رواية اصرة العزايزة هارون وليلة الفصل الـ 12 و 13 بقلم نهال مصطفي
رواية اصرة العزايزة هارون وليلة الفصل الـ 12 و 13 هى رواية من كتابة نهال مصطفي رواية اصرة العزايزة هارون وليلة الفصل الـ 12 و 13 صدر لاول مرة على موقع التواصل الاجتماعى فيسبوك رواية اصرة العزايزة هارون وليلة الفصل الـ 12 و 13 حقق تفاعل كبير على الفيسبوك لذلك سنعرض لكم رواية اصرة العزايزة هارون وليلة الفصل الـ 12 و 13
رواية اصرة العزايزة هارون وليلة الفصل الـ 12 و 13
أَلَيسَ اللَيلُ يَجمَعُني وَلَيلى
كَفاكَ بِذاكَ فيهِ لَنا تَداني*( تقارب)
تَرى وَضَحَ النَهارِ كَما أَراهُ
وَيَعلوها النَّهارُ كَما عَلاني
-قيـس بن الملوح .
•••••••••
-استنى ياما .. مفيش حـد هيعتب دارنا، خصوصًا ولو چايين من غير معاد .
وقفت رُقية أمام الباب رافضـة دخول بكرة وعائلتـه داخل منزلهم إثر ارتباك السيدة صفاء التي اعتادت أن تُكرم ضيفهـا دومًا ، شهقت أمه لبكر بكفها المبروم حول ذقنـها :
-وه !! يا دي العيبة !! هي دي اللي عاوز تتچوزها وتدخلهـا وسطينا يا بكر .. دي لسانها متبري منيها.
لم تمنح رقية الفرصة لأحد كي يدافع عنها إلا نفسها ، وقفت أمامهم ببسالة جُندي لا يخشى الموت وقالت :
-عليكِ نور !! أنا مش كد المقـام چايين لي ليه !! ولا هو الطمع والورث عمى عينيكم !! خد ناسك وامشوا يا بكر ..
تدخل بكر بعاصفة غضبه العاتية :
-ما تتعدلي يا رقية مالك سايقة وطايحة في الكُل ومحدش هامك .. ولا هما ولاد خليفـة العزايزي مقويين قلبك ؛ لا فوقي .. لا هما ولا عشرة زيهم هيقدروا يمنعوني عنك ..
تدخلت صفاء المرتعدة من الخلف والتي تخر دموعها شفقة على ابنتها :
-وهو الچواز بالعافية يا ولدي ده حتى ما يرضيش ربنا ..
ضرب على الباب بكل قوته وجهر بصوته المُرعد :
-وأنا مش هتنازل عن حقي ، وأنتِ بتاعتي يا رقية ذوق عافية مفيش دكر خلقه ربنا هيلمسك غيري ..
كادت أن تعارضه ولكنـه قاطعها صارخًا كي لا يمهلها فرصة للرفض :
-أنا شيعت خبر لمجلس العزايزة وقولتلهم عندِكم كتب كتاب قريب والكُل مرحب مش هتيجي أنتِ وتسوقي العوچ ، وولاد خليفة لو شمو خبر هحسر قلب أمهم عليهم .. ولا تكونيش راسمـة على واحد منيهم !!
-أنتَ شكلك ادبيت وعقلك راح منك من البرشام اللي عـ طفحه .
نفذ صبر رقية من وقاحته وتجاوزه حدوده معها واهتهامها بالباطل ، فلم تجد أمامها إلا القُلة الفخارية التي تناولتها بلمح البصر كنت تتساقط قطع من فوق رأسه صارخًا بتوجع وهو يتمسك برأسـه ، صدح صوت صراخ النسوة خلفه كل منهن باهانتها المختلفة المسددة لرقية التي شفيت غليلها منه ، اشتعلت النيران بقلب أمه التي خلعت نعالها لتنتقم من تلك قليلة التربية التي تطاولت على ابنها البكري فتوقفت صفاء لتتلقى الضربة عن ابنتها وهي تنوح مستغيثة بالناس حتى صاح بكر بوجههن ورأسه يسل منها الدماء :
-اكتموا ، ولا كلمة ، مسمعش حس مرة فيكم !!
ثم نظر لرقية التي تحتمي بأمها وقال مهددًا والشر يتطاير منـه لانها اهانت رجولته أمام أهل بيته :
-وديني يا رقية ما هعتقك والدم عندي تمنه دم .
•••••••••
-أنتَ هتروح فيـن !
بتلقائيتها المعهودة تشبثت برسغه وهي تتفقد المكان المُعتم حولهـم بنوبة من الخوف ، بات كل شيء مخيف ولم يتبقى إلا وجوده لتأنس به ؛ لا تعمل من أين جاءت بثقتها العمياء لتأمن لرجل غريب عنهـا ، رجل لا يجمعها به إلا صعوبات .. تأرجحت عينيه على كفها القابض على معصمه ثم انتقلت لجفونها المرتجفة وقال بنبرة هادئة ولكنها جافة :
-هنزل أشوف حل للورطة دي !!
ثم نزع لاسته وألقاها بالخلف مستعدًا :
-استعنا على الشقى بالله ..
ثم نظر بعيونها آمرًا:
-متتحركيش من مطرحك ..
هبط من سيارته مستعينًا بكشاف هاتفه ليفحص الإطارات المغروزة بالرمـل وهو يتمتم بكلل ويلعن غباءه لأنه مر من ذلك الطريق .. كانت تدور يمينًا ويسارًا للخلف وللأمام .. مثلمـا يتحرك كانت تتحرك معه وكأنه أصبح بوصلة قلبها التي ترشدها في كل وقت ومكان ..
تحرك مبتعدًا عن السيارة وأخذ يلملم في أغصان الشجر المُلقيـة وجمعها ببؤرة واحدة بالقرب من سيارته ثم سكب فوقهم القليل من الغاز كي تُنير له الأرض وتخشى الذئاب ان تقترب منهم ..
لم يمهلها فضولها أن تتوقف عن مراقبته عند هذا الحـد بل فتحت الباب وهبطت من السيارة وهي تستفسر :
-ليه كده !!
لملم القش المتباعد ليقربه من موقد النيران وهو يقول بملل :
-الجو بارد .. والديابة ماعتقربش من مُطرح فيه نار ..
رفعت حاجبها باندهاش :
-ديابة !!!
-اومال أنتِ فاكرة أيه ؟!
قال جُملتـه وهو يتحرك صوب السيارة ليُخرج منها العِدة المختصة بالجبل ليستعين بها في تخلص اطارات السيارة من الرمل .. تجاهلت كل شيء وشردت بالسماء فوقها :
-الله !! القَمر مُكتمـل !!
قالت ليـلة جملتها الأخيرة بحماس وهي تتفقد البدر المُنير في ليلة تمامه فوق رؤوسهم ، كانت رأسها مرفوعة تراقب القمر ونجومه غير مكترثة للظلام والصحراء التي تقع بها ، ثم اخفضت رأسها ونظرت له :
-عارف ده معناه أيـه ؟!
تحولت نظرته الاستكشافية وهو يراقب براءتها وعفويتها لنظرة أخرى جامدة لا تهتم وقال بطبيعته الواقعية التي لا تعترف بشخصيتها الحالمة :
-انه وصلنا لنص الشهر !! هيكون أيه يعني؟!
أخذت نفسًا طويلًا وهي تعقد كفيها وراء ظهرها وقالت بأنفاس من الحرية :
-لا مش كده !!
ثم دنت منه خطوة أخرى لتشرح له وجهة نظرها :
-في أسطورة بتقول أن الإنسان لمـا بيتولد حياته زي الهلال بالظبـط بيكون لوحده تايـه في الكون بيـدور عـ نصـه التاني لحد ما يلاقيه فـ مكان ما ووقت معين .. فيـظهرلنـا قمر مُكتمـل زي ما بنشـوف ...
ثم تراقصت عينيها ببحر عينيه المتدلية لعندها وأكملت بشغف شديد مع نبرة أكثر هدوءًا عن الأولى :
- وعـارف ده معنـاه أيه !!! أن مع اكتمال القـمر مرة كُل شهر في اتنين عُشاق بيتجمعـوا .. ومع رجوعه لهـلال مرة تانيــة فـ اتنين عشـاق بيتفرقوا ..
حتى صاحت متأملة :
-يعني النهاردة مع اكتمال القمر في عُشاق جُداد هيتجمعوا .
-حديت فارغ ..
قال جُملتـه وهو يشد الأدوات الحديدية ويرميها بالأرض مستهترًا بأساطيرها التي لم تتوقف عن الإيمان بها .. ثارت النيران ببدنها لتقليله من فلسفتها الحالمة :
-على فكرة ده كلام مهم جدًا ، الانسان مخلوق من الطبيعية يعني مصيره مرتبط بمصيرها ..
ثم رفعت سبابتها محذرة بانفعال :
-ولما أقول حاجة بعد كده من فضلك متقللش منها ، انت حر تصدق أو لا ، لكن ده مش يدي لك الحق تستهتر بكلامي .
تأفف مستغيثًا بضيف الصبر أن يملأه كي يتجاوز تلك الورطة بدون أدنى جرائم ، اكتفى بنظرة من مُقلتيـه وشرع ببدء عمله ، وعادت هي الأخرى لتحاور صديقها بالسماء متجاهلة وجود قمر أرضها الحقيقي ، وضعت كفها على قلبها مستردة حالتها الخيالية :
-يابخت أي قلب لقى حبيبه النهاردة والقمر شاهد على قصتهم دلوقتِ..-ثم رمقته بسخرية وأكملت - ده كلام عاطفي وصعب على اللي زيك يفهموه ، أنت أخرك تكسر في الحجارة وترفع زلط .
بلع زلط إهانتها بضحكة طفيفـة وقال بنبرته الصارمة :
-خشي أقعدي چوة العربية وعدي ليلتك ..
سارت بخطوات طفولية وهي تضرب الأرض بقدميهـا ، فتحت باب السيارة وجلست بداخلها وأقدامها المتدلية تعبث بالرمل تحتها ، ظلت تراقبه بأعين متحدثة لم تعهـد الصمت الطويل.. شرع هارون بحمل الرمل بواسطة المجرفـة والعرق يتصبب من جبهته ، كانت تراقبـه بأعين متراقصة على ضفـة رجولتـه الطاغيـة المختلفة عن شباب المدنية التي تنتمى لها .. ظلت تقطم بأظافرها ثم قالت لتقطع الملل الذي يملأها :
-تعرف إني بحب الحكايات الخيالية أوي خاصة الحكايات اللي بيكون القلب هو الليدر اللي فيها .. أنا لما اشتغلت في الراديو ابتديت ببرنامج صغير كان مدته ربع ساعة ، كنت بحكي فيه عن قصص حُب شبه مستحيلة ، بس القلب انتصر في النهاية .
رمقها بطرف عينيـه مستخفًا بحديثها عن الحُب الذي يشغلها دومًا وتلك المشاعر العبثية التي لا يؤمن بها ؛ فقال وهو يواصل عمله :
-شايف أن فيه مواضع أهم وأفيد من الحُب والحديت الماسخ ديه تتكلمي عنه ، كله حديت فاضي يا ليلي بيشغل الفكر عن حاچات أهم !!
قفزت من مكانها مندهشة من جفاء وقسوة كلماته التي تنكر الاعتراف بالحب ، رغم أنها لن تتذوق حلاوته لتلك اللحظة إلا انها عاشته بين سطور الروايات والأساطير والأفلام القديمة التي تغرم بها ، جميعها مشاعر يحييا بها القلب وهو يتجرد منها بتلك البساطة !! رمت على مسامعه بأحد الجمل الشهيرة لبرنامجها السابق وهي تقترب منه لتعترف :
-" الحُب للقلب بمثابة وريــد جديـد يغذيه بالحيـاة ، فالمرء لا يحيا إلا عندما يُحب "
بقلبٍ جليدي لا تؤثر فيه تلك النيران المنعكسة بعينيه المشتعلة للتدفئة تلقى تلك الجُملة بسخرية و جحـود ، أمسك بالمجرفة الخشبيـة الصغيـرة .. قائلًا باستهزاء :
-و هي دي الحكايات اللي عـ تاكلي عقول الناس بيها في الراديـو بتاعك !! وعايزة تطلعي بيها على التلفزيون.
تحول شغفهـا في حواره لكومة من الرماد ولكنها لم تيأس بعد بل فتح شهيتها أكثر على الحديث :
-ومالهـا الحكايات ؟! أظن أن ده الوقت المناسب عشان تعرف قيمتها .
