رواية فوق جبال الهوان الفصل الرابع عشر 14 بقلم منال سالم
رواية فوق جبال الهوان الفصل الرابع عشر 14 هى رواية من كتابة منال سالم رواية فوق جبال الهوان الفصل الرابع عشر 14 صدر لاول مرة على موقع التواصل الاجتماعى فيسبوك رواية فوق جبال الهوان الفصل الرابع عشر 14 حقق تفاعل كبير على الفيسبوك لذلك سنعرض لكم رواية فوق جبال الهوان الفصل الرابع عشر 14
رواية فوق جبال الهوان الفصل الرابع عشر 14
مفاجأة غير متوقعة على الإطلاق أن يجتمع كل هؤلاء المتشاحنين في منزله، وكأن صالته قد تحولت إلى ساحة معركة، تستعد فيها القوات على الجانبين لإشارة بدء الاقتتال. تقدم “زهير” في خطاه حتى بات في مواجهة “درويش”، فاضطرت ملامح الأخير، وتوترت نظراته، خاصة مع رؤيته للهيئة المتأهبة التي جاء بها إلى هنا فيما يبدو وكأنه ينتوي الانقضاض عليه. عفويًا ردد لسانه في شيءٍ من الذهول والتوجس:
-معلم “زهير”!
رد عليه بنبرة تهكمية، وهذه النظرة الهازئة تطل من حدقتيه:
-بشحمه ولحمه…
ثم فرقع بإصبعيه مُلقيًا بأمره الصارم على أتباعه الذين اتخذوا مواضعهم حول رجال “درويش”، وكأنهم يفرضون طوقًا مُحكمًا عليهم:
-خدوا الواغش دول ونزلوهم لتحت.
أوشك “درويش” على النطق بشيء ليبدي احتجاجه على تسلطه؛ لكن أخرسه “زهير” بسؤاله المتحفز وهو يرفع يده أمام وجهه:
-عندك اعتراض يا حاج؟
على مضضٍ قال، وقد انقلبت سحنته بشدة:
-لأ، بس إنتو كده بتفتروا جامد، وناسيين أنا تبع مين!!
في أقل من لحظاتٍ تم إخلاء صالة المنزل من الجميع، فيما عدا صاحبه وضيفيه المتناحرين.
ضحك “زهير” ساخرًا من “درويش” قبل أن يستطرد مرددًا بجدية تامة، وهذه النظرة المخيفة تطل من حدقتيه:
-قول للعِترة حبيبك أنا مستنيه، وهو عارف يلاقيني فين!
ثم دنا منه، ومال برأسه عليه ليهمس بالقرب من أذنه:
-ولو اتكرر تاني إنك جيت هنا، هخسرك رجليك!
بهتت تعابير “درويش” مصعوقًا، برزت عيناه بشدة وسأله في غير تصديقٍ:
-إنت بتهددني؟
بثقةٍ عجيبة أخبره، دون أن تهتز عضلة من وجهه القاسي:
-أنا ما بهددش، اللي بأمر بيه بيتنفذ على طول!
غلت الدماء في عروق “درويش”، وعجز عن الرد عليه، فما كان منه إلا أن التفت إلى “فهيم” ليصب جام حنقه عليه:
-إنت كسبت عداوتي يا “فهيم”، فما ترجعش تزعل.
اغتاظ “زهير” مما اعتبره تجاهله لما يفوه به، فوضع يده على كتفه يأمره:
-بصلي هنا، الكلام معايا أنا.
نفض “درويش” قبضته بعيدًا عنه، وقال في وجومٍ ممزوجٍ بضيق:
-لا إنت ولا غيرك يا معلم!
ثم انصرف بعدها مبرطمًا بحنقٍ:
-مات الكلام.
شيعه “زهير” بناظريه، وقال باستخفافٍ:
-حلو، نشوف هنطلع على قبر مين الأول نقراله الفاتحة.
ما إن غادر “درويش” حتى التفت نحو “فهيم” الذي بدا مهزوزًا وهو يحافظ البحث عن لفظة البدء لشكره على ما اعتبره مجازًا معروفه معه:
-أنا .. آ..
أشار له “زهير” بيده قبل أن يخاطبه: رافعًا عنه الحرج
-ما تقولش حاجة..
