رواية فوق جبال الهوان الفصل السادس 6 بقلم منال سالم

رواية فوق جبال الهوان الفصل السادس 6 بقلم منال سالم

رواية فوق جبال الهوان الفصل السادس 6 هى رواية من كتابة منال سالم رواية فوق جبال الهوان الفصل السادس 6 صدر لاول مرة على موقع التواصل الاجتماعى فيسبوك رواية فوق جبال الهوان الفصل السادس 6 حقق تفاعل كبير على الفيسبوك لذلك سنعرض لكم رواية فوق جبال الهوان الفصل السادس 6

رواية فوق جبال الهوان بقلم منال سالم

رواية فوق جبال الهوان الفصل السادس 6

زعزعــة هيبته، والتقليل من شأنه أمام أهــالي المنطقة، ناهيك عن حدوث ذلك في تواجد عماله بالمخبر، جعله في أوج غضبه وحنقه. لم تهدأ مُهـــاج الحاج “درويش”، وظل على حالته المنفعلة، فأمسك بهاتفه المحمول، وخـــابر من يقع تحت سطوة قوته ونفوذه، للقيــام بمهمة رد اعتباره أمام الجميع، وتلقين من تجرأ عليه درسًا لا ينســاه أبدًا.
ارتفعت نبرته المحتدة وهو يخبره بما يزيد من تأجيج نيران الفـــتنة بين الأطراف المتناحـــرة:
-والله يا ريس “العِترة” لو فوتنا اللي حصل ده، هتلاقي الكل عملنا مُسخته، الصغير قبل الكبير، مش معقول ده يرضيك.
ظل صوته متأرجحًا ما بين الغضب والغل وهو لا يزال يكلمه:
-وأني لازم أعلم على الواد ده علشان يعرف هو غلط في مين.
غامت نظرته أكثر حينما أضاف كذلك:
-وبعدين دي بقت عداوة صريحة مع “فهيم”، وأنا عايزه يتربى.
أتاه صوت “العِترة” هادئًا وناصحًا:
-اصبر عليا كده، وخليني أشوف هتصرف إزاي.
ألح عليه بتصميمٍ:
-اعمل أي حاجة تخليني أخد حقي على طول.
بنفس الصوت الهادئ خاطبه:
-هيحصل، بس سبني أدورها صح في دماغي، علشان لما نضرب ضربتنا، تسمع عند الكل.
بالكاد تمكن من كبح غضبه المستعر، وقال، ووجهه يسوده تجهمًا شديدًا:
-ماشي الكلام.
………………………………..
كلماتها وإن كانت عفوية، نابعة من طبيعة الموقف الذي تعرضت له مع شقيقتها، إلا أنها كانت كسهمٍ نافــــذ، رشــق في صدر أحدهم وأصابه في مقتل. التفتت “خضرة” ناظرة من موضعها إلى الشابتين اللاتين كانتا تقفان في الخلف، وعاودت النظر إلى “زهير” لتكلمه في صوتٍ قلق، محفزٍ للنزعة الذكـــورية الانتقــــامية بداخله:
-يا وقعة سودة يا سيد الناس!
اشتدت عضلات وجهه، وكذلك كتفيه بشكلٍ ملحوظ، خاصة وهي لا تزال تهتف بنفس الطريقة المستثيرة للأعصـــاب:
-مين اللي اتجرأت عليك كده يا سي “زهير”؟ هي متعرفش إنت مين؟!
مصمصت شفتيها، وأكملت بتحفزٍ مزعج أكثر:
-نهارها مش فايت أكيد.
نفد صبره من أسلوبها الذي يستفزه أكثر من أي شيء، وهدر بها بنبرة أخرستها على الفور:
-ولا كلمة.
انتفضت “مروة” فزعًا من نبرته التي أجفلت بدنها، وانكمشت على نفسها، في حين هزت “خضرة” رأسها في طاعة، وتابعته بعينين متوجستين وهو يترجل من السيارة ليذهب إليهما، متوقعة حدوث الأســــوأ. مالت بعدها على تلك الملتصقة بها لتلكزها في جانب ذراعها، مرددة بشيءٍ من الحماس المريب، وكأنها تُبدي استمتاعها ونشوتها العارمة لرؤية جانبه المُوحــش حينما يظهره للجميع علنًا:
-أديكي هتشوفي بنفسك الوش التاني لأخو كوبارتنا سي “زهير”.
