال جملته وهو يحاول الإمساك بهاتفها المتواري خلف ظهرها فمنعته بعفويتها وتتشبث بالهاتف وراء ظهرها وتترنح بعيدًا عنه كي لا يمسكه وينفضح أمر أخيه السري ففي لحظة من إصراره ولحظة من عنادها تعرقلت قدمها ليتلقاها بذراعه فتجد نفسها فجأة بحضنـه وتحت مظلة أهدابه ..
ذراعـه يحاصرها ، كفوفها التي تحمل هاتفتها معلقة بياقتـه ، الأعين تتعانق كما تلاقت الأجساد تحت خيمة الصدفة القدريـة .. سيل كهربي ضرب الاثنين فجمد خُطاهم ، في لحظة باتت تحت يديه إمراة من نسل الفراشات لا يليق بها إلا الاحتضان ..
قد يكون المرء مُرتجفًا وتائِهًا ويائِسًا حتى تُعانقه ذراعين يحبها، حتى يرتب القلب أقداره فيلتقيان ، يتلامسان ، يتشابكان ببعضهما ذاك كافيًا أن يجُل ما أفسدتهُ الحياة في لحظةٍ واحدة .. أن تُنسيه ما لا يمكن نسيانـه …
أول مراتب الحب هي أن تقع في حب كل الوسائل التِي تقُودك إلي نصفك الآخر مهما كانت صعبَة أو مُستحيلة ، تلك الوسائل التي تخبرك أنّ بعد كلّ هذِه الحواجز هناكَ حُضن آمن ينتظرك بحميميّة بالِغة ، وبقوتـه التي لا تسقطك أبدًا ..
تطايرت الستائر خلفـهم بالهواء فامتدت عيني أحلام لتقـرا تلك النظرات التي باتت محور شكها ، فهي لم تكن قط من طرف واحد كما ظنت ويبدو أن ابنها الآخر غارق بالموج وما زال يُكابر ، ظلت تراقبهم بصمت وتراقب براءة النظرات المتبادلة بينهم وكيف الاثنان خُلقا ليكونا لبعضهما ، تكامل فريد وعجيب من نوعه إن رأته العصافير لغنت له مواويـل حتى جاء أمشير … فتمتمت لنفسها بحسرة :
-يا قلب أمك يا حبيبي ..
تجلجلت ليلة التي يبدو أن الوضع قد راق لها ،ثلاثون ثانية فعلت بها ما لم تفعله سنوات العمر ، تزحزحت عينيها لهاتفها لتقول بصوت متقطع :
-الموبايل فصل .. مفيش
لقد تاه وضل في سحرها وهو يسألها :
-مفيش إيه !!
افترقا الاثنان عن بعضهما وما زال عناق الأعين موصولًا .. فوضعت كفها على صدرها الذي يعلو ويهبط من هول جملة المشاعر التي تسربت له فجأة لتقول بتمرد ولوم :
-كنت هقع بسببك !!
-منا لحقتك ، خالصين !
-والله !! لا كنت سبتي أقع كمان .. وبعدين أنت كنت عايز تمسك موبايلي بأي حق !! مالكش دعوة بموبايلي ولا بيا ولا بأي حاجة خالص تخصني ..
لقد لطخ الخجل وجنتهـا حتى باتت لا تعى ما تقوله ، أو ربما أحدث قربه بقلبها ما لم تتحمله فأعلنت تمردها عليه !! أعلنت هروبها من فخ تلك الأعين وهي تدخل الغرفـة لأحلام فاصطدمت بدخول زينة في تلك اللحظة ، تفقد هارون المكان حوله خشية من أن رأهم أحد وهو يرتب ملابسه ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ليبرر فعلته لنفسه :
-يعني كنت سبتها تقع !!!! ده جزاتي ؟!وكمان مش عاچبها !!
رؤيتها لليلة أشعلت وادٍ من النيران بقلبها ، فرمقتها زينة بسخط :
-انتِ بتعملي ايه عندك !!
تدخلت أحلام لتـرد مكانها :
-قاعدة معاي هتكون بتعمل ايه يعني ؟!
جلست ليلة بجوار أحلام وهي ترتعش مما حدث قبل لحظات وأيضا إثر خبر علمها بجوار أخيهم السري فبللت حلقها وهي تعاتبها :
-ياستـي أنا جيت جمبك !! أنتِ بتقولي يلا شكل للبيع وخلاص ؟!
نزعت زينة وشاح رأسها :
-ابعدي عن هارون وأنا هطلعك من راسي وهحبك ؟
-مش عايزاكِ تحبيني بس سبيني في حالي ..
ثم لمحت طيف مجئ هارون الذي حجب الضوء وهي تنفي علاقتها به تمامًا وهي تحت تأثير عطره الذي زاحم انفاسها وملابسها :
-انا مالي بهارون بيه أصلًا !! أهو عندك أهو حلوا مشاكلكم بعيد عني !!
جاءهم صوت هارون من الخلف :
-چايبين في سيرتي ليه !
وقفت ليلة لتدافع عن نفسها :
-شوف حل مع خطيبتك اللي كل ما تشوفني فاكراني هخطفك منها !!
ثم نظرت بعينيها لتنفي صحة مشاعرها تحت نظرات أحلام المشفقة على حال بيادر الحب المترعرعة بينهما :
-أصلا كلها يومين وماشية ومش هشوفه تاني ، ومع احترامي لحضرة العمدة بس هو نوت ماي تايب ، ارتاحي يا زينـة وخلي عندك ثقة في نفسك شوية !
تلعثمت زينة لعدم فهمها لمقصـدها :
-هي عتشتمنى ولا عتقول أيه يا هارون !!
تجاهل هارون سؤال زينة الأحمق ليرد إهانتـه من تلك التي خربشت على جدار فضوله :
-وايه هو التايب اللي يعجب الاستاذة ؟! شريف أبو العلا ..
قفز الهلع بقلبها إثر نظرته المربكة لتقول بتوتر :
-لا انت ولا شريف ولا حد خالص ، أنا أصلا مش بفكر في المواضيع دي كلها !!
ثم نظرت لأحلام وقالت بعجل لتهرب من حِدة نظراته التي باتت تحدث فوضى عارمة بقلبها :
-طنت أحلام ، هاشم مش بيرد، أنا همشي عشان -ثم نظرت لزينة -الجو هنا يخنق بجد !!
رمت شالها الصوف فوق بجامتها الفضفاضة وغادرت من أمامه كالغزالة الشاردة ، فساقه قلبها ليتبعهـا برزانة :
-زينة خدي بيد أحلام عشان تروحوا العزا ….
تابع خُطاها حتى باب الحديقة الخلفية ليقول بإقتطاب :
-خبر أيه بس؟! مالك متكهربة ليه النهاردة ؟
وقفت وهي تتحاشى النظر إليها كي لا تتورط فيه أكثر :
-عايزة أروح ، اسكندرية وحشتني ، وكمان خطيبتك دي مستفزة ، أنا اسفة بس هي خرجتني عن شعوري بغباءها وو
قاطع حديثها قائلًا :
-طب أنتِ بتترعشي ليه ؟
أخذت نفسًا عميقًا لتجيبه تحت وطأة التوتر :
-بردو مش عارفة !!
أخذت عينيـه تتفقدها من كُل الزوايا ليقول بهدوء :
-في شوية مشاكل في النچع ، هتخلص وصوري حلقتك التانية واتوكلي على الله !!
لملمت طرفي شالها الصوف أمامها بارتباك :
-ااه تمام، طيب انا ممكن اروح أوضة الكتب ، حابـة اتسلى في أي حاجة !!
بدون تردد أخرج لها المفتاح وقال بخبث :
-اتفضلي ، بس اقفلي الباب وراكي ولو عوزتي حاچة رقمي لساته معاكِ !!
ردت بعفوية :
-ااه لسـه معايـا ، أنت عايزني امسحه !
-لو متقل محمولك امسحيه؟!
-ااه همسحه لما ارجع اسكندرية ، أنت راجل خاطب وقريب هتتجوز وخطيبتك دي مجنونة وأنا مش أدها ..
-اللي تشوفيـه ..
كانت الابتسامات سيدة الحديث بينهم حتى جاءت صفية لتعيد له رشده ومسئولياته والمصائب الناشبة بالنجع وهي تقول :
-ابعت حد يچيب هاجر أختك من عند البت اللي اسمها رقية دي، أحنا مش ناقصين شبهه .. البت بقيت سمعتها دايرة على كل لسـان ..
برقت عيني هارون بتحذير :
-صفية ده عرض ولايا اتقي ربنا ..
هبت بوجهه :
-وأنا مش عاوزة بتي تعرف بت اغتصبوها ولا نامت معاه بكيفها ، يلا أهي امها ماتت وارتاحت من عارها ..
نهرها هارون بحدة :
-يامـا اقطمي واستغفري الله ربنا يهديكِ ..
تدخلت ليلة بفضول :
-هو في مشكلة وبنت مين يا حرام اللي حصل فيهـا كده ؟!
قطع هارون حبل شكوك ليلة وهو يوبخ صفية :
-ما خلاص ياماااا روحي اجهزي عشان ناخدوا عزا الست ..