ازدرد الأخير ريقه في حلقه الجاف، وتكلم بترددٍ:
-كتر خيرك يا معلم، أنا مستعد أدفع تمن حمايتك لينا، وآ…
أجبره على ابتلاع باقي جملته المتذللة بقوله المتجاهل له، حينما خاطب أحد أتباعه الأشداء ممن انتظر على البسطة:
-إنت ياض ..
جاء إليه على الفور، فأمره:
-شوف نجار يصلح الباب ده.
امتثل إليه مرددًا وهو يومئ برأسه:
-حاضر يا كبير.
عاود “زهير” التطلع بعدها إلى “فهيم”، فدنا منه إلى أن وقف قبالته تمامًا، رفع يده للأعلى وربت على كتفه قائلًا بنبرة غامضة، جعلت بدنه يقشعر:
-لسه الكلام بينا جاي!
استشعر الخطر من طريقته غير المريحة في الحديث، ومع هذا لم يجرؤ على التفوه بشيء، وظل متسمرًا في موضع وقوفه ينظر إليه بقلقٍ وريبة.
دار “زهير” ببصره في الأرجاء، محاولة رؤية “دليلة”؛ لكنها لم تظهر مطلقًا، فبدا منزعجًا قليلًا، وغادر فجأة دون قول شيء، تاركًا بعض أتباعه في المكان للتأكد من إعادة كل شيء لوضعه السابق.
………………………………
ظلت “عيشة” حبيسة الغرفة مع ابنتها، تتضرع إلى المولى أن يمضي الأمر على خير، وألا تقع العائلة في مزيد من المشاكل، بالكاد حافظت على رباطة جأشها ريثما جاء إليهما “فهيم”، فأقبلت عليه تسأله على الفور:
-إيه اللي حصل؟ ومين دول؟ وهما لسه برا؟
بدأ بالإجابة على سؤالها الأخير:
-لأ مشوا…
انتظرت أن يكمل باقي أجوبته؛ لكن النظرة المهمومة التي تكسو وجهها أوحت بالكثير، جلس على طرف الفراش، ووزع نظراته بين زوجته وابنته، ليستطرد:
-الليلة كبرت أوي يا “عيشة”، وأنا حاسس إني عاجز ومش قادر أعمل حاجة.
لطمت على صدرها مرددة:
-يا لهوي!!
تجمدت نظرته العاجزة على ابنته مكملًا بتوجسٍ أبوي متزايد:
-وبقيت خايف أكتر على “دليلة”!
جملته تلك جعلت قلب “عيشة” يقذف في رعبٍ، فقد احتوت على تلميحاتٍ متوارية باحتمالية تعرضها إما للاعتداء أو الإيذاء كوسيلة للانتقام منه بطريقة مسيئة للسمعة والشرف. سألته “دليلة” في خوف:
-قصدك إيه يا بابا؟
لم يجبها “فهيم”، وشرد لهنيهة في أفكاره ليحسم أمره في النهاية بعزمٍ شديد:
-إنتي لازمًا تمشي من هنا.
وافقته زوجته الرأي، وقالت بتصميمٍ:
-من صباحية ربنا هتروح عند “إيمان”.
زاد عليها بحديثه:
-وأنا هسافر عند عمتها أرتب معاها قعادها عندها.
كانت “دليلة” غالبية الوقت تصغي إليهما دون مقاطعة، إلى أن قررا تغيير نمط حياتها فجأة، لهذا تساءلت في تحيرٍ قلق:
-وكليتي؟ ودراستي؟
أخبرها والدها بصوته الجاد رغم رنة الخوف المتسللة إليه:
-هنعملك أجازة مرضي، وتبقي تيجي على الامتحانات.
هزت رأسها موافقة، بينما تكلمت أمها مؤيدة إياه:
-بالظبط كده، أي حاجة فيها مصلحتك وبُعدك عن الليلة دي كلها هنعملها.
علق عليها “فهيم” مومئًا برأسه:
-خلاص، توكلنا على الله!
تخلل إلى وجدان “دليلة” شعورًا بالارتياح بالرغم من الهواجس التي تؤرقها عن هذا الصراع الذي تورطت فيه بلا داعٍ، إلا أنها كانت واثقة تمامًا من سعي أبويها لدعمها وحمايتها بشتى الطرق!
……………………………….