تلقائيًا، استدارت “مروة” برأسها للخلف لتنظر إلى ما سيحدث بين الثلاثة من صدام وشيك، وقلبها يدق خوفًا لهذا!
…………………………………..
على الجانب الآخر، وعند مسافة لا تبعد بضعة أمتار، تطلعت “إيمان” ناظرة إلى شقيقتها تعاتبها على نزقها واندفاعها الذي قد يودي بها إلى المشاكل دون داعٍ، فراحت تلومها في جديةٍ وهي تمسح بمنشفة ورقية استخرجتها من حقيبة كتفها على عباءتها:
-مكانش في داعي تتكلمي بالشكل السوقي ده.
ردت “دليلة” مبررة تصرفها وهي تطوح بيدها في الهواء:
-التعامل في الحتة دي كده، نظام البقاء للأقوى، ولا عيزاهم يستأفونا؟
حذرتها بلهجتها الجادة:
-إنتي مش ناقصة مشاكل مع حد.
قالت في شيءٍ من التحدي، وكأنها لا تخشى المواجهة مع أحدهم:
-يعني غلطان وبجح؟ طب يا ريت يتكلم، وأنا هعرفه مقامه.
قبل أن يغدو “زهير” في مواجهة الاثنتين، استدار برأسه للجانب عندما سمع صوت المكابح لإحدى السيارات وإطاراتها تحتك بالأسفلت قبل أن تصطدم عن عمدٍ بمقدمة سيارته محدثة دويًا هائلًا ومفزعًا، أتبعه صراخ كلًا من “خضرة”، و”مروة”. توقف في مكانه وضاقت عيناه بشكٍ واسترابة، ليجد قائدها وثلاثة آخرين يترجلون منها ليهتف أحدهم بصوتٍ جهوري يحمل الإهانة الفجة قاصدًا مخاطبته على وجه الخصوص:
-الدكــــر طلع من جحر الفيران أهوو.
في التو تأهب في وقفته، ودار عليهم بنظراته المدققة، لتتساءل “إيمان” من الخلف في خوفٍ كبير:
-هو إيه اللي بيحصل؟
بلا تفكيرٍ، أمسكت “دليلة” برسغها، وشدت عليه لتجذبها معها بعيدًا عن مرمى الخطـــر الوشيك هاتفة في توجسٍ:
-تعالي أوام من هنا.
رددت بقلبٍ متصارع في نبضاته:
-استر يا رب.
تقدم “زهير” تجاه الثلاثة أشخاص، طاف على وجوههم اللئيمة بنظراتٍ استحقـــارية مستخفة بهم قبل أن يسألهم بزمجرةٍ تفوق صوت المتحدث الأول:
-إنت مين ياض إنت؟
تحداه هذا الشخص بشكلٍ سافر، فاستطرد وهو يكور قبضته بقوةٍ:
-أنا اللي جاي أحط عليك، وأخلي وشك مداس للأرض.
رد عليه “زهير” بلا خوفٍ، وهذه الابتسامة الهازئة تظهر على زاوية فمه:
-شكلك عايز يتقرى عليك الفاتحة النهاردة.
فرقع الشخص فقرات عنقه مرددًا في استهانةٍ:
-وماله، بس هناخدها على روحك الأول.
انضم إلى الثلاثة سيارة ربع نقل حملت ثمانية أفراد، قفزوا من على ظهرها وهم يحملون في أياديهم السلاسل الحديدية، وعدد لا بأس به من الأسلحة البيضاء المختلفة في الأحجام والأطوال، ليصبح الوضع على المحك.