ثم تجولت بعينيها في عتمـة المكان حولها :
-تايهين في وسط الجبل ، مفيش عربية و مفيش انترنت مفيش أي وسيلة لرفاهيـة العقل غير أنه يفتكر حكايات تبسطـه وتهون عليه الوقت !
ثم ترنحت من مكانها سريعًا لتقف خلف مؤخرة السيارة لتنتقل لمجلس أقرب إليه وأكملت بإصرار يجبره على سماعها :
-يعني لو رجعنـا لزمان .. زمن الملوك والحياة البدائيـة هتعرف أد أيه الحواديت والحكايات مهمة .. عندك مثلًا شهريار ، لأجل حدوتـة انهزمت القواعد والقوانين .. تصور ده مكنش بينام إلا على حواديت شهر زاد !!
ثم شدت العصا التي تشغله عن النظر إليها من يده بحيوية وقالت :
-شفت بقا أنها شيء مسلي ومهم ومش زي ما أنت شايفها حاجة تافهه ، الفرق بس أنها عايزة رجل عنده قلب زي شهريار عشان يحسها !!
رغم عدم النظر إليها إلا أنه كان مستمع جيد لكل حيلها ومبرراتها التي فشلت في إقناع عقله الحجري كالصخرة التي تقع خلفهم .. دار إليهـا ليبقى على موعد مع تلك الأعين التي تنافس جمال نجوم الليل ، وبنبرة مبطنة بالسخرية قال ملاطفًا للأجواء :
-كلنـا كرجالة عارفين أن الحكايات دي كانت مهرب لشهر زاد كل ليلة من شقاوة الملك !
تأرجحت تلك الأعين اللامعة بأعينه الثابتة التي أعلنت الاستهزاء من حديثها وأردفت بكيد أنثوي كي تنتصر للنهايـة في تلك الحرب التي أعلنها وقالت بعفويتها المعهودة التي لا تدرك وقع كلماتها إلا بعد النطق بها :
-وليـه ماتقولش أنها كانت مهرب للملك عشان يداري بيها خيبته لغرض ما كلنـا كستات عارفينـه !!
تصلبت تعابير وجهه وهو يوجه العتب والغزل لعينيها المذعورتين التي أدركت للتو سُم قولها !! فكيف هرب منها اللفظ بدون رقابة حتى تناست نفسها، كيف تجرؤ على قول جملة فاضحـة كهذه ، شهقة مكتومة تابعت تأرجح مُقلتيها التي تغرق بنهر عينيه الثابتة والفاحصة عندما رفع حاجبه الأيسر على ضفة التساؤل غير مصدقًا بما سمعه من تلك الفتاة المرتدية ثوب البراءة وقال بتلك النبرة الخافتـة المبطنة بالاندهاش والتعجب :
-لغرضٍ مـا ؛ اللي هو !!!!!!!
شبكت يديها خلف ظهرها ونظرت له بحماقة كتلميذ بليد يهز رأسه في حصة الحساب وهي تُبلل حلقها الذي جف من لهب عينيه الذي يكسوها لتفر من حصار نظراته المخيفة التي تسدد الاتهامات والتساؤلات لعندها وقالت بتلك النبرة المتقطعة وهي تُشبر بسبابتها :
-أنـ اا .. أنا هستناك في العربية ….
أوقفها ندائه بفضول :
-خدي تعالي !! أنت فاهمة قُولتي أيه !
ردت بثقة :
-طبعًا فاهمة !! هقول كلام مش فاهماه يعني؟! أنتَ شايفني غبية .
-ايه معناته يعني؟!
ردت بتلك النبرة الممتلئة بالثقة كي تطوى دفتر جملتها التي تعني قصدها جيدًا وقالت بمكر طفولي :
-ان الملك هو كمان كان يهرب منها بدل ما يحكي ليها !! أصلو مكنش بيعرف يحكي حواديت زيك كده بالظبط !!
ذاب دهاء المحاميين في صحن حماقتها تلك المرة وقف أمامها ولا يمتلك ردًا كافيًا ليصف ما وصل له بسببها !! اكتفى بهز رأسه غير مقتنعًا مصدرًا صوت إيماءة مهزوزة ليعود لمباشرة عمله من جديد بعد ما صححت له مقصدها بدلًا من نواياه التي تأرجحت على حد الفتنة تمتم لنفسه متأكدًا :
-اه حواديت !! أنا بردو قُلت إكده ..
•••••••
-"النهاردة هكلم أبوكي قالها وروحي راحت ياني "
دخلت " زينة " غرفة نغم التي تربتها فيها بمنزل خالها بعد وفاة أمها وأبيها وقد تكفل كل من صفية والحج صالح بتربيتها وتعليمها حتى وصلت لعمر الزواج .. كانت زينة تتمايل وهي تمسك بحمرتها التي تُلطخ بها فاهها وتتراقص أمام نغم الجالسة والشاردة بعالم آخر ، انفردت بحزنها لوحدها بين الجدران ، الأول أمها التي ماتت وهي تلدها والمرة الثانية عندما فقدت أبيها وهي في المرحلة الابتدائية وحتى نالت تلك الضربة القاضية التي جاءت بعمر تدرك فيـه ما معنى الوجع وكيف يكون ..
ظلت صامته لا تُبادل زينة التي تعمدت كيدها لانها نالت مرادها الذي كانت تحُلم به وتراهن عليه ، جاءت أم زينة فنظرت لنغم التي لم يلحظ أحد حزنها وقالت بعتب:
-يا نغم يا حبيبتي ، لساتك مجهزتيش دول قربوا يوصلوا ..
ثم التفت لحزنها وهي تقترب منها وتربت على ظهرها بحنو :
-مالك يا حبيبتي !! وشك بهتان لي؟
تدخلت زينة لتجيب بدلًا عنها والفرحة تتقاذف من ثغرها كأن التي تجلس أمامها تمتلك قلبك من حجر صخري ولست قلبًا من لحم ودم وقالت باستهزاء :
-أصلو ياما نغم كانت رايدة هارون ؛ ولما عرفت انه رايدني اكيد زعلت .. قوليلها ان ده نصيب يابت عمتي والقلب وما يريد .
صفعتها أمها بتلك النظرة الخارسة وهي تربت على ظهر تلك اليتيمة التي لا حول لها ولا قوة بتلك الحياة الظالمة وقالت مواسية :
-متزعليش يا حبيبتي .. ده ربك عيجوز في السما قبل الأرض وأنتِ نصيبك لساته قاعد محدش هياخدو منك .. قومي استهدي بالله والبسي وانزلي استقبلي الضيوف معانا عشان محدش يحس بغيبتك ..
ركضت زينة نحو الشُرفـة مهلله كفرحة العبيط بملابس العيد :
-جم جم ياما ، الحقيني قلبي هيتخلع من مُطرحـه .. شكلي حيلو !! ناقصني حاچة ؟!!
هرولت الحجة زبيدة لاستقبال ضيوفها بعد ما جبرت بخاطر ابنتها وقبلت رأس نغم تربية يدها التي مهما قالت لا تشعر بذرة من وجع تلك المسكينة ، فهما تربوا على أن الحُب والمشاعر كحمى الجسد التي تأخذ وقتها المؤقت وتذهب كإنها لم تمر من هنا ..
استقبلت زبيدة ضيوفها ، كل من عائلة خليفة العزايزي عدا أولاده بالإضافة إلى نجاة التي اصرت أن تأتي معهم وأول طلب لها كان هو رؤيتها لنغم التي أحست بمصيبتها وأرادت أن تشاركها همها .. صعدت نجاة لمواساة نغم ولتشاطر معها الحـزن الذي يقسم الروح قبل الظهر ..
جاءت زينة حاملة الشربات بشعرها المفرود والذي يغطي ظهرها وحمرتها الزائدة عن الحد ، فتفقد الجالسين متسائلة :
-هو هارون معاه تلفون برة!!
تفوهت هاجر بعفوية وثغر يملأه الضحك :
-لا العريس مچاش من أصلو ولا عارفين له طريق ..
-كيف الحديت ديه يا عمتي !!
لكزتها أمها بقوة ببطنها كي تصمت لتتدخل مبررة غياب أولادها المفاجئ :
-هارون جالو مشوار في سوهاچ ومعرفش يأخره وقالنا نيچوا إحنا بدل ما نأجلوا ، متقلقيش بكرة هيكون داخل طالع على بيتكم بس اللي ما يزهقش ..
تدخلت أحلام لتحسم الأمر :
-الحج خليفة بنفسـه چاي لك !! عاوزة أيه تاني !! ما تتكلم يا حچ !
استند العجوز على عكازه وهو يدور لأبيهـا طالبًا يدها بتأنٍ وهو يمد بالكلمات :
-يا حچ صالح ، أنا متأسف على الظروف اللي حصلت ، وغياب ولادي لظروف قهرية ، لكن اللي قاعد قِدامك ديه خليفة العزايزي اللي محدش يقدر يكسر كلمتـه ..
ثم أشار خليفة لزينة التي تقف غاضبة والغيظ يأكل قلبها وكأن الحياة ردت لها نفس الصفعة التي بادرت بها على قلب تلك المسكينة ؛ فقال:
-أقعدي يا بتي واقفة ليـه !!
ثم عاد لأبيها:
-أحنا كبرنا يا صالح وآن الأوان نلمو شمل الوِلد والبنته ، أنا چاي أطلب يد زينة بتك لهارون ولدي الكبير .. ونغم وأنت في مقام أبوها لهاشم ولدي .. قلت أيه ..
-وهو في قول بعد قولك يا كبيرنا وهو في نسب يشرف أكتر من إكده .. نقروا الفاتحة ..
انفرجت عيني زينة التي لم تتوقع طلب نغم لهاشم والذي أخمد نار الشماتة في قلبها لتتحول لنيران حقد ، نظرا الأختان لبعضهما بذهول وتصلبت ملامح وجههم حتى غمغمت هيام مدافعة عن أخيها :
-هاشم !!
ثم مالت على مسامع أختها وسألتها :
-هاشم عِنديه عِلم !!!
-ماعارفاش يا هيام …
دمدمت هيام بحسرة وعتب:
-هاشم ممكن يطربق الدنيـا فوق راسهم .. أمك عتعمل ايه ؟! هي ماعارفاش هاشم ونشفان راسه !!
أخرجت هاجر هاتفها لتراسل أخيهـا والجميع منشغل بقراءة الفاتحة لتكتب له تحت مظلة المزاح :
-مبروك ياعريس!!
ثم نظرت لأختها :
-تليفونه لسه مقفول …
هنا جاءت رسالة رقية لتستغيث بها :
-الحقيني يا هاچر ، بكر اتهجم على بيتنا ..
تمتمت هاجر بخيبة :
-ماهي كِملت !!
ثم انحنت على مسامع صفية التي تقرا الفاتحة معهم :
-أما ، ما ليكي عليّ حلفان الچوازة دي شؤم …
•••••••
تعلم أنك تخصني ، بشكلٍ من الأشكال أنت كُلك لي .. ضحكتك الجميلة التـي تُزينها بالقُبل المثيرة ، رفـة جفـونك ، عينيك بما تحويه من لهفة .. خطوط يديك التي تنفض غبار الحُزن عني ، حضنك الدافئ ، كلمات الحُب والهمسات السرية بيننا . . كل هذا ملكًا لي ، كلّك مِلكاً لي يا رجل !!
تعلمت على ضفة حُبك كيف تكون الأنانيـة ، نعم أنانيّة بك وبحبك …
�
ختمت كلماتها الساحرة وهي تمرر أناملها على معالم وجهه النائمة الذي يبتدر كالقمر بسماءه فوق ساقيها المثنيين .. انحنت كظمآن يريد أن يرتوي من بُحيرته العذبة ، احتوت وجنتيه بكفوفها الرقيقة ورضت فاهه على القُبل التي تخلصها من لوعة الشوق شيئًا بشيء .. كانت قبلتها ذات أجنحة مُحلقة نحو وجهتها الصائبة ، مسددة الخُطى بأنها تُسكب بالمكان الصحيـح ، ومع الشخص المناسب والمستحق لها ، شخصٌ لا يهون عليه حُزني ولا يتركني يومًا فريسـة لانياب الندم لأنني اخترت ..
�
تلاقت ملامحهم المعكوسه وهي تُتمتم له بتلك النبرة الحنونة:
�
-تعرف ؛ أنا عمري ما كُنت رافضة الجواز .. دي حجة كُنت بقولها قدام الكُل لما يستغربوا إني عديت السبعة وعشرين وأنا لسـه متجوزتش .. أنا بس مكنتش شايفة قدامي حد مناسب ؛ لحد ما لقيتك قلبي اتنطط وقال لي هو ده يا رغد ..
�
ثم ختمت جملتها بقُبلة رقيقة تحت جفونه المنغلقة:
-وفعلًا قلبـي عُمره ما كذب عليـا ، وطلعت أنت الشخص اللي شقلب موازين حياتي ..