بالطبع لم تكن كل الأطراف راضية عن مثل هذه القرارات الفجائية والمصيرية، ومع ذلك أُرغم “راغب” على السير مع التيار، والقبول بمكوث شقيقة زوجته لعدة أيامٍ في مقابل مادي مجزٍ؛ لكن ذلك لم يمنعه من الشكوى والتذمر من وجودها، خاصة أن الأمر أصبح ممتدًا لما يقرب من الأسبوع، فهسهس في تبرمٍ وهو يبدل ثياب العمل بأخرى مريحة بعدما عاد إلى بيته:
-شكل أختك هتطول في أعدتها هنا!
علقت “إيمان” سترته على المشجب، وطوت قميصه تمهيدًا لغسله وهي تخاطبه بتعابيرٍ مستاءة من تحامله الزائد على والدها رغم مساهمته المادية في نفقات شقيقتها، لئلا تكون عبئًا عليهما:
-معرفش لسه يا “راغب”، بس هما يومين تلاتة بالكتير كمان، لحد ما تروح عند عمتي.
ردد في سخطٍ:
-أبوكي شكله هيطلع بؤ، وأختى هتبرشط هنا.
لملمت جواربه الملقاة بإهمالٍ عند طرف الفراش، وعقبت بهدوءٍ:
-معلش يا حبيبي، استحمل شوية، مش فاضل كتير.
سدد لها نظرة حادة، ولم يقل شيئًا، واتجه إلى الحمام الملحق بالغرفة ليغسل وجهه وكفيه، فأخبرته وهي تحضر المنشفة له:
-دقايق والأكل هيكون جاهز.
شدها منها، وجفف ما ابتل منه، ثم ألقاها بغير مبالاة على الأريكة، ليستلقي بعدها على الفراش، وضع يده خلف رأسه، وحدق في بقايا أثرها بعدما غادرت الغرفة، وهو يغمغم مع نفسه بنقمٍ:
-حاجة تخنق بجد، الواحد مش عارف ياخد راحته في بيته.
ثم أطلق سبة خافتة، وتمطى بذراعيه منتظرًا نداء زوجته للنهوض وتناول الطعام.
………………………………..
على الجانب الآخر، حاولت “دليلة” قدر المستطاع ألا تكون مصدرًا للإزعاج لشقيقتها وزوجها، فانزوت في غرفة الأطفال غالبية الوقت، لا تخرج إلا للذهاب إلى الحمام الصغير، أو المساعدة في ترتيب المنزل وطهي الطعام حينما لا يكون “راغب” متواجدًا بالبيت تجنبًا لتعليقاته السخيفة وتلميحاته المستفزة. كالعادة تلقت مساءً مكالمة هاتفية من والدتها قبل أن تذهب للنوم لتفقد أحوالها، فسألتها “عيشة” في اهتمامٍ:
-مرتاحة عندك يا حبيبتي؟
زفرت مليًا، وادعت كذبًا:
-أيوه يا ماما، الحمدلله .. كله تمام.
تابعت أمها الحديث في جدية:
-أبوكي عند عمتك، وإن شاءالله لما يرجع هيوديكي عندها.
مررت “دليلة” يدها في خصلات شعرها المنسابة على الوسادة، وسألتها:
-بس مش هتقل عليها؟ هي عندها عيالها وجوزها!!
سمعت صوت تنهيدة أنفاسها قبل أن تخبرها:
-ده وضع مؤقت، لحد ما الغُمة تنزاح.
تنهدت مثلها، وردت:
-ربنا ييسر.
عادت “عيشة” تسألها في اهتمامٍ:
-هتروحي كليتك بكرة؟
أجابتها وهي تلقي نظرة تلقائية على المظروف الورقي الموضوع على طرف الكومود الملاصق لها:
-أيوه، هقدم الورق اللي بابا خلصه بتاع الأجازة المرضي علشان غيابي عن المحاضرات.
هتفت والدتها تضيف في ارتياحٍ:
-الحمدلله إننا نعرف حد في الصحة، وإلا كان زمانا في حيص بيص.
عقبت عليها ابنتها بسخطٍ:
-ما هو كله ماشي بالواسطة اليومين دول.
استطردت والدتها تخبرها بشيءٍ من التوصية:
-بقولك خلي جوز أختك يوصلك، رجلك على رجله.
امتعضت قسمات وجهها، وسألتها في وجومٍ:
-طب وهو عارف ده؟
في التو أكدت لها:
-أبوكي موصيه، ومقبضه كمان.
جاء تعليقها في شيءٍ من الازدراء:
-على الله يتمر!