……………………………
بعدما حدث الاصطدام العنيف، خرجت “خضرة” من السيارة في الحال، وسحبت معها “مروة” لتركض بها نحو أقرب نقطة جيدة للاختباء، في مدخل واحدة من العمائر، لم تفلتها من يدها، وصوتها الصارخ يردد بعد أن أبصرت وجوههم المألوفة:
-يا مصيبتي، دول رجالة “العِترة”!
لمحت أحد معارفها يركض، فنادت عليه وهي تشير له بيدها، ليدنو منها، فأمرته في الحال بتلهفٍ:
-اطلب الكوبارة أوام يجي ينجدنا.
رد عليها مؤكدًا:
-الخبر وصله من أول ما اتلمحوا داخلين منطقتنا.
هتفت في شيءٍ من الارتياح:
-طب كويس.
-حاولوا إنتو تداروا.
تحذيره كان واضحًا، فمن المحتمل أن تتحول المنطقة بين لحظة وأخرى إلى ســـاحة لحرب ضــروس. ارتعشت “مروة” كليًا، وتساءلت في هلعٍ:
-هو إيه اللي هيحصلنا؟
وكزتها في جانبها وهي تنظر لها شزرًا، لتغمغم بعدها في استياءٍ ناقم، وكأنها تحملها الذنب فيما لم تقترف من الأســاس:
-اتنيلي اسكتي، قدمك فقر على الراجل، ملحقش يفرح بخروجه…
توقفت لهنيهة لتلتقط أنفاسها، ورمشت بعينيها متابعة بتوجسٍ متزايد:
-ربنا يعديها على خير.
………………………………..
في لمح البصر، حل الهرج والمرج في الشــارع، وتوقفت حركة المرور به فجــأة، وكأن أحدهم قد قــام بعرقلة السير عن قصدٍ ليعزل هذه المنطقة تحديدًا عن البقية، ليجد “زهير” نفسه محاصرًا من قِبل أتباع غريم شقيقه المعتاد. لم يظهر الخوف عليه، بل كان هادئًا للغاية، معتدًا بنفسه، يُطالعهم جميعًا بنظرات مستخفة، غير مبالية، فقد كان المشهد ممتعًا بشكلٍ غريب.
أشهر الرجل مديته، ولفها في حركة دائرية مستمرة حول إصبعه في استعراضٍ بائن، ليقول بعدها:
-نفسك في إيه قبل ما تقابل وجه كريم؟
قبل أن ينبس “زهير” بكلمة واحدة تفاجأ باقتحـــــام شقيقه الأكبر للمكان بموكبٍ من سيارات الربع نقل، وعربات الدفع الرباعي، بجانب مركبات التوكتوك، والدراجــات البخارية.
هبط عن تلك التي تقف في المقدمة، ليهدر عاليًا بصوتٍ أرعب المتواجدين:
-ما تخلقـــش لسه اللي يقف قصــاد أخويا ويهدده.
ارتفعت أصوات التهليل المشجعة من أهالي المنطقة، وكأن فريقهم المفضل قد أحرز هدفًا في مرمى الخصم.
التف رجال “العِترة” حولهم بتوترٍ ليجدوا أنفسهم محاصرين من كل جهة، وفي وضع لا يبشر بخيرٍ، فهم قلة قليلة أمام ذلك الحشد الغفير الذي جاء من كل حدبٍ وصوب لمؤازرة كبيرهم وهم مدججين بالأسلحة الآلية. استسلموا في الحال خشية فقدان حياتهم، وأُلقي القبض عليهم جميعًا، ليتم إجبارهم على الركوع قسرًا، وفي وضعية إذلالٍ صريحة.
استدار من يتزعمهم نحو “كرم” عندما استطرد صائحًا بنبرة أقرب للزئير الغاضب:
-دقـــة النقص دي معروف طالعة من مين.
أقبل عليه، وانقض عليه ليمسك به من تلابيبه مكملًا هديره:
-بس العيب على معلمك…
انتزع من يده مديته التي كان يتباهى بها، ثم ألقاه لأحد أتباعه ليتلقفها ويحتفظ بها، بينما لم يجرؤ الأخير على التفوه بشيءٍ، فقد انقلبت الطاولة، وأصبح هو ومن معه في موقفٍ مشين. قبض بعدها على رسغه، ولواه بقوةٍ ليصرخ من الألم الشديد، حتى تمزقت أربطته، ثم كز على أسنانه مهددًا إياه:
-إيدك اللي اترفعت عليه هقطعهالك!