�
ثم تحشرجت الخيبة بنبرتها وأكملت :
-الشخص الصح والمناسب لقلبي ياهاشم ؛ بس للأسف كُل حاجة حولينـا هي الـ غلط ..
�
لمست كلماتها وعاء قلبه المتيم بهـا وهو ينهض من نومته وليدور بجسده موليًا نحوها ، احتوى كفه وجنتهـا التي يترقرق فوقها الدمع وقال محافظًا على لهجته المصراوية :
�
-وأنا أوعدك أن كُل حاجة هتتصلح في أسرع وقت .. عارف إني مقصر في حقك وأنتِ متساهليش كُل ده .. بس لازم تعرفي إني مش عاوز حاجة من الدنيـا غير إني أكون معاكِ -ثم أمسك بكفوفها المثلجـة وأكمل-وأفضل ماسك الإيدين الحلوة دي لآخر عمري ..
�
لاحظ برودة أطرفها فانحنى لمستواهم وأخذ ينفث بداخلهم تارة ويقبلهم طورًا كي يدفئا ، كي يخبرهم بأنه هنا بجواره فلا داعي من برودة الغياب .. زين الحب ملامحها ورقص قلب من فرط حنانه ؛ فقالت بهمس :
�
-دي أهم حاجة ، إنك معايا وبس .. وكل حاجة هتتعوض .
�
ثم ختمت جملتها بنطق حروف اسمه بتوتر :
-هـاشم !!
�
قفل كفيه على كفيها المنطبقين كصدفة بحرية تخشى فقد لؤلؤتها ونظر بعيونها إثر نداءها ، فأكملت حديث بعد ما اعتذرت عما ستقول رغم مخالفة أوانه :
-مامي بدأت تضايق من الوضع ده .. وشايفة أن حياتنا دي مش طبيعية وهي قلقانة عليـا .. وكمان لمحت بموضوع الحَمل وأنا مبقتش عارفـة أرد أقولها ايه ..
�
ثم طالت النظر بعيونها كإنها تترجاه ألا يغضب:
-لو فتحت الموضوع معاك متضايقش ممكن !!
�
أومئ متفهمًا ثم قال :
-لو فتحته معاكي تاني قوليلها هاشم نفسه يخلف النهاردة قبل بكرة .. بس الظروف تتعدل ..
�
ثم رفع كفه ليمسح على شعرها ويضم رأسها لصدره وأكمل :
-تقدري تنزلي شُغلك من بكرة لو حبيتي .. أنا مش هكون معاكي أناني أكتر من كده يا رغد ، طالما هتعملي حاجة حابها كده كده مصاريفك كلها مسئوليتي .. بس أنا عايز أشوفك مبسوطة وبس .
�
الفرحة جعلتها تقفز من مكانها كحبة الفشـار غير مصدقة ما قاله :
-هاشم أنتَ بتتكلم بجد !! أنا سمعت صح .. أنت وافقت انزل شغلي يعني خلاص..
�
لا يمكنها إنكار دوره المهم بحياتها ، منذ أن اخبرته بأن دروب قلبها مُظلمة وهو لا يتوقف عن دور الشمس في إنارتها ، عندما روت له أن شبح الوحدة يرعبها ومن حينها اعتاد أن يؤنس قلبها الخائف بألحان الحُب القادرة أن تحوله من بقعة سوداء لبقعة تحاصرها الفراشات لكثرة زهورها .. ارتمت بحضنه وهي تشكره بحب :
�
-أنت أجمد حظابط أنا شوفته ، بحبك ..
�
لم تمهله الفرصة كي يملأ رئته من رائحتها فركضت لتفتح الخزانة وتخرج منها شيء لم يراه من قبل وتقول بفرحة :
-انت ما شوفتش ده ، هلبسه وأجيلك حالًا ..
�
ركضت للحمام وهي تتراقص على مسرح السعادة استغل وقت غيابها عنه في تناول المقرمشات الموجودة على الطاولة حتى التفت إثر صوت فتح الباب وعيناه تفحصها تلك المُهرة المزينة بثوب مسروقًا من جلد النمـر ، ترك الطبق الذي بيده واقترب منها بأنظاره المشدوهة وهو يديرها تحت يده كالفراشة :
�
-ده تبع الأوردر !! ده أهم من الأودر كله ..
�
-أيه رأيك في ذوقي !! عجبك ؟!
�
ترنحت عيناه المدججة بالحب وقال :
-فاجـر ..
�
ثم ضاقت عينيه مُتسائلًا بخبث :
-ده بكام كدا !!
�
أخذت فترة على الرد للتذكر سعره وهي تعانقه بغنج :
-بـ١٤٠٠ ج بس ..
�
رفع حاجبـه مشدوهًا :
-بس !! لا جيتي على نفسك ..!! طيب وده أيه مميزاته بقا ؟!
�
ثم امتدت كفوفه المتخابثة لاسفل ظهرها الذي يكشفه الفستان وهو يلهيها بالحديث المعسول وفجأه وهو يشده بكل قوته لينشق لنصفين :
-يعني لو عملت له كله مش هيتقطع !!
�
شهقت معاتبة إثر تمزقه للفستان الذي ترتديه وتحرر ظهرها من آسره بأقل مجهود :
-هاشم أنتَ بتعمل ايه !!الفستان!!
بنفس نبرته الهائمة همس لها :
-سبيني أشوف شُغلي يا هانم …
•••••••
~عودة لـ ضيوف الجـبل والقمر .
انعقدت سحابـة الملل فوق رأس تلك العصفورة التي تختبئ بالسيارة بعد جريمتها الفادحة التي اقترفتها قبل دقائق .. عبثت في هاتفها الذي لا يلتقط أي شبكـة فلجأت لقائمة أغانيها المُفضلة المحفوظة على جهازها ، ربطت هاتفها بسيارته وأخذت تتفقد القائمة بحيرة حتى حسم مصيرها هارون عندما ظهر أمام السيارة ويعقد بمقدمتها حبلًا كي يحاول أن يجرها ، ظهر من خلف الزجاج بملابسه القطنية الداخلية ، سترة بيضاء بحملات عريضة تبرز روعـة تقاسيم ذراعيه المتضخمة بالعضلات المكدسة وبنطال بنفس اللون فضفاضًا وقطرات العرق تتصبب منه كما تتصبب منها النظرات عليه .. عادت لوعيهـا مدركة جريمتها الفادحـة لتنشغل عنه بشاشة هاتفها بدلًا من سماته الرجوليـة ذات الطباع القوية الصعيدية التي تُغري قلب أي إمراة .. حانت منها نظرة مسروقـة تبعها سهمـًا صائبًا من المشاعر ضرب جزءًا بقلبها لم تدركـه ولا تعي معناه ، الجميع فلاسفة في التحدث عن وصف الحب وعندما يلدغ قلبًا يحوله لطائر الحباري الذي يُضرب به المثل في الحماقة والغباء ..
بدون رغبة منها وقع الاختيار على اغنية " كامل الأوصاف" عبد الحليم حافظ وكأن وسامته والجبل والغناء تآمر على قلبها تلك الليلة ، صدحت كلمات الأغنية التي أدخلت الحماس على قلبها لتفتح معه أحاديث جديدة ؛ صدح صوت حليم الذي لفت انتباهه ولكن سرعان ما تجاهله وباشر عمله ، فاقتربت منها عارضة عليه المساعدة وهي تعقد ذراعيها أمام صدرها :
-تحب أساعدك في حاجة .. ؟!
رد بفتور وتعب يكسـو صوته :
-تُشكري يا ليـلى ..
حكت جدار عنقها بيأس فأحمر مكانه :
-بردو ليلى !!
ثم أكمل دون الالتفات لها بإعجاب يُخفيه عنها :
-چدعة أنتِ يا ليلي ، عچبتني چدعنتك ووقفتك معاي في القسـم ..
-طبعا مش ذوق اسيبك وأخلع وانت طول الليل سهران بتذاكر وبتساعدني ، كده هبقي مش كويسة ، وأنا مش كده !! بابي علمني احفظ الجميل واللي يقدم لي خدمة اقدمله عشرة ..
رد واعظًا ومعارضًا على منطقها :
-مش صُح !! أوعاكي تعملي إكده ، الزمن ديه كله محسوب ، متديش حد أزيد من حقه ، الخدمة تترد بخدمة !! خلي في عقل عندِك متديش بعبط .. لانه محدش يستاهل يأخد أكتر من حقه..
أصابها الحماس في مقتل وهي تتلهف للتتعلم منه المزيد من النصائح التي تحتاجها كي تواصل حياتها وسط الذئاب البشرية ثم دنت منه وسألته بفضولها الذي لم يتوقف عنده أبدًا حتى ولو ستهد الدنيا إثر كلماتها لست مهم ؛ المهم إنها تكسر زجاجة الصمت بينهم بأعين مستمدة لمعتها من ضوء القمر فوقها :
-لمـا كنت جاية مع هيثم من الأوتيل ، اتكلمنا عنك كتير .. بين الكلام قال لي ، هارون ده حكايته حكاية ، ومن وقتها عندي فضول رهيـب أعرف أيه هي حكايتك ..
ايه هي حكاية عُمدة في السن ده ؟!
ثم وضعت مؤشر الحيرة المختصر في سبابتها فوق فمها وقالت :
-يعني كُل اللي اعرفه عنك إنك حضرة العُمدة وهتخطب زينـة اللي مش بتحبها عشان تخلف ولاد وبس ، بس حاسة أن حياتك فيها سر كبير لا أسرار .. ممكن تحكي لي على فكرة وأوعدك محدش هيعرف خالص ويبقى سر ، أحنا مش خلاص بقينا صُحاب !!
لقد سكبت ماء كاوية على جرحه ، فكيف يمكن أن يحكي لها بأنه بقايا حلم لم يتبقى منه أي شيء ألا الجسـد والنظرات التي تراه يحلق بالسماء دائمًا ولن تمسكه يداه ، توقف على شفا اهتمامها لمعرفته واهتمامها بحكايته التي لا يُشاركها إلا مع أحلام ولست كلها ، خزانة الحزن مكدسة بالأسرار ، تحمحـم وهو يسير نحو موقد السيارة ليبحث عن شيء ما فلحقت به الخطى متبعة فضولها .. استندت على البـاب المفتوح منتظرة جوابه :
-أنا مستنياك ، جاوب يلا .. ولا أنتَ مش واثق فيا !!
تناول ما يبحث عنه من صندوق السيارة والذي أخذ معه سلاحه الذي رماه على مقعد القيادة بعبث ثم التفت لسؤالها كي يودعه بنظرة من مُقلتيه هاربًا من آسره وهو يخرج من السيارة ليقف أمامها :
-ما تسيبك مني وتقوليلي أيه قصة شريف أبو العلا وأيه وقعك الوقعة المنيلة دي!!
على سيرة شـريف امتد بصرها بعيدًا لتلاحظ شبح ما يركض نحوهم على ضوء القمر ، قبل أن تنطق ببنت شفة صرخت مُشيرة نحو الشيء المُقبـل عليهما في الظلام وهي تتحامي بحضنه وسور ذراعه المتين يلتف حولها عندما أدرك من تلك الاعين الهاجمة عليهم بأنه ذئبًا ، بمهارة قتالية خطف سلاحه وصوب بعض الرصاصات بالهواء حتى أصاب هدفه ووقع فريسة لباقي الحيوانات والطيور ، ثم تدلى نظره لتلـك المرتميـة بحضـنه وبجانبه الأيسر وتحت جناحه وكأنها جزء متكامل من صدره خُلق منه أو جاء مُفصلًا على مقاسـه ، تأمل شعرها الذي يغطي وجهها وصدره يعلو ويهبض بأنفاس مسموعة كأنه يُرحب بصاحبة المكان قائلًا :
-خلاص مات .. متخافيش ..
افترقت عن حضنه ببطء ولا تُصدق ما حـدث لم تلتفت لخوفها ونوبة الذعر التي انعدمت كإنها لم تكن يبدو أن قلبها تصالح مع تلك الخضات التي تأتي به لعنده -لعند قلبه شريك رحلته بالحياة- ، تنظر لكفها الممسك بذراعه العاري وبأنظاره التي تُظلل عليها كالنجـوم وصوت ضربات قلبـه الذي اخترق مسامعها ، لأول مرة تحضن رجل غير أبيها ويُسرب لقلبها الخائف أمان بحجم الرعب الذي يحاصرهم في موقفهم كهذا .. فارقت حضنه معتذرة عما صدر منها والخجل يكسو ملامحها فكرر جُملتـه المؤنسة لقلبها :
-متخافيش ..