ردت عليها أمها:
-أدينا بنعمل اللي علينا معاه، وكله علشان أختك تكون مبسوطة.
همهمت بغير اقتناعٍ:
-أتمنى ده.
واصلت الحديث معها عن أمور شتى إلى أن سمعت رنة أشبه بالضجيج تعلن عن قرب انتهاء شحن بطاريتها، فاختتمت والدتها معها المكالمة بتوصيتها المتكررة:
-خدي بالك من نفسك يا حبيبتي.
حررت زفرة بطيئة من رئتيها قبل أن تهمس:
-حاضر يا ماما.
كالعادة طلبت منها في حنو أمومي:
-وسلميلي على أختك.
ابتسمت قليلًا، وردت:
-ماشي.
أغلقت الاتصال، وأعادت وصل الهاتف بالشاحن، ثم تمددت على جانبها من الفراش، حاولت ألا ترهق عقلها بالتفكير فيما يحمله الغد لها، فلن يكون أخطر من البقاء في هذه المنطقة المشبعة بكل ما هو ملبك للأبدان، خاصة من يفتقرون للنفوذ والسلطة.
………………………………….
أيامه كانت حافلة بالكثير من الأمور المتعلقة بمصالح عائلة “الهجام” وسطوتها، فانشغل عن شأنها، والتهى عن السؤال عن تفاصيل أحوالها، إلى أن أصبح شبه متفرغًا، فاستدعى “حمص” للاستعلام منه عنها، ليتفاجأ بغيابها التام عن منزلها، بل والمنطقة بأسرها، فانقبض قلبه، وبات في قمة غضبه.
هدر “زهير” في بعصبيةٍ، تعجب في قرارة نفسه من سيطرتها عليه، وهو الذي يمتاز بهدوئه وبروده:
-يعني إيه البت ماظهرتش تاني؟ وده حصل من إمتى؟
بحذرٍ واضح عليه، تكلم “حمص” وهو يطالعه بهذه النظرة المترقبة:
-من ساعة ما أبوها خرج معاها الصبح من كام يوم، وهو رجع من غيرها.
أردف “سِنجة” موضحًا:
-وأنا وقت ما استلمت المراقبة من “حمص” ماشوفتهاش لا رجعت ولا ظهرت.
أضاف عليهما “شيكاغو” هو الآخر:
-وأنا شرحه يا ريس.
استمر “إزاي” على هديره الغاضب وهو ينتقل لسؤاله التالي:
-وإزاي معنديش خبر بده من ساعتها؟
بطرف عينه نظر “حمص” إلى “عباس”، وأخبره:
-ما احنا بلغنا الريس “عباس”!
في التو دافع الأخير عن نفسه مبررًا إغفاله عن ذكر مثل هذا الأمر الذي اعتبره –من وجهة نظره- تافهًا، ولا يستحق الذكر:
-أنا يا كبيرنا كنت معاكو في الحوار إياه! ومكونتش مركز في أي حاجة تانية!!
لم يكن وحده المسئول عن هذا الإهمال، فالكل كان ملتزمًا بتلبية أوامر “كرم” والتعامل مع أحد الخصوم الأقوياء لإتمام إحدى الصفقات الهامة للغاية وتسهيل وصول بضائعها باهظة الثمن لوجهتها الأخيرة. فرك “زهير” طرف ذقنه متسائلًا في تحيرٍ:
-هتكون راحت فين؟
بشكلٍ عفوي علق “حمص” وهو ينظر تجاهه:
-الظاهر إنه سربها من الحتة كلها.
من بعيد تابع “كرم” ما يدور دون تعقيبٍ، خاصة مع احتشاد معظم المتواجدين في الباحة على إثر صوت “زهير” الصاخب لمعرفة أسباب غضبه. تمهل ولم يقدم على شيءٍ حتى حانت اللحظة المناسبة لتدخله، فأقبل عليهم موجهًا سؤاله اللائم إلى شقيقه تحديدًا:
-إيه فلتت من إيدك؟
فهم “زهير” المغزى وراء أسلوبه المبطن في توجيه اللوم والاتهام، وهمهم بصبرٍ نافد، وهو بالكاد يحاول ضبط أعصابه قبل انفلاتها أكثر من ذلك:
-خلاص يا “كرم”! أنا هتصرف وأعرف طريقها.