ثم قطعهم رنيـن هاتفـه ، فأتاه صوت جابر :
-هارون بيه بكر ولد فياض معانا لقناه في بيتهم الشرقي ..
رد بهدوء :
-طب ارموه في أي زريبة عندكم لحد بكرة الصبح ومتحبوش سيرة قدام هيثم ولا هلال .. تكون البت فاقت …وأنا چايله .
تدخلت صفية بفضول:
-هتعملو ايه يا هارون ..
رد بأسف:
-الغالب المجلس هيكتب عليها لوِلد المحروق ديه عشان الفضيحة تتلم قبل ما تروح المركز ..
هبت صفية معبرة :
-دي عاوزة حش رقبتها مش تجوزوها ، ادفنوها حية وارتاحوا من عارها يا ولدي .. دي هتحط رأس العزايزة في الأرض ..
فاض صبره من جهل فتفوه بتلك النبرة المعنفة :
-استغفري ربك واعقلي ياما، البت ملهاش ذنب هو اللي ك**
أيدته صفية بإصرار:
-فيش حاجة عتتاخد غصب من البت يا ولدي ، دي لو في وعيها كانت قتلت روحها ولا أنها سلمت له .. لكن واضح زي مـ
ضرب بقبضة يده على سطح الباب بغل :
-ما كفاية ياما ، دي بت ناس وابوها وأمها أنت عارفاهم زين ، كفاية خوض في عرض البت … ده جزاتها عشان ملهاش ضهر بالدنيا !!
في تلك اللحظة جاءت هيام برفقة أبيها التي ما أن رأت أخيها ركضت لترتمي في حضنـه فارحـة :
-بارك لي ياخوي اطلقت وخُلصت منه !!
قبل رأس أخته وربت على كتفها :
-عرفت .. احمدي ربنا .. كلب وغار ، فوقي لنفسك عشان تقدمي على الماجستير ووتخلصيه.. وبعدها الدكتوراه وأشوفك أكبر محامية تحققي اللي محققهوش أخوكي .
دبت صفية على صدرها :
-يا مري !! وهي هتفضل داخلة طالعة قصاد الناس .. لا دي تتحبس في اوضتها لحدت ما حال نصيبها يجي ويخلصنا منيها !! ما كفـاية وو
صرخ هارون بوجهها :
-ما كفايـة أنتِ ياما !! بتك في حضنك ومحدش لمس منها شعره ولا حط راسنا في الطين .. مالك عقلك راح فين !!
لوحت بكفها بضيق:
-ماشية وسيبهالك يا هارون ..
تجاهل هارون ندب أمه وربت على كتف أخته :
-اطلعي ريحي وعاوزك تضربي الدنيا دي بالجزمة .. حتى صفية نفضي لها ..
ابتسمت أخته بهدوء بعد ما طبعت قبلتها على خد أخيه تحت أنظار ليلة التي قرضت الغيرة قلبها لِمَ لم تمتلك أخًا مثله .. انصرفت هيام فنظر هارون لتلك التي ترمقه بإعجاب فبادرته متسائلة :
-أنت ازاي حواليك كل المشاكل دي وبتتعامل عادي وبتهزر !! أنتَ ازاي كده .. !!
-الحي بيقاسي .. ومش كل مشكلة لازم يبان عليّ وأنصب لها صوان..
سار الثنائي بمحاذاة بعضهما البعض في طريقهـم لغرفته الخاصـة ، فتطلعت له :
-عندك ثبات انفعالي رهيب .. براڤو عليك بجد.
ثم أشاحت بنظرة ماكرة :
-عشان تستحمل اللي اسمها زينـة ..
زفر وكأنه يطرد غبار واقعه الثقيل من فوق صدره وقال ليوهم نفسه بزينة :
-عبيطة .. كلمة توديها وكلمة تجيبها متزعليش منها ..
وقفت أمامه لتعوق طريقها :
-شكلك بتحبها وبتكابـر وو
-حُب الحريم مش كيفي ..
-أومال كُنت هتتجوز أزاي أربعة !!
اتسعت ضحكته بهدوء :
-لا كُنت بنكشك بس ، عاوز أعرف أحلام قالت لك أيه ؟
هزت رأسها بعدم تصديق وقالت ببلاهة متعمدة إثارة استفزازه :
-اه عايز تعرف قالت عليك أيه كمان ؟!
-قولي ، شكل وقعتها مربرة معاي !
دنت منه وكأنها تعلن الحرب عليـه :
-قالت أنك عامل فيها جامد وأنت ولا جامد ولا حاجة.. وشكل كلامها هيطلع صح ..
اتسع بؤبؤ عينيـه بحيرة لامعـة حول كيفية التعامل مع جُحر السيدات الاتي اتفقن عليـه وقال بخبث :
-أنتوا كلكم إكده ماعتحفظوش سـر !!
ثم دنى خطوة فاردًا عضلاته أمامه وكإنه أراد أن يثبت عكس ما قيل :
-وقالت أيه كمان ، لتكون لعبت في العارضة منا عارفه ؟!
-لا هي مجتش جمب العارضة ولا حاجة وو
تلعثمت الكلمات بفاهها لا تدرك عاقبة ما قالت ، فهزت كتفيها بلامبالاه لتبرئ نفسها :
-هي اللي قالت كده أنا مالي .. الله!!
ثم تابعت سيرها نحو الغرفة ، فأتبعها صوته الرخيم وهو يقول خاتمًا جملته بغمزة من طرف عينيه :
-أحلام قالت كده بس عشان مشافتش الجانب الخفي من هارون العزايزي ، لو حابة أنا ممكن أوريهولك ..
-وأنا عملت لك أيه ؟! هو جر شكلي وخلاص ؟!
ثم هرولت لتفتح الباب بسرعة من سطو نظراته المربكة وهي تغير مجرى الحديث ؛ وتسأله :
-أيه حوار البنت دي اللي حكيت عليها مع مامتك ؟! بليز ممكن تحكي لي !
شد هارون أحد المقاعد الخشبية وجلس ليقول باختصار :
-دكتورة صاحبة هاجر أختى ، وِلد عمها اعتدى عليها الليلة اللي عدت والبت محجوزة في المستشفى ..
خيم الحزن فوق ملامحها وهى تجلس على طرف المقعد بضيق :
-ياخبر !! ده مجرم ولازم يتعاقب ..
هز ساقه بقلة حيلة :
-للاسف المجلس هيحكم بجوار البت له عشان الموضوع يتلم .. لان العرف عندنا ما ينفعش دم اتنين يختلطوا ببعض ويفترقوا !!
تقاذف الاعتراض فوق ملامحها بعدم تصديق :
-أحييه !! وأنت راضي بالظلم والجهل ده .. المفروض أنك عمدة وكلمتك مسموعة ومحامي ودكتور جامعي ، يعني مهمتك تحقق العدل .. مش تمشي ورا الجهل والظلم ..دي لو أختك كنت هتعمل أيه ؟ انت لمجرد بس جوزها حاول يضايقها عملت فيه كده !! ما بالك بالمجرم ده !!
ثم لملمت شعرها بارتباك واضح:
-أنت ماينفعش تسكت عن حق المسكينة دي !! انت عارف المصيبة فين !! مش في ظلم الأشرار ، في صمت الأخيار ، بابي كان يقول كده ..
ثم وثب من مكانها وهي تجوب حوله بكفوفها المرتعشة التي تلوح بها لتتخيل وضع تلك المسكينة التي ذبحت بنصل الظلم وهي تجهش :
-أنت متخيل للحظة خوف البنت دي وهو بيحصل فيها كده ! أنتَ متخيل انها خسرت كل حياتها وهتتجبر تعيش مع شخص دبحها وسرق روحها !! أنت مستوعب هو عمل فيها أيه !!
ثم ضربت الأرض بقدميها بفزع ٍ:
-أنتَ ازاي هادي كده !! ازاي هتضيع حق المسكينة دي !! ده أول اختبار حقيقي ليك ، يا أما تحقق العدل وتقف في وشك الظلم ده ! يا أما هيبقى يا خسارة بجد ونظرتي فيك مش في محلها !!
ثم شدت مقعدها ودنت منه لتتوسل له بحرقه :
-أنا بنت وحاسة بيها وعارفـة بقول لك أيه ؟! ارجوك أنصف المسكينة دي هي ملهاش ذنب ولا مجرمة زي ما مامتك قالت ! انتو كده بتسقفوا للمجرم وبتقولوله براڤو ..
نبرتها المرتجفة ، خوفها .. دموعها الجارفة .. توسلها له .. أيقظ صوتًا خفيًا للضميـر يجرؤه ولأول مرة على الوقوف بمواجهـة العرف ويرفضه ، لم تكن كلماتها مجرد كلمات بل كانت نجوم ترصع ظُلمتـه وتغيب عقـله .. انخفضت يديه ليراها تتشبث بكفه وتترجاه بتلك النظرة لم يستطع مقاومتها منتظرة موافقته حتى قال بهدوء لا يعلم مصدر؛ هل عينيها أم رقتها .. أومأ بالموافقة تائهًا ببحـر ذاك الدرب المجهول الذي ينساق له سقى الأمل ملامحها بدلًا من دموعها وهي تسأله :
-أنت ساكت ليه !!