تطالعت له ولا تعلم لِمَ تتعمد إطا النظر بملامحه وقالت بتوجس :
-مش خايفة ..
صدقًا كيف تخاف وهي في صُحبة رجل مثله .. رد عليها ليُلاطف ملامح وجهها الخائفة كي تهدأ:
-هو ده الكلام ،ده أنتِ معاكِ هارون العزايزي ..
أطلقت ضحكة خفيفة وقالت بصوت خافت:
-مغرور أوي ..
-لازم .. مش اسمي مسمع بحري وقِبلي !!
رفع حاجبـه وقال جملته وهو يسحبها من كفـها ليدور للجهة الأخرى من السيـارة ويركبها بنفسـه ويقفل الباب خلفها ليطمئن عليها .. ثم انتقل للحبل المربوط بالسيارة وشدها بكُل قوته حتى تحركت من مكانها وتفارق مكان الورطة .. فك الحبل وأطفأ النار المشتعلة ولملم أشيـاءه بهمة ثم عاد ليجلس بجوارها وعاد تشغيل سيارته تحت أنظارها المعجبة بسماته الجديدة عليها اول مرة تتيح لها الفرصة ان تكون مع رجل غير أبيها وشريف الذي يتخذها إطارًا تجميليًا لحياته ،ولانه نجح في إخراج العجلات إلى الطريق الأساسي هتفت لتشجعـه :
-لا براڤو عليك .. عرفت تحلها .
رفع حاجبه متفاخرًا ليُجيبهـا :
-حقي اتغر ولا لا ؟!
أجابته برقة وهي تملأ أعينها من النظر إليه :
-حقك طبعًا .. -ثم جاءت مقترحة كي يخفي جسده المحدث بقلبها فتنة -ممكن تلبس هدومك كده هتاخد برد ..
صف سيارته على جانب الطريـق وهو يقول :
-ياستي متعودين .
ثم مد يده ليتناول جلبابـه من الخلف وهو يقول :
-حلو عبدالحليم !!
عبرت عن مدى إعجابها بهارون في ثوب ذكرى عبدالحليم وهي تُعلي الصوت :
-هو يستاهل يتحب الصراحة ..
أشاحت منه نظرة استكشافية لتلك النظرات التي آثارت فضول رأسه وقال :
-طريقنا طويل لسه .. قوليلي أيه حكاية اللي ما يسمى شريف ..
قفلت نافذتها إثر خوفها الغامض عليه أن تطوله براثن الهواء البارد وقالت مشتهية الحديث معه :
-ايـه رأيك احكي لك عني الأول .!
رفع ذراعه المُحمل بالعضلات وتأهب لقيادة السيارة على لحن حليم ولحن شكواها ، عقدت ذراعيها أمام صدرها واتكأت لتستريح على المقعد وهي تتذكر شريط حياتها المُؤلمـة :
-مامي كانت دكتورة في بداية مسيرتها المهنية ومحتاجـة تثبت نفسها أكتر ، سفر ومؤتمرات ومذاكرة .. وبابي كان ظابط في المُخابرات .. بحكم طبيعة شغله هو على طول مش معانا .. كُنت مع الدادة طول الوقت هي اللي بتراعيني ، وجدو بياخد باله مني وبيخرجني .. كل حاجة كُنا نعملها سوا .
ثم نظرت له بتلك الأعين الدامعة والتي تحمل فيض من الحزن :
-جدو اتوفى وأنا عندي ١٢ سنـة ، كُنت راجعة من المدرسة وجايبه له الشوكليت الـ بيحبهـا لقيت كُل الناس لابسه أسود ، دورت على جدو زي المجنونة ، بس مش موجود في البيت كله ، وقتها الدادة أخدتني لأوضتها ونيمتني عشان متخضش ..
كفكفت تلك العِبرات المتساقطـة من مُقلتيها ؛ وزفر أوجاعها وعلى ثغرها طيف ابتسامة حزينة :
-كُنت بحبه أوي ، الوحيـد اللي كان يناديني غُفران ، لحد دلوقتِ مش عندي تفسيـر اشمعنا الاسم ده !!
نظرت له لانها أحست بأنه سيمل من أسلوبها المحزن ، ولكنه باغتها بسؤاله الفضولي وهو يطالع الطريق أمامه
-كملي !! أنا سامعك .
ارتعشت شفاهها بابتسامة مُخزية :
-أول مرة حد يسمعني بعد بابي وجدو ...!
كفكفت عبراتها وأكملت متجاهلة صدى وقع الكلمة عليه :
-خناقات كتير وصوت عالي بين بابي ومامي ، لسه فاكراها لحد النهاردة ، كانت المشاكل كُلها بسببي ، محدش فيهم عايز يضحي .. معرفش أيه حصل ؛ فجاة لقيت نفسي في مدرسة " داخلي " .. مفيش صُحابي ، مفيش بابي ولا مامي ولا دادة!! طيب بيتنا !! جدو !! الأيام كانت مرعبة ، كُنت لوحدي مش بكلم حد وكل اللي يقرب مني أعيط لحد ما بقيت البنت الوحشة ...
صمت لبرهة تحاول إدراك كيف مرت عليها ستة سنوات بهذه المدرسة رغم ثراءها وأنها تحظى فئة مرموقة من العائلات إلا أنها كانت أشبه بقبرٍ دفن بداخلها كل شيء منها إلا جسدها ، أخذت نفسًا بهدوء وأكلمت :
-قعدت فيها لحد ما خلصت ثانوي ، مكنش عندي صُحاب ، كنت دايما ساكتة ، مش بتعامل مع بشـر لحد ما بدأت الحياة الجامعية بابي استقال من الشُغل وقرر أنه لازم يعوضني عن كُل اللي فات .. يصلح أكبر غلطة ارتكبها في حقي هو ومامي !! حاول كتير بس كان فات الآوان .. ومحدش بيدفع التمن غيري !!
ثم أخفضت صوت حليم الذي يقول " آه يا ليل وآه عين " ، وهنـا جاء صوت القدر الذي يزف حزنها الذي اجتمعا عليه ،ليل يشكو وعين تمطر .. شعور أشبه برغيف من الحزن تقاسم بين قلبين كل منهما حاملًا نصف بقلبه وقافل عليه بألف مفتاح وعندما تلاقت الأنصاف فُتحت الأقفال من فرط انتظارها .. ختمت حديثها وهي تقول :
-زعلانـة لأن مش دي حياتي اللي كنت اتمنى أعيشها ..
رد ليشاطرها الحزن الذي يدفنه بقلبه ؛ قائلًا :
-محدش فينـا عاش حياته اللي اتمناها يا ليـلىٰ .
••••••
~بمنزل أبو الفضل ..
لقد أبلغت هاجر أخيرًا هيثم أخيها الذي كان يرافق هلال جبرًا كي يحضر معه الدرس الديني اليوم بعد ما فاض به الأمر حول التساؤل عن تفاصيل " الأخت رُقية " و بما حدث لها وعن بدء معرفتـه بها .. وما وصل الخـبر لهما جن جنون هلال فجعله يُعجل في ختم الدرس الديني ويعود لمنزلها بصحبة أخيه …
يجلس الجميع بحديقـة البيت الصغيرة حيث هتف هيثم غاضبًا :
-وولد المركوب ده اتهوس چاي برجله لإهنه !! ورب الكعبة ما هحله المرة دي يا هلال .. ده ماعاملش حساب لحد واصل ؟
تدخل هلال الذي يتحكم بغضبه على قدر المستطاع :
-اهدأ ونحل الأمر .. كله سيُحل بأذن الله .
ثم نظر هيثم لرقيـة :
-رقيـة أنتِ كيف سبتيـه يمشي إكده ، يعني جيه اتخانق ومشي طوالي عشان أنا هكلم هارون قبل ما يعرف من المچلس .
شرعت رقية الجالسة بروي القصة على مسامعهم :
-انا فتحت الباب لقيتهم في وشي كيف القضا المستعجـل ..اترجفت ومعرفتش أعمل أيـه ؟
ثم نظرت لهلال الذي يتحاشي النظر إليها ولكنه يستمع لها بكل آذانه الصاغيـة فأكملت بنبرة متأدبة :
-وعشان قولتلهم معندناش بنات للجواز هاتك يا صياح ونواح كيف الحريم ..وامه هتبلغ عني مجلس القبيلة .
قرأ هيثم معالم وجهها التي ترتدي ثوب البراءة المزيفة والتي لا تليق بها وقال بخبث :
-رقيـة يعني أنتِ معملتيش حاچة واصل ؟!وايه خلاه يصيح وهاتك يا نواح زي الحريم!! اعترفي يا رقية..
-واصل يا هيثم وأنا في يدي أيه أعمله !! دانا غلبانة ..
تراقص شيء متحرك بقلب هلال يميل نحوها دومًا ترجمها عقلها شفقة على تلك المسكينة ولكن كانت عزيمته أقوى من أن تتبع هواه ويناظرها ، ارتسمت الضحكة على ثغر هيثم لانه قرأ انتقامها من المدعي بكر على وجهها واقترب وهو يناظر السيدة صفاء المغلوبة على أمرها وأكمل حواره مع رقية وهو يرفع قدمه فوق المقعد القصير مستندًا عليها بمرفقه :
-رقية معملتيش حاجة واصل واصل !!
رمقت هلال الذي يقبض على جمر غضبه وقالت بتهذب كأنها لم تقترف شيء :
-دشدشت القُلة فوق نفوخه وراسه اتفتحت .
هتف هيثم شافيًا غليله :
-ينصر دينك ما تبردي قلبي من الصبح ، ده يستاهل زير مش قُلة .
هلال بفخر خارجًا عن صمته وكأنها أراحت قلبه المشتعل بغضب الانتقام وزاحت غُمته :
-الله يحسن ما بين يديكِ يا أخت رقية ..
ردت عليه فارحة بتشجيعه بعفوية :
-وأيديك يا شيخ هلال ..
ثم وجه هلال حديثه للسيدة صفاء متقبلًا جملة رقية ببسمة واسعة وأردف :
-يا أم رُقية سأحل أي شكوى قدمها أمام المجلس ..
فهتف هيثم منفعلًا :
-وانا هستناه يطلع عليه نهار عشان يروح يشتكي !! دانا هجيب خبره الليلة… ده صغرنا يا هلال قدام الكُل !!
••••••••••
وصلت عجلات سيارة هارون لقُرب النجع وما كان أن يأخذ يساره فقطعت سيارة ما الطريق عليـه وعاقت سيره .. صرخت ليلة محذرة :
-خلي بالك !!
فرمل السيارة فجأة وهو ينتظر هويـة من قطع عليه الطريق بضيق ، لحظات وتدلى شريف من سيارته وهو يقترب من سيارة هارون ويفتح باب السيارة جهة "ليلة" قائلًا بهدوء خلفه شيء كارثي مُدبر :
-لي لي ، انزلي عايزك ..
وعلى الجهـة الأخرى يدق الفرح بمنزل صالح العزايزي وتُرقع اصوات الرقص والغناء و الزغاريد من أفواه النساء .. تقف نغم بمنتصف السُلم ممسكة بيد نجاة وهي في حالتها الهستيرية تترجاها :
-ألحقيني يا نچاة ، أعملي حاچة .. أنا مستحيـل اتچوز هاشم !! اتچوزو كيف وأنا عاشقة هارون أخوه …
عندما ألتقي بشخص قال لي يومًا كلامًا جارحًا، أحس أن هذا الكلام يقف بيني وبينه، وأني فعلاً لا أراه، ولا أسمعه…
الكلمات الجارحة تتحول إلى جدران عازلة، وليس بإمكان أي شيء أن يحطم هذه الجدران، أو يهدمها، لا اعتذار، ولا ابتسامات، ولا كلام طيب..
كذب من قال بأن الأيام ستُنسيك ؛ كلا الزمان خير شاهد على كُل ما مررنا بهِ .. الزمان يأتي ليؤكد أن كُل القرارات القاسية التي اتخذتها بالماضي فهي صائبة لدرجة كبيرة ..
"الزمان لا ينسيك حبيبًا ولا عدوًا "
•••••••••••
قيــل :
أن الحياة ستحطِّمك عدة مرات وقد لا تُنصفك أبدًا .. سترى أمورًا لا تريد رؤيتها، وقد تحزن وتفشل وتُخذل من أقرب الناس لك، ولكن انهض ولا تفقد الأمل أبدًا فيجب أن تتجاوز خوفك، وندمك، وهزيمتك، فإنَّ الحياة لن تقف لتُراعي حزنك، إمَّا أن تقف أنت وتكملها رغم انكسارك أو أنَّك ستبقى طريحًا للأبد.