أدرك الرجل من طريقته أنه لا يمزح، ووقع بالفعل في برائن من لا يرحم.
أخذ “الهجام” يهزه بخشونةٍ وهو يعنفه بإهانةٍ فجة:
-طب بدل معلمك ما يتدارى في شوية ….. مفكرين نفسهم رجــالة كان جه بنفسه…
تقوس فمه بابتسامة متهكمة وهو يكمل باقي حديثه إليه:
-على الأقل كنت عملتله اعتبار، وما مسحتش بكرامة اللي جايبينه الأرض.
كور بعدها قبضته، وانهــال عليه ببضعة لكماتٍ متعاقبة جعلت وجهه يتورم وينزف الدماء من فمه وأنفه، قبل أن يطرحه أرضًا ليركله في أسفل معدته بقساوةٍ، ثم أشار لـ “عباس” آمرًا إياه:
-خدوهم على التَبَّة، هناك هنتعامل معاهم على رواقة.
رد في طاعةٍ:
-اللي تؤمر بيه يا ريس.
ثم استدار مخاطبًا البقية بلهجةٍ جهورية صادحة:
-إيـــه؟ ما سمعتوش الكبير؟ على التَبَّة يا رجالة!
أطاعوه في الحال، واقتـــادوا هؤلاء الأذلة مكبلين الأيادي إلى سيارات الربع نقل، و”زهير” يشاهد ما يحدث مبتسمًا في سخريةٍ. انتظر انفضاض الحشد ليعلق:
-معقولة، جاي بنفسك يا “كرم”؟
حاوط الأخير شقيقه من كتفيه، وقال في اعتزازٍ:
-وأنا أقدر أسيب أخويا لواحده.
رد عليه بحاجبٍ مرفوعٍ للأعلى:
-مع إني أقدر عليهم.
شدد من قبضته على جانب ذراعه مرددًا:
-عارف ومتأكد من ده…
ثم غمز له بطرف عينه متابعًا:
-بس دي تيجي تبهدل نفسك واحنا لسه معملناش الواجب معاك؟
أزاح “زهير” يده قائلًا:
-كفاية حفلة النهاردة.
خاطبه “الهجام” في حماسٍ وهو يفرك كفيه معًا:
-هما لحقوا عملوا حاجة، ده أنا هاخدهم على الهادي.
استدار كلاهما مرة واحدة جهة اليسار عندما سمعا صوت “خضرة” وهي تهلل في ابتهاجٍ شديد:
-أيوه بقى يا كبيرنا، يا معلم الكل، يا سيد الناس، خلي الكلاب تعرف مين سيدهم.
تفاجأ “الهجام” بوجود “مروة” أيضًا، ترتجف ذعرًا لرؤيته، فجمد نظراته عليها متسائلًا بصوتٍ أجش:
-إنتو لسه هنا؟ ما طلعتوش على “توحيدة” ليه؟
وكأنها أرادت عن عمدٍ أن تطلعه على تفاصيل اندلاع المشاجرة منذ البداية، فاسترسلت “خضرة” موضحة دون تمهيدٍ، وقبضتها لا تزال ممسكة برسغ “مروة”:
-ما احنا كنا في طريقنا، بس في بت شتمت سي “زهير”، وهو كان نازل من العربية يأدبها ويعرفها مقامها.
نفخ “زهير” في سأم لتذكره السبب الذي استدعاه لفعل هذا، في حين تساءل “الهجام” مستفهمًا، بملامحٍ ممتعضة:
-بت مين دي؟
هزت كتفيها قائلة:
-مش عارفين.
سألها في نبرة تحقيقية وهو يحك مؤخرة عنقه:
-حد من المنطقة؟
ازدردت ريقها، وأجابته بتوجسٍ:
-معرفش.