••••••••••••••
~بالمشفى …
كتبت إحداهن ذات مرة عندما طعن الخنجر قلبها :
"في الضباب اضعت موطأ ظلي، كما يضيعُ عمرٌ، حلمٌ، حبٌ، وطنٌ من بين الأصابع، مثلما يسقط خاتمٌ في نهرٍ، مثلما ينكسر فنجانٌ أو إنسان جميعها أشياء أن فُقدت لا تُعود أبدًا "
تراقصت جفونها التي تتأمل تفاصيل الغرفة من وراء الضباب ، ضباب ظُلمتها ، تتطلع بكل شيء وتدعو الله أن كل ما مرّ لا يكون إلا مجرد كابوس وأن الواقع أجمل من ضجيج حلمها البشع ، نهضت من مرقدها وهي ترتجف من الصقيع، من الخلاء الذي يعُمها ، والوحدة التي تلفح بقلبها ، وخزات خفيفة تضرب برحمها وسكاكين تذبح بقلبها ،، ضمت ركبتها لصدرها وهي تنتفض ، تتذكر تلك التفاصيل المرعبـة التي تسكنها والتي عاشتها ، تتذكر كيف ذبحت بسكين الغـدر ، قيل بأن هناك جروحُ نضجٍ تُشبه صدماتَ الطفولة، جروحٌ تجتثّ منك شيئًا، وتزرعُ فيكَ آخر، تُصيبك بهلعٍ دائم وأنت الذي تظنّ بأنّك تخطّيت، جروحٌ تغزو أحلامك حتى بعد انقضاءِ حزنها، فتستيقظُ من حلمكَ فيها بفزعٍ وأنت تهشّ طائرًا غريبًا حطّ على صدرك، فتُحاول دفعه، ولاتجدهُ عليك ..
كل ما بها يؤلم وكأن الألم تلك المرة لست بعضو محدد بل جاء التعب من نفسها شعور قاتل ، شعور فتاك مهما طوفت الديار بحثًا عن مُستراح فأن دواءك لا ينزل بهذه الأرض الظالم أهلها…
دفنت وجهها بين ركبتيها وهي تئن بوجع حاملة هم أمها التي كيف ستواجه صدمة كهذه ، تحمل عناء الخبر الذي سيقتلهما معًا ، كيف تقول لها بأن كل ما كانت تسعى له بات هباءً منثورًا ، كيف كتبت ملائكة السماء امنيتها بأنها لا تود الزواج أبدًا ، كيف أنها ستعيش وحيدة باقي عمرها ، كيف ستواجه البشر والخلق ، كيف ستفر من أحكام المجلس الذي سيواصل قتلها كما فعل المجرم .. كيف؛ كيف !! تذكرت كيف اقتحم الذئب حصونها وهتك عرضها !! كيف اندست حوافره السامة بجلدها!! كيف تجبر على ضعفها ورفضها واختلس ما لا يحق له !! كيف أرعبها لهذا الحد !! كيف لم يرحم ضعفها ؟! كيف ستنسى أقسى لحظات بعمرها ؟!
طاحت الأفكار برأسها ودق شاكوش الهزيمة بصدرها وهي تصرخ بقوة ولكنها خشيت أن يسمع أحد لصوتها فيأتي ويقطع خلوتها مع الحزن الذي نصب خامته فوقها ، حتى الصراخ لم تنعم به بل بات مكتومًا وراء كفوفها .. تجاهلت صدح الألم ونزعت " الكانولا" من يدها ثم تحركت للتخلص من ملابس المشفى وترتدي ذلك الجلباب الفضفاض الأسود بلون أيامها والذي أحضرته لها هاجر التي هبطت مع هيثم لتنهي حسابات المشفى .. ارتدت جلبابها وهي تتشبث بجرح رأسها المضمدة وجرت ذيول خيبتها وضعفها وهي تفارق الغرفة ، فلم تملك رفاهيـة النواح على ما ضاع منها ، الوقت لست بصالحها … غادرت المشفى على الفور دون أن يلتفت لها أحد لتستقل سيارة أجره وتطلب منه أن يوصلها لوجهتها …
وصل هلال الذي يحمل زجاجات العصير بيده والطعام وأوقف الممرضة طالبـًا :
-لو سمحتي دخلي دول ..
أخذت منه الممرضة بطاعة وظل يجوب أمام الباب وهو يتشاجر مع خطاوي الأرض يستحلف لبكر :
-ورب العزة ما حد هيرحمك من تحت يدي يا حقير ..
خرجت الممرضة ترتجف :
-المريضة مش چوة !!
امتد نظره للداخل بهلعٍ وهو يخرج هاتفه ليتواصل مع أخيه متسائلًا :
-اومال راحت فين ؟!!!!
على الجهة الأخرى وصل سائق الأجرة أمام مخفـر الشرطة ، فطلبت منه رقيـة أن ينتظرها كي يوصلها لبيتها وستمنحه أجرتـه لاحقًا ، تقدمت لداخل القسم بخطوات ثابتـة ورأس مرفوعـة ولكن دمع العين خداع وقفت لتسأل العسكري :
-عاوزة أعمل محضر .. في الظابط اللي هنا ؟
أشار لها العسكري :
-مكتب شريف بيه رئيس المباحث آخر الطُرقة ..
جرت حُطامها وسارت بخطواتها التي لم تتردد للحظة ، سمح لها العسكري الآخر بدخول المكتب ، حينها أنهى شريف مكالمته وهو ينظر لها بقلة اهتمام :
-خير يا ست !!
بلعت غصة حزنها وهي تقول :
-أنا الدكتورة رقيـة أبو الفضل العزايـزي …
وثب شريف من مكانه إثره علمه بهويتها وأنها تابعة لذاك النجع الملعون بالنسبة له ، أشار بيده كي تجلس ، فأبت .. انتظرت لبضع ثوان حتى تتوقف عينيها عن سكب الحزن وأكملت :
-مچلس العزايزة مش هينصفني .. أنا چاية أعمل محضر ..
أحس شريف بأن فرصته قُدمت له على طبق من فضة خاصة أن من المتعارف عليه بهذه القبيلة عدم تدخل الحكومة في شؤونها ، هز رأسه باهتمام وسألها :
-محضر ايه ؟!
بلعت جمر الحادث الذي تعرضت له وقالت بشموخ لا يلوثـه تدني الفعل الذي تعرضت له :
-تعدى واغتصاب ، من بكر فياض وِلد عمي …
"للظلم جولة و للحق جولات، وعلى الباغي تدور الدوائر."
- عبد الرحمن منيف ।
•••••••••••••••••
لقـد سربت "ليلة" لحقل فكره عودًا من الكبريت المشتعل الذي لم يتوقف عن الإحتراق أبدًا ، حمل دخان حيرته بين التمرد على تلك الأعراف القاسية و التي تعهد على حمايتها بما تحمـله من مظالم لآخر عمره ، أم كيف سيخمد بركان الضمير الذي أشعلته تلك الفتـاة برأسـه !! فأكثر الأشياء التي قد تدهشك حد الحيرة حينمـا تنساق وراء عُرف محتقرًا لآلام الآخرين ، أعراف وضعت بزمـان ربما كانت حينها تتناسب معه ولكن و مع دوران ساقية العصـر واختلاف مطالبه ؛ أ هل عدلًا أن نأسر قلوبنا في قوقعة السلف !!!
غادر "هارون" غرفتـه محتجًا بأنه في حاجة لإشعال لفافة من التبغ .. أو على الأقرب ربما يريد حرق كل الأفكار التي تتسابـق بعقله ، تركت له الحيرة حد التمرد على عقله وأعرافهم وترك لها التمرد حد الحيـرة حول أمر قلبها المتعاطف دومًا مع الجميع وثقتها الكبيرة بحكمته !!
خلت الغُرفـة من طيف وجوده وقفل عليهـا الباب كي لا يتسبب أحد بإزعاجها ، ما أن ذهب عنها أحست بالخلاء يحيطها ، خلاء لا تدرك معناه حقًا إلا بغروبه عنـها وعن أي مكان يجمعهمـا معًا ، تمرد القلب الذي احتج ببقاءه بالمكان للإطلاع على الكُتب لـ التفتيش حول متعلقاته الشخصية.. فتحت تلك الخزانة الخشبية الصغيرة المتكونة من ضلفتين ناحية معلق بها عباءته الصعيدية وبجوارها عدد قليـل من الملابس الشبابية والعصرية ذات الماركات المميزة ، توقفت عينيها على ذاك " البلوڤر" المميز المختبئ بين ثيابه المُعلقـة وأخذت تعاينه بإعجاب لتقول لنفسها:
-واو ، واضح أن ذوقه حلو في كل حاجة إلا الستات !!