لبت "ليـلة" طلب شريف الذي جاء عكس طبيعته القاسية معها بعد ما أخذت الأذن من هارون بالنظرات المتبادلة وكأنه اصبح وليـًا لأمرها .. قفلت باب السيارة خلفها وفي نفس اللحظة هبط هارون من سيارته وهو يشعل سيجارة ويسدد تلك النظرات الحارة لشريف الذي يتهامس مع تلك الفتاة وربما يحاول أن يقوم بعمل غسيـل مخ لها .. تفوهت ليلة بنفاذ صبر:
-أفندم !! عايز مني أيـه ياشريف ..
شرع في تنفيذ الخطة التي رسمها مع أمها وهو يحاورها بكلماته الجميلة التي تدس السُم بالعسل :
-وحشتيني !!
-لا والله !! شريف أنتَ بتضحك على نفسـك ولا عليـا !!
اتكئ هارون على مقدمة سيارته وآذنيـه الحارس لها من مكر شريف تتبعهم ، حاول شريف الإمساك بذراعيها اللاتي عارضن ذلك حيث قال متفهمًا :
-ماشي يا ستي أنا غلطان .. وجاي أصلح غلطي أهو ، أحنا كل مرة بنتخانق ونرجع ، أيه حصل المرة دي !!
كانت جملته الأخيرة بمثابة عود من الكبريت ألقاه في حقـل غضبها منه ، خرجت عن هدوءها معاتبة :
-وكمان مش عارف أيه اللي حصل !! أنا هقول لك اللي حصل يا حضرة الظابط، أنت شكيت فيا ، وصدقت الكلام اللي اتقال عليا من واحد أنت متعرفهوش ، وكمان قعلت دبلتي وأنا في بلد غريبة معرفش فيها حد ، وآخر تقليلك مني وأنك دايمًا شايفني فاشلة .. ده الغير المعاملة اللي زي الزفت وأنا بقول يابنت عدي لكن أنتَ عمرك ما عديت حاجة .. وكل الفترة اللي كنا فيها مع بعض أنت فشلت تخليني مطمنة ..
ثم رفعت رأسها بتحـدٍ :
-شريف أفهم بقا ؛ أحنا مش هينفع نكون مع بعض لأن ببساطة أنا مابقتش عايزة خلاص حتى ولو أنت عايزنا نكمل ..
أحس شريف بتذبذب رجولتـه وتجرعه لمذاق الرفض أمام المدعي بهارون ، كاد أن يضرب كلامها في عرض الحيط ويتركها ويغادر ولكنه تذكر المخطط الذي رسمته نادية ، تذكر أن المتبقي فقط ستة أشهر ليعيش في نعيم أملاكها.. انخفضت نبرة صوته التي كانت تحمل سُم نواياه وقال :
-ليـلة .. أنا مش هعرف أحب واحدة زي ما حبيتك ، أنتِ صح وكل كلامك صح وأنا بسبب ضغط شغلي بتصرف تصرفات غريبة، بس ده مش مبرر نسيب بعض بعد ده كله ..
ثم تطاولت يـداه لأول مرة لتُلامس خصلة من شعرها مواصلًا حياكة مكره :
-فرصة تانية وأنا أوعدك هتغيـر هتشوفي شريف واحد تاني .. حبيبتي أنا بعتذر لك ووعد مني مش هيتكرر .. ممكن تقلبي اعتذاري.. لي لي أنا بحبك .
ثم أخرج خاتم خطبة من جديد وقدمه لهـا وقال متأملًا وهو يواصل سحره بالأعين المخادعة :
-وده بدل اللي ضاع منك .. ها قـولتِ أيه ؟! موافقة ؟!
تسرب لهارون شعورًا بالسخط إثر عبثه بعقل تلك المسكينة ولكن ما باليد حيلة ، فهو لا يصح له أن يتدخل بأمر لم تقصده فيـه .. لم تنكـر "ليلة" أن طريقته الحنونة بالحديث أصابت مدخل الرِق بقلبها ، تخدر الغضب منه للحظة ، ابتلعت جمر كلماتها المعارضة ولكن قلبها ما زال عاصيًا على الترويض ، لم يقتنع بتلك السخافـة رغم ميول عقلها ورضوخه ولكن للقلب أحكامه الخاصة ، ارتعشت شفتيها لا تعلم كيف ستتصرف وفي هذه الورطة استنجدت بذلك المجهول الذي ينقذها دومًا كمان انقذها من ظُلمة الطريق من قبل .. عجزت عن أخذ القرار المناسب فتمتمت بتحيـر :
-أنا هاخد الأول رأي حضرة العُمدة !!
تورد الغضب بملامح وجهه مندهشًا غير مصدقًا ما سمعـه :
-و ده أيـه علاقتـه بينا من أصلو !!
هربت من حصار عينيه التي تُمطـر شواظٍ من نار ووقفت أمام هارون وهي تسأله مستنبعة قلب الطفلة التي تملأها برفقته :
-بما أنكم رجالة زي بعض وآكيد فاهمين بعض .. سؤالي هنا ؛ هل في راجل بيتغير يا هارون بيه ، يعني ينفع شخص كان شرير يبقى طيب !!
وقف شريف خلفها وبقيت هي تلك اللقمة الواقفة بين فكي الأسـد ، كل منهمـا يناظر الأخر بنظرات حادة تحمل لهب من الانتقام والتوعد ، عارض شريف ذلك العبث قائلًا :
-ليلة بطلي جنان مين دا عشان يحكم عليـا !!
تجاهلت ثرثرة شريف وسددت النظر لهارون الواقف كالجبل الذي لا يحركه ريح وقالت مترجية :
-ممكن تجاوب .. !! الراجل فعلًا بيتغيـر ؟!
رمق شريف بأسهم الخسـة وعلى ضفة دهاءه ابتسامة طفيفة مستمتعًا بالحرب الدائرة بينهما :
-والله اللي أعرفه أن ديـل الكلب عمره ما هيتعدل ؛ والكلب ده لامؤاخذة دكر يعني راجل .. يعني الاتنين مفيش منهم رجا أنهم يتعدلوا ..
كتمت ضحكتها إثر تلك الطريقة التي يتحدث بها وثقتها القوية بنفسه وقالت بتوجس :
-يعني أنا صح !! مرجعش لانه عمره ما هيتغير ..
قبض شريف على رسغها بعد ما فاض غضبه ليديرها عنوة :
-أنتِ اتجننتي !! أيه الهبل ده .. دا أنتِ شكل الأدوية اللي بتاخديها طيرت آخر ذرة عقل في دماغك .. أنتِ نسيتي نفسك !!
لم تكد تتأوه من قبضته وصوته العالي الذي استرده مع أول تصرف منها من تصرفاتها التي يبغضهـا ؛ سحبها هارون بلطف من يده ليكون هو السد المنيع لها من أي عواصف وقال مهددًا :
-أنا من ساعة ما شوفتك وأنا حايش نفسي عنك علشان ماليش حق ادخل ، لكن دلوق أظن حقي ..شكل قعدتك معانا معلمتكش حاچة ، بس عندينا اللي يده تتمد على حرمة يبقى راچل لامؤاخذه ..
هنا ظهرت رأسها من وراء هارون والتي تتحامى في ظل جسده وأكملت منتصرة :
-على فكرة اللي حصل ده كان اختبار ليك يا شريف بيه ، وأهو اللي خايفة منه حصل ، مع أول موقف مديت اديك وعايرتني بمرض مليش ذنب فيـه ، شوفت بقا أنك عمرك ما هتتغير .. امشي يا شريف وانساني ..
تراجع شريف خطوة للخلف وهو يشير بسبابته بعدما سقط في بئر خدعتها الذي يليق بجُب نواياه وقالت بحنق :
-أنتِ فاكرة هينفعك !! عموما يا ليلة لينا بيت وأهل كلامهم يمشي علينا .. مش واحد زي ده !! خليكي فاكرة إني جيت لك وأنت اللي بعتي واشتريتي واحد منعرفش أصله من فصله ..
يبدو أن قلة الثقة تتناسب طرديًا مع صفة التقليل من الغير .. فـ الشخص المهزوز داخليًا يـود أن يكون الجميع بنفس مكانته ، ثار هارون بوجهه :
-اللي قُدامك ديه لو مشتراش أصله وفصـله اللي يشرف أي حد عن رُتبـة وكام دبورة بيدوها للي زيك عشان يبلطجوا على الناس كان زمانك واقف قصادي تترعش .. اللي قدامك لولا انه بيفهم في الأوصول كان دفنك مطرحك ..
ثم قطع خطوة لعنده وأكمل بنفس النبرة الثابتة القوية التي يرتد صداها بخلاء الجبل حولهم :
-الأصل والفصل بتاعي واللي أنتَ متعرفهوش بيجبرني ما امدش يدي على واحدة ست ولا أقلل منها .. لكن الخسيس اللي زيك أبو أصل ، وفصل متعلمش فيه غير الجعجعة ومد اليد مايشرفناش انه يتحسب راچل علينـا ….
وقف شريف عاجزًا أمامه لا يستطيع النطق ببنت شفة خاصه أنه غريبًا بمكان ومسقط رأس العزايزة .. ربط العجز لسانه وهو يتحاشى النظر لليلة ويقول لاهثًا قبل أن ينصرف من أمامهما
-خليه ينفعك ياليـلة ..
ولى شريف ظهره وقفز بداخل سيارته الشُرطيـة ، فهتف هارون بسخط :
-عيل رِذل !!
يتجلى الأمان فـ أدق أوصافـه عندما يحتمي قلب الأثنى خلف كتف رجـل لا يميـل حتى ولو انهار الجبل فوق رأسه فلا يُصيبك حتى غبار هدمه لحرصه الشديد كي تؤذي بمجرد النفس الذي يتغلل لرئتك يحرص على نقاءه…
"أن سُنة الحياة أن يهرم فيها كلُّ شيءٍ إلَّا النَّوايا الطيِّبة وقوة الرجال ، تَظلُّ غَضَّة .. بديعة .. زاهية .. ويبقى لصاحبها وسامة الأثر وكل الحُب له لوحده .. "
••••••••••••••
~مرسى علم ..
مع فجـر صبـاح اليـوم التالي ..
يقف كُل من رغد وهاشم بالمطبـخ يجهزان وجبة الفطور سويًا بعد مرور ساعات الليل عليهما لم يزر النوم جفونهما إلا قليـلًا .. فرغت من صنع البيض المقلي كما عودهـا أن تفعـله مثل طريقة أمه .. كان يقطع حلقات من الخيار والجزر ثم جاءت لعنـده وطوقت ذراعـه بعد ما طبعت فوقـه قُبلة رقيـقة :
-لازم تمشي النهاردة !! خليك معايـا وارجع بكرة مش هيجرى حاجة يا هاشم .
-حِنة هيام بكرة وأنا لازم أكون موجود ..
فهبت مقترحة :
-طيب أجي معاك وقولهم زميلتك في الشغل وعزمتها على الفرح لو مش حابب تعرفهم عليا دلوقتِ ..
غمز بطرف عينيـه بدهاء ثم قطف من فوق زهرة وجنتهـا قُبلة وقال :
-طب أنا راضي ذمتـك شغلي هيكون فيه القمر ده كُله منين !! دا أحنا الحتة الطرية الوحيدة اللي بنشوفها في شغلنا بتكون أفعى ..
ضربته برفق وهي تُعاتبـه بخوف :
-بعد الشـر عليـك ..
ترك السكينة من يده ودار لعندها ثم أمسك بكفهـا وقبل أطرافه وأكمل ممازحًا :
-وبعدين لما أقولهم إنك زميلتي في الشغل .. مش هقدر أشوفك قُدامي كُل شويـة من غير ما أخدك فـ حضني .. يبقى أنا جبت التعب لنفسي ..
طوق خصرها بذراعه ليقربها منه أكثـر وأكمل :
-مسألة وقت وكله هيبقى زي ما أحنا عايزين ..
هزت رأسها بقلة حيلة متقبـلة أمرها ومُرها معه وقالت :
-يلا عشان تفطر الأكل هيبـرد ..
شرع الثنـائي في رص الأطباق على السفـرة وبدأت رغد في سكب كاسات العصير وفي تلك اللحظـة ساد الظلام بالمكان وانطفأت الكهرباء.. لم يكد يجلس فوق مقعده فأردف ساخـرًا :
-هي ساميـة نسيت تشحن الكارت ولا أيه !!
ظلام مُعتـم خيم على المكان حتى الستائر الكثيفـة كانت تحجب أي شعـاع من النور يدلهم ، اغتنم هاشم الفرصـة مستخدمًا بوصلة قلبـه للعثـور عليها وهي لا تعرف كيف تتحرك ما لبث أن تدور فوجدت نفسها بين يديه .. تملصت من قبضته بعتب :
-هاشم !! متهزرش أحنا مش في بيتنا !!