اشتاط على الأخير، وراح يهدر عاليًا في زمجرة منزعجة:
-ما هي لو موجودة في بيت من دول هعرف أجيبها هي واللي خلفوها وآ…
لحظتها قاطعه “زهير” في سأمٍ مرددًا:
-كبر دماغك من التفاهات دي، وخلينا نرجع التَبًّة.
صاح محتجًا:
-برضوه هتطنش.
انتفضت “مروة” ارتعابًا على إثر صوته المجلجل، وتمنت لو استطاعت الفكاك من هنا، فوجودها في محيطه يصيبها بالمزيد من الرهبة والخوف.
أخبره في هدوءٍ:
-حكاية عبيطة ما تستاهلش.
رد عليه بعنادٍ:
-يا “زهير” لازم تعرف إن الغلطة الصغيرة زيها زي الكبيرة، الكل بيتحاسب عليها مهما غلط، وإلا هتلاقيهم ساقوا فيها.
رغم أن الأمر يمس كرامته، والإهانة موجهة لشخصه دونًا عن البقية، إلا أنه لم يعبأ حاليًا بذلك، وقال بعد زفرة ثقيلة:
-كفاية صـــداع، أنا جبت أخري، في ورانا مصالح بفلوس متعطلة.
على مضضٍ اضطر للإذعــان إلى رغبته قائلًا:
-ماشي كلامك، بس مسيرها تتعرف.
ثم وجه أمره إلى تابعته بلهجته التي لا تُرد:
-وإنتي يا بت يا “خضرة” لو شفتيها في أي حتة تقوليلي عليها.
أومأت برأسها في طاعة:
-عينيا يا كبير الناس.
طوح بيده في الهواء لهما مكملًا إلقاء أوامره:
-يالا غوروا.
في التو قامت بالاستجابة له، ودفعت “مروة” للتحرك معها، لتتنفس الأخيرة الصعداء لنجاتها منه، بينما ظلت عينا “كرم” تلاحقها، ليميل على شقيقه هامسًا:
-بقولك إيه ما ناخد “سمارة” معانا.
رمقه بهذه النظرة المحذرة قبل أن يدمدم في ضيقٍ:
-هنعيده تاني؟
اعتلى ثغره ابتسامة غريبة، وحادثه في نبرة ذات مغزى:
-اللي إنت عايزه هيتعمل.. أصلي لسه ما شبعتش منها!
فهم ما ترمي إليه نظراته قبل كلماته، واستحسن رضوخه لمطلبه دون جدالٍ مرددًا في حبورٍ:
-ماشي يا كبير…
ثم أشار بعينيه نحو سيارات ربع النقل منهيًا جملته:
-بس الأول نشوف العاركة اللي مستنياك.
……………………………………
استغرقها الأمر عدة دقائق لتركض من زقاقٍ لآخر، حتى تتمكن من الوصول إلى العمارة التي تسكن بها، تجنبًا للشغب الدائر بالمنطقة، أدهشها أن الأمر قد هدأ قبل أن يبدأ فعليًا، ومع ذلك لم تحاول الاستفسار أو الاستعلام عن هذه المسألة، يكفي أن كلتيهما بخير. تباطأت خطوات “دليلة” وهي تشكو إلى شقيقتها بأنفاسٍ شبه متقطعة:
-أهوو احنا ليل نهار على الحال ده.
ردت عليها في تعاطفٍ كبير:
-بجد الله يكون في عونكم…
ثم سحبت نفسًا عميقًا، ولفظته دفعة واحدة لتقول بعدها:
-أنا هحاول أخلي “راغب” يشوف حد من معارفه في البنك يسألكم على قرض مناسب تجيبوا بيه شقة.
ردت عليها “دليلة” بتبرمٍ:
-ما إنتي عارفة رأي بابا في موضوع القروض.
عقبت “إيمان” في جديةٍ وتفهم:
-على الأقل أحسن من الوضع بتاعكم، وده الحل المناسب ليكم…
التعبير الذي غطى وجهها أوحى بعدم اقتناعها بهذا، فأكدت لها شقيقتها الكبرى مبتسمة في لطافةٍ:
-بصي سيبي الحكاية دي عليا، أنا هكلمه، وأحاول أقنعه.