وقف شقيقه الأكبر قبالته يحدق في عينيه بنظرة قوية مباشرة، قبل أن يسأله بنبرة تحمل الإنذار في طياتها:
-وبعدها؟ هيحصل إيه؟
سكت ولم يجد شيئًا ليخبره به، فواصل “كرم” الحديث بلهجةٍ لم تكن مريحة مطلقًا:
-أنا عديتلك حوار إنك عامل فيها سبع البرومبة والنِمرة اللي حصلت في بيت أبو البت، وكنت مستني أشوف اللي بعد كده، بس شكلك غاوي يتعلم عليك من النسوان….
غامت تعبيرات وجه “زهير” من إهانته الوقحة، وتشبيهه غير المقبول، لتزداد ملامحه تجهمًا مع تأكيد شقيقه غير الممازح:
-من الآخر، حوارك بقى عندي.
بلا وعيٍ صاح محتجًا:
-ما تتدخلش يا “كرم”!
هزأ منه بتهكمٍ:
-ده على أساس إنك عارف تتصرف فيه؟!
ثم منحه نظرة مستخفة وهو يتابع:
-إنت قلبك رهيف مع الحريم، وأنا غيرك…
احتدت عينا “زهير” بوضوحٍ، في حين أتم شقيقه الأكبر جملته وقد صارت تعبيراته قاسية للغاية:
-ما بيفرقش معايا حد!
في التو رد عليه “زهير” مؤكدًا:
-أنا هتعامل.
ضحك بسخريةٍ قبل أن يقول:
-وريني!
أصبح صوت “كرم” أكثر قتامة وهو يتابع بنبرة جمعت بين الجدية والاستهزاء:
-بس الأول اعرفلي مكانها يا فِتك!
كز “زهير” على أسنانه في غيظٍ، وكور قبضة يده حتى ابيضت سلامياته كدليلٍ على شدة حنقه .. اقترح “عباس” بنزقٍ وكأنه يحاول المساعدة:
-ما جايز تكون البت عند أختها؟
استدار “كرم” برأسه تجاهه، وسأله برنة سخرية ظاهرة في نبرته:
-ودي هنعرف طريقها منين؟ من الأحوال المدنية مثلًا؟!!!
سرعان ما لاحت ذكرى السرقة في عقل “سِنجة”، فتذكر قراءته لعنوان شقيقتها حينما كانت هويتها بحوزته، من فوره تكلم جاعلًا كافة الأنظار تتسلط عليه:
-أنا أعرف يا كبيرنا!
………………………………………..
لم تسلم من عباراته السخيفة التي ظل يلقيها على مسامعها طوال بقائه في السيارة وهو جالس بجوارها منتظرًا عودة شقيقتها من داخل جامعتها. نفخ بصوتٍ مسموع، وغمغم في ضجرٍ وهو ينقر بأصابعه على عجلة الموقد:
-شغال سواق عندكم، كل مصالحي متعطلة بسببكم.
حاولت “إيمان” الابتسام للتغطية على شعورها بالضيق من شكواه التي لا تتوقف أبدًا، وقالت محاولة تخفيف وطأة الضغوط عليه:
-حقك عليا يا “راغب”، دي آخر حاجة هنعملها النهاردة، وبكرة “دليلة” هتمشي.
أشاح بوجهه للجانب، ورد في تعبيرٍ عابس:
-ما هو ده اللي مصبرني.
لمحت “إيمان” شقيقتها وهي تلقي التحية على رفيقاتها قبل أن تودعهن لتهرول ركضًا تجاه السيارة، فتحت الباب الخلفي، واستقرت جالسة على المقعد هاتفة بصوتٍ شبه لاهث:
-سوري، أتأخرت عليكم، بس عقبال ما خدت المحاضرات اللي نقصاني.
تكلم “راغب” متسائلًا وهو يرمقها بهذه النظرة المنزعجة:
-في حاجة تانية ولا أمشي؟
ردت بلا ابتسام:
-لأ، مافيش.
هسهس بصوتٍ خفيض، لم يهتم إن كان مسموعًا لكلتيهما أم لا:
-حاجة تقرف.
التقطت أذنا “دليلة” ما فاه به، وسلطت نظرة نارية عليه، لتهمس بينها وبين جنبات نفسها:
-أنا مش عارفة إنتي مستحملة البني آدم السليط ده على إيه!
حدقت في جانبها من الطريق، متجنبة الحديث إليه، ريثما تعود إلى منزله لتبدأ في الاستعداد لمغادرته وجمع أشيائها.