ثم رجعتـه مكانه وقفلت تلك الضلفة لتفتـح الأخرى المكونة من عدة رفوف فوق بعضها ، بدأ من ملابسه القطنيـة لـلرياضيـة لكسوته الصعيدية المكونة من عدة عباءات مصفوفة ومرتبة بطريقة مميزة للغايـة فوق بعضها البعض .. عاينت ماركة ملابسـه نوع نوع .. حتى مقاساته لم تنجٌ من حبل فضولها الممتد نحو خصوصياته ، تناولت يدها زجاجة العطر والتي يجاورها زجاجة من المسـك ذو الرائحة الخلابة ، أمسكت بعطره ونفثت القليـل على معصم يدها لتتنفسه بحبور يحضره بذاكرتها على الفور ؛ فالعطر من أخطر الأسلحة على ذاكرة المُغرميـن .. طيف من احتضانه لها مر على شريط فكرها للحظة أحدث رعشة قوية بجسدها جعلها تترك ما بيدها بسرعة وهي تقفل الضلفة وتعاتب نفسها وتتذكر جملة أمها التي كانت تقولها كل ما تعبث هذه الطفلة بأشيائها :
-عيب يا ليلة عيب ؛ ما تبقيش نوتي وتفتشي في حاجـة مش بتاعتك ..
حاولت أن تُشتت فكرها عنـه بانشغالها بأي أمر آخر.. ولكن كيف السبيل وكل ركن هنا يحمل جزءًا منه ، تقع تحت سقف مملكته وعن أي نجاة تبحث هذه الحمقاء !! فكرت للحظات في رقيـة وما وقع على تلك المسكينـة وكيف عانت ، وكيف الوحدة قطمت قلبها كما فعلت بكِ لسنوات متواصلة يا ليـلة !! نوبة من البكاء هجمت على مُقلتيهـا استقبلتهم برفض قاطع وهي تراقص جفونها وتهش على أوجاعها بيدها كي لا تفتح بابًا للحزن الموصد :
-ليـلة ، ليـلة مش هنعيط ؛ أهدي كده …
تناولت بعض الحبوب التي لا تُفارق جيبها ثم قفزت الفكرة برأسها وهي تمسك هاتفهـا لتشتت انتباهها عن الحزن ، وهي تقول:
-نشوف حكاية هاشم ده كمـان ، والله قلبي كان حاسس إنه مش سالك أبدًا !! نشوف كده يمكـن أكون غلطانة فـ الرقم ولا حاجة !!
سجلت الرقم ودخلت إلى تطبيق " الواتس آب " ، إذًا بصورتـه الشخصية موجودة على الرقم المُسجل ، رفعت حاجبها باندهاش :
-الله!!! ياابن اللعيبة ما الرقم صحيح أهو .. معقولة يكون متجـوز بجد ولا البنت دي بتكذب !! أممم بس هعرف ..
قطع حبـل أفكارها رنين رفقتها اللاتي لم تتعرف عليهن إلا من أربعة سنوات فقط حتى أصبحن كل حياتها كي تعوض فراغ غياب أبيها .. فتحت " الڤيديـو كول" وهي تعبث بشعرها وتقول بملل :
-وحشتـوني على فكرة ..
ملأت شاشـة هاتفها بصورهن وكل واحدة تعبر عن مدى اشتياقهـا للأخرى وعن عملهم والمواقف اللاتي مررن بها الأيام السابقـة ، حتى جاءت "علا" لتردف بفضول :
-ليـلة مالك سرحانة مش موجودة معانا خالص !!
وضعت قبضة يدها تحت خدها بملل :
-البلد هنا كلهـا أحداث وحاجات تخوف ، كل يوم عندهم جديد مش زينا ، عادي الأيام تتكرر وتعدي كده من غير أي حاجة مهمة .. لكن هما لا تحسي حياتهم فيلم سينمائي مش عارفة نهايته .. هما بيجروا وبيسابقوا الحياة بالظبط
انتبهن الثلاثة لحديثها ، فأدرفت "جوري" متسائلة بفضول :
-هارون تاني صح ؟! عمل ايه ؟!
جاوبت ليلة :
-مش هارون لوحده ، أخواته أهله قرايبهم بلدهم دي .. كله كله كده غريب ، فعلا دول لو اتعمل عليهم حلقة فالـTV هتكسر الدنيا .. المهم سيبكم من كُل ده ؛ بنات أنا عرفت حاجة خطيرة جدًا ..
ثم فارقت مقعدها الخشبي لتجلس على طرف تخته بارتياح كإنه ينتمى لها وتُكمل لهم :
-هاشـم أخوه طلع متجـوز فالسـر واحدة في البلد اللي بيشتغل فيها .. عارفين يعني ايه !! استنوا ده المفروض أنهم خاطبين له نغم !! ايه دا ؟!كل دي عُقد !!
ردت لميس بجهل :
-طيب وفين المشكلة في واحد متجوز ؟!
بررت لها عُلا :
-أنتِ مكنتيش معانا آخر مكالمة ، العيلة دي جوازها قائم على الدم ، بمعني لازم يتجوزوا يكون قرايب بعض !!
فأتبعت لميس :
-الجهل ده لسه موجود !! معقولة ؟! طيب وأنتِ عرفتي ازاي يا لي لي ..
كفت ليلة عن العبث بخصلات شعرها وهي تروي لهم ما حدث مع أحلام التي توسلت لها أن تطمئن على ابنها وقالت :
-لسه بقول ألو ، ردت عليا واحدة وبتقـول لي أنها مراته ، وأنا من غبائي بكرر الجملة ، وهارون .. قصدي هارون بيه العمدة كان واقف قصادي ومعرفش سمع ولا لا ؛ بس هو حاول ياخد مني الموبايل لما عرف إني بتكلم مع أخوه وأنا رفضت ..
تدخلت جوزي معبرة عن إعجابها بهاشم :
-أوووه ؛ شكلي هحب هاشم .. يعني ده ضرب بأعرافهم المتخلفة دي في عرض الحيط وراح اتجوز وعايش حياته !! لا جامد .
فأكملت " عُلا" بنصح :
-لي لي .. خلي بالك أوعي لسانك يقول كلمة كده ولا كده ، عدي اليومين الباقيـن يا ستي في هدوء وارجعي ..
ردت بخيبة أمل :
-هعمل كده فعلا ..
فهبت لميس مقترحـة بحماس :
-ندخل في المفيـد ؛ أنا عايزة أشوف أشكال الناس اللي بننم عليهم دول ..
أيدهن الباقية بضحك ومزاح حتى طاحت ليلة بوجههم :
-خلاص اسكتوا بقا .. لقيت صورة هاشـم وو
ثم وقعت عينيها على الإطار الموضـوع فوق الكُمود الذي بداخله صورة هارون والتي رسمت الضحكة على محياها وهي تقول بنبرة هائمة :
-وهارون كمان .. استنوا ..
سرقت الصورة الشخصية لهاشم ومن بعدها قامت بالتقاط صورة هارون بيدها التي ارتعشت وهي تلتقها .. لم تتردد للحظة وهي ترسل لهم صورة هاشم ، ولكن عند هارون صدح قلبها بصوت الملكيـة الذي كان يريد أن يمنعها في أن يتغزلن الفتيات بصورته .. تجاهلت نداء قلبها الغامض والمبهم وقامت بارسال الصورة أيضا ، ذاع صوت الفتيات وهن يشاهدن الصور وكل واحدة منهم مبهورة بالزي العسكري لهاشم اللاتي أعجبن بكونه ضابط حربي .. ومنهن من أشادت بوسامة هارون وجديتـه .. تفوهت جوري التي وقعت بحب هاشم :
-ايه المُز الجامـد ده !!
فأتبعت لميس :
-واحد جامد والتاني أجمد !! ينفع اتجوز الاتنين ؟!
فردت عُلا :
-لي لي أنا لو منك مش هرجع غير وأنا متجوزة واحد منهم …
فأتبعت جوري :
-حاسة الصورة دي قديمة لهارون ، لو صورة جديدة كان هيفوز بحبي عن هاشم الباد بوي ده ..
فتغزلت لميس بهارون مما سرب شعور الغيرة لقلب ليلة :
-بس جامد عنده هيبة بنت ستين في سبعين أنا اتخضيت … لي لي هارون ده فظيع بجد !! هو كده فعلًا في الحقيقة ؟!
فنادت علا على ليلة الشاردة :
-وأنتِ يا ليلة ؛ مين أحلى ؟!
ردت بشرود تائه في بحره وهي تستحضر ذكريات لقاءها بالمدعو هارون وتقول :
-هاشم جامد ولذيذ بس مشدنيش ، لكن هارون زي ما قالت لميس ، عنده هيبة تخض يخلي عندك فضول بيسحبك شوية بشوية لعنده عشان تتعرفي عليه أكتر وأكتر ..
ثم ذابت في سحر صورته بين يديها وأكملت بتمنى يزهو بمقلتيها :
-راجل مختلف عمري ما هقابل زيـه في حياتي ..
ثم هبت مذعورة وهي تعيد صورته لمكانها وتقول :
-مامي بتتصل .. باي باي أنتـوا …
••••••••••••••••
~بسيارة هارون ..
والتي حكم بجلوس "أحلام" بالمقعد المجاور له وبالخلف صفية وزيـنة التي يمتد غضبها لملامحها المنكمشة .. تفوهت صفيـة بضيق :
-هارون يا ولدي ، ساعة ونعاودوا .. أنا عندي مصالحي ..دي واحدة خاطية خسارة نعزوها حتى.
-البت معملتش حاچة تعيبها ياما ..
ثم عير مجرى العتب و أكمل بمـلل :
-ربك يسهل الأمور ياما ..
فتدخلت زينـة بكهن :
-إلا قول لي يا هارون ؛ بكرة هيكتبوا على البت دي والواد وِلد عمها ..