حررت تنهيدة راجية من رئتيها وهي تُتمتم داعية:
-يا ريت يرضى.
………………………………
اصطحبتها إلى مدخل العمارة، فألقت “إيمان” نظرة متأملة للمكان، بالطبع لم يكن الوضع بالجيد على الإطلاق أو الذي يليق بمستوى عائلتها الاجتماعي، تقلصت عضلات وجهها كتعبيرٍ عن شعورها بالتأفف والنفور. همست إلى شقيقتها متسائلة في تحيرٍ حينما رأت إحداهن تقف عند عتبة باب منزلها المفتوح، وكأنها تنتظرهما:
-مين دي؟
تنحنحت تكلمها في خفوتٍ:
-دلوقت هتعرفي.
ألصقت “دليلة” بشفتيها ابتسامة مصطنعة، واستطردت تخاطب “إعتدال” في تهذيب:
-إزي حضرتك؟
تجاوزتها بناظريها لتتطلع إلى من ورائها بنظراتٍ فاحصة مدققة شملتها من رأسها لأخمص قدميها، وهتفت:
-بنت حلال مصفي، ده الدنيا والعة على أول الشارع…
مررت عينيها بينهما متابعة:
-كويس إنكم بخير.
تساءلت “دليلة” في شيءٍ من الفضول:
-هو في إيه أصلًا؟
كوكالةٍ للأبناء لديها علم بكل شاردة وواردة، استرسلت موضحة:
-جماعة “العِترة” شبكت مع “الكوبارة” من تاني، وشكلها هتبقى بحور دم، وخصوصًا إن الاتنين ما بيفوتوش لبعض حاجة.
همهمت “دليلة” معقبة في قدرٍ من الخوف:
-ربنا يستر.
كعادتها المتطفلة تساءلت “إعتدال” وهي ترسم ابتسامة لزجة على شفتيها:
-مين القمراية دي؟ صاحبتك؟
أجابتها وهي تشير ناحيتها بيدها:
-لأ، أختي الكبيرة “إيمان”.
تفاجأت بها تدفعها للجانب لتتمكن من الوصول إلى شقيقتها، جذبتها دون مقدماتٍ إلى حضنها، وانهالت عليها بعشرات القبلات الترحيبية على وجنتيها هاتفة:
-ما شاء الله، بدر البدور زيك، أخيرًا شوفتك.
مرة ثانية أعطت “إيمان” نظرة حائرة تتساءل عن هوية تلك المرأة العجيبة، دون الحاجة لقول ذلك علنًا، بادرت “دليلة” بتعريفها إليها، وكأنها تخبرها بما تريد سماعه:
-الست “إعتدال” جارتنا اللطيفة.
حادثتها “إيمان” في احترامٍ:
-أهلًا وسهلًا بحضرتك.
استمرت على إمعان النظر بها، وقالت في إعجابٍ:
-ياختي ما شاء الله، متربية وبنت أصول.
اكتفت بالابتسام المجامل لها، لتتابع جارتهما الفضولية إلقاء أسئلتها التحقيقية:
-على كده متجوزة بقالك أد إيه؟
اضطرت أن تجيبها رغم انزعاجها من تطفلها:
-3 سنين.
في التو انتقلت لسؤالها التالي:
-وعندكم عيال؟
أجابت بحرجٍ مرسومٍ على تعبيرات وجهها:
-لسه ربنا مأذنش.
تصنعت الضيق، ورددت في شيءٍ من المواساة:
-يا عيني يا بنتي، بكرة ربنا يرزقك.
قالت في وداعةٍ:
-إن شاء الله.
من تلقاء نفسها أضافت “إعتدال”، وكأنها رفعت الكُلفة بينهما:
-أنا أعرف شيخ مبروك إنما إيه، على إيده بتتحل كل العقد والمشاكل، مافيش واحدة راحتله إلا وربنا جبر بخاطرها.
تحرجت “دليلة” للغاية من فجاجتها مع شقيقتها التي عجزت عن الرد عليها، فقالت في عبوسٍ ظاهر:
-مش وقته يا طنط.
