رواية فوق جبال الهوان الفصل السادس عشر 16 بقلم منال سالم
رواية فوق جبال الهوان الفصل السادس عشر 16 هى رواية من كتابة منال سالم رواية فوق جبال الهوان الفصل السادس عشر 16 صدر لاول مرة على موقع التواصل الاجتماعى فيسبوك رواية فوق جبال الهوان الفصل السادس عشر 16 حقق تفاعل كبير على الفيسبوك لذلك سنعرض لكم رواية فوق جبال الهوان الفصل السادس عشر 16
رواية فوق جبال الهوان الفصل السادس عشر 16
الفصل الخامس عشر
كان يبدو في جلسته على المقعد الجلدي بداخل سيارته كالصنم، جامدًا، لا يُحرك ساكنًا، يُشاهد ما يجري ويدور وكأنه يتابع بذهولٍ وترقب أحداثًا مشوقة لفيلم تبثه إحدى القنوات الفضائية في عرضٍ أول وحصري، وليس واقعًا يُعاش بالفعل. صوت صراخها المتواصل بالقرب من أذنه أجبره على الاستفاقة من حالة الغيبوبة الذهنية التي سيطرت على مداركه، فالتفت إلى الجانب ليحدق بنظراتٍ شبه زائغة إلى "إيمان" وهي تهدر به:
-افتح الباب يا "راغب"!
لا إراديًا حرك إصبعه على زر القفل الإلكتروني المتحكم في جميع أبواب السيارة من جهته، لتتمكن من فتح الباب الملاصق لها، فاندفعت بعنفوانها وغضبها على الفور للخارج، لتتجه إلى "كرم"، وتتشاجر معه متناسية خوفها ورهبتها من أمثاله، حيث أمسكت به من ياقته بقبضتيها وصاحت فيه بجنونٍ:
-إنت عايز إيه من أختي؟
رمقها الأخير بنظرة غريبة، غامضة، متمعنة، وراح يتأمل ما تفعله بهدوءٍ مريب، وكأنه يستلذ بما يحدث، فاستمرت في هزه بأقصى طاقتها المدفوعة بالأدرينالين الحانق المسيطر على كافة خلايا جسدها، وهي لا تزال تصرخ في وجهه:
-سيبها، ملكش دعوة بيها! عايزين منها إيه؟
ناظرها عن قربٍ خطير، فلامست فيه ذلك الشيء المحفز لحواسه، خاصة الحسية منها، تلك التي تستثيره، وتدفعه نحو إشباع توقه لفرض سيطرته، والتحكم في زمام الأمور .. امتدت يداه لتمسك بقبضتيها، وانتزعهما عنه بلا مجهودٍ يذكر، لتشهق مصدومة من جراءته ووقاحته الفجة، خاصة وهي تستشعر أصابعه وهي تشتد عليها، قبل أن يسألها مبتسمًا في خبثٍ:
-خلصتي يا حلوة؟
حاولت تخليص يديها من بين كفيه القابضين عليها؛ لكنها عجزت عن التحرر منه، فصرخت فيه بهياجٍ أكبر:
-سيب إيدي، يا بلطجي، يا مجرم!
اشتعلت نظراته حنقًا من نعتها الملائم لوصفه، والتفت محدقًا في وجه زوجها الذي ما زال على حالة جموده العجيبة يسأله بتهكمٍ ساخر:
-ما تشوف مراتك يا نطع!!
ما لبث أن أصبحت نبرته مهددة بشكلٍ سافر عندما أتم كلامه:
-ولا مستغني عنها هي كمان؟
آنئذ استفاق من سباته الذهني، ليترجل من السيارة متجهًا إليهما، و"كرم" قد عاود الحديث إلى "إيمان" بتبجحٍ وقح:
-وأنا معنديش مانع أجمعك بأختك!
في التو ردت عليه باستحقارٍ شديد، ووجهها يتضرج بحمرته الغاضبة:
-إنت سافل وواطي!
ضحك هازئًا منها قبل أن يعلق:
-مقولتيش حاجة جديدة.
أخيرًا تدخل "راغب" بعدما تخلص من الحالة السلبية العجيبة التي كان عليها، لينتزع قبضتيه عن معصميها هاتفًا بحدةٍ:
-شيل إيدك عن مراتي!