زفر باختناق :
-معارفش ..
فتدخلت صفية لتقلي سؤالها على مسامعـه :
-الواد راح المجلس يطلبها ولا لسه يا هارون .
انكر معرفته بكل شيء كي يقفـل أي بوابة للجدال بخصوص هذا الأمر الذي أشعلتـه ليلة بقلبه وبرأسه :
-معنديش خبر ..
أخذت زينة تخوض في تفاصيل الأمر مع عمتها :
-شوف الحرباية ، أمها في المستشفى ورايحة تمشي على حل شعرها ؛ دي بنات متربتش يا عمة ، وبدل ما يچوزوها يروحوا يدفنوها بالحيا ..
كان حديث زينة النقيض تمامًا عن ليلة التي رأفت بقلب تلك المسكينـة على مسامع هارون فأعقبت صفية :
-دي بت چليلة الترباية ، عاوزة قصف رقبتها .. انا من رأيي موتها ولا عارها .. البت اللي تتكشف على راجل مش حلالها متستلهش تعيش.
وضعت زينة أناملها على شدقها وهي تقول مسددة النظر لهارون:
-يا مري يا عمتي .. لا ربنا يبعدنا عن الحرام والفضايح ، وهو في أحلى من حلال ربنا يوعدنا بيـه ..
لم يرق موضع الحديث بالنسبة " لأحلام " التي ربتت على كتف هارون متولية أمر دفاعها عن تلك الفتاة التي يجلدها الجميع بدون سبب .. نظرت للخلف وهي تنهرهم :
-ما تكتمي أنتِ وهي ، أيه عاوزين جنازة وماتشبعوش فيها لطم !! عرض الولاية بقا سهل !! مسكتوا حكم الدنيا أنتوا و أحنا مش عارفين !! اتقي الله يا صفية عندك بنات والبت دي مش خاطية البت اتاخدت غدر ..
تفوهت زينة باعتراض :
-غدر ولا مش غدر اسمها لامؤاخذة انكشفت على راجل وماينفعش تتكشف على غيره بعد إكده .
ألجمها صوت هارون المعارض لجهلها :
-ولا كلمة زيادة يا زينة ومش عاوز اسمع صوتك لحدت ما نوصلوا .
-ليـه بس يا
قاطعها بإصرار وهو يبرق لها بالمرآة :
-ولا كلمة قلت …
لكزتها عمتها التي انكمشت بالمقعد كي تصمت ، كي لا تُجادله .. ربتت أحلام على كتفه وهي تقول :
-هدي روحك ياحبيبي ، عيلة مفهماش حاجة وعرفت غلطها ..
شتان بين صوت الضمير وصوت الحميـر ، شتان بين إمرأة تجلس ببساتين الحياة فكل ما يخرج من فاهها زهور في صورة كلمات ، وبين إمراة ترعرعت في حظيـرة كل ما تقوله مدنس بالحماقـة .. استحضرت أعينه وجه" ليلة "التي تتوسله أن يقف بجوار فتاة لم تعرفها وتترجاه أن يقيم العدل لأجلها ويرحمها ، وتلك التي تجلس خلفه وستكون يومًا ما زوجته وهي لا تعرف للرحمة لون … ما هذا النفور الذي قفز بقلـبه لمجرد تخيله للفكرة !!
قطع فكره المتواصل رنين هيثم الذي اتاه صوته المتقطع بأنفاس التعب :
-هارون ، رقية جات عزا أمها ؟!
-أنا لسه في الطريق !! في ايه ؟!
-مش لاقينها يا هارون !! فص ملح وداب .
••••••••••
أغرق بالحب كيفما شئت ولكن عليك بالحذر ، أن تبقى أعينك مفتوحة دومًا .. هذه هي قوانين البحار لا يموت سمك مقفول العينين وتلك أشارة لك أيها العاشق .. فلا تبقى عاشق وأحمق بآنٍ واحد .. يكفيك سُم العشق فالقلب سيشفع لك ، ولكن سُم الحماقة فلا يرحمك العقل وقتها ..
قبل ساعات وبالأخص حينما كانت تخفي رغد آثار جريمتها الشنيعة وتقوم بحذف رقم" ليلة" من هاتفه توقفت عند رقمها قليلا وقامت بالتقاط صورة الشاشة وأرسلت الرقم لنفسها رغبة ما بنفسها قادتها أن تحتفظ برقم "ليلة"ثم تابعت إخفاء باقي جريمتها بعجل وغادرت الحمام بحذر شديد وفي لحظة قربها منه لتضع الهاتف بمكانه تأرجحت جفونه حتى أوشكت أن تنفضح أمامه فاضطرت أن تلجا لدهائها الأنثوية لتشتت تساؤلاته وهي تبادر بقبلة رقيقة نالت ملامحه هامسة له :
-سبتك تنام كتير .. مش كفاية بقا ؟!بتوحشني .
عادت من غفلتها على صوت فرقعة حبات الفشار بالطنجرة فاستردت وعيها على الفور وهي تجهز الإناء البلاستيكي لتكمل سهرتها الرومانسية معه بمنزلهم .. غسلت وجهها بالماء لتمحو من فوقه أثار الفكر واخذت نفسا عميقا لتهدأ ثم عادت لتفرغ الفشار بالطبق وتعود له ..
كان جالسًا في أجواء رومانسية يعمها الإضاءة الخافتــة والفيلم الأجنبي المفضل لهما حول الكثير من المقرمشات والعصائر للتسلية .. كانت ترتدي منامة شتوية بحمالات تصل لركبتها وجوارب شتوية تكسو قدمها لأعلي فدنت منه وهي تسأله :
-الفيلم ابتدا؟!
ترك الهاتف من يده وهو يجذبها لحضنه برفق :
-أهو هيبدأ .. وبعدين أنتٍ جايبة لنا فيلم رومانسي ليه ؟! أنا بحب الأكشن ..
-وأنا بحب الرومانتك ..
أصدر صوتًا نافية وهو يرفع حمالة كتفها المتدلية ويقول :
-كله كلام فارغ بيضحكو بيه على الهبل اللي زيكم .. مفيش بعد الأكشن وحلاوته ؟!
رمت حبة فشار بفاهه وهي تمازحه :
-ياسلام !! زي ما ضحكت عليــا كدا بالظبط ؟!أنت ناسي عملت أيه عشان تخليني أحبك !!
رفع حمالة سترته مرة أخرى وهو يتأمل ملامحها البدوية بإعجاب :
-في الأول كنت بتفرج عليه عشان أعرف أضحك عليكي بس ..
-ياسلام ؟! ودلوقتٍ خلاص بقا ضحكت عليا وجبتني في بيتك .. فـ خلاص كدا !!
تحمحم هاشم بخفوت وهو يغازلها بأنفاسه القريبة منها أرنبة أنفها :
-لا يا عبيطة هفضل أعلم فيكِ لأمتى .. فيلم رومانسي لزوم الشغل والأكشن لزوم ضبط الشغل ..
ثنت قدمها فوق ركبته المثنية وقالت بدلال بعد ما وضعت القليل المقرمشات بفمه :
-أزاي بقى ياهاشم بيه ؟!
رد بعفوية :
-عندك مثلا التكسير والحركات والخبط والرزع كلها حاجات لزوم الحاجات ؟! فاهمة حاجة ؟!
هزت رأسها وهي غارقة بالضحك :
-لا !!
فتحه فاهه ممازحا :
-ارمي ارمي فشار .. مفيش فايدة فيكي .
غمزت له بطرف عينها وهي تٌمسك بغلة الفشار وتسأل بخبث :
-فشار بس ؟!
-عندك حاجة تاني تتحدف جوة ؟!
جثت على ركبتيها لترمي قبلة أشبة لقطف الورود من خد البستان وقالت :
-حبة كده وحبة كده ...
-سيبك من كده وخلينا في كده ..
أنهى جملته بغمزة من طرف عينيه وتحمحم متحمسًا بعد ما ألقت رحيق بيادر الحب بقلبه وهو يجذبها عنوة إليه فانسكب إناء الفشار فوقهم لتصيح صارخة باسمه وتعاتبه :
-تصدق مامي ليها حق تطردنا بالعلاقة الهمجية دي ؟! لم معايا كده ..
-استنى في حاجات تاني هتتلم بالمرة !
قطع حبل نواياه الخبيثة صوت رنين هاتفها ففرت من تحت قبضته كالغزالة لترد على الهاتف قائلا :
-شكلها سامية بتيجي على السيرة ؟! وهي اللي باصة لي في أم الجوازة دي ..
ألقت نظرة بهاتفها :
-اه هي .. اسكت بقا متعملش صوت ..
ثم فتحت الهاتف لترد على أمها :
-هيي يامامي .. بنت حلال لسه أنا وهاشم كُنا في سيرتك ..
جاءتها نبرة صوت أمها الجادة :
-رغد .. أبعدي عن هاشم وكلميني ..
استأذنت منه بلغة الإشارة لتحضر ماء وهي تقول :
-معاكي يا مامي ..اتفضلي .
بتلك النبرة الخائفة حذرتها أمها :
-رغد أقفلي موبايلك لحد جوزك ما يمشي .. ممدوح الشيمي بيحاول يوصلك وأنا قولتله أنك مسافرة كندا عند خالك ..