………………………………
جمع عددًا لا بأس به من رجاله، وأعطاهم تعليماته ليقوموا بتفقد المنطقة، ودراسة مداخلها ومخارجها، لتحديد نقطة انطلاقهم وانسحابهم، فبدا كل شيءٍ مرتبًا وسلسًا، كذلك أرسل أحدهم للاستفسار عنها من حارس العقــــــار، بحجة رغبة أحد الشباب في التقدم لخطبتها، فأعطاه الحارس وفرة من المعلومات الثرية بعدما تلقى نفحة لا بأس بها من المال.
وحانت لحظة المواجهة المحتومة ..
تباطأت سرعة سيارة “راغب” بالتدريج فور أن انعطف من الطريق الرئيسي نحو الطريق الجانبي المؤدي في نهايته إلى مدخل بنايته. بحث عن بقعة شاغرة في المنطقة المخصصة لركن السيارات، ليتفاجأ باعتراض أحدهم لطريقه بصورة فجة. كان ممتنًا لأنه لم يكن يقود بسرعة عالية وإلا لما تمكن من إيقافها في الوقت المناسب، ولتعرض للاصطدام المباشر، ناهيك عن كم الخسائر التي سيتكبدها لإصلاح التالف من البدن المعدني.
قطب جبينه، وضاقت نظراته في استياءٍ من هذا التصرف الأرعن، وصاح مستنكرًا –وبأسلوب هجومي- وهو يلوح بذراعه في الهواء بعدما أخرجه من نافذة السيارة الملاصقة له:
-هو في إيه؟ دي طريقة سواقة؟ مش تفتح يا أعمى!!
انقبض قلب “دليلة” بقوةٍ، فهناك بعض الوجوه المألوفة التي استطاعت التعرف إليها بمجرد أن لمحتهم من جانبها، شحب وجهها على الفور، وهربت الدماء من عروقها، في حين أمعنت “إيمان” النظر فيمن هبطوا من السيارة ليقفوا في مواجهة مقدمة خاصتهم، وهذا السؤال ينطلق من بين شفتيها:
-مين دول؟!!!!
فورًا تعرف “دليلة” على وجه “سِنجة”، خاصة عندما تطوع ليكون أول الظاهرين في المقدمة، فمدت يدها لتضرب على كتف شقيقتها الجالسة أمامها لتنبهها:
-“إيمان”، أنا عارفة الأشكال دي كويس…
أحست “دليلة” بتلاحق دقات قلبها وتصاعدها كالصاروخ دفعة واحدة عندما استدركت خطورة الموقف، وهتفت تقول بخوفٍ مضاعف:
-دول تبع البلطجية إياهم!!!
بمجرد أن نطقت بتلك العبارة، شهقت “إيمان” في ذعرٍ جم:
-يا لهوي!!
ودون أن تلتفت نحوها تساءلت:
-هما هيكونوا عايزين مننا إيه؟ مش كل حاجة خلصت.
ردت تقول في ارتعابٍ:
-ده المفروض!
في نفس الأثناء، انشغل “راغب” بشأن هؤلاء المزعجين، وما زاد من إحساسه بالحنق استعراضهم للقوة أمامه، وتبجحهم بقدرتهم على سد طريقه، فهتف بصيحة أعلى:
-مشكلتكم إيه بالظبط؟!!
من زاوية أخرى لم تكن في مجال الرؤية، تقدم “كرم” تجاه السيارة بخطوات ثابتة، وهناك في يده عصا غليظة، ليصبح على مسافة بضعة أمتار منهم، ثم هتف بصوت جهوري يتضمن الإهانة الفجة والتهديد:
-إنت يا نطع! بطل موتور عربيتك أحسن ما أنيمهالك على الأسفلت!
تحولت عينا “دليلة” ناحيته، وانتابها شعورًا متعاظمًا بالخوف والذعر، فظهور هذا الشخص على وجه الخصوص يعني تعقد الأمور لأقصى درجة! فجأة دارت في رأسها عشرات الأسئلة الحيرى، فما الذي جرى في غيابها ليأتي بنفسه إلى هنا؟ ألم تتحدث إليها والدتها بالأمس وتخبرها أن كل شيء على ما يرام؟ هل هناك ما استجد ولا تعلم به بعد؟ أم أن ذلك العجوز المدعو “درويش” استعان بجماعته للانتقام من هؤلاء؟ وأصبحوا رغمًا عنهم طرفًا في هذا النزاع الممتد؟ عجزت عن إيجاد أي أجوبة لأسئلتها التي تتزايد مع كل ثانية تمر.