أدار "كرم" وجهه ناحيته، وسأله بنفس الأسلوب التهكمي المهين:
-إنت موجود أصلًا، ده أنا نسيت إنك هنا!!
بدلًا من التشاجر معه، ورد اعتبار زوجته، والثـــأر منه لما اقترفه في حقها، ناهيك عن فداحة أفعاله مع شقيقتها المغلوبة على أمرها، تفاجأت "إيمان" به يجذبها من مرفقها ليعيدها إلى السيارة وهو يأمرها:
-تعالي معايا.
تدلى فكها للأسفل في ذهولٍ تام، قبل أن تقاوم سحبه نافضة ذراعها من بين أصابعه لترد بتحدٍ معاند:
-مش هسيب أختي مع البلطجية دول.
عاود الإمساك بها مؤكدًا في صوتٍ هامس وهو يضغط على أسنانه:
-هنتصرف ونرجعها.
رغم انخفاض نبرته إلا أن "كرم" تمكن من سماعه، وصاح يتحداه بترحابٍ:
-لو تقدر وريني!
تكفلت "إيمان" بالرد هذه المرة أيضًا:
-مش هنسيبها ليكم.
فرد ذراعيه على طولهما مبديًا استعداده للمواجهة مرددًا:
-وأنا مستني أشوف هتعملوا إيه!
ثم غمز بطرف عينه مختتمًا كلامه بفجاجةٍ:
-وخصوصًا الحلوة اللي معاك، أصلها مكيفاني.
عبارته الأخيرة كانت موحية للغاية، فصرت "إيمان" على أسنانها تمهيدًا لسبه:
-إنت...
قبل أن تفوه بشيءٍ تندم عليه لاحقًا، منعها "راغب" بأعجوبة وهو يمسك بفكها عنوة:
-ماترديش عليه! سمعاني؟
أزاحت قبضته عنها متسائلة في تحفزٍ مشوب بالغضب:
-إنت هتسيبوهم ياخدوها؟
أجبرها على ركوب السيارة معقبًا في وجومٍ:
-هنعمل إيه لواحدنا وسط العالم دول؟ هنرجعها بس بالعقل!
صاحت مستنكرة ما اعتبرته جبنًا يندى له الجبين:
-هو فيها لسه عقل؟ دي هتكون ضاعت مننا للأبد.
نفخ عاليًا، ولم ينطق بكلمة، لينظر إلى المقعد الخلفي للسيارة المتناثر عليه الزجاج المهشم، وهذا الصوت يردد في رأسه:
-أنا كان مالي ومال الحوارات دي!
ظلت عينا "إيمان" مرتكزتان على "كرم" الذي أشار لرجاله ليغادروا المكان، بينما أخذ يتبختر في مشيته المتباهية وهو يدندن بصافرة مستمتعة، كأنما يتعمد إغاظتهما بإظهار مدى سطوته وقوته.
.................................
في تلك الأثناء، كانت "دليلة" تقاوم محاولة اختطافها قسرًا بأقصى ما تستطيع، ما إن وضعها "زهير" بداخل السيارة، حتى راحت تضرب بيديها، وتركل بقدميها، على أمل أن تنجح في الفكاك من الأسر؛ لكنها فشلت أمام قوته المسيطرة، فتمكن من تحجيم ثورتها، وطوقها بذراعيها مستخدمًا قبضتيه القويتين لتصبح مقيدة، دنا من رأسها وهمس بالقرب من أذنها:
-إهدي..
لم تكف عن الصراخ، فاستمرت تصيح رغم البحة التي نالت من حنجرتها:
-ابعدوا عني يا كلاب، يا مجرمين!
استنجدت بالمارة في الطريق، لعل وعسى يرأف بها أحدهم ويقدم لها يد العون:
-الحقوني يا ناس، أنا مخطوفة.
اضطر "زهير" لتكميم فمها، بوضع يده عليه، فأجبر جوفها على حبس أصوات صراخها وهو يأمرها:
-اسكتي شوية، واهدي كده.
شعر بأنفاسها الحارقة على جلد كفه، فاستنفر تمامًا، وتخبطت أفكاره، لم تكن تلك المخططات على هواه، ومع هذا لم يعترض على تنفيذها، ورضخ لرغبة شقيقه في الظفر بما يطمح ويريد، وإلا لتعامل بطريقته، وهذا جلَّ ما يقلقه، اندفاعه الأهوج!