ثم أشعلت تلك العجوز لفافة من التبغ الملقاة بفاهها :
-رغد .. أبوكي لو ظهر في حياتك تبقي تنسي علاقتك بهاشم للأبد ...
انخرطت العبرات من طرف عينيها :
-يعني أيه يامامي .. هو مش كفاية اللي عمله .. راجع تاني يدمرلنا حياتنا ؟!!!!
••••••••••••••
~نجع العزايـزة .
نُصب الصوان ببيت الحج ( أبو الفضل العزايزي) لتلحق به زوجته ورفيقة دربه اللذان عانان كثيرًا في الإنجاب حتى رُزقان "برقية " وباتت رُقيهم بالدنيا وبالآخرة .. عندما حققت حلم أبيها بدخولها كلية الصيدلة وبرت بأمها حتى رحلت وراء أبيها وتركوا معذبتهم لدروب الحياة لوحدها .. احتشد الجميع لتأدية واجب العزاء بعد ما دفنت السيدة صفاء ووقفوا أهلها والمقربين لأخذ طقوس العزاء ..
وصل نائب العمدة "هارون العزايزي " وأهل بيته للعزاء ووقف في أول صفوف أخذ العزاء من أهل قبيلته بنفسه .. انضم لهم هلال وهيثم الذين يبحثون عن رقية في كل مكان .. تساءل هثيم بقلق :
-هارون رقية ملهاش وجود ..
فتدخلت هاجر الباكية وهي تلهث من الخوف :
-هارون اتصرف .. عشان خاطري يا أخوي لتعمل في روحها حاجة .. أنا خايفـة عليهـا ..
لأول مرة يتخلى هلال عن زيه الأزهري وطاقيته .. يقف قابضا على جمر الألم والخوف بقلة حيلة .. قال هارون لأخته :
-خشي دوري عليها في البيت جوة ..لتكون قاعدة في مكان في البيت ..
ثم التفت لسؤال هلال المختنق الذي يكظم غضب وما أدراك وما كظم غضب الرجال وقال لإيقاع أخيه حول إيجاده لبكر أم لا ليقتص منه :
-هارون ليكون الندل خدها وهرب ..
أدرك هارون فخ أخيه الذي يحترق غضبا لدينه ودنيته كظن هارون الذي لا يعلم أن أخيه غارق بلهب الحُب ، نجا هارون من الوقوع في فخ سؤاله مستنكرًا علمه بأي شيء يخص المدعو بكر :
-رجالتي قالبين البلد .. متعتلش هم هجيبوا ومفيش مخلوق هيطلع من العزايزة من غير علمي ..
انفجر هيثم بنفاذ صبر ليجذب صوته انتباه الحاضرين :
-أنت ايه الهدوء بتاعك !!عقولك بت ملهاش ذنب أدبحت ومش لاقينها .. وواحد خسيس هربان وو
رمق أخيه بنظرته الحادة إثر رفع صوته عليه لأول مرة ولكن منعه من الرد صوت رنين هاتفه :
-أيوة يا جابر ؟!
-كارثة يا جناب العمدة .. البت راحت النُقطة بلغت والقوات جاية وو
هنا أقتحم صوت عربات الشرطة الأذان ودار نحوها الجميع .. تلك أول مرة تجرؤ الحكومة على دخول نجع العزايزة .. اتسعت الأعين وانفرجت الأفواه .. لم يكن الوقت متاحا لهلال أن يستفسر بل ركض نحو العربة التي هبطت منها رقية متجاهلا الجميع ليقف أمامها مهزوزا وبنبرته المنتفضة :
-أنتٍ بخير ؟!
قفلت جفونها وتحاشت النظر إليه متجاهلة الرد على سؤاله وربما فقدت قدرتها على التطلع له .. فباتت الجسور بينهما محطمة تماما .. كيف ستواجه رجل مثله منارة في العلم والخُلق ..رجل كانت تتحداه رأسا برأس وتناطحه بدل الكلمة بعشرة .. كيف ستواجهه الآن وهي فاقدة كل شيء وتحاول النجاة بحطام ما تبقى من روحها .. دخلت من بوابة البيت فهرولت لعندها هاجر وضمتها بهلفة لتقول معاتبة :
-موت من الخوف عليكي ..
كانت عبارة عن جسد راسخ فقد كل وظائفه الآدمية .. شلت الحركة بكل جسدها ما عدا عينيها باتت تتطوف وتتجول المكان حولها .. تسرب الخوف لقلبها وهي تراقب الوجوه وتسألها :
-هي أمي ناصبة صوان ليه ؟! أنا زينة وحقي راجع وو
ثم جلى حلقها برقت تلك الأعين المحمرة :
-تعالى معاي يا هاجر أقولها أن بتك شريفة ووالله والله هو اللي عذر بيّ .. أنا كنت هرمي نفسي وو
ظلت تمسح على وجه رفيقتها وتترجاه :
-اهدي يا حبيبتي .. أهدي أهدي .. أنتٍ زي الفل ومحدش يقدر يقول فيحقك كلمة واحدة وو أهدي عشان خاطري ..
انسكبت العبرات من مقلتيها بغزارة وهي تقول بترجي :
-طب تعالى تعالى نفهموا أمي .. هي عارفة تربية بيتها .. تعالى خليكي جاري عاوزة اترمي في حضنها وابكي و أقولها رقية أدبحت ياما ...
كفكفت هاجر دموع رفيقتها ثم ضمتها لحضنها وهي تصرخ باكية لتلقي جمر الخبر على مسامعها :
-صفاء سابتنا ومشت يا نور عيني .. قلبها حس بيكي مستحملش ووقف ..
بللت رقية حلقها الذي جف وهي تحت تأثير صدمتها :
-تعالي أقولها إني مش هسيبه غير لما يتعدم .. حقي راجع ياما ..
ثم كفكفت عبراتها وسيل أنفها المتقطر :
-هي خدت دواها ولا نسيته .. تعالي ياهاجر جوه نشوفوها يلا أنا غايبة عنيها من إمبارح ..
توقفت هاجر أمامها لتعوق خطاها وهي تتشبث بذراعيها :
-حبيبتي فوقي مش جوة .. صفاء مشت عند اللي خلقها ..
ثم أتاها صوت أحلام التي جاءت من الخلف وهي تربت على كتف تلك الصغيرة :
-رقية يابتي انتي مؤمنة بالله صح وده قدر ومكتوب .. صعبة عارفة بس أنا جارك ومش هسيبك وو
قفلت جفونها للحظة محاولة استيعاب ما قالت هاجر وهي تسألها:
-هي يعني لساتها في المستشفى طب يلا نروحولها ..
ثم تجول عينيها لتراقب الوجوه حولها بعدما استوعبت خبر رحيل صفاء عنها ، وبتلك النبرة التي رجت الجدران قبل القلوب أطلقتها رقيـه صارخة وهي تجثو على ركبتيها كأن صخور الحزن تحطمت على كتفها لوحدها :
-أمـــي …….
لم يتحمل "هلال" هول الموقف الذي هُزت لأجله الجبال وما عليها .. فر من مرارة الحشد المهين ليجد مكانا يفرغ به تراكمات روحه التي لم يعد قادرا لتحملها .. وعلى الجهة الأخرى يقف هارون مع هيثم أمام شريف الذي انتشروا رجاله والطب الشرعي بالمكان .. فأخبره هارون بهدوء :
-خد رجالتك يا شريف بيه وأمشي من إهنه ده واجب وعزا ومش عاوزين فيه عوچ.. أحنا هنحلو مشاكلنا ؟!
رمقه شريف بسخرية :
-أنت من أول ما ركبت العمدية والمشاكل مابتتحلش .. سيبني أحلهالك أنا .. وأعترفوا بدور الحكومة هي مش غابة يا عزايزة ..
رد عليه هارون بشموخ :
-والأرض إهنه أرض العزايزة ويبقي القانون بتاعهم وبس ..واللي يقف عليها يحترموا غصبًا عن عين اللي خلفوه .
فأتبع هيثم :
-فرد العضلات دهوت روح أعمله في أي حتة بعيد عن إهنه ..العزايزة لسه بقوتها وكلمتها سايرة على الكل .
أشعل شريف سيجارته وهو يطالع هارون بتحد بأنه لا يتراجع أبدا :
-بكر فين يا عمدة ؟!
مال ثغر هارون بضحكة خبيثة وهو يحك أنفه بسبابته :
-ديه شغلتكم مش شغلتي يا حكومة !
جهر شريف بوجهه كمن أعلن عليه الحرب :
-أنت كده بتقف ضدنا وأنا متأكد إنك عارفه فين .. هات معايا سكة وخلينا نساعدو بعض بدل ما ..
قطعه هارون بثقة :
-أه أنت تترقى وتعلق نجمة زيادة وأنا اتفضح وتبقى سيرتي على كل لسان .. ألعب غيرها يا شريف بيه .. العزايزة مستغنيين عن خدماتك .