-وهي فين المشكلة ؟!
-مامي ممكن تنزل وتشوفنـا ..
-وهو في حد شايف حاجة فـ الكُحل ده !!
رغم ليلتهم المليئة بالحب و برغم إنه قضى تلك الليلة بين ألفِ قُبلة وحضن إلا أنه لم يكفيه ذلك باغتنام تلك الفرصة التي يشعر فيها بوجود الحب ولست رؤيته ، فهو رجُل لا يفرط بفرصـة تجمعه بمن يُحب .. همس لها بصوت لا يسمعه سواهم وهو يبدأ معها جولة من الحُب الثائر بينهم :
-تعرفي إنك أغلى حاجة في حياتي !! ولو خيروني بين الدنيا كُلها وبين حضنك .. عارفة هختار ايه !!
استسلمت لسحر لمساته ودفء أنفاسها التي تُمطر كالفحم على قلبها فتدفئه وهي تُعانقه أردفت :
-ايه !!
دفن بؤره بركانـه المتقد بأبخرة الحب في جدار رقبتها وهمهمت ريح الحب من صدره قائلًا :
-هختار الدنيا كلها في حضنك ..
ضمته كأنها تلتقي به بعد عام من الغربة ، يبدو أنّها لن تتجاوز في حبـه لهفة البدايات أبدًا .. يبدو أن حُبها سيظل في مهده حتى بعد عشرات الأعوام .. يبدو أن قلبها سيحبه بهذا الاندفاع والحماس إلى الأبد ، أصدرت أنين حبه بصدره وهي تقول بهمس :
-يعني هتختار كُل حاجـة !
ثارت جيوش عشقه وهو يقول لها :
-عشان مش هاشم العزايزي متعودش يخسـر أبدًا .
-وأنا وقلبي عاشقين هاشم بيـه العزايزي ..
موجة عاتيـة من العشق ضربت كيان الاثنين ، روحان في جسد واحد بنفس الخُطى بنفس الألحان المتناغمـة بينهمـا التي يعزفونها على وتر الحُب .. وكأن قلوبهم تتنبأ بالفراق الحتمي فأرادت أن ترتوي كيفما تشاء كان يحضنها كإنه آخر لقاء بينهما ، حركاته تتوسل لها بـ تُداوي قَلبه باللقاء كرمًا .. فَما له دواء غير لُقياكِ !! فـحضنك النصُ الذي عجزت الأبجديات عن وصفه .. لحظات مسروقة من الزمن أصابت قلوبهم المُتيمـة بالسُكر حتى حلت الواقعـة فوق رؤوسهم بصوت الزجاج الذي تهشـم بالأرض فصوت صرخة مكتوبة صدر من شِدق "رغد" وفي نفس اللحظة عادت الكهرباء بعد العُطل الفني الحادث ، فصعقت مصدومة :
-هاشم !! الفازة بتاعت مامي اتكسرت !! أنت عارف دي بكام وغالية على قلبها ازاي !!
حملها كي تؤذى أقدامها من فتات الفازة المهشمة بالأرض :
-ما قولت لك نروح بيتنا !!
ثم ألقى نظرة على فتات الفازة وعاد متسائلًا بعينيه الضائقة وهو يجلسها على المقعد :
-هي غالية أوي يعني !!
هزت رأسها بالإيجاب :
-اشترتها في مزاد بباريس من ٧ سنين .. أنا خايفـة من رد فعلها !! يالهوي دي ممكن تجرالها حاجة !!
رفع أنظاره لساعة الحائط هاربًا :
-أوباا ، أنا طيارتي كمان ساعتيـن .. لازم أرجع لصفية ..
-اخس عليك يا هاشـم !! بتخلع وتسيبني ؟!
اقترب منها ضاحكًا وهو يحملها بين يديـه قائلًا :
-تعرفي عني كده بردو !! إحنا نخلع سوا عشان نكمل كلامنـا ..
ثم ضاقت عينيـه بمكر محب وهو يلامس درجات السُلم :
-هتسأليني وتقوليلي أيه هو !! هقولك من قبل النور ما يجي بثانيـة إلا ثانيـة …
ما كاد أن يتجاوز لنصف درجات السُلم ففوجئ بساميـة تقف لهم على رأسـه .. تحمحم كُل منهما وهو ينزلها برفق هماسًا :
-مش وقت أمك خالص !! ايه صحاها ؟!
جزت على فكيها :
-قلت اسمها مامتك ..
-ولا وقت تناكتك .. أنا على آخري .
ثم تركها بعد ما ألقى بأذنها همس جملته وهرول نحو سامية التي مال على كفوفها ليقبلهما ثم نصب قامتـه ليعانقها :
-أحلى سامية ، تصدقي بالله أنا جاي من قنا مخصوص عشان حماتي وحشتني ، لسه بقول لرغد تصحيكي تفطري معانا ، قالت لي عندك صُداع !!
ثم قبل رأسها وأكملت بحنوه المعتاد الذي يسبق به خصمه من النوع اللطيف :
-تحبي ننزل نشوف دكتور يا حبيبتي !
ابتلعت ساميـة غصة غضبها منه وربتت على كتفه :
-أنا كويسة يا حبيبي .. أنت جيت أمتى .
راوغ على فعلته المجنونة بأنه جاء من قنا مخصوص إثر إغراء ابنتها له .. فقال :
-من شوية أصل عندي معسكر كمان ساعتين ، جيت اسلم بس على رغد وهطير .. وكويس إني شوفتك .. يا دوب ألحق أمشي ..
قبل رأسها مرة ثانيـة :
-ألف سلامـة عليكِ يا حبيبتي ..
ثم جهر بنبرته العسكرية التي يلجأ لها دومًا كي تُنجيه من أي فخ :
-رغد شوفي موبايلي شحن ولا لسـه !!
تابعت رغد خطواته هاربة من سطو نظرات أمها وقالت بتوجس وهي تخفي الضحك وهي تركض كي تهرب من وقع الجريمة التي اقترفها الاثنان قبل قليـل :
-هشوف جوزي يا مامي ….. الف سلامة عليكِ .
زفرت سامية بغضب مدفون :
-صبرني يا رب على الاتنين دول ..
••••••••
تعبث بك الحياة حتى ترُيك وجهًا قاسيًا لم تعتده، تُرّبي فيك غربة وأنتَ بقلب وطنك ، ويأسًا ضاريًا يحرق أحلامك وقلبك في آن واحد .. وأحيانًا تمـد يديها لك لتُراقصك على نغم تلك الأمنيات التي المحققة .. على لحن صوت شخص وجوده كافيًا أن يشعل قلبك بالحياة .. بل هو الحياة .. الحياة ذات وجهين ، وجه يهذبك والآخر يراقصك، مهما طال عُمر الأول حتمًا سيزورك غيث الثاني ليمحو شقوق ما مضى ..
لم تنم إلا ساعتيـن فقط حتى استيقظت على صوت رنين هاتفها من صديقاتها اللاتي لم يكُفن عن الاتصالات .. فتحت الكاميرا وشرعت في سرد تفاصيل يومها المكدس بهِ بذلك الرجل المغري لعقلها وكيف واجه شريف ودافع عنها ، ساعة والنصف قضتها "ليلة" في سرد قصة رجل يسمى هارون العزايزي .. تنهدت برئـه منشرحة وأكملت بفرحة :
-قولت له إنك عايزة أروح معبد الكرنك .. فكر شوية ، وبعدين قال لي نروحوا ..
ثم أكملت بحماس :
-النهـاردة هسجل أول حلقـة .. أنا متحمسـة موت بجد أنا حبيت الحياة هنا أوي ، مش عايزة الأسبوع يخلص .
تدخلت جوري في الحديث بعد ما نزعت " ماسك " النضارة من فوق وجهها :
-المهم هارون ده أيه حكايته ، يعني هيقضيها كتير كده مرشد سياحي للاستاذة .. لي لي فين صورته .
ردت بيأس :
-معرفتش اصوره ، شكله مش بيحب التصوير .. بس كان نفسي تشوفوه امبارح وهو بيرعب شريف .. أول مرة أحس أني ليا ضهر كده من بعد وفاة بابي .. تعبت من إني لازم اواجه كل حاجة بنفسي .. هارون ده حالة خاصة لوحده ..
تفوهت عُلا بمزاح :
-ازاي بقا ، فهمينـا أكتـر ..
رددت بجهـل :
-مش عارفة أوصفه ، أوي لسه مش عارفة أحدد هو أي نوع من الرجالة ، يعني شهم وراجل أوي وجدع وكمان لما بتكلم بيسمعني ، كلامه قُليل مش بعرف أخرج منه معلومة واحدة .. بس مسيري هعرف ..
فتدخلت جوري بحماس :
-بصي أنتِ تقفلي معانا وترني عليه دلوقتِ تصحيه من النوم وتقوليلو يلا عشان نلحق مشوارنـا ..
عارضتها :
-ايه قلة الذوق دي ؟! لا طبعا هسيبه ينام براحته أنا مش رخمـة .
-يادي الغباوة ، يا بنتي اسمعي مني .. صحيه عشان يحس أنك مهتمة وعايزة تخلصي شغلك بسرعة ، وطول الوقت فهميه ان وجودك هنا مؤقت وهتمشي ..
أجابت بإصرار :
-مستحيل، أنا قليلة ذوق عشان أصحيـه الساعة دي !!
ثم هبت مفروعة :
-أحيه !! أنا نسيت أقولكم أنهم المفروض قروا فاتحته على اللي اسمها زينة دي !!
كلاهن في نفس واحد :
-ايه !!!!!!
~ بغُرفة هارون .
بعد ما أدى صلاة الفجـر في موعدهـا ووثبت ليضع القليل من رائحة المسك بيده قبل أن يفركهما ويمسح على وجهه ، اتجه إلى خزانـة ملابسـه فغير مساره صوت رنين هاتفـه ، طالع الشاشـة بملل فوجد اسم ( زينة) ، تأفف ممتعضًا :
-وهي ناقصة خوتـة !!
سحب الشاشة وفتح مُكبر الصوت وهو يقول بنفور ويوصل مهامه بثقُل :
-خير عليكِ يا زينة !
هبت ملهوفة :
-خير !! خير وبس ده ألف خير عليك يا سيد الناس .. صحي النوم يا هارون .. إكده استناك الليل كله تحددتني وأنت متسألش ، طب في عريس مايچيش قراية فاتحته !
أخرج ملابسه الأجنبية التي لا تنتمي لأعرافهم الصعيدية والعُمدية عبارة عن بنطال أسود وسترة شتوية سوداء ويعلوها " جاكت" شتوي باللون البيـج .. ألقاه على السرير بملل و رد عليها متعمدًا قفل الحديث :
-ان شاء الله خير يا زينة ..
انتهت من وضع حمرة شفتيها وقالت بدلال :
-چاي الليلة على العشا أعملك أحسن وكل ..
-مش عارف يا زينـة !!
-لا ، لازمًا تچي يا هارون ، أنا دِلوق خطيبتك وكُل طلباتي مُچابة ..
نزع سترته الخاصة بالنوم و أجاب بملل :
-ربك يسهل يا زينة ، هخلص مصالحي وأشوف ..
انكمشت معالم وجهها :
-ومصالحك دي أهم مني ؟!
عض على شفته السفلية وهو يجلس على طرف السريـر قائلًا بضيق:
-وكل عيشنا يا زينة ، مش هنسيبوه ونقضوها سرمحة ..
-طب على مهلك عليّ ، ده چزاتي أني مكالماك أصبح عليك !
-تُشكري ..
تدللت وهي تتجه نحو فراشها :
-يعني مش هتقولي حتى مبروك يا عروسة !
-مبروك يا زينة !
هتفت بصرع من الفرحة :
-الله يبارك فيك يا سيد الناس وعقبال ما أكون في بيتك وفي حضنك وشايلة اسمك وأم ولادك أنت نفسك أچيبلك كام عيل ؟!
تأفف باختناق فقلبه لم يتحمل منها جُملة إضافية :
-ياصبر الصبـر .. !!
ثم انخفضت نبرة صوتها :
-تعرف من إمبارح والنوم مش مهوب من ناحيتي ، كل ما اتقلب إقده اتخيلك قَصادي واتقلب إقده اشوفك تضحك لي وتقولي بحبك قوي يا زينة ، الله بالحق عتحبني يا سي هارون كد ايه !!
رد بامتعاض:
-ما تقومي تنامي يا زينة، قِلة النوم لحست رأسك ..
ثم انسحب بهدوء ليحافظ على الجزء المتبقي من عقله :
-زينة معاي مُكالمة شُغل اقفلي من عندك دِلوق ..