قام أحد أتباعه بوضع مادة مخدرة على منديل قماشي، وناوله إليه قائلًا بتعجلٍ:
-خد ده يا ريسنا هيريحنا من دوشتها.
اضطر على مضضٍ أن يأخذه منه، ووضعه على أنفها ليجبرها على استنشاق ما به هامسًا:
-متقلقيش، محدش هيأذيكي.
سرعان ما شعر بتراخي أطرافها، وباستكانة جسدها المتشنج، فاستمر في همسه، إذ ربما تشعر بالأمان ناحيته:
-عايزك تتأكدي من ده ..
أزاح يده عن فمها فخرجت منه استغاثة أخيرة ضاعت بقيتها بسبب زحف الظلام على وعيها:
-الحقــو...
تثاقل جسدها على كتفه، فحركها قليلًا لتتمدد بجواره على المقعد الخلفي، وأمر تابعه:
-اطلع بالعربية أوام.
استجاب له في الحال:
-تمام يا ريسنا.
استغل "زهير" الفرصة لينظر إلى تلك المستكينة بجواره بنظراتٍ قلقة متأملة لسكونها الزائف، فإن كان قلبه قد رقَّ واستمال إليها بشكلٍ استغرب منه بعد فترة من الجفاف العاطفي، إلا أنه خشي من تبعات ما أقدم عليه إرضاءً لشقيقه!
........................................
ها قد أتت فرصتها على طبقٍ من فضة، وحانت لحظة الانتقـــام، وأخذ الحق ممن سلبتها كل شيء، حتى رضيعها البريء لم يسلم من شرها المستطير، أقسمت "وِزة" بأغلظ الأيمان وأشدها بألا تترك عدوتها اللدودة أو تدعها سوى بعد أن تذيقها من نفس كأس الظلم والاضطهاد حتى تدرك مدى البؤس الذي عاشت فيه مثيلاتها ممن لا تملكن حتى حق الاختيار.
تأنقتٍ في ثيابٍ مزركشة، وأفرطت في وضع مساحيق التجميل بشكلٍ ملفتٍ ولا يخلو من الإغراء قبل أن تذهب مع أحد أتباع زوجها إلى بيت "توحيدة". صعدت على الدرج وهي تشحذ قواها المعنوية لهذه المواجهة المصيرية، فإن ارتاعت أو حل بها الخوف لن تنجح في مسعاها. تنفست بعمقٍ حينما وقفت أمام الباب، ثم كورت قبضتها وطرقت عليه بكل قوةٍ. سمعت "خضرة" تهتف من الداخل:
-شوفي مين بيرزع على الباب كده!
هيأت نفسها وتأهبت لبدء أولى خطوات فرض نفوذها، فبمجرد أن فُتح الباب، دفعت إحدى تلك الفتيات بخشونةٍ من كتفها، وأمرتها في عجرفةٍ وتعالٍ:
-وسعي يا مزغودة!
اندهشت الشابة لتصرفها الغريب معها، ورمقتها بنظرة متعجبةٍ، بينما أقبلت عليها "خضرة" تلومها في لهجةٍ محذرة:
-إنتي اتجننتي يا "لوزة"؟
صححت لها جملتها بغرورٍ واضح وهي تشير بيدها للأعلى:
-اسمي الست "لوزة" أو أبلتك لو تحبي يا بت يا "خضرة"!
رددت في استنكارٍ:
-بت!
أعادت على مسامعها ما قيل سابقًا بلهجة صارمة:
-هو إنتي نسيتي إن "الهجام" بنفسه أمر أكون ست البيت ده؟ وأنا جاية أخد وضعي فيه!
على إثر صوتها المرتفع خرجت "توحيدة" من غرفتها لتصيح فيها بنبرة استعلاءٍ ممزوجة بالازدراء:
-مين دي اللي بتتكلم؟ صحيح القوالب نامت، والأنصاص قامت!!
أطلقت "وِزة" ضحكة عالية هازئة منها، لتعلق بعدها بسخرية فجة:
-ياختي إيه الصوت الوحش ده؟ بقرة بتنعر!