ثم دنى هارون منه خطوة أخرى وما زال محافظا على شموخه وأكمل بسخرية :
-وهو عدم اللامؤاخذة .. القانون بتاعك هيعمل ايه زيادة عننا ؟؟! ما هو الواد لو وقف وقال هتجوزها هيتجوزها .. ونبقي منبناش غير الحديت الماسخ والفرهدة !!سيب مشاكل العزايزة للعزايزة وكل عيش بعيد عنهم.
غمز له شريف برفض قاطع مرحبا بقيام الحرب بينهما :
-انتو بقيتوا شغلتي خلاص..
ثم وضع الهاتف على أذنه وهو يرسل لهارون آخر نظراته متواريًا خلف العربة وهو يتحدث مع المتصل والذي يشتغل بالصحافة كي يضمن قبضتـه على جمر الموضوع بعيدًا عن ألاعيب هارون ، ويحوله لقضية رأي عام :
-"فوزي بيه ، خبـر لسه طازة عاوزو يقلب الإعلام والصحافة ويلف مصر كلها بيت بيت .. سجل عندك .. "
كل شيء بالحياة وله تاريخ صلاحيـة ، كُل المواقف في حاجـة لرد فعل مناسـب للحدث ذاته وفي وقته ، فبعض المواقف لا تقبل التأجيـل للرد عليهـا ، فما جدوى السيوف التي تُرفع بعد أن ضبت الحرب أوزارها ؟! الظلم يحتاج لصوتٍ يعارضـه ، لصوت يقف بوجهه .. الحزن بحاجة لبكاء يخفف الحمل من فوق القلب.. الضعيف يحتاج لمن يأخذ بيده ليقويه .. ترك لها قلبه ورحل .. وصل " هلال" لتحت إحدى الأشجار في الظلام الدامس كي لا يتيح لأحدٍ أن يرى دمع عينيه وهو واقف مغلول الأيدي يشاهد الظلم بعين حق متوارية .. يراقب تحطم فتاة ضعيفة ويود احتضانها ولكنـه عاجز لا يستطيع.. حتى البكاء لا يليق بهِ ، فعادات الرجال لا تُقطر عينيهم أبدًا يسيل الدم ولا يسيل الدمع ؛ ولكن ما الذي يخفف حمل القلوب المُثقلـة .. وقف تحت ستار الليـل الذي لا يختلف عن ستار الظلم إلا أن كلاهما سيسطع عليهما شمس الحق في يومٍ ما ، فتح كفوفه معلنـًا اعتراضـه وتبرئة ذمته عن كل ما يحدث ، يزأر تحت عرش الظلم القاتل لكل معالم الإنسانيـة وهو يستغيث برحمة ربـه ، اشتدت حبال صوته التي برزت عروق رقبته ويده المتشنجة بصوت ينافس زئير الأسود الجائعـة في غابة حُرقت كل أشجارها .. راجيًا أن يهدأ احتراق قلبـه الثائر وهو يفجر غضبه فـ كلمته :
-يــــالله !!!!!!!! يــــالله ..
•••••••••••••
~في التاسعـة مساءً ..
عاد هارون وعائلته إلى بيتهم ما عدا هاجر التي أصرت أن تبقى مع رفيقتها وتولت نغم مهمة أنسهم .. ووكل هارون هيثم واثنين من الرجال لبقاءهم خارج البيت لحارستهم .. كانت صفية تضرب كف على الآخر وهي تشكو همـها لزوجها الجالس على الاريكة الخشبية مستندًا على عكازه بوهن :
-حج خليفـة لازمًا تشوف لك صِرفة !! بتك هاجر عصت كلمتي وفضلت مع البت اللي ما تتسمى دي !! سُمعة البت يا حچ !!
جهر صوت هارون من الخلف :
-قولها اطمني تروح تنام يا حج خليفة ..
أخذ جملة ابنه على محمل الثقة :
-سمعتي يا صفية حديت ولدك ، اتقي الله ابو البت جمايله مغرقانا والبت ما ينفعش تتساب بروحها ..
أخذت صفية تسب حظها سرًا وعلنًا معترضة على أحكام ابنها وزوجها وهي تنوح وتندب بختها المائل على حسب وصفها ، اسندت هيام " أحلام" لغُرفتها بهدوء وهي تحكي معها حول ما حدث مشفقة على حال هذه الفتاة التي ذُبحت مرتين في نفس الليلة .. جلس هارون مع أبيها ليستفتيـه بالأمر متحيرًا :
-أيه رأيك يا أبوي ، المفروض أيه اللي يُحصل ؟!
نظر له ابيه نظرة حكيمة وبابتسامة لا تتناسب مع محتوى الحوار بينهم وقال :
-صوت قلبـك عيقول أيه !
عارضه هارون :
-ومن ميتى في القانون والعرف قلوبنا بيطلعلها صوت ياحج !!
عاتبه بهدوء :
-ومش معنى إنك حلفت اليمين إنك تحافظ عليهم ، يبقى تموت صوت قلبك ! لا يا هارون يا ولدي !!
قاطعه معتذرًا :
-بس أنا عمري ما شوفتك كسرت عُرف ولا قانون للعزايزة يا ابوي .. طول حياتك بتنفذ القانون لو على رقبتك !!
غرز أبيه سبابته بصدر ولده مشيرًا لقلبه بقوة :
-عشان اللي إهنه مخفي ، وعشان يتعمل لازم يبقى في الخفي ..
تحير حول حكمة أبيه التي لم يفهمها قط ، وسأله :
-طب ما ترسيني !! البت حرام تتچوز كلب زي ديه !! وحرام تتساب لروحها في الدنيـا !
هز الحج خليفـة رأسه بعد اقتناع :
-احكم في اللي تُملكه وبس ، أمر الدنيا بيده لوحده - وهو يُشير للسماء - أنا سايب لك المركب تسوقها لوحدك عشان متتخبطش زيي ..
ثم استند على عكازه متأهبًا للذهاب :
-على فين يا أبوي !!
-طالع أنام يا ولدي ، رايح بكرة اسكندرية ..
انكمشت ملامح وجهه باندهاش :
-ده ليه ؟! ملناش شغل حتى في اسكندرية!!
ابتسم ابيه بحكمة لا يعلمها غيره :
-حقوق عباد ولازم ترجع لصحابها ..-ثم عاد يشير لقلبه وأكمل -أهي دي الأمور الخفية اللي لازم القلب يحكمها .. خلي حكمك قوي لكن متموتش قلبك يا عمده ..
ظن أن لجوئه لأبيه سيستدل منه على الحل ليطمئن فكره ولكنه أشعل وهجًا أخر من الحيرة برأسه حول ما السر او ما الأسرار التي يخفيها خليفة العزايزي وستدفن معه !! تدخل مقترحًا :
-لو عاوز تعرف حد في اسكندرية ممكن تسأل الاستاذة .. قصدي الضيفة ، آكيد لافة وعارفة كل حاچة في بلدها ..
لم يكترث للأمر اكتفى بهز رأسه قائلًا :
-كله على الله .. وديني عند أحلام ،ليّ ليلتين غايب عنها ..
تعكز أبيه على رسغه ، فمازحه هارون قائلًا :
-أهو مزاجك ماعيتظبطش غير عند أحلام .. هنيالك يا حج ..
ضحك ابيه بوقار وهو يعترف بحق زوجته الأولى :
-أحلام من الحريم اللي تريح الراس والقلب ، أما أمك دي تقلب الرأس قلب .. -ثم وشوش له - احفظ سر أبوك متودناش في حديد أمك لساتها بصحتها وأنا مش كَدها ..
لاطف أبيه باحترام :
-لا أحنا چامدين يا حچ ولا يفرقلنا !! داحنا نتعلموا منك ..
-عند أمك وهيفرق ،وطي حِسك بس مش ناقصين خوتة ..
وصل الاثنان لأعتاب غرفة أحلام والتي خرجت منها هيام للتـو ، فألتقت بأبيها وأخيها اللذان بادلتهما بابتسامة هادئة ، ترك الحج خليفة يد ولده مستردًا عافيته على باب الغرفة :
-أنتَ مسندني ليه يا وِلد !! شايفني كَبرت !!
داعبه هارون ملاطفًا بالحديث وهو يضع يده على كتفي أخته ويقول :
-مش بقولك يا حج داحنا نتعلموا منك ..
ثم وشوش لاخته ضاحكًا :
-أبوكي شكله ناوي يعملها ويجيبلنا الواد الخامس .. مش مرتاح له ..
ضحك الأخوة معًا وألتفتت له هيام بامتنان :
-تعرف إني عحبك قوي يا هارون ، أنتَ مش بس أخوي ؛ أنتَ كُل حاچة في حياتي..
-أنتِ تربية يدي يابت !! وأنا ليا مين غيركم ..
ثم ختم جُملته بقبلة رأسها وسألها :
-روحتي لـ ليلي ؟!
انكمشت ملامحها باستغراب :
-أنا ما شوفتهاش خالص ، افتكرتها راحت معاكم ؟!
ضجرت ملامحه باختناق مناديًا على فردوس التي جاءت ركضًا :
-فردوس مش أنا قولتلك أعمل غدا وشيعيه للأستاذة مع هيام !!
ضربت فردوس على رأسها تُعلن نسيانها :
-يقطعني يا هارون بيه ، اتشغلت في البيت ونسيـت وو
-يعني مأكلتش حاجة من صباحيـة ربنـا !!