قفل المكالمة قبل أن ينتظر ردهـا ثم رمى الهاتف بملل :
-چيب وچع الرأس لروحي !!
ثم امتدت يده وتناول الهاتف مرة آخرى وبحث عن رقم " ليلة" المُسجل على هاتفه بـ " الاستاذة " وبدون تردد ضغط على زر اتصال ، كانت ليلة تحت سطو اقناع جوري بأن تهاتفه وما زالت مصرة على رأيها حتى جهرت مفزوعة عندما رأت اسمه على الشاشة :
-بنات العمدة بيتصل… قصدي هارون بيه بيرن اعمل ايه بسرعة .
صرخ الفتيات في نفس واحد :
-طبعًا ردي …
ألغت مكالمـته وقالت بوجهها المُحمر :
-لا مش دلوقتي .. حفظوني بس أقول أيه وبعدين هرجع أكلمه !
صاحت علا :
-انتِ عملتي ايه !!
-قفلت في وشه..
هتفت علا ممسكة برأسها :
-جوري ردي انتِ .. دي هتشلني .
تراقصت حواجب هارون باستغراب إثر إنهاء المكالمة الهاتفية ورفضها .. تحمحم ملتمسًا لها العذر فلم يخلق من يتجاهل مكالمته:
-تلاقيها نايمة !! وبعدين !!
نفض غبار ما حدث ثم وثب ليبدل ملابسـه وبعد مرور برهة من الوقت عاد رنين هاتفه ، ربط حزام خصره الجلدي ونظر من أعلى على الاسم فتحير قائلًا لنفسه :
-ماهي صاحيـة أومال قفلت ليه !!
تناول الهاتف ووضعه على آذانه تلك المرة حيث جاءها صوته الرجول قائلًا:
-صحيتك !!
-طيب قول صباح الخيـر الأول .. الناس الطبيعية بتقول كده الصبح .
بصوت ترنيم عصفور مشاكس جاءت نبرة صوتها مهزوزة يكسوها التوتـر والارتباك وقلب مضطرب يبدو ذلك بسبب أول مُكالمة هاتفية بينهم ، تحمحم بخفوت وقال مستمتعًا بصوتها الذي يعزف بمسامعه :
-يسعـد صباحك يا ستي ..
ردت بنفس النبرة التي كانت تتحدث بها بالراديو :
-و أنت كمان .. أحنا المفروض هنخرج أمتى ..
رفع أنظاره للساعة فوجدها السادسـة :
-أنا لبست .. شوفي أنتِ قاعدلك كد أيه وتكوني جاهزه ..
قفزت فوق السرير وهي لا تعلم أين تذهب :
-هاه !! حالًا انا أصلا قربت أخلص .. انا صحيت من بدري وكنت بذاكر وكمان كلمت صُحابي البنات .. وكنت مترددة أكلمك ولا لا .. بس خلاص خلاص هجهر وارن لك مش هتأخر عليك ، تمام !
تعجب من نفضة صوتها وتجلجلها بالكلام وقال:
-محدش طاير وراكِ على فكرة !!
شُلت مدارك عقلها وهي تغسل اسنانها بالفرشاة و المعجون :
-يعني ايه ؟!
-يعني عـ مهلك ، بلاش تتسربعي .
-يعني ايه تتسربعي ؟!
مسح على رأسه مكتفيًا بتلك الابتسامة المخالفة لما يشعر به من جزعٍ برأسه :
-يعني خلصي وكلميني يا ليلـىٰ ..
مرت قرابة النصف ساعة فكان أمام المرآة أوسم شاب ثلاثيني يعد ترتيب ملابسه ويرتدي نظارته الشمسية ثم ينثر القليل من عطره المفضل .. غادر الغرفة فالتقى بهيام التي تتجول بالطرقة أمام بابها ، ما أن رأته ارتمت بحضنه :
-مستنياك من بدري يا حبيبي ..
ربت على كتف أخته بعد ما قبل رأسها :
-مالك ، فيكي أيه طب احكي لي ..
ابتعدت عنه وهي تتشجع لتروي له غصة قلبها :
-هارون ، أنا مش عايزة اتجوز ضيا .. أحب على يدك أعمل حاچة وبوظ الچوازة دي ..
عقد حاجبيـه باستغراب :
-ديه چلع عرايس ولا حصل حاچة من وِلد المحروق ديه !
هزت رأسها بالنفي وهي تقـول بحزن :
-قلبي متوغوش ومش مرتاحة يا هارون ..
مسح على رأس أختـه بحنو :
-هيام ، سيبك من قلبك وعقلك عشان دي حاچات ما تحركش رچالة ، حصل حاچة من وِلد الـ دي !
أومأت بالإيجاب ففرت خصلت شعرها الناعمة كخيوط الحرير وهي تقول :
-أيوة يا هارون .. بيغلط فيكم كتير وفي أبوي .. وبيشرب وكذا مرة أحذره إني هقولك لو مبطلش بيسوق فيهـا ومفيش حد هامهُ ؛ هارون لو ليّ خاطر عندك فركش الچوازة دي ..
هز رأسه وبمعالم ثابتة لا تعكس ما يدور بداخل عقلـه ، قبل رأسه أخته وقال بهدوء تام :
-متفكريش في حاچة وروحي اجهزي ،عاوز أخت هارون العزايزي تكون أحلى عروسة ، وضيا أنا هعرف أشده زين .. متعتليش هم ..
قاطعته باعتراض:
-بس يا هارون ..
حسم حديثهم إثر رنيـن هاتفه باسم " الاستاذة "، ثم قال :
-متنكديش على روحك وعلي صفية .. أنتِ مش حكتي لي خلاص ، شوفي ناقصك أيه وخدي العربية مع جابر وأنزلي هاتيه …
•••••••••••••••••
مع دقـات السـاعة الحادية عشـر ظهـرًا .. تقف رُقية مع أمها التي ترتعـد من الرعُب إثر طلب ابنتها بمجلس العزايزة إثر شكوى بكر عليهـا .. وقفت رقيـة أمام ذلك الرجل العجوز الذي يرتدي زيًا أزهريـًا وعلى يمينه رجل وعلى يساره رجل آخر ، وجه الأوسط سؤاله لديهـا :
-يا دكتورة رقيـة ؛ أنتِ من فعلتِ بالمدعى بكر فياض وأهله هذا !
نظرت لهلال الجالس على مكتبه الصغيـر بجواره منصـة المجلـس وقالت بثبات :
-حصل يا شيخنا ..
-ما السبب ؟!
تجلى حلقها وقالت بصوت لا يتزحزح :
-جيه بيتنا من غير معاد هو وأهله رغم أنه عارف أني رافضة الچواز منه .. وكمان اتهمني في شرفي في وسط دارنا ، والشرف دم عندينا حسيت إني لازمًا افوقه ..
تدخل بكر موضحًا الصورة :
-جنابك رقية بت عمي وحيدة ومالهاش حد ، والشرع والقانون عيقولوا أنها مش هتتجوز أيدحد غيري .. وطالما إكده نأجلو شرع ربنا ليه ؟!
غلت الدماء برأس هلال والنائب عن أخيـه وقال معترضًا :
-يا مولانـا نحن نتعلم منك سمات الدين والأخلاق، وحديث الأخ بكـر صحيح ولا يُلام عليه ولكن عندما يتعلق الأمر بأن الفتاة أرادت أن تتجوز من شخص آخر غيره ، هنا يحق له فعل ما يشاء متمسكًا بحقه الجائر على قلب تلك المسكينة .. لكن الأنسة رقية لا تُريد الزواج من الأساس ، لِم الإجبار والتعنيف !! لِم قذف المحصنات واتهامها بشرفها والفتاة لا تفعل أي شيء يهين العرف والقانون ، هي لا تُريد الزواج هذا حقًا لهـا ..
ثم تطلع لبكر بتحدٍ :
-وما اقترفه الأخ بكر يتنافي مع الدين والعرف ، وهو فرض نفسه على فتاة لم تُريده بدافع الأموال ، وهذه تهتمة جديدة يا سيدي .. خالف مقصد وأهم ركن بالزواج والشرع الذي يُبني على المودة والرحمة ولست الشجع والمطامع والأموال…
ثم رفع كفـه ذو الكم الفضفاض وجهر :
-وآخيرًا ، فالمدعو بكـر لم يكُف عن ازعاج ابنة عمه وملاحقتها بكل مكان ، ولقد ذهبت بنفسي لقعر داره وحذرته بالحسنى ولكنه أكمل في طريقه ، طريق البلطجة والتشبيح …
نظر الشيخ لبكر وسأله :
-ما رأيك بما قاله الإمام هلال ..
أخفض بكر رأسه وقال :
-رايدها وحاببها يا شيخنـا ، وعاوزها في شرع ربنا ..
غلت الدماء بعروق هلال وهو يقبض على جمر سخافات بكر كالقابض على الجمر ، حيث اتبع جاهرًا :
-عذر اقبح من ذنب يا مولانا.. تلك المشاعر النقية لا يخالطها السب والقذف والتطاول على فتاة ضعيفة مثلها بهذه الحياة .. نحن هنا لنصرة الضعيفة ولست لإذلاله ..
نظر الشيخ لبكر بغل بعد ما تشاور مع طاقم التحكيم:
-تم رفض دعوة المدعو بكر فياض ، وعليه بتقديم الاعتذار لابنة عمه الدكتورة رقية ابو الفضـل ويمضي تعهدًا بعدم تعرضه لها بعد الآن …والزواج بينهما لابد أن يكون قائمًا بالتراضي بين الطرفين …
صاحت صفاء بالزغاريد لانها كانت مرتعدة من حكم مجلس المشايخ بأن يصدرون فرمانًا بزواج ابنتها من المدعو بكر ، ضمت ابنتها بين يديها وشكرتها بفخر :
-حبيبة قلب أمك ، ينصر دينك المرة الچاية عايزاك تقطعي خبره …
ربتت على كتف أمها ورمقته بسخط :
-ضربني وبكى وسبقني واشتكى .. كان عشمان في الچوازة بس يستاهل ..
جاء هلال من الخلف ووجهه بالأرض :
-مبارك يا أخت رقية ..
هتفت صفاء بامتنان :
-يسلم خشمك يا حبيبي ، لولاك كان وِلد الضلال بكر استقوى على البت ، يحرسك لشبابك يا هلال يا ولدي .. تشكر .
أخفض رأسه بعرفان :
-شكر على واجب يا أمي .. سانتظركم بالسيارة..
انسحب بهدوء تام وهو يتحاشى النظر لعندها إير ضربات الفرح التي أصابت قلبه ، يا ترى لتبرئتها أم لصدور حكم نهائي بعدم تعرض بكر لها أم لانها ساعدها في محنتها وبرأ ذنبه من الكذب التي تقيد أنفاسه .. نظرت صفاء لابنتها وهي تعاتبها :
-يا بت طب بُصي على الرچل واشكريه .. أنت باصة فين ؟!!!!
وضعت سبابتها بفاهها منتظرة رحيلـه فقالت بتوتر :
-تعرفي ياما ماعقدرش ابص في وشه ..
-ده ليـه يا ضنايا ؟! الرجل فلقة قمر وأخلاق واحترام ووشه سمح والنور عيفج من وشه .
قاطعتها بقلب متراقص من السعادة :
-لا ياما ، وشه منور ويوتر ايه حد ،ما عقدرش أرفع عيني في عينيه ؛ أنتِ فهماني طب !!
-يا مُري منك !!!
ثم ربتت على كتفها :
-يالا ياختي عشان منعوقوش عليه ، الرچل كتر خيره مهملناش واصل ..
••••••••••••••••
قرأ هاشم جُملة أخته المُرسلة منها أمس وهو بالطيارة ، فاستقبلهـا بالضحك الساخر وهو يقول لنفسه :
-البت دي قلبها حاسس بأخوها ولا أيـه ؟!!!
حتى عاد لمنزلهم مع آذان صلاة الظهـر في ذلك الوقت كانت السيارات تنقل عفشة أخته من بيتهما وخلفهم نسوة البيت ليرصون أغراض العروس ببيتها ، وصل البيت وهو ينادي على أمه التي ما رأته اندلعت الفرحة بأصوات الزغاريد ، فأجاب بدون فهم :
-بتزغردي في وشي أنا ليـه.. ماهي العروسة قاعدة هناك أهي !!
انضم الاختان لعنده ثم ألقت نجاة عليه التحية من بعيـد ، هللت هاجر فارحة وهي تصفق :
-وصـل ، عريسنا الحِلو وصل .. يا عريس يا عريس …
تأرجحت عينيه بعدم فهم حتى التفت لسؤال امه :
-أنتَ فينك من امبارح يا هاشم !!