في شيءٍ من العتاب صححت لها “إعتدال” وهي تفتعل الضحك:
-طنط إيه والجو ده؟ قوليلي يا خالتي على طول.
ثم عاودت التحديق في ثياب “إيمان” متسائلة:
-صحيح إيه اللي مبهدلك كده؟
وكأنها تملك الجواب قبل السؤال، فتولت أيضًا الرد مبتسمة بسخافةٍ:
-أكيد من الجري علشان الخناقة، ما هو الكل لازم ياخد ديله في سنانه ويقول يا فاكيك، بدل ما يتاخد في الرجلين.
ضجرت “دليلة” من لزاجتها، وأنفها المحشور في أمورٍ لا تعنيها مُطلقًا، لذا أمسكت بشقيقتها من معصمها، وسحبتها من أمامها قائلة بتعجلٍ، وهي تهم بالصعود للأعلى:
-معلش احنا متأخرين على ماما، وزمانها قلقانة علينا بسبب القلق اللي حاصل في الشارع.
لم تنتظر ردها، وانطلقت بها بعيدًا عنها، لتتبعهما “إعتدال” لعدة خطوات وهي تخبرهما:
-القلق اتفض في ساعتها، ده الريس “الهجام” بنفسه كان هنا.
لحظتها تساءلت “إيمان” في فضولٍ:
-مين ده كمان؟
سمعتها “إعتدال” من موضعها فأجابت من نفسها كالعادة:
-ده بقى كبير الحتة وآ…
مجددًا قاطعتها “دليلة” قائلة بتعجلٍ:
-معلش يا طنط.. قاصدي يا خالتي، احنا اتأخرنا على ماما، وتلاقيها قلقانة علينا، هنستأذنك.
وقفت “إعتدال” في منتصف بسطة السلم تتطلع إلى الأعلى، وقالت باسمة الثغر:
-وماله، مسيرنا نتقابل ونتكلم من تاني، أصلي أنا عِشرية وبحب الناس واللمة أوي.
ردت عليها “دليلة” بصوتٍ مرتفع وهي تواصل الصعود:
-أه طبعًا، عن إذنك.
أتى صوتها مرددًا:
-اتفضلوا يا حبايبي، سلامي لأمكم، وأنا هفوت عليها بعدين.
زفرت “دليلة” في استياء وضيق قبل أن تهسهس بصوتٍ خافت:
-ست فظيعة.
أيدتها شقيقتها في الرأي، وزادت عليها:
-مش ممكن، أنا أول مرة أقابل حد كده في حياتي.
بالكاد منعت نفسها من الضحك وهي ترد:
-ده الطبيعي هنا.
………………………….
بحرارةٍ ممزوجة بالسعادة الغامرة، استقبلت “عيشة” ابنتها، وراحت تضمها إلى صدرها لعدة دقائقٍ، متنعمة بدفء وجودها فيه، لا تريد إفلاتها، أو إبعادها عنها. ظلت كلتاهما على تلك الوضيعة إلى أن قالت “دليلة” بشيءٍ من الغيرة الطبيعية:
-أنا كده هزعل، عمرك يا ماما ما عملتي معايا ده.
ردت عليها تمازحها:
-لما تتجوزي هبقى أخدك في حضني زيها.
تصنعت العبوس وهي تسألها باستنكارٍ:
-ويعني لازم أتجوز علشان أتحضن؟
أشارت لها أمها لتركض إلى حضنها الأمومي الحاني قائلة:
-تعالي يا هبلة.
ضمتها هي الأخرى إليها، مستشعرة حلاوة وجود فلذتي كبدها معها. بعد برهة كان الثلاثة يجلسن على الأرائك متجاورات، لتتحدث “عيشة” أولًا في نبرة عبرت عن خوفها الغريزي:
-أنا قلبي وقع في رجليا لما شوفت من فوق الخناقة، قولت إنتو هتتحاشوا فيها.
مدحت “إيمان” شقيقتها في تفاخرٍ:
-“دليلة” طلعت ناصحة وطلعت بينا من حتت كده غريبة، أنا قولت تاهت، بس طلعت بتدور على سكة سالكة نعرف نيجي بيها على هنا.