في التو غلت الدماء في عروقها، واستشاطت غضبًا وغيظًا من وصفها المهين، لتهب مندفعة نحوها قاصدة الاشتباك معها وهي تصرخ في وجهها:
-مين دي اللي بقرة يا بنت الـ....!!!
بالكاد نجحت "خضرة" في منعها من بلوغها، واستوقفتها بصعوبةٍ قبل أن تمتد يديها لتصل إليها، ويحدث ما لا يُحمد عقباه، وأخذت تتوسل إليها برجاءٍ:
-بالله عليكي يا ستي تهدي.
بينما حذرتها "وِزة" بنبرة غير ممازحة، وهي ترفع حاجبها للأعلى:
-حاسبي على لسانك، بدل ما تلاقي نفسك في كلمة ونص برا المكان كله يا .. "توحيدة".
جن جنونها من أسلوبها هذا، واستمرت في صراخها الثائر بها:
-البت اتخبلت في مخها؟ ما تفوقي لنفسك يا "لوزة"؟ ده أنا اللي عملتك.
مجددًا ضحكت في استخفافٍ، وبترت ضحكتها في المنتصف قائلة بقوةٍ:
-اسمي الست "لوزة"، وكلمتي من هنا ورايح هي اللي ماشية في البيت ده...
ثم تعمدت أن تزيد من استفزازها باستكمال كلامها وهي تشير بيدها نحو غرفة بعينها:
-وروحي يا "خضرة" وضبي أوضتي دي، أصل أنا الشوق هفني أنام فيها!
تصاعد غضب "توحيدة" بشدةٍ عندما أدركت أنها تنوي الانتقال إلى غرفة نومها الرئيسية والمكوث بها كأنها تملكها، وانتفضت تحتج عليها:
-أهوو ده اللي ناقص!!!
نظرت إليها ببرودٍ قبل أن تقول:
-إيه مش عاجبك؟ بتعصي أوامر كبيرنا؟ ده بنفسه اللي حكم يا ادلعدي!!
ثم تركتها تنكوي بنيران حقدها وحنقها، وولجت إلى داخل الغرفة لتنظر بنفورٍ واشمئزازٍ إلى محتوياتها، وهتفت عاليًا متعمدة أن يصل صوتها إلى كل من يقطن هذا البيت:
-يا "خضرة"! تعالي شيلي الزبالة والقرف ده كله، عايزة المكان ينضف من الوســـاخة اللي كانت فيه! أصل المعلم "عباس" شوية وجاي، فلازم أتوضب وأدلعله، ما أنا مراته مش سد خانة!
على قدر استطاعتها منعت "خضرة" ربة عملها من التشاحن مع هذه المرأة التي تتعمد استفزازها لأقصى درجة، والأخيرة تصيح في هياجٍ متزايد:
-البت دي عايزاني أطبق في زمارة رقبتها.
رجتها في حنكةٍ ومكر:
-اهدي يا أبلتي، بالراحة، مسيرك هتخلصي منها، شوية صبر وكل حاجة هتيجي في وقتها.
وكأن رصيدها من الصبر قد نفد دفعة واحدة، لم تعبأ بنصائحها، وهدرت معاندة:
-وربنا ما هسكت، يا أنا يا هي!!!
................................
مذعنًا للظرف الراهن، اصطحب "راغب" زوجته إلى منزل عائلتها لإبلاغ أبويها وجهًا لوجه بما طرأ من تطوراتٍ خطيرة، فاستقبلت "عيشة" الأنباء غير السارة بالعويل والصراخ، فماذا عن "فهيم" إن علم هو الآخر بما جرى؟!
تحول بُكاء "إيمان" مع الوقت إلى نحيبٍ مكتوم، خاصة ووالدتها تلقي عليها بكامل اللوم، فوجهت إليها إصبع الاتهام هاتفة ببكاءٍ مرير:
-سيبتي أختك تروح مننا كده؟ فرطتي فيها كده بالساهل؟!!
فقدت قدرتها على الدفاع عن نفسها، فهي بالفعل لم تقم بدورها كشقيقة كبرى، وتدفع بالغالي والنفيس لإنقاذ شقيقتها المدلــلة من براثن هؤلاء الطغاة الأشرار، اشتد بكائها مرة أخرى في عجزٍ وقهر، وهي لا تجد ما تجيب به عليها!