رد بثبات :
-مأمورية على السريع خلصتها ورچعت ، أنتوا مالكم !! وفين هارون عاوز أبارك له ..
جاء هيثم من أعلى وما أن رأى أخيه أطلق صفيرًا قويًا :
-هاشم باشا وعريسنا حلو ، والنعمة حلو وعروستـه أمورة أهي !!
غمغم هاشم بشكٍ:
-هي العيلة دي مرفوع عنهم الحجـاب وعارفين أنا كُنت بعمل أيه في مرسى علم !!
ربتت صفية على كتفه بحنان :
-مبروك يا حبيبي .. فرحتى بيكم ما تتوصفش ..
-الله يبارك فيكي يا صفية !! بس أنا مالي بردو ؟
تدخلت هاجر لتزف له الخبر :
-إمبارح قرينا فاتحة هارون وزينة ، وأنت ونغم ..
-يالف نهار أبيض … يألف نهار مبروك .
ثم تأرجحت عينيه بالمكان غير مدرك ما سمعـه :
-انا ونغم مالنا ..مفهمتش ؟!
زفـه هثيم فارحًا :
-اتقرت فاتحتكم عقبالي يا رب .. قول آمين يا عريس .
-نغم مين وأنتو مين وأيه الچنان اللي أنا سامعه ديه !! ما تقولي حاجة ياما !! في أيه يا هيام ؟
كان يدور حول نفسه من وقع ما سمعـه ، لا زال مقتنعًا أنها مزحة من أخوته فقالت صفية ببراءة الذئب من دم ابن يعقوب :
-أبوك يا هاشـم ، قال البت يتيمة وإحنا أولى بيهـا والفرحة تبقى فرحتين وطلب يدها من خالك .. واتقرت فاتحتكم .
-أي وأنا فين ؟! أنتوا كيف تعملوا العملة دي من غير ما ترچعولي !!
عارضته صفية :
-ما أنت ليك ١٤ سنه غائب عن العزايزة ياحبيبي وحياتك كلها برة قنـا ، قلنا نختارلك إحنا عارفين البنات كلها .. أنت هتعرف منين !!
رفع سبابته رافضًا والغضب يتناثر مع حروف كلماته :
-صفية أنا مش عاوز اخطب حد ولا عاوز اتجوز من أصوله والفاتحة اللي اتقرت دي أنا معرفش عنِها حاچة .. ولا مسئول عنها .
ضربه هيثم على كتفه :
-ياعم هو حد لاقي چواز ميتجوزش!! متبقاش فقري .
تدخلت هيام باعتراض :
-أنتو كيف ما تاخدوش شورة العريس ياما !! لا مالكمش حق .. عاچبك إكده !!
فأكملت هاجر :
-والله قلبي كان حاسس أن هاشم ماعارفش .
صرخ بوجههم لينهي تلك المهزلة :
-صفية يمين تلاتة لو الموضوع ديه ما اتفركش ما هتشوفي وشي تاني .. بلاش تختبري صبر هاشم ولدك عشان أنتِ عارفاني ..
دبت على صِدرها بصدمة :
-وتكسـر كلمة أبوك !! يا دي العيبة ؟!
-وأكسر الدنيا كلها ولا حد يلوي دراعي ويغصبني على حاچة مش عاوزها ..
ثم أشار بسبابته :
-تكلمي أخوكي دِلوق وتفهميه ، قوليلو هاشم مش بتاع چواز ولا ناوي يتنيل .. فاهمة ياما ..
كاد أن يخطو ولكنها أوقفتها معترضة :
-ما مسيرك تتجوز ، مالك متزرزر ليـه !! ولا أنتَ ناوي تقعد جاري كيف خد الندابـة !! يا ولدي متصغرش أبوك ، ده يطب فيها ساكت !!
ثار مدافعًا عن حبـه ورغد قلبـه :
-وأنا مش هارون ياما عشان تضحكوا عليّ بالكلمتين دول محدش هيموت قبل أجله ، هاشم ماعيضحيش على حساب حياته ، مختصر الحديت أنا قولت كلمتي ياما .. وبلاش تعاندوني .. وإلا هتشوفوا هاشم واحد تاني …
ألقى قذيفـة كلماته بساحة منزله ثم تركهم وذهب لغرفته ، تسددت نظرات العتاب من بناتها التي أردفت أحداهن :
-لا مالكيش حق ياما ..
تدخل هيثم مقترحًا ليُلطف الأجواء :
-أنتو مقرتوش فاتحتي أنا ليه !! حتى على البت نوال الشغالة أنا راضي …
دفعته صفية بغيظ :
-وهي ناقصاك أنتَ كمان !!
تأرجحت النظرات بين الثلاثـة فتيات حتى ضربت نجاة كف على الآخر بتعجب من حكمة الأقدار :
-المكتوب على الچبين لازمًا هتشوفه العيـن ….
••••••••••••••••
~بالأقصـر ..
-المكان يجنن يا هارون بيـه .. حاجة خُرافـة بجد ..
قالت " ليلة " جملتها بعد ما تفقدت أرجاء المعبد ومع كُل تمثال كان هارون يسرد لها قصتـه وتاريخه ومن بناه ، كانت تدون المعلومات التي تروق لها باهتمام على لوحة الشاشة الالكترونية التي بيدها .. كانت خطواتها تسبقه وكان صوته يحاصرها من كُل صوب وحدب .. أثناء سيرهم جهة المعبد أردفت بغزل بريئ :
-على فكرة اللبس الكاجول فيك يجنن ..
-ليـه والچلابية وحشة ؟!
-لالا خالص بالعكس ؛ بس مدياك سن أكبـر من سنك ،عكس الكاچول .. كده أحلى .
غمغم بضيق وهو ينزع نظارته الشمسيه :
-لا مش أحلى اكيد ..
ثم تنهدت لتُغير مجرى الحديث الذي أن ناطحت به ستجلب لرأسها الصخب لا أكثر ، نزعت الكاميرا المُعلقة برقبتها :
-ممكن تصورني هنـا !!
تناول منها الكاميـرا وقال :
-هتسچيلي دِلوق !! طب حفظتي ..؟!
-لا مش هسجل هنا ، بس التمثال عجبني ممكن تصورني جمبه !!
وقفت بجوار التمثال وشرع بالتقاط العديد لها من الصور تحت أجواء من المرح والضحك وهي تناقشه بتفاصيل الصور وتطلب منه أن يعيد التقاطها على الرحب والسعة منه وكأنها أصبح مديرًا لأعمالها لست مجرد ضيفة عنده .. طلبت من أن يعيد تلك اللقطة الأخرى بنفس الزاوية حتى انتهى من جولة التصوير بعد العديد من الصور التي أخذت تفحصهم أثناء مواصلتهم للطريق نحو التمثال "ساكمت" .. قالت بإعجاب :
-تصويرك يجنن .. بجد كل الصور أحلى من بعض .. تعرف أن في أسطورة بتقول أن الشخص المُحب بس هو اللي بيصورك صور حلوة ..
ثم وقفت أمامه بقامتها التي لا تتجاوز كتفه وقالت:
-كده أنا اطمنت إني مش تقيلة ولا حاجة على قلبك ..
رد بإيجاز :
-طب زين …
وصل الثنائي لتماثيل الآلهة " ساكمت " التي قرأت أساطيرها من قبل .. وقفت لتصيح بحماس لتبرز ثقافتها بالأساطير :
-تعرف أن التمثال ده أساطيره كتير !!
رفع حاجبه بأنه لا يوجد فائدة من تفكيرها المتواصل بالأساطير الكاذبة وقال :
-برضو أساطير !!
-استنى عليا بس هعجبك والله ..
ثم اقتربت من التمثال خطوة وقالت :
-تعرف أنه اسمه أله الأمومة والحب والحرب والصحة .. يعني لو ست كان نفسها تخلف كانت تيجي تلف حولين التمثال ٦ مرات وبعد كام شهر تلاقي نفسها بقيت حامل .. لو واحد نفسه يتجوز البنت اللي بيحبها بيطوف حولين التمثال ٥ مرات ، كل طلب له عدد طواف معيـن …
ثم عادت له بنفس الشغف :
-ومش بس كده ، ده الأسطورة بتقـول كمان أن الألهـة " ساكمت" لعبت دور كبير أوي أنها تجمع العشـاق اللي بينهم مستحيلات كتيـر ، زي مثلا …
كانت " ليلة " تسرد على آذانه تفاصيـل الأسطورة التي اطلعت عليها والتي ستبدأ بتصوير أول حلقاتها التي جاءت لأجلها ، كانت تخطو نحو التمثال بحركات طفولية يملأها الحماس وما أن شرعت في ذكر الأمثلة دارت لهارون الواقف بمكانه عاقدًا ذراعيه أمام صدره يستمع لهـا باهتمـام معجبًا بطريقتها العفوية التي تروي بها تلك الخرافات التي راقت له من بهجة أسلوبها .. وقفت أمامه وأكملت :
-مرة ملكـة وقعت في حُب خادم عند أبيها الملك ، وجات تتوسل لساكمت أن أبوها يوافق ، وراحت السنين وجات السنين حبيبها ده طلع حرب وكانت المفأجاة أنه رجع لأبيها برأس أكبر عدو له .. وقتها الملك كان منبهر وقاله أطلب أي طلب هيكون مُجاب ، وكان الطلب ده أيد بنته ..
تأرجحت عينيه التي يخر منها النظرات الساحرة بخفـة روحها في رواية القصص والأساطير التي لم يُخلق أحد يرويها مثلها ، رفع سيف حاجبه وقال بهدوء يغلفه بسمـة لطيفة :
-الرك على النصيب يا ليـلي ..
تغنجت أمامه بمرح :
-أنتَ مش مصدقني !! طيب هحكي لك حاجة كمان .. كان في واحدة اسمها " تيفيت" كل ما تنام تشوف أن في رجل غامض بيحاول يخطفها ويخوفها ، وراحت تشتكي لـ " ساكمت" ..
ثم اتسع بؤبؤ عينيها وهي تسأله بحماس:
-تعرف طلع مين الرجل ده ؟!
حك ذقنه ويبدو أنه عثر على ملاذه في رواياتها الخرافية :
-حبيبها .
اصدر صوت قرقعت أصبعيها وهي تحييه :
-براڤو عليك ، بس مش حبيبها من البشر .. ده طلع أله الحرب " خارمس" .. بس المشكلة أن البنت كانت بتحب واحد اسمه " أسموس " .. ولما بقا " ساكمت " عرفت غضبت أوي وقررت تعاقبه وتُحيله لـ حجر او تمثال .. ودي كمان جوزت العشاق لبعضهم ..
هز رأسه معجبًا بأسلوبها في القص ولست تلك الخرافات التي ترويها وقال :
-جميـل ..
قطعت ليلة جُملته وأكملت :
-تعرف الجميل بقا أن الكلام ده في ناس بتعمله لحد دلوقتي على سبيل الهزار والتجربة عشان يتأكدوا من صحة الأسطورة وأنها مش مجرد كلام !!
هارون مذهولًا :
-لا يا شيخة !! وكانوا بيعملـوا أيه عاد وِلد المهاويس دولت ؟!
رفعت جفونها لعنده بتوجس :
-أخاف أقولك ونجربها كـ لعبة الأسطورة تتحقق ولعنتها تصيبنا ، يتكتب لنـا نصيب في بعض .. وقتها مفيش حاجة هتقدر تفرقنا وكمان ممكن تقع في حُبي !
ثم هزت كتفيها لتبرئ مكر نواياها :
-أنا بحذرك بس عشان اللعب مع الجماعة دول بيقلب جد ! وأنتوا قوانينكم مابترحمش !!
انفجر ضاحكًا والسخرية تملأ فاههُ ثم انحنى لعندها هامسًا لينفي كل معتقداتها بأسلوبه الراقي:
-أهو ديه بالظبط أكبر خرافة أنتِ قولتيهـا ، لأنه شيء ولا ينفع يكون في أحلامنا من أصلو .
راقت لها العبث بقوانين اللعبة وقالت بجزل طفولي مبطن بالتحدي:
-مادام أنتَ شايف كده ، أيه رأيك نجرب !!!!!
لم تتلقى ردًا على طلبها إلا صمتًا يميزه ابتسامة خفية لا تُرى ولكنها تُحس ، ترجمها عقلها على أنها قبول لعرضها وقالت بشغف لا ينتهي :
-يبقى نجرب أظن مفيش مستحيل أكتر من حالتنا ، بس مش هنطوف زي ما هما كانوا بيعملوا عشان حرام طبعًا .. بس هنعمـل حاجة تانـية تحقق الأسطورة !!!!
••••••••••
يتبع