في نفس التوقيت، أدار “راغب” وجهه ناحية صاحب الصوت بعدما استشاطت ملامحه، ليسأله بغضبٍ قد أخذ في التصاعد، وخصوصًا أن إهانته تتم على مرأى ومسمع من زوجته وشقيقتها:
-إنت بتكلمني أنا؟
تعمد “كرم” استحقاره علنًا كنوعٍ من الاستفزاز له، واستمر في الاستهزاء به من موضع وقوفه بقوله المحدد وهو يشير بعصاه إليه:
-هو في غيرك نطع هنا؟!!
اغتاظ “راغب” بشدة من تحقيره، وهدر في غضبٍ مطوحًا بيده في الهواء:
-اتكلم بأدب أحسنلك!
رد عليه بتحدٍ:
-هــأو! ولو ما تكلمتش؟!!!
بحسبةٍ عقلية سريعة أدرك أنه يتعامل مع شخصية توحي بالإجرام الشديد، ومناطحتها ثأرًا لكرامته المهدرة تعني تعرضه للمشاكل، وتورطه في أزمة تبعاتها لا تبشر بخيرٍ، لذلك تراجع على الفور عن معاداته وفضل الانسحاب بأقل الخسائر، ولتأتي حجج ومبررات تخاذله لاحقًا، المهم أن ينجو ببدنه وأملاكه من التعرض للأذى! ابتلع “راغب” مرارة الإهانة، وخاطبه بصوتٍ أشبه بزمجرة أسد جريح:
-بص يا كابتن أنا مش بتاع مشاكل ولا حوارات، خلي جماعتك دول توسع الطريق، واحنا نشوف سكتنا، وكفى الله المؤمنين شر القــــتال.
لم يستسغ “كرم” حالة الجُبن الظاهرة عليه، والتي لا يمكن التشكيك أبدًا فيها، لذا تقدم ناحيته ببطءٍ، وأخبره بصوتٍ أجش خشن، وعيناه تلمعان بوميضٍ مخيف:
-مش قبل ما أخد اللي عايزه!
جملته كانت غامضة إلى حدٍ ما، فلم يستطع “راغب” تفسير المغزى من ورائها، لذا بديهيًا سأله ليستفهم أكثر:
-اللي هو إيه؟
رفع سبابته ليوجهها نحو أحدهم تحديدًا قبل أن يتكلم مبتسمًا بابتسامةٍ شيطانية:
-الحلوة اللي أعدة ورا.
تدلى فكه للأسفل مرددًا في ذهولٍ صادم:
-أفندم؟
استوعبت “إيمان” ما يقصد، وصاحت مستنكرة مطلبه بشدة:
-ده بيقول إيه ده؟!!
آنئذ أدركت “دليلة” حجم الخطر المهلك المحيط بها، وصرخت مستغيثة وهي تتشبث بظهر مقعد شقيقتها:
-الحقيني يا “إيمان”!
استهجنت بشدة جراءته الوقحة، وهبت للذود عن شقيقتها الوحيدة بهديرها الغاضب:
-اتجنن ده ولا إيه؟
سرعان ما استفاق “راغب” من حالة التيه التي سيطرت عليه للحظاتٍ، وصاح هو الآخر:
-نعم؟ إنت بتهزر؟
نظر له شزرًا قبل أن يتجاهله عن عمدٍ ويلتفت إلى شقيقه صائحًا فيه بغلظةٍ:
-إيه يا “زهير”؟ هتقف تتفرج كتير؟
كان شقيقه الأصغر متواجدًا بالمؤخرة، يبدو وللمرة الأولى مترددًا في شأنٍ ما، يجد صعوبة في تنفيذ ما تم الاتفاق عليه مسبقًا، لذا سار نحو المقدمة بتثاقلٍ، وعيناه ترتكزان على صاحبة الوجه المذعور الجالسة بالخلف، لم يشتت ناظريه عنها و”كرم” يسأله بتبجحٍ:
-مش البت عجباك؟!!
لم يعلق، فصاح به في لهجةٍ آمرة:
-رد عليا!!!
أجابه بإيجازٍ وقد التفت تجاهه:
-أيوه.