أمسكت "عيشة" بمنديلها الورقي المهترئ، ومسحت به أنفها الرطب قبل أن تسأل زوج ابنتها الصامت:
-وإنت كنت فين يا "راغب"؟ هانت عليك؟ دي في مقام أختك الصغيرة؟
سدَّ عن عمدٍ أذنيه عما يُقال، فلا طائل من الشكوى الآن، المهم ما سيحدث لاحقًا، اكتفى بالإصغاء إلى عويل حماته وهي تتابع في أسى وحسرة:
-ده شرفنا وعرضنا اللي راح واتمرمغ في الوحل!!!
عادت لتلوم ابنتها بسؤالها:
-طب هقول لأبوكي إيه لما يرجع؟
ارتفع صوت "عيشة" الباكي، خاصة وهي تكمل:
-ده ممكن يطب فيها ويروح مني هو كمان!
ثم أخذت تضرب على فخذيها تارةً، وعلى صدرها تارة أخرى وهي مستمرة في ندبها:
-أعمل إيه يا ربي؟
أخيرًا قرر "راغب" الخروج عن جموده المغيظ، وقال كنوعٍ من إظهار التعاطف اللحظي:
-كل حاجة هتتحل يا حماتي.
صرخت فيه بانفعالٍ مبرر:
-إزاي؟ قولي إزاي؟
وضع يده على مؤخرة عنقه ليفركه، وقال بترددٍ محسوس في نبرته:
-هنشوف، أكيد مش هنسيبها!
فهمت "إيمان" أن زوجها يحاول تخفيف وطأة قساوة الواقع عن والدتها؛ لكنه زاد الطين بلة بحديثه اللزج وغير المقنع، فعلقت للمرة الأولى بفظاظةٍ استغربت حالها منها:
-يا ريت تنقطنا بسكاتك أحسن!
تحرج من وقاحتها غير المستساغة عليه، ومال ناحيتها ليهمس لها محذرًا:
-أنا مش هحاسبك على طريقتك دي علشان مقدر الحالة اللي إنتي فيها، غير كده كان هيبقالي تصرف تاني خالص.
نظرت إليه شزرًا من طرف عينها، ولم تبالِ إن كانت ستنال عقوبة قاسية منه أم لا، فقد سقط من نظرها منذ اللحظة التي تخلى فيها عن حماية شقيقتها المسكينة، وجلس كالأبله يشاهد ما تمر به بجمودٍ لم تتوقعه مطلقًا، وكأنه لا يكترث بمصيرها على الإطلاق .. لقد أدركت في هذا الموقف المعقد تحديدًا أنها تغاضت عن الكثير من طباعه الحادة وسماته غير المقبولة في مقابل مواقفه الرجولية التي من المفترض أن تظهر في مثل تلك الظروف الشائكة؛ لكن عدم مبالاته وسلبيته الفظيعة فاقتا ما كان يدفعها للتعايش معه وتحمله، استحقرته للغاية، وأصبحت تتطلع إليه من منظور مغاير كليًا لما اعتادت عليه معه.
انتشلها من تحديقها الشارد فيه هتاف أمها المكلومة:
-يا ترى إنتي عاملة إيه دلوقت يا "دليلة"؟!!!
.............................
في مكانٍ آخر، شبه معزول عن الحضر، محاط من كل جانب بأسوار حجرية عالية، وأشجار كثيفة تحجب أعين من يمر –مصادفة- بالخارج عما يدور بالداخل، عبرت سيارته البوابة الرئيسية، ليأتي أمره بغلقها بالسلاسل الحديدية، وتشديد الحراسة على غير العادة.
ترجل "زهير" أولًا من السيارة، وألقى نظرة شمولية على محيط أرجاء فيلته، تلك التي كان لا يأتي إليها إلا نادرًا، ثم انحنى بحذرٍ نحو الداخل ليتمكن من سحب "دليلة" ناحيتها، وقام بحملها بين ذراعيه، ليسير بها نحو الدرج الرخامي صاعدًا إياه بخطواتٍ شبه سريعة، سبقه أحد أتباعه ليفتح الباب إليه، وتنحى جانبًا، فمرق من جوارها متوجهًا للبهو المتسع، حيث كانت تنتظره إحدى الخادمات، فسألها بجديةٍ:
-أوضة الهانم جاهزة؟
أجابته وهي تومئ برأسها إيجابًا:
-أيوه يا بيه.