ردت عليها أمها في نبرة شبه مهمومة:
-أنا لو أعرف إنك هتتبهدلي كده مكونتش وافقت إنك تيجي هنا.
مدت ابنتها الكبرى يدها ناحيتها، وأمسكت بكفها لتضغط بأصابعها عليه قائلة في وديةٍ:
-فداكم أي حاجة، المهم إني أشوفكم.
بدت نظراتها رقيقة، تحوم في عينيها سحابة أرق من الدموع وهي تسألها:
-لسه زعلانة مني يا ماما؟
هزت والدتها رأسها نافية:
-لأ يا حبيبتي، ما إنتي عارفاني بزعل وأتصافى بسرعة.
اشتدت ضغطتها اللطيفة على يدها قائلة بامتنانٍ:
-ربنا يخليكي ليا.
…………………………..
في مكتبة ما، قابعة في وسط المدينة، مختصة في بيع كل ما يلزم الطلبة من أدوات مدرسية ودراسية مختلفة، وقف “فهيم” في مؤخرتها، حيث يتواجد الباب الخشبي الفاصل بينها وبين المخزن الملحق بها، وبيده دفتر صغير. راح يحصي الأشياء الموجودة، ويدون عددها به، ليشعر بيد أحدهم توضع على كتفه، ابتسم في وقارٍ، ورحب بصاحب المكتبة الذي ألحقه بالعمل لديه بعدما ظل يجوس بين المحلات المختلفة باحثًا عن وظيفة تتناسب مع عمره، ليتقاضى منها أجرًا يساعده على الإنفاق على أسرته، ريثما تُحل مشكلة المخبر.
استطرد “رجائي” متسائلًا في اهتمام:
-إيه الأخبار؟
أجابه وهو يشير بالقلم نحو الكراتين المتراصة فوق بعضها البعض:
-الطلبية الجديدة وصلت، وأنا بفرزها.
هز رأسه في استحسانٍ، وعلق:
-كويس، عايزك بقى تعمل إحصائية بكل الوارد، وتسجلها.
رد عليه مشيرًا نحو الدفتر الذي بحوزته:
-ما أنا شغال فيها.
ابتسم متابعًا في جديةٍ:
-حلو، لما يجي ابني سلمه الدفاتر وإيصالات التوريد علشان يبص فيها هو كمان.
كان يعلم جيدًا أنه لا يثق بسهولة في الآخرين، لهذا تقبل أمره في تفهمٍ، واقتضب في رده:
-ماشي يا أستاذ “رجائي”.
قال الأخير كشيءٍ من الدعم المعنوي له:
-ربنا يقويك.
ظل محافظًا على ابتسامته الصغيرة قائلًا:
-تسلم يا رب.
تابعه بناظريه إلى أن انصرف بعيدًا عنه، وجلس على مكتبه، ليعاود التحديق بنظراتٍ شاردة في الكراتين، مستشعرًا تلك الغصة التي تؤلم حلقه، لولا تبدل الأحوال، وتغير الظروف لما اضطر للجوء لوظيفة متواضعة كتلك، يعامل فيها كالأجير، بدلًا من التنعم بالراحة والسلام في خريف عمره المنقضي.
أحس باهتزازة هاتفه المحمول في جيبه، فالتقطه منه، لينظر إلى شاشته، قرأ اسم السمسار عليه، فأجابه فورًا:
-أيوه يا “كيشو”، خير يا ابني؟
استطاع تبين القلق والتوتر من نبرة الأخير وهو يخبره:
-مش خير خالص يا عم “فهيم”.
انخلع قلبه في صدره، وسأله بتعابيرٍ مالت للشحوب:
-ليه يا ابني؟
جاء رده صادمًا، بل وجاعلًا قلبه يقصف بقوةٍ في رعبٍ أكبر:
-بسبب حوارك، الكُبار وقعوا في بعض، وشكلها هتبقى سواد على الكل

انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لجروب الواتساب اضغط هنا