وقتئذ أشار إليه “كرم” ملوحًا بالعصـــا التي يحملها في يده:
-يبقى تاخدها.
وكأنه أصدر حكمًا بالإعــــــدام عليها، ويُنتظر فقط تنفيذه جهرًا.. صرخت “دليلة” في ذعرٍ أكبر يفوق أي شيء قد اختبرته سابقًا في حياتها:
-“إيمان”! إلحقيني، ده بيقول إيه ده؟!!
بتلقائيةٍ بحتة استنجدت “إيمان” بزوجها، وتعلقت بذراعه تهزه بقوة وهي تستحثه في خوفٍ مشوبٍ بالاستنكار:
-اتصرف يا “راغب”، وامشي بينا من هنا أوام!
وضع “كرم” عصاه على الزجاج الأمامي للسيارة، ليبدو جادًا في تهديده وهو يحذره:
-أحسنلك ما تدخلش، بدل ما تندم على عمرك.
انطلق “زهير” تجاه الباب الجانبي المجاور لـ “دليلة”، وحاول فتحه عنوةً وهو يأمرها:
-افتحي الباب!
تمكنت “دليلة” من غلق قفل الأمان في الوقت المناسب، فأنقذها مؤقتًا من وصوله إليها؛ لكن الأمر لم يدم طويلًا، حيث ألقى “كرم” بعصاه لشقيقه الذي تلقفها بسهولة، لينظر إليها مرة ثانية آمرًا إياها:
-ابعدي عن الإزاز.
حملقت فيه بعينين متسعتين، قبل أن تحني رأسها وتخبئها بين مرفقيها حينما أبصرته يضرب بقوةٍ بالعصا على الزجاج ليهشمه، وأزاح بيده البقايا، ليتمكن من فك قفل الأمان، وفتح الباب بسهولةٍ. امتدت يده لتقبض على ذراع “دليلة” فصرخت الأخيرة في هلعٍ شديد:
-“إيمان” ما تسيبهومش ياخدوني!
وجدت شقيقتها نفسها عاجزة عن صد محاولة اختطافها قسرًا، فضربت كتف زوجها تستحثه على التحرك فورًا لنجدتها:
-“راغب”، الحق أختي يا “راغب”، ما تخليهومش يخطفوها!
ما إن همَّ بالتحرك حتى أمسك به “كرم” من تلابيبه، خنقه عن عمدٍ بقبضته القاسية، وشده إليه في خشونةٍ وهو يهدده بفجاجةٍ:
-خليك في حالك، ما تدخلش!
صاحت فيه “إيمان” بصوتٍ تحول للبكاء:
-إنتو مجرمين!!
اتجه “كرم” بناظريه إليها، وحذر زوجها بتهديدٍ صريح:
-بقولك إيه، هدي الحلوة اللي جمبك، بدل ما نحرمك منها هي كمان!
قاومت “دليلة” محاولة أخذها بكل ما أوتيت من قوة، وعضت قبضته الممسكة بها، فتألم من شراستها، واضطر لتركها، فنجحت في التحرر منه، لتزحف بجسدها سريعًا على المقعد نحو الجانب الآخر من السيارة؛ لكنه كان مُصرًا على أسرها، لذا عاود الإمساك بها من قدميها، فراحت تركله بعنفٍ في وجهه، وصدره، ومع ذلك جذبها إليه ليخرجها من السيارة وسط صرخاتها الانفعالية المذعورة والتي لم تتوقف للحظة.
للغرابة لم يجرؤ أحد قاطني المنطقة على التدخل أبدًا، ولو بدافع الفضول، وكأنهم قد تلقوا تعليمات مسبقة بعدم المساعدة مهما شاهدوا أو رأوا!
بمجرد أن أصبحت “دليلة” تحت قبضته، ألصقها “زهير” بصدره، وطوقها بذراعيه، فاشتدت مقاومتها الهائجة له، فما كان منه إلا أن أدارها إليه، مانحًا إياها نظرة غريبة، وانحنى قليلًا ليحملها على كتفه، ثم سار بها بخطواتٍ أقرب للركض نحو سيارته، ليضعها بالداخل، ومن ورائها صرخة شقيقتها المنادية باسمها في عجز بيّن أخير ويائس، قبل أن تختفي كليًا عن ناظريها:
-“دليـــــــــــــــلة” ………………………… !!!
……………………………………