لم يقل المزيد، وواصل مشيه السريع نحو سلم الدرج ليصعده في خفه، ومنه عرج إلى رواق جانبي قصير، يفيض في نهايته لغرفة النوم الرئيسية، دفع الباب الموارب بقدمه، ثم اتجه إلى الفراش الواسع الذي يتوسط الغرفة، ليمدد "دليلة" عليه.
وضعها بحذرٍ قبل أن يطرح رأسها على الوسادة، ثم سحب الغطاء عليها، ومد يده ليمسد برفقٍ على وجنتها هامسًا بما يشبه الوعد:
-غصب عني اللي حصل ده كله، بس اطمني، مافيش حاجة هتأذيكي.
تطلع إليها بنظرة مطولة قبل أن ينصرف من الغرفة موصدًا الباب من ورائه، هبط على الدرجات مجددًا، حيث كانت الخادمة لا تزال تنتظره بالأسفل ليوجه إليها أمره الصارم:
-تفضلي جمب الهانم، ما تسيبهاش للحظة، ولما تفوق تكلميني سامعة؟
ردت في طاعة تامة:
-حاضر يا بيه.
غادر بعدها الفيلا، ليلحق به تابعه متسائلًا:
-على فين يا ريسنا؟
أجابه بعزمٍ وهو يسرع في خطاه:
-راجعين التبة!
...................................
بدا كالموتى الأحياء حينما تلقى الأخبار الصادمة، فبرزت عيناه، وشحب لون بشرته للغاية، ليفيق من صدمته على سؤالٍ لم يجد له جوابًا حتى هذه اللحظة:
-بنتي كده ضاعت؟!!
ارتاعت "إيمان" من احتمالية تعرض والدها لأزمة صحية جراء عصبيته المفرطة، وهتفت ترجوه في خوفٍ شديد:
-اهدى يا بابا، الانفعال مش حلو علشانك!
صاح في يأسٍ وهو ينظر بعينين زائغتين إلى زوجته وابنته:
-أومال أنا كنت بعمل كل ده ليه؟
ارتفع صوت نشيج "عيشة"، فهتف بإصرارٍ:
-أنا هبلغ البوليس، هي أكيد في الحتة المقطوعة اللي اسمها التَبَّة دي.
بعد لحظاتٍ من الصمت الطويل، والبرود المغيظ، تكلم "راغب" أخيرًا، وقد أجبر نفسه على النهوض من جلسته:
-وتفتكر يا عمي هما أغبية علشان ياخدوها هناك؟
لم تتحمل "إيمان" نبرة صوته، بدا كالهم على القلب، فحذرته في وقاحةٍ:
-يا ريت ما تعلقش، ده موضوع يخصنا.
اغتاظ من تجاوزها معه، وهسهس من بين أسنانه بعدما اقترب منها، ليجبرها على سماعه هو فقط:
-لتاني مرة بتغلطي؟
نظرت إليه بدونيةٍ قبل أن تعقب بعباراتٍ موحية تمس كرامته:
-كنت اتشملل وأقف قصاد البلطجي اللي كان هيجرني مع أختي لولا ستر ربنا.
كاد أن يتشاحن معها لولا أن تدخلت والدتها لتنهر كليهما بضيقٍ:
-مش وقت خناق، خلونا نفكر.
باندفاعٍ أبوي مبررٍ، هتف "فهيم" بتصميمٍ وهو ينتفض مسرعًا نحو باب المنزل:
-أنا رايحلهم، ومش راجع إلا وبنتي معايا!!!
انطلق نحو الخارج، وصوت "إيمان" يلاحقه:
-استنى يا بابا! ما تروحش لواحدك...
سرعان ما التفتت "عيشة" نحو زوج ابنتها ترجوه باستعطافٍ وهي تربت على كتفه:
-انزل يا "راغب" معاه، ما تسبوش يا ابني، الحكاية مش ناقصة.
تجهمت كامل تعابيره، واضطر أسفًا أن يتبعه بغير رضا منه، فلحق به وهو يدمدم مع نفسه:
-حد يروح لقضــاه برجليه .......................... !!!!