حاولت تصلح موقفهـا معتذرة :
-حالًا حالًا .. هعملها صنية العشا ..
في تلك اللحظة انطفأت الأنوار إثر انقطاع الكهرباء عن بيتهم لعطـل مـا ، سب هارون ذلك الحدث وهو يشعل كشاف هاتفه طالبًا من أخته :
-روحي أقفي مع فردوس وأنا هروح أشوفها ، ازاي مخرجتش كل ده ؟!!
~بغرفة هارون الخشبية ..
مرعبة فكرة أن هذه هي حيـاتي للأبد .. أخشى أن يمر العُمر وأنا أتجاوز فترات مختلفة من الضغط والتعب والتفكير والتشتت والبكاء ، أخشى أن يمر ربيع شبابي دون أن أقول لنفسي ..
"أخيرًا لقد أنتهى كل شيء ".
قضت ليـلة ساعات طويلة سجينة غرفته وتفاصيـلها ورائحته وكتبـه وكل شيء ينتمي إليه لوحده ، أسهبت الفكر به للحد الذي أشغلها عن الالتفات إلى ذلك الصداع المُجرم الذي يصـدح برأسها ويضرب بجذوره بخلايـا جسدها .. ظلت تتمرد على التعب بتناولهـا جرعات زائدة من الدواء على معدة فارغة بناءً عن وصف أمها كلما يشتد وزر الألم فالمسكن سيحل الأمر ولكن تلك المرة بات الألم لا حد له فَجر وتفجر برأسها ، أصاب كيانها ورعشـة كفوفها التي تقلب الصفحات .. ثم تابعها ارتعاش عضلات وجهها وانتفاضة ساقيها بصورة مروعـة ، ظلت تئن تئن وهي تتحمل الوجع تتحمل تلك الدبابير التي تلهو برأسها ، ثم تلجأ لتناول المزيد والمزيد من تلك الأقراص الملعونة .. تمسكت بالهاتف كي تستغيث بأمها تلك السيدة التي تقتلها بسلاح بارد .. سقط الهاتف من يدها لقد تدهورت حالة أعصابها فلم تقاوم على حمل ريشة إثر حالة الذعر التي أصابتها ..
تفاقمت الأزمة عليها في لحظة انقطاع الكهرباء عن المكان فلم تر إلا ظلام وذئاب وهمية تأكل بكيانها ، سقطت بالأرض فلم تعد أقدامها أن تسعفها حتى لمغادرة الغُرفـة ، وضعت كفوفها فوق آذانها وهي تصدح بالصراخ المكتوم وتضرب قدميهـا بكل شيء يقابلها وهي تزحف وتترتجع للوراء ، حالة الذعر خيمت على حالتها المرضية وهي تفتش بالظلام عن أيدي تمتد لها لتنقذها من هول المخاوف التي تحاصرها ، أغرورقت ملامحها بالدموع الذي بلل ملابسها وهي تفتش في ستائر الظلام عن ظل والدها الذي كان يضمها في أصعب لحظاتها ، مرت شرائط الوحدة البغيضة أمامها وهي تصرخ رافضة العودة للماضٍ خطوة واحدة ، لا تريد من الماضي إلا أبيها فقط ، سندت ظهرها على الحائط خلفها وضمت ساقيها لصدرها وهي ترتجف ، تصرخ ، تنحب بصوت هستيري مستسلمة للأسلاك الشائكة التي تضرب بأصولها حتى انفرجت زاوية الباب التي جاءت بالنور وبرجل مثله .. رجل مثل ما يعث حوله قلبها كان ينادي باسمها " ليلي " تارة وبلقبها طورًا و بهدوء كأن قلبه على علم بحالتهـا ويخشى ألا يؤذيها ، لم يسمع إلا صوت أنينها وهي تبكي بأحد الزوايا بصوتها المكتوم الذي تعالى تدريجيًا عندما أحست بوجوده بالمكان ، كل ما بها يرتجف ، يرتعش فقدت قدرتها على النطق .. قفز الهلع في قلبها وهو يفتش عنها بزوايا الغرفة بالإضاءة الخافتة ومع خطواته القلقة عليها يدنو منها حتى سقط عليها النور فوجدها متكورة حول نفسها وتراقبه بجفون متسعة تعلن عن حاجتها للونس للاطمئنان لعناق يخفف وطأة الألم.. حاجتها إليه ولا أحد يعلم لِم هو !!
تسمرت ملامحه التي تراقب تلك القطة التي تئن بالأرض وتصعق من نوبة الحزن والألم .. جثى على ركبتيه ليسائلها بتلك النبرة الخائفة :
-مالك ؟! في أيه ؟!
لم يمهلها فرصة للرد فأخذ يمسح على ملامحها بكفه الدافئ الذي احتضن تلك الملامح التي ترتجف من برد الخوف .. رفع شعرها عن وجهها بنفس اللهفة :
-انتِ سمعاني !!!
هزت رأسها تارك بالنفي ومرة آخرى بالإيجاب وهي لم تتوقف عن البكـاء ، كان يراقب ملامحهـا بنظرات مشفقة متشتته عاجزة على معالجتهـا كرر سؤاله :
-أيه وصلك للحالة دي !! ممكن تهدي أنا معاكِ أهو ..
كاد أن يتحرك ليحضر لها كاسة من الماء ولكنها باغتها متشبثـة بياقة جلبابه ملقية رأسها بحضه وهي تنتفض كالطير المذبـوح .. رفع كفوفه مستسلمًا كي لا يقع في فخ الذنـب ولكن تعلقها به كطفلة تعثرت في الحال بخطى أبيها .. اندست رأسها بصدره وقبضت كفوفها على جلبـابه وهي تهذي بكلمات غير مفهومة.. أطفأ نور الهاتف وكأنه تعمد قفل نور العقل متبعًا نور القلب الذي أجبره أن يمسح على رأسها بحنانه الذاخر وينصحه الا تبدد الوقت سدى يا أحمق!! ظل يمسح على رأسها وهو يطلب منها أن تهدأ .. ظلت متعلقة بثيابه فكانت تلك الانتفاضة بقلبه ، لست جسدها فقط ما كان يرتعش ..
ظلام دامس ورجل يضم لقلبه إمراة برقة نسيم الفجر يود مساعدها ولا يعرف كيف الطريق لذلك ، أدرك بأنها تعاني من لعنة فقد ما بحياتها وفي حاجة لحضن يسد فراغ الألم بها .. ولم يعلم أن الألم الحقيقي ينصب كله بقلبـه الآن ، قلبه الذي ضم رأسها المتفجرة بالوجع .. راق له أمر بقائها بقربه لهذا الحد ، تناسى الزمان والمكان وكل شيء وباتت القلوب تتحدث بلغتها الخاصـة .. أغرورقت ملابسـه بماء دموعها ولكن هنا بدأت اللعنة الجديدة ، فهبطت دموعها على أرض قلبه القاحلة لتنبت حبًا فريدًا من نوعه .. كان هدوءها تدريجي وكأن قلبها ورأسها اتفقا على وجود ما كانا يبحثان عنه .. وباتت المشاعر تتحرك في الظلام بدون إرادة من أصحابها ، هل من المنطق أن يمر الحب علينا دون أن يعرفنا عليه؟! أم جاء لهنا كي يختارنا ضحايا له !!
لاحظ سكينتها وانعدام بكاءها فدمدم بهمس :
-بقيتي أحسن ولا اطلب دكتور !!
لم يتلقى منها ردًا ولكن النور هنا جاء ليكشف عن تلك الحقيقة التي ولدت بالظلام ، تدلت جفونه ليفحص وجهها فوجدها غارقة بالنوم ولكن بقايا الانتفاض ما زال يعبث بجسدها ، لم يكرر سؤاله بل تحرك بعطف أب على صغيرته ليحملها بين يديه فوجدها تتعلق به أكثر تدفن وجهها بصدره متخيلة مجيء أبيها الذي أدى دوره ببراعة وبكل صدق :
-بابي متبعدش تاني ، ليلة من غيرك اتعذبت أوي ..
توقف بجوار السرير وهو يتأمل ملامحها النائمة والتي تهذي بدون وعي ، فـ رق قلبه لحالتهـا ، لم تمهله الفرصة لتأملها بسعة من الوقت، فباغتته وهي تردد حروف اسمه إثر تردده كثيرًا مع رفقتها :
-هـ ـا ر و ن !
اتسع بؤبؤ عينيه بتساؤل عن مدى أهميته لحروف اسمه كي تنطقها في تلك الحالة ، انحنى ووضعها برفق بمنتصف الفراش لتتفتح جفونها فتلتقي بيعينه التي تحتضنها فعاود سؤاله :
-أنت زينة ..؟!
لم تجبه بل عادت لقفل جفونها مرة آخرى لتسبح في نوم عميق .. شد الغطاء فوقها وهو يزفر بقوة كي يطرد كل ما تسرب إليه على سهوة ويستغفر ربـه ، وما كاد ليخطو خطوة فتعثرت قدمه بزجاجة الأقراص المرمية بالأرض ، انحنى للاطلاع عليها ثم قام بتصوريها و على الفور أرسلها لنجاة وكتب لها :
-نجاة اسالي أي دكتور عندك الدوا ده بتاع أيه ؟!!
يتبع